ما كيفية التعامل مع المفاهيم غير الإسلامية الأصل؟
د. جاسر عودة
أغلب المفاهيم والمصطلحات التى نتعامل معها في القضايا السياسية اليوم هي مصطلحات غربية بالأساس وتُرجمت إلى اللغة العربية في فترة الاستعمار غالباً، وأحيانا أخرى تكون مصطلحات عربية قديمة أعيد تعريفها في ضوء المصطلحات الغربية المتداولة ومن هنا تظهر أهمية أن نفكر في منهجية للتعامل مع هذه المصطلحات – والتي لا مناص من التعامل معها –.
ويمكننا أن نصنّف المواقف المختلفة التي قاربت المصطلح السياسي الغربي بين: الرفض، والتوظيف، والتبني، والنقد.
ولكن التعامل الأحكم مع المفاهيم الغربية هو منهج مركب من هذه المناهج، كما نقترح بعد شيء من المناقشة لهذه المواقف.
أولًا: رفض للمفاهيم الغربية:
رفض المفاهيم الغربية جملة وتفصيلاً واتهامها كلها بأنها مفاهيم “كفرية” هو الموقف العام للسلفية المعاصرة. وأحياناً يعبر ذلك الموقف عن نفسه بلغة فلسفية راقية، فيقول إن “النموذج المعرفي” الإسلامي يختلف تماماً عن النماذج المعرفية الأخرى، وبالتالي فلا يصح أن نقتبس المفاهيم من عند غير المسلمين لأننا “معرفياً” نختلف عنهم، إلى آخره.
والسلفية في أصلها هي العودة إلى سيرة السلف الصالح في هذه الأمة، وهو دأب كل مسلم، ولكنها في العصر الحديث اتخذت عدة أشكال علمية –وحركية أحياناً– كان عداؤها للغرب قاسمها المشترك، وولاؤها في الواقع للحاكم “المتغلب”! وهؤلاء إذ رفضوا -بناء على كمهجبة حرفية- شكل الدولة العصرية مبدئيًا والمفاهيم الديمقراطية التي تترتب عليها إنما هم بذلك يعززون الواقع الذي هو في غالبه واقع استبدادي لا إلى ماضي الخلافة الراشدة ينتمي، ولا بالركب الديمقراطي – على علّاته – التحق.
والإشكالية الأسياسية في هذا الطرح هي في عدم تقديم بديل عملي ولا نظري عن المصطلحات والنظم المرفوضة كالنظام الديمقراطي أو الدستور أو تداول السلطة أو الحريات أو حقوق الإنسان مثلًا، وبالتالي يبقى الواقع حبيساً للإمام “المتغلب” الذي يملك وسائل العنف والبطش، وفي هذا إشكالية كبيرة. بل إن الإشكالية الأعمق في نظري هي “شرعنة” هذا الإمام المتغلب باسم الإسلام والقرآن والسنة.
ولا يصح بالطبع أن نقبل كل ما يفد علينا من غير المسلمين ولكن ينبغى أن نفرق بين ما يستفاد منه وما يرد، فنقبل ما يتوافق مع الإسلام ومقاصده وقيمه، ونرد ما يؤثر على ذلك سلباً.
وهذا الفكر المذكور ليس عنده إشكال في اقتباس “الآلات” و”التقنيات” من الغرب، ظناً منهم أن هذه وسائل مجردة ليس فيها “معرفة” ولا تؤثر على عقائد وأخلاقيات المسلمين. ولكن الحقيقة أنه ليس هناك آلة ولا تقنية دون فلسفة معرفية وقيمية في تصميمها، فضلاً عن مصالح معينة في اقتصادياتها وتجارتها وتداولها، وهذا ما ينبغي أن يدركوه كذلك.
وأما مسألة “النموذج المعرفي” واختلاف المصدر المعرفي الإسلامي الذي هو أصله الله تعالى عن المصادر البشرية أو العقلية عند الآخرين، فإن هناك مساحة تقاطع بين المفاهيم الإسلامية وغيرها لا تتعارض بالضرورة مع المصدر المعرفي الإلهي الذي يعود إليه المسلم ولا يتناقض معه في المسائل التي هي من قطعيات الشريعة وحتميات وثوابت الإسلام.
ثانيًا: توظيف المفاهيم الغربية:
توظيف المفاهيم الغربية ولو من دون إيمان بها هو موقف كثير من الحركات الإسلامية المعاصرة. والحركات الإسلامية التي تشتغل بالعمل السياسي شرقاً وغرباً كان موقفها الأساسي والمناخ الغالب على أعضائها هو أقرب إلى السلفية في رفض وإبطال المصطلحات والمفاهيم السياسية الغربية.
