السياسة الشرعية والتدرج في تطبيق الشريعة
محمد عادل فارس
المسلمون، أفراداً وجماعات ودولة، مطالبون بتطبيق أحكام الدين الحنيف جميعاً، بدءاً بالعقيدة، ومروراً بالواجبات (وترك المحرمات)، وانتهاءً بالمندوبات (وتجنب المكروهات). لكن ذلك ليس على درجة واحدة، فالعقيدة لا يُعذَر المسلم بأن يؤمن ببعضها ويكفر ببعضها الآخر، أما الواجبات فيفعل منها ما استطاع، ويأثم إذا ترك واجباً، وهو قادر على فعله، فقد قال تعالى: لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها. [سورة البقرة: 286].. وقال سبحانه: فاتقوا الله ما استطعتم. [سورة التغابن: 16].
وأما المندوبات فإنه يثاب على فعلها، ولا يعاقب على تركها.
هذه البديهيات تعترضها ظروف كثيرة، فردية وجماعية، تحتاج من المسلم فقهاً عميقاً، وهو ما يدخل في السياسة الشرعية، من حيث ملاحظة فقه الموازنات، وفقه الأولويات، واعتبار المآلات، والنظر إلى المسألة وملابساتها، نظرةً شاملة.
وهي أكثر ظهوراً في قضايا إدارة شؤون الرعية، حتى إن العلماء حين عرّفوا السياسة الشرعية حصروها في الشأن العام، فقالوا: «هي قيام أولي الأمر على شأن الرعية بما يصلحهم، من الأمر والنهي والإرشاد، ووضع تنظيمات وترتيبات إدارية، بما يجلب المنافع ويدفع المضارّ».
لكن المفاهيم التي ترتكز عليها السياسة الشرعية تشمل كذلك سلوك الأفراد.
وفي كتاب «الغياثي» لإمام الحرمين الجويني أمثلة كثيرة للمجالات التي تشملها السياسة الشرعية، تبين كيف نطبق أحكام الدين في مختلف الظروف.
ومما ذكره العلماء أن طين الشتاء، وإن خالطه روث الدواب، يُتسامح في طهارته، لعموم البلوى؛ وأن الرجل إذا كان يصلي وانتبه أن بجواره طفلاً سقط في بركة ماء، وهو قادر على إنقاذه، فقد تزاحم عليه واجبان: واجب إنقاذ الطفل، وواجب إتمام الصلاة، فيقدم الواجب الأول لأنه لا يقبل التأخير.
وذكروا كذلك أن النهي عن المنكر يُترك إذا كان سيؤدي إلى منكر أكبر منه.
لكن المسألة الأكثر أهمية وإلحاحاً، لا سيما في هذا العصر، مما يندرج في السياسة الشرعية، هي حكم التدرج في تطبيق الشريعة.
وكأن الإشكال فيها يكون في الإجابة على مثل هذه الأسئلة:
هل من حق أي جماعة، أو أي دولة مسلمة، أن ترجئ تطبيق بعض أحكام الدين، وقد اكتمل التشريع؟!.
وإذا وجد الحاكم المسلم مقاومة من الشعب أو من خارجه، تحُول بينه وبين إقامة أحكام الإسلام، وكانت هذه المقاومة أكبر من طاقته، فهل يلغي إقامة هذه الأحكام؟ أم يصرّ على إقامتها وهو يرى أن هذا سيطيح بحكمه ويؤدي إلى ترسيخ الأحكام الوضعية؟ أم يقيم منها ما استطاع؟!.
ثم: ألا يكون التدرج في تطبيق أحكام الشريعة ذريعة إلى الاستمرار في اتباع الهوى؟ فقد جعل القرآن الكريم الهوى هو المقابل لحكم الله. قال تعالى: وأن احكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم [سورة المائدة: 49].. وقال سبحانه: «يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى» [ص: 26].
وهنا يجب التفريق بين من يحارب تطبيق الشريعة، لكنه مضطر إلى تطبيق شيء منها، خوفاً من إثارة الرأي العام، فهو عدو للإسلام… وبين من يحاول تطبيق ما استطاع منها، ويقصد من هذا التدرج خوفاً من قوى داخلية أو خارجية تدمّر كل جهوده لو أراد تطبيقها كاملة، فهذا مسلم يُثاب على ما يجتهد في ذلك، ويُعذر على ما يخطئ في اجتهاده لدى التطبيق، فقد يتعجّل فيطبق أكثر مما يتحمله واقعه، وقد يقصّر فيطبق أقل مما يتحمله الواقع.
