الحوار الحضاري

الحوار الحضاري

(مادة مرشحة للفوز في مسابقة كاتب الألوكة)

ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ استيعاب منطِق الحوار كضرورةٍ حياتيَّة حاجةٌ يتعيَّن أن تقوم بين كلِّ فِكْر وفكر، على نحوٍ يكفُل لها الإيجابيَّة والتَّلاقح بين الأيديولوجيات، على اختِلاف توجُّهاتِها وتنوُّع قوالبها الفِكْريَّة، وهذا الأمر يستلْزِم ضرورة أن يتأتَّى الجلوس على مائدة الحِوار، ممَّن استوعب الحوار كضرورة، وعمِلَ على تفعيله؛ كاستثمارٍ ناجع للاستقرار بين الأفراد والأمم والشعوب.

إنَّ الحوار - أيًّا كانتْ مُستوياته وأطرافه - يعبِّر عن حاجةٍ وضرورةٍ ملحَّة، من دونِها لا يُمكن أن تقوم العلاقات على نَحوٍ يُعزِّز التَّفاعُل الحضاري الإيجابي، فهو – أي: الحوار - يشكِّل اختِيارًا يؤدِّي الانْحِرافُ عنْه إلى الصِّراع ومزالق العُنْف؛ لذلِك كان الحوار الإيجابي الذي يقوم على أُسُسٍ علميَّة تضمن توازُنَه واستمرارَه - حاجةً ملحَّة، ينبغي أن تجد فعاليتها ضِمْن هذا الإطار.

أوَّلا: نظريَّة التَّبادُل الاجتِماعي:
ذكر المفكِّر الاجتِماعي جورج هومانز في نظريَّته المسمَّاة بنظريَّة (التبادل الاجتماعي): أنَّ النَّاس يعتمِدون على بعضِهم اعتِمادًا متبادَلاً، وأنَّهم يتبادلون - نتيجة لذلك - بعْض الأشياء، أو المنافع، أو المصالح، كما أكَّد على أنَّ هُناك عددًا من المعايير التي تضْبِط عمليَّة التَّبادُل، حيث يؤكِّد على أنَّ استِقْرار أيِّ نظام في العلاقات المتبادلة يَحتاج إلى اتِّفاق مبدئي على مسائل معيَّنة، مثل: مَن الذي يقوم بالتبادُل؟ ومع مَن يتبادل؟ وضمن أي حدود؟

وهذه الأسئلة تجرُّنا إلى مسائلَ معيَّنة، مثل: (القوَّة، المساومة، والانْحِراف، والعدْل، والأنانيَّة، والإيثار، والتدرُّج، والمنافسة، والتَّعاوُن، والصِّراع، والاحتِكار، .... إلخ)، وهذه المسائل هي مضامين حقيقيَّة للاعتِماد المتبادَل.

ويُشير المفكِّر هومانز في نظريَّته إلى أنَّ معايير التَّبادُل الصَّحيحة نادرًا ما تنطبِق مع السلوك الواقعي؛ ذلك أنَّ أهم ما يعيق النظرياتِ العلميةَ يتمثَّل في غياب الآليَّة بين النظريَّة والتطبيق، كما أنَّه لا بدَّ أن يكون في الاعتِبار أنَّ تعقُّد العالم اليوم في ظلِّ الانفِتاح والعوْلَمة يفرِض حتْميَّة الاتِّصال والتأثُّر بالآخر، فالكلُّ يَخوض المعركة التي ينتصِر فيها مَن يملك القوَّة، والنفوذ، وأدوات الاتِّصال مع مختلف الشُّعوب.

لذلك يرى هومانز: أنَّه لا بدَّ أن يوجد من الامتِثال للمعايِير ما يضمن للنَّسق استمراره في حالةٍ من التَّوازن على أقلِّ تقدير.

ولا شكَّ أنَّ علاقاتِ التَّبادُل بين المجتمعات البشريَّة هي التي تحدِّد الامتِثال وفقًا لِمعاييرَ معيَّنةٍ، وهذه المعايير تتحدَّد وفقًا لظروف الأطْراف التي تُمارِس التَّبادُل في كلِّ ما يخضع للتَّبادُل بينها؛ لذلك يتحتَّم على كلِّ طرفٍ أن يقوِّي ذاتَه حتَّى يواجه متغيِّرات العملية التبادليَّة.