إلا أن الفارق بين الحركات الإسلامية المذكورة والتيار السلفي هو أن هذه الحركات غالبًا ما تعلن عن التأويل والتبرير وإعادة التفسير بدرجة أو أخرى للمصطلحات والنظم الغربية، وهذا من باب “المصلحة” في توظيف هذه المفاهيم والنظم لصالح أهداف الحركة السياسية.
ولكن الإشكالية في طريقة التوظيف الحركي والتبرير –الذي نطلق عليه “تبرير اعتذاري” في الباب التالي- هي عدم القابلية للخروج من الأطر الموروثة من الغرب أو التفكير “خارج الصندوق” إذ يتطلب التحرر الحقيقي والنهضة الصادقة أن يقتبس المرء أفضل ما عند الآخرين عن طريق منهج محدد ومدروس، وأن يطوّر ذلك المقتَبَس ويضعه في إطار من النظرة الإسلامية للكون والعالم والسياسة.
ثالثاً: تبني المفاهيم الغربية:
ثم إن تبني المفاهيم الغربية جملة وتفصيلاً هو الموقف العام للاتجاهات الليبرالية والعلمانية المعاصرة. والعلمانية كمفهوم غزت الفكر العربي حين وفد عدد من الباحثين والكتّاب وطلبة العلم إلى أوروبا منذ القرن التاسع عشر للتعلم، فقرر بعضهم أن أفضل وسيلة لنهضة الشرق هو في اتباع الغرب وسيرته في النهضة شبراً بشبر وذراعاً بذراع، منذ عقلانية عصر الأنوار الذي فصل الكنيسة عن الدولة إلى عصرنا هذا الذي غلبت عليه “ما بعد الحداثة” وتفكيكها للقيم والثوابت. ويأتي في ثنايا الفصل التالي من هذا البحث مناقشة بعض ذلك.
صحيح أن هناك الكثير مما ينبغي أن يتعلمه المسلمون من الغرب، وذلك كما تعلم الغرب في عصر النهضة من المسلمين ونقل أفضل ما عندهم، ولكنّ الإشكالية في “العلمانية” عند المسلمين هي في فصل الدين ليس فقط عن الدولة بل عن الحياة كلها، وليس فقط ترك الدين للمؤسسات “الدينية” بل محاربة الدين نفسه. وهذا الأسلوب لا ينتج إلا تبعية فكرية للآخرين ويؤثر سلباً على هوية الأمة الإسلامية ومصالحها وثوابتها، والأدهي هو التبعية الاقتصادية للقوى الغربية والآلة الغربية العسكرية والثقافية والإعلامية.
رابعاً: نقد للمفاهيم الغربية:
ونجد من المسلمين وغير المسلمين من ينتقد المفاهيم السياسية الغربية مهما كانت مستقرة في الغرب، وهذا النقد الذاتي هو فعلاً مما يتميز به الغرب المعاصر، وهو سبيله إلى التطوير والتحسين والتجديد كما يعرف من عاش في الغرب وخبر ثقافته، مما ينبغي أن يستفيد منه المسلمون.
ولكن لا ينبغي للمسلمين أن يكونوا حبيسين لمنظومة النقد الغربية بل عليهم أن يسعوا إلى تجديدهاو الإضافة إليها. فمثلاً، تنتقد فلسفة ما بعد الحداثة فلسفة الحداثة الغربية وعلومها ونظمها، وهذا جيد. ولكننا في نقدنا للحداثة الغربية لا ينبغي أن نتوقف على ما بعد الحداثة، وإنما تكون لدينا القدرة على نقدهما معاً، وإعادة الصياغة للمفاهيم –بعد “تفكيكها”- بناء على فلسفة إسلامية أصيلة.
ورغم أن قناعتنا أنه لابد من الانفتاح على فلسفة الآخرين، وأنه من الضروري أن يحافظ “علم الأصول” على درجة من الانفتاح على البحث الفلسفي شرقياً كان أم غربياً، لنه يتطور متناسباً مع تطور المعرفة البشرية، ولأن هذا الانفتاح الفلسفي هو الوسيلة المثلى للانتفاع بما عند الآخرين من حكمة – إلا أن الإشكالية أن التعامل مع فلسفات الآخرين لا يخرج عن موقفين: إما الرفض التام، وإما التبني التام.