العوائق أمام تطبيق الشريعة اليوم:
1- شيوع ثقافة العلمانية بين أبناء المسلمين، نتيجة للمناهج المدرسية التي رسمها الكافرون وأذنابهم، ونتيجة ما تبثه وسائل الإعلام المحلية والعالمية…
2- السياسة الدولية التي تحارب أي خطوة نحو تطبيق الشريعة.
3- واقع الدول الإسلامية وارتهانها للدول الكافرة.
4- التشريع القائم في بلاد المسلمين الذي لا يكاد يتوافق مع الشريعة.
5- الواقع الاجتماعي والتربوي والاقتصادي عند المسلمين اليوم متخلف، فلا يقدر على مواجهة الضغوط.
6- رفض بعض الإسلاميين فكرة التدرج في تطبيق الشريعة، فهذا يجعلهم يقاومون من يسير في طريق التدرج، بحجة أنه يتنازل ويساوم ولا يحكم بما أنزل الله. وإن قَبِلْنا رفض هؤلاء وتفهّمناه فلا نقبل منهم أن يسايروا من يقصي شريعة الله ويقاوم الدعاة إليها، ثم يعارضوا من يطبق ما أمكنه منها.
أدلة جواز التدرج:
1- نفي الحرج: وقد أكد ذلك عدد من الآيات الكريمة كقوله تعالى: ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج[سورة المائدة: 6]، لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها [سورة البقرة: 286].
2- المنهج القرآني في التدرج: فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: «إنما نزل، أول ما نزل منه، سور من المفصّل، فيها ذكر الجنة والنار. حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام. ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبداً. ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبداً».
3- المنهج النبوي: وفي هذا المنهج شواهد كثيرة، منها ما روى البخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، لأمرتُ بالبيت فهُدم، فأدخلتُ فيه ما أُخرجَ منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين: باباً شرقياً، وباباً غربياً، فبلغتُ به أساس إبراهيم».
ومنها امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين مخافة أن يقال: إن محمداً يقتل أصحابه.
4- سيرة الراشدين: كعلي بن أبي طالب، وعمر بن عبد العزيز، رضي الله عنهما، وفي هذه السيرة شواهد كثيرة على مراعاة أحوال الأمة، والتدرج فيما يؤدي إلى استكمال تطبيق الشريعة، ولا يحرج الحاكم أو المحكوم.
6- القواعد الفقهية مثل: المشقة تجلب التيسير، والضرورات تبيح المحظورات، وارتكاب أخف الضررين.
7- مراعاة القواعد الأصولية كالاستحسان والمصالح المرسلة وفقه المآلات.
8- اجتهاد علماء ثقات كأبي الأعلى المودودي ويوسف القرضاوي.
فالمودودي له كلام طويل في هذا تحت عنوان: تنفيذ القانون الإسلامي في باكستان (في كتابه: القانون الإسلامي وطرق تنفيذه، ص49).
والقرضاوي يقول: (وهذه السنة الإلهية في رعاية التدرج، ينبغي أن تُتّبع في سياسة الناس.
وعندما يراد تطبيق نظام الإسلام في الحياة… فلا نتوهم أنه يتحقق بجرة قلم، أو بقرار من رئيس أو مجلس.. إنما يتحقق بطريقة التدرج… وهو المنهج الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم لتغيير الحياة الجاهلية إلى حياة إسلامية).. من كتاب: الخصائص العامة للإسلام، ص167.
ضوابط التدرج المشروع:
1- تبصير المسلمين بوجوب الاحتكام إلى دين الله تعالى في أمورهم كافة، وأن ذلك مقتضى إيمانهم.
2- تأكيد عقيدة «إن الحكم إلا لله» وتثبيت أركان العقيدة جميعاً.
3- الدعوة الحثيثة للالتزام بأمهات العبادات وأركان الإسلام.
4- التطبيق الفوري لما يمكن تطبيقه في الحياة الفردية والجماعية، مع ملاحظة العوائق النفسية والداخلية والخارجية.
5- نشر العلوم الشرعية، ورسم الخطط لمتابعة التدرج نحو الكمال، وتعاون المؤسسات التربوية والإعلامية.
6- التقيّد بضوابط التدرج حتى لا يكون ذريعةً إلى التهرّب من واجب طاعة الله تعالى.
ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز [الحج: 40].
المصدر: https://alfajrmg.net/2016/03/20/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%...