إهدار الذات الإنسانيّة في الهوس الإسلامويّ بالدولة
هل يمكن أن يكون الإصرار الإسلامويّ على عناد الدولة من الأسباب المساهمة في إغفالنا نحن العرب المسلمين المهمّة الحضاريّة الملقاة على عاتقنا بصورة أشدّ إلحاحًا من غيرنا في العالم، ألا وهي مهمّة "أن نكون نحن أنفسنا". ألا يمكن أن يسوقنا إصرارهم -و نحن نغالب كلّ الرواسب المعيقة فينا لأخلاق الديمقراطيّة كي نقبل محاورة ما لا يقبله عقلنا من أفكارهم- وراء طريق ليست هي الطريق.
كثيرًا ما شغلتني هذه الجملة التي تكرّر تأكيدها عند واحد من الفلاسفة الصاعدين في العالم العربي نقصد الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني[1]، ليس ذلك فحسب لحمولتها الفلسفيّة وحدها تعبيرًا عن أهمّ شواغل الفلسفة المعاصرة، شاغل تأسيس الذات خارج احتباساتها الهوويّة القاتلة لتحرّرها حتمًا، هذا الشاغل الذي بدأ في صورة انقلاب على تحديدها الديكارتي، وربّما أبعد من ذلك، وإنّما لأنّ تلك الحمولة الفلسفيّة كثيرًا ما عنّت لي وأنا أستحضر هذه الجملة مع جملة أخرى وردت في القرآن مؤدّاها "وفي أنفسكم لعلّكم تبصرون" (سورة الذاريات، الآية 21). نظير هذا التعبير يتكرّر في القرآن ويوصل باستفهام إنكاري يخاطب فيه الله الإنسان داعيًا إيّاه إلى التفكير في نفسه لإدراك حقيقة الوجود، اللّه في القرآن. يقول التفسير القرآنيّ الرائج، وكذا يوحي السياق القرآنيّ بأنّ المقصود هو اللّه، ويفسّر اللّه عندنا على نطاق واسع بصورة متخيّلة عن كائن متعال مالك للعلم والقدرة والإرادة. هكذا قرّر علم الكلام هذه الصورة استنادًا إلى علامات تأوّلها في القرآن والحديث أيضًا. لنقبل فرضًا أنّ هذا المعنى هو جوهر القصد الإلهيّ، فهل يمكن أن تكون هذه النفس التي دعا المسكيني متأثّرًا بسؤالها المتكرّر في الفلسفة المعاصرة، إلى أن نكونها لنفهم حقيقة وجودنا، هي النفس عينها التي تحدّث عنها اللّه في كتابه؟. يبدو أن لا مانع من ذلك، مادام اللّه ترك نفسه دون تحديد كما تشي بذلك سورة الإخلاص. ماذا لو جمعنا بين بحثنا عن هذه النفس بوصفه شرطًا للإيمان، وبحثنا عنها بوصفه شرطًا للوجود كما أراد فلاسفة الذات؟ ألا يمكن أن ينسجم البحثان مادام اللّه لم يعيّن لنفسه صورة، تمامًا كما أنّ الفلسفة المعاصرة أنهت للنفس كلّ صورة جاهزة وقبليّة. من هذا المنظور ألا يمكن أن يكون القرآن في رفضه لتعيّن الذات الإلهيّة، ينكر علينا أيّ تعيّن للذات البشريّة في صورة معيّنة قارّة وثابتة؟ ألا يصبح البحث عن أنفسنا رحلة حياة نتّصل فيها بالواقع بصفة متجدّدة دومًا، تمامًا كما يكون الإيمان باللّه بحثًا عن تلك الصورة لا يتوقّف ولا ينتهي؟ ألا يمكن من ههنا أن نجعل الإيمان باللّه، أي بهذا المعنى الفلسفي للنفس، مدخلاً لنفي كلّ ارتكاس هووي جاءت فلسفة ما بعد الحداثة، فلسفة موت الإنسان، لتجعله أوكد ما يجب فعله من قبل الإنسان. ليس موت الإنسان المقصود هنا تنكّرًا له، ولمركزيّته في الوجود، إنّما هو تذكير بأنّ كلّ تعريف نهائي وقارّ للإنسان، يحوّله إلى موجود موضوعيّ قبليّ، هو في النهاية قتل للإنسان. إنّ فلسفة موت الإنسان تصبح من هذا المنظور دالّة على عكس عنوانها، نقضًا لكلّ تثبيت لوجوده في تعيّن تاريخيّ أو موضوعيّ ما.