فالذي حدث على مدى التاريخ أن الأكثرية الساحقة من علماء السلف من مختلف المذاهب الفقهية رفضوا أيّة محاولة للإفادة من الفلسفة الغير إسلامية المصدر، بل وأصدروا بناء عليها فتاوى تحرم دراسة الفلسفة وتدريسها، لأنها مبنية على مبادئ غير إسلامية.[1] وبناء على تلك الفتاوى، وحينما يضطر المرء إلى الاختيار بين اختيارين حتمين لا ثالث لهما، وهما “الفلسفة” أو “الإسلام”، فإن الفلاسفة المسلمين أنفسهم اتُهموا في تلك الفتاوى بالردّة، ولم يُسمح باقتناء كتبهم، ولا بيعها، ولا إظهار تقديرها.
وكان ممن أصدر تلك الفتاوى علماء كبار يرجع إليهم في مختلف المذاهب الفقهية، مثل ابن عقيل (توفي عام 512ه/1119م)، والنووي (توفي عام 675ه/1277م)، والسيوطي (توفي عام 910ه/1505م)، والقشيري (توفي عام 510ه/1127م)، وابن رسلان (1003ه/1595م)، والشربيني (توفي عام986ه/1579م)، وابن الصلاح (توفي عام 643ه/1246م).[2] وفتوى ابن الصلاح هي أشهر فتوى في هذا الموضوع وأكثرها تطرفاً، حيث قال إن الفلسفة “هي أصل الحماقة والخلط” وأنّ “السيف” دون سواه هو الوسيلة المثلى للتعامل مع معلّمي الفلسفة.[3]
ولقد حدّ هذا الموقف العنيف تجاه الفلسفة من الاهتمام بها في أكثر الدوائر الإسلامية.[4] وكان على من يريد دراسة الفلسفة أو المنطق من طلاب العلم والعلماء على حد سواء أن يدرسها سراً، ولا يدرسها إلا لأقرب طلابه وخلصائه، ثم لا يصرح بما درسه مطلقا في كتاباته[5]، وحينما خالف ابن رشد (توفي عام 584ه/1189م) وكان فقيهاً وطبيباً وقاضياً وفيلسوفاً في آن واحد – حين خالف هذه الفتاوى اضطهد وأحرقت كتبه كما يروي التاريخ.[6]
وقد أعلن قلة من العلماء رفضهم للفلسفة اليونانية ولمناهجها “المخالفة للإسلام”، ولكنهم اختلفوا عن سابقيهم بأنهم بذلوا جهداً من أجل انتقاد تلك الفلسفة انتقاداً علمياً مدروساً، بل حاول بعضهم طرح أفكار بديلة خاصة في المنطق، وهذا مثلاً هو الموقف الذي تبناه بتميّز الإمامان ابن حزم[7] وابن تيمية.[8] وهذا الموقف يفرّق بين الفلسفة كفكر مجرد وبين العقائد التي بنيت عليها، فيقبل الأولى ويرفض الثانية – مما سوف يفيدنا في بحثنا هذا.
غير أنّ الموقف الذي ساد في النهاية هو موقف الإمام الغزالي (توفّي عام 504 هـ/ 1111 م). فقد قرّر أن ينبذ كل ما يتعلق بالماورائيات أي دراسات ما وراء الطبيعة عند اليونان، وأن يقبل المنطق اليونانيّ كآلية مجردة، وهذا هو الموقف التاريخي الذي أثر في موقف السلفية المعاصرة كما ذكرنا آنفاً بل وغلب على مزاج الأمة كلها. فالإمام الغزالي رغم أنه انتقد بشدّة الفلسفة اليونانيّة في “وثنيّتها” واتّهم الفلاسفة المسلمين بالرّدّة[9]، إلا أنه تبنى وبحماس “آلة” (أورغانون) أرسطو أي الأداة والنظرية المنطقية التي استخدمها، بل قرّر الغزالي أنّها “مقدّمة لازمة لكل علم”، وبدونها لا يمكن أن يبرع عالم في أيّ فرع من فروع المعرفة.[10] وهو موقف يفرّق بين الفلسفة و”الآلات” أو “التقنيات” المجردة التي تبنى عليها، كما ذكرنا.