ثمَّ إنَّ الاعتماد على الطَّرف الآخر في العمليَّة التبادليَّة ينتج عنه سيْطرة هذا الطَّرف، مما يحتِّم على المعتمد في مواجهة الطَّرف الآخر أن يسعى إلى تطْوير نفسِه وبذل الجهود؛ سعيًا إلى كسْر قاعِدة الاعتِماد في كلِّ الأمور الضروريَّة في حياتِه على أقلِّ تقدير[1].

ثانيًا: مفهوم الحوار في خلفيَّاته، وسياقه الآني، وارتباطاته:
إنَّ التَّحاور هو التَّجاوب بين متكلِّم ومخاطب، ولا بدَّ فيه من مراجعة الكلام وتبادُلِه وتداوُلِه، وغاية الحوار: توْليد الأفْكار الجديدة في ذِهْن المتكلِّم، لا الاقتِصار على عرْض الأفكار القديمة، وفي هذا التَّجاوب توضيحٌ للمعاني، وإغناءٌ لِلمفاهيم يُفضيان إلى تقدُّم الفكر.

وإذا كان الحوارُ تَجاوبًا بين الأضداد كالمجرَّد والمشخَّص، والمعْقول والمحسوس، سُمِّي جدلاً، والجدَل هو النِّقاش والخصومة، وهو – منطقيًّا -: قياسٌ مؤلَّف من مقدّمات البرهان.

إنَّ الإنسان كائن عقل واجتماع، وكائن علاقةٍ وحاجة، ومن البداهة القول بأنَّ هذه الأحوال أحوج حاجتِها اللِّقاءات المُتحاوِرة ليكون المجتمع على بيِّنة من أمر علاقاته، وعلى تناسُق مؤتلف، وتفاهم واعٍ، وترابُط معقود[2]، وهذا هو أصْل مفهوم الحوار[3].

وقد قال سُقراط لأوطفرون بأنَّه لتلافي تحوُّل الخلاف إلى أزمة، وتلافي الحل المعتمد على العنف، فليس هناك من سبيل غير الرُّجوع إلى نقاش عقلاني، ويبدو الجدَل - باعتباره فنًّا للمناقشة - المنهج الملائم لحلِّ المشاكل التطبيقيَّة، تلك التي تُعنَى بالأغراض العمليَّة، حيث تتدخَّل القيم ويتدخَّل الرَّأْي لتؤثر المقامات الخطابيَّة[4].

إنَّ الحوار في معناه العامِّ - خطاب أو تخاطب - يطلب الإقناع بقضية أو فعل، أو يسعى إلى تقوية إقناع سابق وترسيخِه، وفي معناه الخاصّ: كل خطاب يتوخَّى تجاوبَ متلقٍّ معين، ويأخذ ردَّه بعين الاعتبار؛ من أجل تكوين موقفٍ في نقطة غير معيَّنة سلفًا بين المتحاورين، قريبة من هذا الطَّرف أو ذاك، أو في منتصفِ الطَّريق بيْنهما[5].

إنَّ مفهوم الحوار في الفِكْر السِّياسي والثَّقافي المعاصر من المفاهيم الجديدة، حديثةِ العهد بالتداول، وممَّا يدلُّ على جدَّة هذا المفهوم وحداثته: أنَّ جميع المواثيق والعهود الدوليَّة التي صدرت في الخمسين سنةً الأخيرة، وذلك بعد إنْشاء منظمة الأمم المتَّحدة - تخلو من الإشارة إلى لفظ الحوار.

بيْنما تعتمد معاني إنسانيَّة أُخرى مثل: التَّسامح، التَّعاون، التَّعايش، وإنماء العلاقات الودِّيَّة بين الأمم، وتحقيق التَّعاون الدولي، والدفع بالرقي الاجتماعي قُدُمًا، والرَّفع من مستوى الحياة في جو من الحريَّة أفسح؛ وذلك تعزيزًا للعمل الجماعي المشترك؛ لما فيه الخير للإنسانيَّة[6].