من هذا المنطلق الإنسيّ كانت تلك الفلسفة رفضًا لإنسيّة الحداثة ذات التعريف الديكارتي للإنسان، ومن منطلق نفي ذلك القاع الأنتروبولوجي لتعريفه رفضت كلّ جهازها المصاحب بما في ذلك جهاز الدولة.
جهاز الدولة ذاك الذي تولّى صياغته فلاسفة من أمثال هوبس وروسو، كان مكرّرًا بامتياز لذلك التعريف الأنتروبولوجي للإنسان ذي الخلفيّة الديكارتيّة، في مفهومه المعروف "حالة الطبيعة".
نعم كان ذلك المفهوم مجرّد فرضيّة، ولكنّه تحوّل بفعل صياغته النظريّة العقديّة إلى أهمّ أساسات نظريّة الدولة، وتمكّن بتلك الطريقة من أن يكتسب حصانة لم تكن متوقّعة على الرغم من التشكيكات المتواصلة في قيمته. ومن هنا فإنّ كلّ النقد الموجّه للدولة، وكلّ التشكيك في استمرار قدرتها على إدارة السياسيّ، هو في الجوهر تشكيك في تلك الفرضيّة التي تقوم عليها، بما أنّها تظلّ مجبرة على قبول تعريف للإنسان ما عاد يحظى بكلّ الثقة، في الفلسفة المعاصرة.
و متى عدنا إلى إسلامويّي أيّامنا الرّاهنة الذين لم ينفكّوا عن التشكيك في هذه الدولة، فكيف يمكن أن يعدّوا بعد هذا التفسير مساهمين في إغفال المهمّة المنوطة بعهدتنا "أن نكون أنفسنا"؟
هم بدورهم واجهوا هذه الدولة، فكيف نعدّهم معطّلين للإنسان فينا ماداموا يواجهون أبرز معيقاته فينا؟
يبدو الأمر ماثلاً عندنا لا في المواجهة إنّما في صيغتها ومحتواها، فإسلاميّونا لم يرفضوا الدولة لأنّها تكرّس حبسًا لمفهوم الإنسان، إنّما حجاجهم لها على ذلك المضمون نفسه. لم يرفض إسلاميّونا في الدولة تعريفها للإنسان بوصفه موجودًا موضوعيًّا قبليًّا، إنّما ما رفضوه أن لا يكون للّه كما يتصوّرونه في ذلك التعريف موضع، حينئذ يستبدل عندهم مفهوم الإنسان الطبيعي بمفهوم الإنسان الإلهي، تعتبره الدولة كائنًا ذا خصائص أصليّة موجودة فيه طبيعيًّا، وينظر إليه الإسلاميّون النظرة ذاتها، ولكنّهم يعودون إلى ما قبل الطبيعة إلى لحظة الخلق، فيكون الإنسان عندهم تمامًا كالطبيعة مخلوقًا بخصائص من عند اللّه.
يعبّر الإسلاميّون عن عمليّة الاستبدال التي ينجزونها، بمفهوم الفطرة بديلاً عن مفهوم حالة الطبيعة، وبصرف النظر عن مضمون الفطرة الذي يرونه إسلامًا أو لا يكون، فإنّهم لا ينفون مفهوم حالة الطبيعة في تعطيله لمعنى الإنسان، إلاّ ليعطّلوه بمفهوم بديل هو مفهوم الفطرة[2].
من المعلوم أنّ تبعات تلفيقيّتهم هذه المتلهّفة لاستبدال الدولة، بدولة يسمّونها إسلاميّة، تكتمل في معارضتهم لها في نظريّتيها للحق والسلطة. ولكن تمامًا كما توقعهم تلك المعارضة في تكلّم لغة دولتهم بلغة الدولة التي يرفضون، فإنّها توقعهم أيضًا من منظور إشكاليّتنا في التثبيت نفسه لمفهوم الإنسان.
من ههنا هل يساعدنا الإسلاميّون على أن نكون أنفسنا كما دعا إلى ذلك المسكيني في تشبّعه بالمطلب الفلسفي الكوني المعاصر؟
يبدو الأمر حسب التحليل السابق مستبعدًا لفرط تعلّقهم بقتال الدولة، ولكن أيضًا من فرط تقوقعهم في فهم ولّى زمانه للإنسان. ينسيهم شعار إسلاميّة الدولة، أنّ مناطه فهم مدلول اللّه في الإسلام، غير أنّ تلهّفهم إلى الردّ عليها يصرفهم عن التوقّف للتفكير في ذلك المدلول. يكتفي الإسلاميّون الذين يعيشون عالمهم، في تأويل معنى اللّه برؤية فقدت كلّ ارتباط لها بهذا العالم. فهل يمكن أن يكون اللّه الذي نصل إليه من النظر في أنفسنا ماثلاً في تفسيره التيمي حلقة وسطى بين ابن حنبل وابن عبد الوهاب؟
أن نكون أنفسنا يعني في السؤال الإنساني الرّاهن الذي تعبّر عنه الفلسفة خارج كلّ السياقات، أن نعيش الحياة التي نحيا، لا كما عاشها الرسول وصحابته وتابعوه كما يرى ابن تميميّة وصحبته وتابعوه. ذلك عيش لإنسان ليس نحن، تمامًا كما أنّ عيش ديكارت من خلال هوبس، هو عيش خارج الزمان. قد يكون هذا العيش هو جوهر معنى الإسلام، مادام اللّه رفض أن يتعيّن، دليلاً يدلّ إليه كلّ إنسان.
يؤكّد الفلاسفة وعلماء الاجتماع أنّ الإنسان مسار، وصيرورة، وأنّ الهويّة تركيبة[3]، ويتبعهم بعض علماء السياسة، والاجتماع السياسي، فيبيّنون أنّ الدولة من أولى صنّاع الوهم بثباتها عبر ما يسمّيه بارتران بادي (Bertrand Badie) "المقاولين الهووّيين"، فهؤلاء دورهم السياسي أن يهدوا الجمهور علامات هوويّة، تمثّل إجابات لأسئلة الأفراد عن أنفسهم من يكونون. ليس احتجاجنا على الفكر الإسلاموي من هذا الجانب في كونه ينخرط في عمل هؤلاء المقاولين، فلئن كان خطابهم الهووي يهدّد العقد الاجتماعي الذي يتأسّس على إرادة التعايش، فإنّ خطورته تبدو لنا أبعد من ذلك، لا في تكرار الخطأ الذي جرّبته وتفادته الدولة في تاريخها، لمّا خبرت أنّ تأسيس الهويّة على قاعدة عرقيّة مؤدّ إلى العنف، إنّما العنف الذي نقصد في إدانتنا، هو العنف الخفيّ الأعمق الذي تمارسه الدّولة وهي تفترض وجودًا أصليًّا لإنسان، تشيّد له في سجنه التعريفي ذاك نمطًا لوجود محدّد سلفًا يمنعه عن أن يكون ما يريد من إنسان.
فإلى أن يحين وعي الإسلامويّين بأنّ رأس الأمر في بنائهم السياسي أن يراجعوا مفهوم اللّه كما تخيّلوه طريقًا للإيمان، قد ننتظر طويلاً وقد صار حلمهم واقعًا، أن ينتقلوا من التفكير في الإسلام بمنطق هدفه الدولة إلى التفكير فيه بمنطق هدفه الإنسان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر فتحي المسكيني، الهويّة والحريّة نحو أنوار جديدة، بيروت، جداول للنشر والتوزيع، ط1، 2011، تصدير الكتاب، ص 9 وما بعدها.
[2] انظر شرح علي أومليل لهذه المعارضة الإسلاميّة لمفهوم حالة الطبيعة بمفهوم الفطرة، كتابه: الإصلاحيّة العربيّة والدولة الوطنيّة، بيروت، دار التنوير للطباعة والنشر، ط1، 1985، ص 31 وما بعدها.
[3] يراجع في هذا السياق على سبيل المثال كتاب:
Jean Claude Kaufmann, Ego. Pour une sociologie de l’individu (une autre vision de L’homme et de la construction du sujet), Nathan, 2001,