ولكن الموقف الذي نراه أقرب إلى الرشد، وهو ما نتبناه في بحثنا هذا، هو موقف الإمام الأندلسي الوليد بن رشد (الحفيد)، والذي كان منفتحاً تمام الانفتاح على المعرفة البشريّة النافعة أيًا كانت ومع ضابط الإسلام عقيدة وشريعة، كما يظهر جلياً في كتبه. فقد استدل ابن رشد على ما أوجبه القرآن الكريم على الناس من التفكير والتأمّل في خلق الله تعالى، ليتبنّى على هذا الأساس كلّ رأي فلسفيّ سليم، “بصرف النظر عن دين قائله”[11]. بل وكان الحلّ الذي طرحه ابن رشد لما رآه “تعارضاً” بين العقل المنطقي السليم والنصّ الصريح الثابت هو أن “تؤوَّل” النصوص بمقدار ما تسمح اللغة، حتى تتوافق مع العقل.[12]
نحو منهج متكامل ومتوازن في التعامل مع المفهوم الغربي
وكما علقنا على الاتجاهات الإسلامية المختلفة أنه ينبغي لها أن تفرق بين ما تأخذ وما تدع من الغرب، فإننا بدورنا نفرق بين ما نأخذ وما ندع من كل من تلك الاتجاهات “الإسلامية”.
فالاتجاه السلفي الرافض للمفهوم الغربي ينبغي أن نتعلم منه المنافحة عن الهوية الإسلامية والحفاظ على ثوابت الشرع، ولكن دون شطط ومع الوعي بأطماع ذوي السلطان شرقاً وغرباً في استغلال هذا الرفض لصالحهم.
والاتجاه الرافض للمفهوم الغربي ولكنه “يوظفه” ينبغي أن نتعلم منه توازنات المصالح والمفاسد، وأهمية التعامل مع الواقع وضغوطه، ولكن دون شطط في تحويل السياسة إلى لعبة براغماتية لا مكان فيها للقيم، باسم أنها كلها غير مشروعة على أي حال، ودون تبرير لظلم الأبرياء أو الفساد في الأرض.
الاتجاه الذي يتبنى المفهوم الغربي ويراه سبيل النجاة للأمة ينبغي أن نتعلم منه الانفتاح على معارف الآخرين وما وصلوا إليه ليس فقط من الآلات والتقنيات بل النظم والفلسفات، والحكمة ضالة المؤمن، ولكن دون شطط في الوقوع في مخططات الأعداء أو تحقيق مصالحهم التي تضر بالأمة باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وإذن، فمن أجل منهجية متوازنة للتعامل مع المفاهيم السياسية الغربية فإنه بناء على المرجعية الإسلامية لابد أن نُعمل المقاصد والسنن والقيم العليا في استفادتنا من تلك المفاهيم، وأن نتعامل مع الواقع الذي تحولت فيه تلك المفاهيم بالفعل إلى مؤسسات ونظم موجودة وراسخة بالفعل، ولا يصح أن ننعزل أو ننفصل عن هذا الواقع، ولكننا في نفس الوقت ينبغي أن نفكر في المستقبل وفي تطوير تلك المفاهيم وتلافى مشكلاتها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أحمد بن تيمية، درء تعارض العقل والنقل (بيروت: دار الكتب العلمية، 1997)، المجلد الثالث، ص218.
[2] السيوطي، الدر المنثور، المجلد الثالث، ص86، أبو عامر بن الصلاح، فتاوى ابن الصلاح، 2005.
[3] نفس المصدر.
[4] حسن بشير صالح، علاقة المنطق باللغة عند فلاسفة المسلمين (الاسكندرية: الوفاء، 2003)، ص86.
[5] الديب، “إمام الحرمين”، ص39.
[6] عصام نصار، الخطاب الفلسفي عند ابن رشد وآثاره في كتابات محمد عبده وزكي نجيب محمود (القاهرة: دار الهداية، 2003)، ص16-21.
[7] وديع مصطفى، “ابن حزم ومواقفه من الفلسفة والمنطق والأخلاق” (أطروحة ماجستير، جامعة الإسكندرية، نشر المجمع الثقافي، 2000).
[8] ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل.
[9] – أبو حامد الغزالي، تهافت الفلاسفة. ترجمة م. س. كمالي (الكونجرس الفلسفي الباكستاني، 1963 [جرى اقتباسه في 18 كانون الثاني/ يناير، 2005])؛ متوفر في موقع: http://www.muslimphilosophy.com .
[10] – الغزالي، المستصفى في أصول الفقه، ص. 3.
[11] – ابن رشد، فصل المقال.
[12] – نفس المصدر.