فليْس الحوار - بناءً على ذلك - من ألْفاظ القانون الدولي، فهو لا يوجد له ذِكْر أصلاً في ميثاق الأمم المتَّحدة، ولا في الإعلان العالمي لحُقوق الإنسان، ولا في العهْد الدولي الخاصِّ بالحقوق المدنيَّة والسياسيَّة، ولا في العهْد الدولي الخاصِّ بالحقوق الاقتِصاديَّة والاجتِماعيَّة والثقافيَّة، ولا في إعلان مبادئ التَّعاون الثَّقافي الدولي، وعلى هذا الأساس فإنَّ الحوار مفهومٌ سياسي إيديولوجي، ثقافي حضاري، وليس مفهومًا قانونيًّا.

ولقدِ اقترن ظهور مُصطلح "الحوار" في دلالتِه الجديدة بتزايُد حدَّة ما كان يُعْرَف بالحرْب الباردة بين المعسكرَيْن السَّابقين، بزعامة الولايات المتَّحِدة الأمريكيَّة والاتِّحاد السوفيتي السَّابق، وتزامَن هذا الظُّهور للفْظِ "الحوار" مع تصاعُد ضراوة الصِّراع الإيديولوجي والسياسي بين القوَّتين العظميين، فكان الحوار الذي طرح الغرْب فكرته مقابل التَّعايش الذي رفع المعسكر الشُّيوعي شعاره وتبنَّى فلسفته.

فالغرب يُنادي بالحوار بين الأدْيان، ثمَّ بين الثقافات والحضارات، والشَّرق الذي كان فيما مضى يتمثَّل في الاتِّحاد السوفيتي يدعو إلى التَّعايُش السِّلمي، والتعايُش بين الأُمم والشُّعوب، ولكلِّ دعوةٍ غايتُها، وفي كلتا الحالتَين فإنَّ الكاسب هو صاحب الدَّعوة، والمنادي بها، والمدافع عنْها.

ويلاحَظ في هذا السياق أنَّ الحوار الذي كان في الغَرب هو السَّابق إلى الدَّعوة إليْه بهذا المفهوم وبهذه الدلالة، حيثُ استند في أوَّل الأمر على الهدف الديني، ووقع فيه التَّركيز على الحوار الإسلامي - المسيحي، وكانت الكنيسة الغربيَّة هي التي وجَّهت الدَّعوة إلى هذا الحوار، وذلك في أعْقاب نشوء أزْمةٍ حضاريَّة جديدة في العالم العربي والإسلامي نتيجةَ تصادُم الإرادتيْن - الإرادة العربيَّة الإسلاميَّة والإرادة الغربيَّة - وبلوغ حدَّة الصِّراع بين الجانبين مبلغًا قدَّر الجانب الغربي أنَّه بات يهدد مصالحه.

فكانت الدَّعوة إلى الحوار في المجال الديني في صيغة (الحوار الإسلامي المسيحي)، ثمَّ في المجال السياسي في صيغة (الحوار الأوربي العربي)، وذلك في مرحلة أولى أعقبتْها مرحلة ثانية نشطت فيها إلى (حوار الشمال والجنوب).

وكان الغرب - في كلِّ الأحْوال، وفي جميع الظُّروف - هو صاحبَ المُبادرة إلى هذا الحوار في أشْكالِه المتعدِّدة، وبصِيَغه المتنوِّعة؛ وذلك سعيًا منْه إلى أهدافٍ رسَمها، وإلى غاياتٍ حدَّدها، يكتنِفُها جميعًا قدرٌ من الغُموض الَّذي لم تنفعْ وسيلةٌ في إخفائه؛ لأنَّنا هُنا بإزاء دعوة صادرة من جهةٍ تملك شروطَ القوَّة الاقتِصاديَّة والنفوذ السياسي، والقُدرة على صُنْع الحدث، والتحكُّم في مساره.

ومن هنا وجب التَّعامُل مع هذا الحوار ضِمْن سياقاته المتنوِّعة في هذا الإطار بقدْر كبير من الحيطة والحذَر، والفطنة والتنبُّه[7].

وممَّا سبق، من خِلال استِقْراء القالب الذي أُطِّر من خلاله لعمليَّة الحوار في سياقاتِها المتنوِّعة - يتَّضح أنَّ ثمَّة أغراضًا غامضة في ظاهرها، واضحة في حقيقتها باعتبار قرائن ومعطيات الواقع، تتمثَّل في المصلحة من الدرجة الأولى؛ ولكنَّه وسيلة لإبراز رغبة التقارب الحضاري والانفتاح، ولكن بتفاعل سلبي يأتي لحساب طرف على الآخر، في الغالب الأعم.

وإذا كانت هذه هي الخلفيَّاتِ المعاصرةَ للحوار في سياقِه الآني، فإنَّ ارتباطاتِه كانت في الغالب تقوم على اعتِبار الديانة التي بدأتْ وانطلقت منها، فهو وإن كانت له مسمَّيات اقترنت بالأنا باعتبار العروبة - الحوار الأوربي العربي - وباعتبار الجهة - حوار الشمال والجنوب - فهو في غالبه كان حوارًا بين الشَّرق باعتبار أنَّ الإسلام هو الذي يطغى على فكر ووجدان شعوبه، والغَرْب باعتبار أنَّ النصرانيَّة هي الدين الغالب في الغرْب ككُتلة وكيان، قريب في توجُّهات مكوناته التي يتشكَّل من خلالها.

لقد كان الغالب على مؤتمرات الحوار بين الكيانات أو بين الحضارات يضع الدين قالبًا للتقارب وأجندة الأعمال، ولم يكن الغرب محْورًا للتحاور مع الإسلام ممثلاً بكيانات المسلمين كلها أو بعضها؛ بل كان اليابان ككيان من كيانات الشَّرق الأدنى يفْتح ذراعيه للحوار مع العالم الإسلامي، حيثُ عقدت ندوة لحوار الحضارات بين العالم الإسلامي واليابان، وذلك بدعْوة من وزير خارجيَّة اليابان السَّابق "يوهي كونو" لتعزيز الحوار مع العالم الإسلامي، حيث جاءت الدَّعوة إلى إقامة علاقات ذات أوْجُه متعدِّدة، تخدم هدف تصحيح الصُّور النمطية عن العالم الإسلامي من جانب، واليابان من جانب آخر[8].

إنَّ توجُّه مختلف الكيانات - ولا أقول: حضارات - بما تمثله نحو تفعيل الحوار توجُّه إيجابي، يخدم تعزيز التَّفاعُل بين الأمم والشُّعوب، على نحو يكفل تبادُلَها الثَّقافي واطِّلاع كل ثقافة على مكنون الأخرى، وذلك بدلاً من توْظيف مائدة الحوار لنَيْل مصالح فِئوية تبرز انتِصارًا صوريًّا للطَّرف الأقوى؛ ولذلك كان للحوار الحضاري الرَّاقي الذي يُثْمِر ثمرته اشتراطاتٌ، ينبغي تسليط الضَّوْء عليْها فيما يلي من سطور.

ثالثا: اشتراطات الحوار الحضاري:
إنَّ الحوار حول قضية ما، أو إشكاليات في العلاقة يحتاج - حتَّى يُثْمِر ثمرته اليانعة – إلى توافق الأطراف على نحو يحقِّق مصلحة الجميع على حد سواء، وبذلك لا بدَّ أن يحقِّق الحوار آفاقه ويحقق هدفه الأهم المتمثِّل بتجاوز إشكاليَّة التصادُم، ولكن ذلك لا يمكن أن يتحقَّق حضاريًّا إلاَّ وفْق اشتراطات تتحقَّق في طرفي أو أطراف الحوار، وهي على النحو التالي:

التوازن في القوى من أهم شروط الحوار:
فلا ينبغي للضعيف أن يتوهَّم أنه يكون طرفًا في حوار وهو في حالة ضعْفِه، فلا بدَّ له قبل الحوار أن يتجاوز حالةَ الضَّعف، وأن يحقِّق توازنًا ولو في حدود معيَّنة مع الطَّرف الذي يرشِّح نفسه للحوار معه، فذلك التَّوازن ضروريٌّ للضَّعيف لبلوغ مستوى الشَّريك في الحوار، فإذا توازنتِ القُوى كان هناك مجال للحوار[9].

ويقرِّر عطية الويشي بأنَّ التَّوازُن في القوى إنَّما يعني حيازة قدْرٍ معقول من الأهليَّة الحضاريَّة، بحيثُ يُحقِّق وجودًا متوازنًا وحضورًا فعَّالاً ومتميِّزًا حول مائدة الحوار.

وهذا التكافؤ الحضاري لا يُقاس بِمعايير سياسيَّة أو عسكريَّة أو اقتصاديَّة، فهذه وتلك تخضع بطبيعتها لتقلبات الظروف والأحوال الدولية، وإنما يقاس التَّكافؤ في الحقيقة بمقدار ما قدَّمتْه حضارة ما لكلِّ الأمم والشعوب من منجزات جزلة كريمة، وبمدى ما أسهمت به في تنمية الوجود الإنساني وتطويره، وإمداده بالقيم الروحية والأخلاقيَّة.

إعادة اكتشاف الآخر:
حتَّى يتسنَّى الخروج من حوار الحضارات بنتائج إيجابية أكثر؛ يتعيَّن على كل فصيل حضاري إجراء ما يمكن تسميته بعملية (تشريح حضاري)، يتوسَّل بها المشرِّحون إلى استِكْناه الأنساق المعرفيَّة لدى الكيانات الحضارية الأخرى؛ وذلك للوقوف على موقع الآخر في أدبياتها، ومن ثم قياس أداء آلياتها من حيث عطاؤُها المخلص، ومدى استيعابها مفاهيم التعددية الحضارية وتجربتها التاريخية، فيما يتَّصل بقضية التعايش السلمي وحسن الجوار، وكذا رؤيتها: للحياة - العالم - الموروث الثقافي - القيم الدينية - النمط الاجتماعي - الأقلِّيات، وكل ذلك من مؤشرات فاعلية وإثمار الحوار الحضاري من عدمه.

الاحترام المتبادل:
إنَّ ظواهر الأحادية، والانتقاص من شأن الآخرين، والسَّعي إلى بسط الهيمنة عليهم، وإلا فإرهابهم، وملاحقتهم، والمظاهرة عليْهِم - لا تعكس بِحالٍ أي نوع من الاحترام المتبادل، وإن صحَّ تقْييم تلك الظواهر على جانبٍ آخَر، فإنَّما يعكس - بمرارة - عدم احترام أولئك الآخرين أنفسهم وتراثهم، فحق فيهم الضعف والارتخاء وقلة الفاعلية، وتبددت هيبتهم في نفوس أندادهم[10].

تحديد الهدف والمقصود:
إذا كانت تلك الأهداف تعدُّ ضرورة ملحَّة كمقوِّم للاعوجاج والميلان في أي حوار عن جادة الحق والحقيقة، مما ينشده كل متحاور نزيهٍ في وضع أجندة حواره، نزيهٍ في توظيفه لحواره، نزيه في تفعيل ثمرة حواره، فإنَّ تحديد المقصد والهدف بتوافق الإرادتين أو الإرادات يعدُّ ضرورة ملحَّة من شأْنِها أن تسبغ على عملية الحوار الحيادية الإيجابية.

إنَّ الحوار - حتَّى يكون حوارًا حقيقيًّا - ينبغي أن تؤطَّر أجندته لتحقق الهدف والمقصود، فهو إمَّا أن يكون من أجل تعريف كل طرف بخصوصياته الثقافية والمعرفية للطرف الآخر، حتى يتحقق الإدراك لإيجابية التعامُل، وبناء علاقة أكثر حرفية بين الطرفين أو الأطراف، ولعل في تصريح وزير خارجية اليابان الأسبق في تأكيد المساعي لتحقيق هدف الحوار الإسلامي الياباني، الذي سبقت الإشارة له - ما يحقق هذا الغرض، حيثُ قرَّر بأنَّ هذا المؤتمر إنما هو لتعارف الثقافات.

كما أن الحوار يكون كذلك لتبادل وجهات النَّظَر حول قضيَّة يسعى الطرفان أو الأطراف لحسمها، أو لتقريب وجهات النَّظر حولها، ممَّا يمسُّ المصلحة التي تتَّصل بالكيانات المشاركة في الحوار، وأمَّا ما دون ذلك ممَّا يكون ضِمْن دائرة التسلُّط وبسط النفوذ، حيث يبادر مَن يسعى لذلك لخلْقِ هذا الحوار، ويضع أجندته التي يجتمع من خِلالها مع الطرف الآخر ليبلغه بما يُمليه عليْه من محاور، وليجعل دائرة التفاوض حولَها بما يتَّصل بآلية عكسها على أرض الواقع ليس إلاَّ.

إنَّ الحوار مفهوم إيجابي حين يوظَّف تحقيقًا للتعارف والتآلف وحسْم القضايا ذات الاهتمام المشترك، على نحو يكفل احتواء الصراع، وجعْل الحوار أداةً للتَّفاهم بين شعوب الأرض على اختلاف انتماءاتها وولاءاتِها.

وبذلك فإنَّ كلَّ طرف يسعى إلى أن يكون طرفًا فيه، عليه أن يستوعب مفهوم الحوار ضمن سياقه الآني، وما يتَّصل بارتباطاته، وما يتعلق باشتراطاته التي يأتي على رأسِها استيعاب الهدَف والمقصود، وما إذا كان ذلك يقع ضِمْن دائرة الإمكان في دائرة الخصوصيَّة الثقافيَّة لكلِّ أمَّة من الأمم، ممن يقع طرفًا ضمن دائرة هذا الحوار، ومالم يقع هذا الحوار ضمن هذه الدائرة، فلا يمكن أن نسمِّيه حوارًا وَفْق ما تقرَّر فيما سبق تناوله حول مفهوم وارتباطات واشتراطات الحوار الحضاري.

-------------------------

[1] سامية محمد جابر، الفكر الاجتماعي، نشأته، واتجاهاته، وقضاياه، ط: 1، 1409 - 1989، دار العلوم العربية، بيروت - لبنان، ص 159.
[2] نقلاً عن حسين حماده، الحوار القرآني، مجلة المعارك، ج 1، ع 8، 1412، بيروت - لبنان، ص 36، وقد أورد هذا النقل السايح - أحمد عبد الرحيم، معالم العلاقات الإنسانية في الإسلام، سلسلة دعوة الحق، العدد 198، العام 1423، إدارة شؤون الدعوة، رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة - السعودية، ص 143.
[3] السايح - أحمد عبد الرحيم، معالم العلاقات الإنسانية في الإسلام، مرجع سبق ذكره، ص 143.
[4] نقلاً عن أوطفرون ضمن محاورات أفلاطون، ت: زكي نجيب محمود، مكتبة النهضة المصرية، 1963، ص 30 - 31، وقد أورد هذا النقل العمري - محمد، دائرة الحوار ومزالق العنف، سلسلة محاضرات أقيمت في مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة المنشور ضمن سلسلة إشراقات، كتاب الموسم الثقافي الثالث، 2003 - 2004، المؤسسة العربية للطباعة والنشر، المنامة - البحرين، ص 10.
[5] العمري - محمد، دائرة الحوار ومزالق العنف، مرجع سبق ذكره، ص 10.
[6] نقلاً عن ديباجة ميثاق الأمم المتَّحدة، وقد أورد هذا النقل التويجري - عبد العزيز عثمان، الحوار والتفاعل الحضاري من منظور إسلامي، بحث مقدَّم إلى المؤتَمر العام الثَّامن للمجلِس الأعْلى للشُّؤون الإسلاميَّة الذي عُقِد في القاهرة بمصر حول موضوع (الإسلام ومستقبل التسامح الإنساني) من 24 - 27 يوليو 1996، من منشورات المنظَّمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة - إيسسكو، 1417 - 1997، الرباط - المغرب، ص 7.
[7] التويجري - عبد العزيز عثمان، الحوار والتفاعل الحضاري من منظور إسلامي، مرجع سبق ذكره، ص 7.
[8] ندوة الحوار الإسلامي الياباني، 28 - 29 ذو الحجة 1422 - 12 - 13 مارس 2003، مركز البحرين للدراسات والبحوث، المنامة - البحرين، ص 9.
[9] العلواني - طه جابر، الخصوصية والعالمية في الفكر الإسلامي المعاصر، قضايا إسلامية معاصرة، ط: 1، 1424 - 2003، دار الهادي، بيروت - لبنان، ص 126.
[10] الويشي - عطية فتحي، حوار الحضارات - إشكالية التصادم، وآفاق الحوار، حقائق ومفاهيم لا ينبغي أن تغيب، ط: 1، 1422 - 2001، مكتبة المنار الإسلامية، حولي - الكويت، ص 274.

رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Culture/0/5340/#ixzz1Th11UzZH

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك