الإسلام السّياسي في الممارسة، نماذج من أقطار عربيَّة (3)
بقلم: خالد غزال
7 ــ فلسطين
يتمثل الإسلام السياسي في فلسطين بتنظيمين رئيسيين هما حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي، من دون أن ينفي وجود تنظيمات أخرى أقل فاعلية من هذين التنظيمين. لكن الطرف الغالب والأفعل هو حركة حماس، مما يجعلها تختصر موقع الإسلام السياسي بشكل عام.
تنتمي حركة حماس إلى تنظيم الإخوان المسلمين، بشقيه المصري والأردني. نشأت في فلسطين في ثمانينات القرن الماضي، تحت اسم "حركة المقاومة الإسلامية" أو "حماس".
تعمل في الضفة الغربية وغزة، وإن يكن وجودها أكثر فاعلية في قطاع غزة. طرحت الحركة نفسها في وصفها بديلاً إسلامياً للتيارات القومية واليسارية السائدة على الساحة الفلسطينية، ورفضت الدخول في إطار منظمة التحرير الفلسطينية. تشير الوثائق التأسيسية للحركة إلى توجهاتها الدينية السياسية التي ظلت تطبعها طوال عملها، فيشير الكاتبان عمرو حمزاوي وناثان براون إلى أيديولوجيا حماس بالقول :"الوثيقة الأيديولوجية لتأسيس الحركة (ميثاق حماس للعام 1988) هي وثيقة ملتوية تعج بالإشارات الدينية، والتفاني المطلق لتحرير فلسطين باعتبارها قضية إسلامية، والتوسلات الداعية إلى المقاومة، والمواقف المتشددة تجاه القضايا الوطنية.
وتتضمن الوثيقة إشارات عابرة وتآمرية إلى كيانات مرتبطة بقدر ضئيل للغاية بالنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني، كما تتجاوز مجرد تأطير الصراع بوصفه صراعاً بين طوائف دينية، إلى إشارات حادة إلى "بروتوكولات حكماء صهيون"، والنازيون اليهود وتجار الحرب" ( حمزاوي وناثان :بين الدين والسياسة، ص240).
تميزت "حماس" بمواقف مزايدة لفظية على حركة فتح، وبتعطيل أي اتفاقات لتوحيد فصائل المقاومة أو خلال المفاوضات للوصول إلى اتفاقات مع اسرائيل. على رغم انتصارها في الإنتخابات النيابية وتشكيلها حكومة فلسطينية، إلا أن توجه حماس كان متركزًا على الاستيلاء على قطاع غزة والانفصال عن السلطة الفلسطينة. تجلى هذا التوجه في الإنقلاب الذي قامت به عام 2007 على السلطة، وهي التي كانت العنصر الأساسي فيها، وإعلان غزة "إمارة" بكل معنى الكلمة. ومنذ اليوم الأول للانقلاب، أفصح قادة "حماس" عن أن نضالهم الأساسي سيكون ضد القوى العلمانية في فلسطين قبل أن يكون مقاومة اسرائيل، تنفيذًا لتوجه إقامة دولة دينية تعتمد التشريعات الإسلامية وحدها. هكذا نفذت "حماس" اعتقالات وقتل لعناصر من حركة فتح وغيرها من المنظمات الفلسطينية التي لا تقول بمنطقها الديني. كان واضحاً أن ممارسات الحركة وكذلك أيديولوجيتها وهيكلها التنظيمي "يشيران إلى أن الحكم وسيلة وليس غاية. الغاية هي الأسلمة والتحرير من خلال المقاومة. لكن "حماس" تتصرف على نحو أكثر فأكثر بطريقة معاكسة تماماً، فمنذ قرارها بدخول الانتخابات البرلمانية، اختارت حماس طريق الحكم كلما كان هناك مفترق طرق، فهي قللت، على سبيل المثال من شأن الشريعة الإسلامية، وتوقفت عن إطلاق النار ضد اسرائيل، وقمعت الجماعات الجهادية، ورفضت أن تتزحزح عن المناصب الرئيسة في قطاع غزة.
لعل أخطر ما ارتكبته "حماس" ومعها حركة "الجهاد الإسلامي" هو الانحراف بالقضية الفلسطينية عن موقعها الوطني والقومي، ورميها بين أشداق قوى طائفية ومذهبية داخلية وخارجية. منذ احتلال فلسطين وإقامة دولة إسرائيل، شكلت القضية الفلسطينية الحلقة المركزية في المشروع القومي العربي الداعي إلى تحرير الأرض المغتصبة وطرد الاستعمار. كما شكلت المشجب الذي علقت عليه الأنظمة شعاراتها وسياساتها بما فيها التلاعب بالقضية وتوظيفها في نيل مشروعيتها الوطنية، وقمع الشعوب العربية تحت عنوان "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". وكانت هذه السياسات تتوحد عند طمس الشخصية الفلسطينية ومصادرتها والتكلم باسمها. شكلت هزيمة حزيران خروجاً فعلياً للشخصية الفلسطينية من تحت جبة الأنظمة عبر انطلاق المقاومة المسلحة ضد اسرائيل، وهي المقاومة التي كانت حركة فتح قد أطلقتها قبل عامين أي 1965. على امتداد عقود، خاضت المقاومة حروبا ضد اسرائيل، وخاضت حروباً أكبر مع الأنظمة العربية الساعية دوما لمصادرة القرار الفلسطيني ومنع الشخصية الوطنية من التبلور والاستقلال. كان انتزاع القرار الوطني الفلسطيني وبلورة الشخصية الوطنية الفلسطيينة أهم انجازات المقاومة الفلسطينية منذ سبعبينات القرن الماضي، على رغم ما تكبدته من خسائر على يد اسرائيل والأنظمة العربية على السواء. إن إحدى معضلات الثورة الفلسطينية كانت ولا تزال في سعي بعض الأنظمة العربية للهيمنة على القرار الفلسطيني، وإن مسألة النضال لاستقلالية هذا القرار كانت الأساس في إعادة بلورة الشخصية الفلسطينية.
ومن موقع هذه الاستقلالية خاضت الحركة الوطنية الفلسطينية صراعها المديد ضد أعداء مشتركين، من الكيان الصهيوني، إلى الأنظمة الغربية الموالية لإسرائيل، إلى أنظمة عربية لم تكن أقل عداء ضد الشعب الفلسطيني من الحركة الصهيوينة. في هذه المعركة، لم تكن حركة حماس في الموقع المستقل عن بعض الأنظمة العربية المعادية للشعب الفلسطيني. فكيف تصرف الاسلام السياسي تجاه القضية المركزية التي وحدت العالم العربي والشعوب العربية وكانت عنواناً للصراع ضد المشروع الصهيوني والمشروع الأمبريالي الغربي الهادف إلى السيطرة على المنطقة العربية ونهب ثرواتها؟
وجهت "حماس" نقدًا لمقولة القرار الفلسطيني المستقل، وترجمت هذا النقد بربط القضية الفلسطينية بمحاور إقليمية، متمثلة بالنظام البعثي في سوريا وبنظام الملالي في إيران.
معروف أن النظام السوري كان من أكثر المؤثرين سلباً في النضال الفلسطيني، ومارس كل أنواع الضرب والتصفية لحركة المقاومة، بالإبادة الجسدية وبالإعتقال وبإدارة انشقاقات داخل صفوف المقاومة، فوضعت حماس القضية مجددًا في جيبه. وتوجهت "حماس" و"الجهاد" إلى إيران وقدما القضية لقادتها، وبات النظام الإيراني يمارس الادعاءات الفارغة بالتهديد الدائم بإبادة اسرائيل والمزايدة على الدول العربية في تبني القضية الفلسطينية، على رغم أن هذه "البهورات" كانت تتلاشى عندما تتعرض فلسطين وخصوصا حركة حماس وقطاع غزة إلى عدوان، فيخفت الصوت الإيراني لنعود ونسمع ترنيمة النظام السوري الدائمة حول تحديد زمان ومكان المعركة الذي تقرره إيران وحدها. خلال العدوان على غزة في تموز 2014، ارتفعت أصوات قيادات عسكرية رفيعة في إيران تهدد بأنها لن تقف مكتوفة الأيدي وستتدخل لدعم الفلسطينيين في غزة. ومع تواصل العدوان، تراجع التهديد ليعلن هؤلاء القادة بانهم ينتظرون فتوى المرشد الأعلى آية الله خامنئي ليبيدوا إسرائيل ويمحوها عن الأرض. وهي فتوى لن تبصر النور بالتأكيد. أكثر من ذلك، لم تتجرأ إيران على إرسال مواد غذائية وطبية الى غزة خوفاً من رد فعل اسرائيل. والخطأ الثالث الذي ارتكبه الإسلام السياسي كان تسليم القرار الفلسطيني إلى دولة قطر صاحبة أكبر قاعدة أميركية في الشرق الأوسط. هكذا، بدلا من التوحد حول القرار الفلسطيني، عملت "حماس" على امتداد سلطتها على منع حصول هذه الوحدة الفلسطينية، بل مارست عمدًا سياسة انفصالية، وكانت تجهض كل محاولة للمصالحة والوحدة، وسلمت القضية إلى المحور الإيراني التركي القطري والسوري، بحيث باتت هذه القوى تتلاعب بالقضية وتوظفها في خدمة مشاريعها وعلاقاتها مع الدول الغربية. لقد دفع الشعب الفلسطيني غاليا ثمن هذا التلاعب عبر سيساسات مغامرة كانت تلجأ إليها حماس في كل مرة يبدو أن وجهة الوحدة الفلسطينية تسير نحو الغلبة، فتأتمر بما يقرره هذا المحور لمنع أي وحدة فلسطينية. يشير الكاتب اللبناني احمد جابر الى هذه المسألة قائلا :" إن الضرر الفادح الذي يمكن أن يلحق بالقضية الفلسطينية ومستقبلها، يأتي من جهة تغيير هويتها، ومن أدبيات إعادة تعريفها فئوياً، من خلال «الاجتهاد» في الدين، أو الاجتهاد في «التنظيم». لقد دفعت فلسطين ثمناً لهذا التصنيف عندما رعى بعض «الإقليم» الانقلاب في قطاع غزة، وما زال الدفع مستمراً، لأن الراعي أمسك ببعض من الأوراق الفلسطينية فوظفها عنده، وبإسم هذه الأوراق وزّع التهم والأوصاف عربياً وإسلامياً. إذا كان الأمر مشروعاً، على سبيل التفكير والانتباه، يصير من الواجب القول إن ضمانة المستقبل الفلسطيني تظل ماثلة في رباط العروبة، وأن الفلسطينيين، وهم يتصدون للهجمة الإسرائيلية الجديدة، فإنهم يتصدرون في ذلك معركة الدفاع عن العروبة عموماً، التي لا يبرر وهنها التنكر لها. لقد احتلت المسألة الفلسطينية مكاناً عالمياً بين حركات التحرر، وكان ذا مغزى تسليم راية الكفاح لها بعد خروج القوات الأميركية من فيتنام، وكان وسيظل ذا مغزى، احتفاظ «الفلسطينية» بقدرتها على الدمج بين الدعم العالمي والانتماء العربي والبعد الديني، بشقيه الإسلامي والمسيحي، وعليه، سيكون قاتلاً وانتحارياً، أخذ فلسطين إلى «فئوية الأسلمة»، أو فرض هذا الخيار عليها" (حمد جابر، الهوية العربية ضمانة فلسطينية، جريدة الحياة، 1- 8 – 2014 ).
تسبب الاسلام السياسي الفلسطيني، خصوصاً منه حركة حماس، في أضرار جسيمة للشعب الفلسطيني وللقضية الفلسطينية بالنظر إلى اختزال القضية في "شخصه". كان معيباً على هذا الإسلام أن يرفع شعارات النصر الإلهي في كل عدوان ويحسب فقط الخسائر التي تكبدها في مقاتليه للتأكيد على هذا النصر. لم يكن يأخذ في الاعتبار حجم الضحايا من الشعب الفلسطيني والجرحى الذين سقطوا والدمار الذي لحق بالمنشآت والمساكن. لم يكن يعنيه الموازنة بين كلفة إطلاق صاروخ على اسرائيل وبين كلفة الرد الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني. على غرار سائر مشاريع الإسلام السياسي الذي يريد السلطة بأي ثمن، كان مشروع هذا الإسلام، ولا يزال، مشروعاً انتحارياً، أصاب ويصيب القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني بأفدح الأضرار التي يصعب تعويضها.
8 ــ السودان
دخلت جماعة الإخوان المسلمين إلى السودان في مطلع الخمسينات من القرن الماضي. ترأس الدكتور حسن الترابي الجماعة لفترة غير قليلة من الزمن، وكانت أسماء التنظيم تتبدل، إما نتيجة الانشقاقات أو لأسباب سياسية وتنظيمية، فكان هناك : جبهة الميثاق الإسلامي التي تأسست بين أعوام 1969 -1979 ، وكان الترابي أمينها العام، ثم عاد الترابي ليشكل الجبهة الإسلامية القومية بين 1986 – 1989 ، حيث أعلن أن أهدافه هي أسلمة المجتمع وتأسيس حكم الشريعة الإسلامية في السودان. شارك الإخوان مبكرًا في الحكم، فقد تحالفوا مع جعفر النميري الذي أصدر عام 1983 مجموعة قوانين تشريعية كرّس فيها المرجعية الإسلامية. كانت إحدى "انجازات" النميري بعد وضع تشريعاته إعدام المفكر الإسلامي محمود محمد طه عام 1985، جواباً عن اجتهادات قال بها طه في شأن قراءة النص الديني قراءة عقلانية وتاريخية، وقد صدر الحكم بالإعدام بعد فتوى حسن الترابي الذي اعتبر محمود طه مرتدًا عن الإسلام ويستوجب قتله. هذا مع العلم أن الترابي أتى إلى السودان بعد إنهاء دراساته في جامعات السوربون في فرنسا، وقدّم نفسه مفكرًا إسلاميا متنورًا.
يمثل الإنقلاب الذي قام به الرئيس الحالي عمر البشير بالتعاون مع حسن الترابي ضد نظام جعفر النميري، مرحلة جديدة في موقع الإسلام السياسي السوداني، فقد بات هذا الإسلام جزءًا من السلطة، بل إن الترابي أراد أن يرأس السلطة من خارجها وان يكون فوق رئيس الجمهورية وفوق الحكومة نفسها. لكنّ ازدواجية السلطة هذه لم تدم طويلاً، إذ انقلب البشير على الترابي وأودعه السجن. يشير الكاتب السوداني عبد الوهاب الأفندي إلى تلك التجربة قائلاً :"رأى كثيرون من المراقبين والمعلقين في تفجر الصراع داخل النظام ومآلاته مرحلة فاصلة، مثلت سقوط "الجمهورية الإسلامية الأولى" في العالم الإسلامي، وانهيار الحركة الإسلامية السودانية وتفككها .. وهي مثلت كذلك "سقوط المشروع الحضاري" الذي بشر به الإسلاميون في السودان، وكشفت الخواء الفكري والإفلاس الأخلاقي لأصحاب ذلك المشروع. ذلك أن اعضاء الحركة، حين غامرت بالقفز إلى السلطة، "جعلوا من السودان مختبرًا أو معملاً لإجراء تجربة حكم إسلامي أو مشروع حضاري إسلامي من دون أن يملكوا رؤية فكرية واضحة ولاكوادر مؤهلة لتطبيق تغييرات إسلامية معاصرة في بلد شديد التعقيد بسبب تنوعه الثقافي ومساحته وموقعه الاستراتيجي" ( عبد الوهاب الأفندي، الحكم الإسلامي من دون إسلاميين : جدلية الدولة والحركة في التجربة السودانية، من كتاب الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي، ص326) على ما يقول الكاتب السوداني حيدر ابراهيم علي.
على غرار سائر تنظيمات الإسلام السياسي التي وصلت إلى الحكم أو قاربت الوصول إليه، سعى الإخوان السودانيون إلى تحويل الدولة والمجتمع ومعها شؤون الحياة إلى إخضاعها لنمط من القوانين والممارسة تستند إلى الشريعة الإسلامية. "طالت العملية أوجه الحياة كافة، بدءًا بالحياة الخاصة في التربية وتزكية النفس، وفي إقامة الشعائر من صلاة وزكاة وحج وصيام ..
ونقلت إلى المناهج التعليمية توجهات الدولة القاضية بجعل العقيدة محور الحياة التي تهدف إلى تنشئة جيل مؤمن بربه.. ووضعت قانوناً جنائياً يشتمل على أحكام الحدود بما فيها مادة باسم الردة، ومواد أخرى تسمح بإعدام الصغير والشيخ قصاصاً وفقا للشرع.. وأكثروا من عقوبة الجلد التي وصلت عام 2010 إلى جلد 43 الف امرأة، كما حوكم ما يقرب من مئتي شخص بالردة.. وتوسع النظام القانوني في العقوبات ضد الأشخاص المعارضين للحكم من خلال تأصيل مسائل الخروج على الحاكم المسلم" (شمس الدين الأمين ضوّ البيت، تجربة الإسلاميين السودانيين في الحكم، من كتاب : الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي، ص 361 ).
لم يترك الإسلام السياسي السوداني شأناً من الشؤون إلا وكانت له بصمات غير حميدة عليه. في ميدان الثقافة، يروي الكاتب السوداني عثمان شنقر أنه "في حادثة أشبه بحوادث العصور الظلامية، الموغلة في الجهل والتخلف الحضاري، أقدم وزير ثقافة وإعلام سوداني، في بدايات تسلم الإسلاميين كرسي السلطة في السودان، قبل ربع قرن، على اقتحام كلية الفنون الجميلة، في ثورة عارمة ضد الفنون، وقام بتهشيم التماثيل وأشغال النحت التي كان يعكف عليها طلاب الكلية، بصورة همجية جاهلة، مستخدماً عصاه في البدء، ثم أمر مرافقيه من الحرس بتكسير كل التماثيل و"الأصنام" باعتبارها رجساً من عمل الشيطان" ( عثمان شنقر، الأصوليون السودانيون والثقافة.. خصام دائم، جريدة الحياة، 10 - 7 – 2014 ). لم يأت هذا التصرف صدفة، فالإسلاميون تعمدوا تشويه الشأن الثقافي لأنه يتعارض مع مشروعهم، ولكون العمل الثقافي والفني قد يخلخل منظومتهم الفقهية.
في تعاطيهم مع المجموعات الإثنية والطائفية التي يتكون منها السودان، مارس الإسلاميون سياسة تمييز عنصري ضد الأقليات، وسعوا إلى سودان يحمل نقاوة إسلامية، واستخدموا العنف ضد الأقليات بعد أن عجزوا عن استيعابها، وكان من أخطر النتائج هو انفصال الجنوب عن الدولة الأم. وفشل الإسلاميون في ميدان الاقتصاد، فيشير حيدر ابراهيم علي إلى هذا الجانب قائلاً :"فقد ثبت أن ما يسمى ب"الاقتصاد الإسلامي"مجرد شعار فارغ ليس لديه أي مضمون اجتماعي، وليس نظاماً اقتصادياً اشتراكياً ولا رأسمالياً ولا خليطاً. وعلى رغم أن رائد فكرة الاقتصاد الإسلامي، الدكتور النجار، أنكر الفكرة، أصرّ الإنقلابيون على أنهم يطبقون اقتصادًا إسلامياً. وكل ما في الأمر منع التعامل الربوي الصريح وإلباسه أقنعة دينية تستخدم الحيل الفقهية لتمرير القروض والمعاملات الربوية. لقد اقتصر اقتصادهم الإسلامي على المضاربات المالية والعقارية وبيع الأراضي.. يكفي أن البلد كان مرشحاً ليكون سلة غذاء المنطقة، باتت تضربه المجاعات موسمياً، وصار متلقياً ثابتاً للمعونات الغذائية من منظمة الغذاء العالمي ومن الشيطان الأكبر – الولايات المتحدة" ( حيدر ابراهيم علي، السودان .. ربع قرن خارج التاريخ، جريدة الحياة، 9 – 7 – 2014 )
9 ــ لبنان
يشكل المجتمع اللبناني المتعدد الطوائف والقائم نظامه السياسي على المحاصصة الطائفية بيئة حاضنة لولادة التنظيمات السياسية الطائفية والمذهبية. يحوي لبنان في جوفه منوعات من الأحزاب ذات الطابع الديني، ويشمل ذلك جميع الطوائف من دون استثناء. في البيئة الإسلامية، برزت ظواهر كثيرة خصوصاً في العقود الأخيرة، بعد تفجر الحروب الأهلية في البلد، واكتساح الطوائف للمشترك الذي تمثله الدولة التي جعلتها الحروب الأهلية على شفير الإنهيار. من بين الأحزاب ذات الصفة الطائفية، تفرد "حزب الله" بموقع خاص اكتسبه من موقعه في المقاومة ضد اسرائيل، ومن تمثيله شبه الشامل للطائفة الشيعية، والدور الذي لعبه ولا يزال في الحكم والسلطة. لذا سيقتصر الحديث عن الإسلام السياسي في لبنان على حزب الله، في منشأه العقائدي وفي ممارسته العملية داخل النسيج اللبناني، من منظار الإسلام السياسي الشيعي، وخلافاً لما جرى التطرق إليه في النماذج السابقة التي كانت تتناول الإسلام السياسي ذا الطابع المذهبي السني.
تضافرت جملة عوامل داخلية وعربية وإقليمية في نشوء الحزب وتطوره. داخلياً، كانت الحرب الأهلية عنصرًا أساسياً في النشوء حيث سيطر الاحتلال الإسرائيلي على جزء من لبنان، رافقه محاولات سلخ لبنان عن العالم العربي بعد الاجتياح، إضافة إلى صعود الشيعية السياسية وسعيها لتعديل المعادلة القائمة التي لم تكن ترى فيها ما ينصف حجمها وموقعها في البلد. عربياً، لعبت سوريا دورًا مركزياً في رعاية الحزب وتوظيفه في خدمة سياستها بعد الضربة التي طالتها خلال الاجتياح، كما كانت ترى سوريا في الحزب عنصرًا يعيد لسوريا دورها العربي. إقليميا، كانت إيران العنصر الحاسم في تأسيس الحزب وتدريب كوادره وتسليحه وتمويله، وكانت إيران ترغب من وراء ذلك إلى ترسيخ أقدامها في المشرق وتوظيفه في مد نفوذها إلى الخليج وسوريا، والتدخل في فلسطين، يجمع كل ذلك هدف إيراني استراتيجي بإنشاء "أممية إسلامية" تحت نفوذها.
يوصّف الكاتب اللبناني أحمد جابر حزب الله بالقول :"أعطى حزب الله لذراعه المسلحة، اسم "المقاومة الإسلامية"، ليجعل الإسلام عموما، مرجعية نظرية لخطه، وليكون في تعاليمه وسننه هادياً ومرشدًا لخطواته.. الإحالة إلى "الإسلامية العامة"، من جانب حزب الله، تناغمت مع "الشمولية الإسلامية" الإيرانية، وكانت صدى وتردادًا لها. أما المقصود "بالشمولية" فهو التوجه بالنهج والتفسير والدعوة .. إلى مجموع "الأقطار الاسلامية"، وعدم اقتصار الأمر على بلد واحد.
ينطوي الخروج بالشعار إلى ما وراء الحدود الوطنية والقومية العربية، على ثلاثة أمور هامة، الأول : استبدال الروابط القومية أو الإقليمية أو الفكرية المغايرة، بالرابطة الدينية. والثاني: انتداب المعلن والداعي والمحرض، لذاته، قائدًا وملهماً للمحاولة الجديدة. والثالث : تعيين بلد – مركز للدعوة، على غرار المركز الإشتراكي الذي مثله الاتحاد السوفياتي سابقاً، أو المركز القومي الذي مثلته مصر الناصرية، والدعوة بالتالي إلى الإلتفاف حول المركز، والأخذ بسياسته وتوجهاته والدفاع عن مفاهيمه.. وحتى عن حدوده إذا ما لزم الأمر، في مواجهة ما قد يتعرض له من عدوان.. لكن "إسلامية" المقاومة، العامة سياسياً، لم تكن عامة "دينياً"، فما اعتمد في ميدان "الإسلامية" هذه، هو النص "الشيعي الإمامي" الخاص، الذي له تفسيراته واجتهاداته ومراجعه ومأثوراته وتاريخه واعتقاداته المستقبلية.. مما يمكن معه القول إن "المقاومة الإسلامية" قد تحركت تحت عباءة الشعار العام، "كفرقة" ذات طابع إسلامي خاص، لها نظراتها المحددة إلى الإسلام، ولها افتراقها "الفقهي" عن عدد من نظرات الفرق الإسلامية الأخرى" (أحمد جابر، حزب الله ..وتحولات البنية اللبنانية العامة، من كتاب مشترك مع فارس اشتي وشوكت اشتي بعنوان:الاحتباس الديمقراطي في الأحزاب اللبنانية، إصدار "الفرات للنشر والتوزيع"، بيروت، 2010، ص108- 109 ).
شكل حزب الله التجربة السياسية الوحيدة في العالم العربي التي أعلنت جهارًا التزامها ولاية الفقيه الإيرانية، عل رغم رفض عدد غير قليل من المرجعيات الشيعية اللبنانية لهذه الولاية. كشفت وثيقته التأسيسية الصادرة عام 1985 الوجوه العقيدية والأيديولوجية الثابتة للحزب، فترى الثابتة الأولى أن الإسلام عقيدة ونظام، والحكم للفقيه والأئمة الوارثين :"نحن أمة ترتبط مع المسلمين، في أنحاء العالم كافة برباط عقائدي وسياسي متين هو الإسلام. أما ثقافتنا فمنابعها الأساسة القرآن الكريم، والسنة المعصومة، والأحكام والفتاوى الصادرة عن الولي الفقيه ومع التقليد عندنا". وتقول الثابتة الثانية بنقل الثورة إلى العالم بالقوة وبأمرة الولي الفقيه، ولهذا أعطت الوثيقة دورًا كبيرًا للمقاومة الإسلامية بواقعها. أما الثابتة الثالثة فتقول بأن ولاية الفقيه الإيراني هي التزام شرعي وسياسي، وله الرأي والمشورة، القرار والأمرة، الطاعة والولاء، فتعطف هذه الثابتة على ما يقول به الإمام الخميني في كتابه "الحكومة الاسلامية" حيث يرد :"فتوهّم أن صلاحيات النبي في الحكم كانت أكثر من صلاحيات أمير المؤمنين، وصلاحيات أمير المؤمنين أكثر من صلاحيات الفقيه، هو توهّم خاطيء وباطل. نعم ان فضائل الرسول بالطبع هي أكثر من فضائل جميع البشر، لكن كثرة الفضائل المعنوية لا تزيد في صلاحيات الحكم. فالصلاحيات نفسها التي كانت للرسول والأئمة".
سعى الحزب الى بناء نموذج ثقافي وسلوكي متناسب مع توجهاته العقيدية، كما عمل على فرض هذا النمط من التوجه في المناطق ذات الغلبة الشيعية التي يهيمن عليها. "على غرار كل مجموعة أهلية لبنانية، اعتنى حزب الله، بتسريع إعادة احياء "الثقافة الخاصة"، وتعميم طقوسها على جمهوره، المنظم منه والمؤازر، وذلك من خلال خطوات مدروسة ومبرمجة، أعادت استحضار عدد من المناسبات، فأخذت بطقوسها الموروثة، وأضافت إليها شيئاً من "المشهدية" الهادفة إلى تكريس بعد مادي ونفسي في وجدان ممارسيها، والساعية أيضاً إلى جعل المشهدية الحاضرة، استمرارًا لتراث مشهدي سابق، ومرجعية "نمطية"، لكل المشهديات التي تريد الخوض في غمار "التجربة الإحيائية" الطقوسية" ( أحمد جابر، مصدر سابق، ص112).
بعد الإنسحاب الإسرائيلي من لبنان، والذي كان للحزب دور مركزي في فرضه، وبعد الإنسحاب السوري من لبنان في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، جرى تحوّل في تعاطي الحزب مع الشأن اللبناني الداخلي. لم يشارك الحزب قبل هذه الفترة في الحكومات اللبنانية، لكنه الآن قرر أن يكون شريكاً في السلطة، مستندًا الى موقع مميز من خلال السلاح الذي يمتلكه والالتفاف الشيعي حوله. شكلت حرب تموز نقطة تفجّر في علاقته بالمجموعات اللبنانية الأخرى. انطلق من ادعاء النصر الإلهي في تلك الحرب لمحاولة فرض سطوته على البلد والحكم، وتحول كلياً إلى الداخل اللبناني. كانت أهم نتائج حرب تموز الوصول إلى القرار 1701 الذي فرض وجود قوات الطواريء في الجنوب ومعه انتشار الجيش اللبناني، وانسحاب حزب الله من المنطقة. عنى القرار عملياً إنهاء المقاومة المسلحة ضد اسرائيل، وهي مقاومة كانت توقفت ولم يعد ما يبررها منذ الإنسحاب الاسرائيلي عام 2000. لكن أخطر ما نتج عن الحرب هو نقل حزب الله من الحدود مع اسرائيل إلى الداخل اللبناني وإدخاله في وحول الحرب الأهلية الباردة الدائرة فيه، ووضعه في مواجهة القوى الطائفية الأخرى. في الصراع على المحكمة الدولية الخاصة بمحاكمة قتلة رفيق الحريري، اتخذ الحزب موقفا معادياً للمحكمة، لكونه المتهم الرئيسي بالاغتيال، وسعى إلى قلب صيغة الحكم لمنع تمرير قرار المحكمة لبنانياً. نفذ اعتصاماً لمدة عام ونصف في وسط بيروت، وشل قسما واسعا من الحياة الاقتصادية، وصعّد خطابا فئويا طائفيا مليئاً باتهامات التخوين والتكفير لسائر المجموعات التي تعارضه، وتوّج هذا الاعتصام بشن حرب أهلية (صغيرة) في السابع من ايار عام 2008، غلبت عليها شعارات أن هذه الحرب في بيروت هي انتقام الإمام علي من يزيد بن معاوية، مستحضرًا الصراع الطائفي والمذهبي على السلطة قبل خمسة عشر قرنا. وقبل هذه الفترة، وجهت الاتهامات إلى الحزب باغتيال عدد من القادة اللبنانيين الذين يقفون ضد خطه السياسي وضد السياسة السورية التي يلتزمها الحزب.
على رغم أن الحزب لا يمثل الأكثرية العددية التي تخوله الإمساك بالسلطة، ، وبالنظر إلى أن سلاحه بات عنصراً داخلياً يتحكم بمسار الحياة السياسية، فقد وظف هذا الموقع في تعطيل الحياة السياسية، يشير احمد جابر إلى هذه المسألة بالقول :"لقد كان حزب الله "حاكماً"، عندما استجاب "ائتلاف الحكم"، لمتطلبات المهمة القتالية، وكان حاكماً عندما تقدمت أولوياته على كل الأولويات الداخلية الأخرى. كذلك كان الحزب "متحكماً"، عندما بدا أن المعادلة، التي ساهمت في "تمويه" رغبته في الإمساك بمفاصل "الوجهة الوطنية" العامة، قد تبدلت، فانتقل من مباركة الانتظام المحلي، تحت سقف "الإجماع" حوله.. إلى قيادة "الارتباك الأهلي"، في ظل شعارات متنوعة تخفي الهدف الأساسي للحزب، المشدود الى عوامل استثمار قوته الأولى، بغض النظر عن تبدل الوقائع التي أوصلت الحزب إلى هذه القدر ، وطلب ترجمة "وفرة القوة" لديه، في كفتي ميزان توازن داخلي جديد" ( أحمد جابر، مرجع سابق، ص128).
منذ عدة أعوام يفصح الحزب دوماً عن كونه جزءًا من مشروع اقليمي عماده النظام الإيراني والنظام السوري، بل هو يسعى إلى ربط لبنان بهذا الحلف. منذ اندلاع الانتفاضة السورية عام 2011، انحاز الحزب بشكل مطلق إلى النظام السوري. لم يكتف بالتأييد السياسي، فتحت وطاة مخاطر سقوط النظام، وبناء للطلب الإيراني، أرسل الحزب مقاتليه إلى سوريا للدفاع عن النظام، مدعياً بأنه ذاهب للدفاع عن الأماكن المقدسة الشيعية، لتتهاوى هذه الحجة سريعا، فنرى قوات الحزب في معظم المناطق التي يدور فيها القتال. ترافق هذا التدخل مع خطاب طائفي مذهبي، إذا كان هدفه الرئيسي تعبئة الطائفية الشيعية لإرسال أبنائها إلى القتال، إلا أن مفاعيله الداخلية كانت سيئة جدًا وخطرة على الداخل اللبناني. أقحم الحزب لبنان في الحرب السورية، ورفع من وتيرة الشحن الطائفي الداخلي بطاقة استثنائية، وهو داخل لم تكن تنقصه حدة الاصطفافات المذهبية. أغرق الحزب نفسه في وحول الحرب الأهلية السورية، ودفع اعدادًا كبيرة من الضحايا، ونقل العنف السوري إلى لبنان بحيث نالت مناطق متعددة نصيبها من التفجيرات التي تركزت على بيئة الحزب الشيعية. وها هو اليوم يقحم نفسه في الصراع الدائر على الأرض العراقية في صراع مذهبي صاف على السلطة بين المكونات الشيعية والمكونات السنية، وهو تورط ستكون أكلافه باهظة على الحزب وبيئته.
الإسلام السياسي : أي مستقبل؟
تشهد الوقائع في أكثر من مكان في العالم العربي عن مرحلة صعود يعيشها الإسلام السياسي، خصوصاً في شقه الأصولي المتطرف، وهو حكم ينفي التبسيطات الثقافوية التي يقول بعضها بأن الأسلمة والأصولية سائرة الى انحدار بالنظر إلى التقدم الثقافي والعلمي الذي تشهده المجتمعات العربية. لكنّ هذا الصعود والفرص المفتوحة لقوى الإسلام السياسي في الصعود لا يعني نجاح مشروعها في بناء دولة وإدارة مجتمع، وهي ظاهرة يمكن تلمسها في كل مكان أمكن فيه للإسلام السياسي بسط سيطرته. بعض مظاهر الفشل يتجلى في أن معظم الحركات الإسلامية كانت تفتقد برامج ومشاريع لبناء سلطتها، مما جعلها تتصرف بعقلية المعارضة، لأنّ أفكارها في الدعوة إلى أسلمة الدولة والمجتمع اصطدمت بواقع مغاير للأفكار المثالية التي تحملها.
لكنّ القول بأن الإسلام السياسي لا مستقبل له في المدى البعيد، إنما يستند إلى جملة عوامل موضوعية تجعل من مشروعه المستقبلي مستحيلاً. لقد أثبتت التجربة التاريخية في أكثر من مكان على أن الدولة الدينية لم تقم في أي زمن، وهي أسطورة يجري استحضارها من قبل المتسلطين على الأديان، سواء أكانت مسيحية أم إسلامية. كما أن الدين فئوي بطبيعته وإقصائي لغيره، ويستحيل أن يشكل أساساً للشرعية أو وسيلة لحل النزاعات بين المجموعات التي يتشكل منها المجتمع. وفي المكان الذي حلت فيه سلطة دعاة الدولة الدينية، أثبتت الوقائع أن الأساس في هذه السلطة هو معاداتها للديمقراطية، وهو موقف ينبع من التصور الخاطيء بأن السيادة تنبع من الله وليس من الشعب، وهي مقولة ما زالت تعطيها تيارات الإسلام السياسي الموقع المركزي في طروحاتها. كما أن التوجه لإقامة الحكم أو بناء الدولة على أساس ديني تنطلق من التمييز بين البشر على أساس الدين، وتقصي سائر المذاهب والطوائف المختلفة مع منطلقاتها الفكرية، أي باختصار تفتقد إلى حق المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات. وفي كل مكان وصل فيها هذا الإسلام إلى السلطة، مارس أبشع أنواع الديكتاتورية وتسليط سيف الإرهاب على المواطنين، وفرض أنماط من السلوك المستند إلى عصور غابرة والمتنافية مع الحرية الشخصية، كما وصل الأمر بفرض ديكتاتورية على عقول الناس.
يستند الإسلام السياسي في أحكامه هذه على تفسير للنصوص لا يأخذ في الاعتبار زمان ومكان تاريخها، ومدى اتصالها بالعصر الحاضر. هذه المحاولة في إخضاع الواقع للنص هي أحد العوامل في تأبيد التخلف الذي تعاني منه المجتمعات العربية والإسلامية.
من العوامل التي تجعل الإسلام السياسي مشروعاً غير قابل لحل مشاكل المسلمين، هو موقفه من التطور الحضاري والتقدم البشري. يبدو مشروع الإسلام السياسي بعيدا عن النهضة بالمجتمع وتطويره والإفادة من منجزات الحضارة البشرية، بل يقوم مشروعه على مواجهة هذا التقدم والارتداد بالمجتمع والعقول إلى ثقافة "أهل الكهف" القائمة على الخرافات والتصورات الخاطئة، تحت حجة العودة إلى السلف الصالح والمحافظة على التراث وحماية الهوية الدينية والثقافية. يقدم هذا الإسلام السياسي منظومته الأيديولجية هذه على أنها يقينيات ثابتة ومعصومة تصل إلى مستوى الحقائق الإلهية، بما يجعل كل حكم وكل نمط من السلوك بمثابة ترجمة دينية لما يقول به الدين في نصوصه المقدسة وسنته وأحاديث النبي والصحابة والأئمة وكل من ينصّب نفسه فقيها يحق له إصدار الفتاوى التي تصبح نصوصاً مقدسة. وعندما تتمركز تشريعات الإسلام السياسي في السنوات الأخيرة على قطع الرؤوس والأيادي والذبح ورجم النساء والجلد وغيرها من تشريعات ما يعرف بالحدود، فلنا أن نتصور اي عوائق وحواجز تقف في وجه تقدم هذ المجتمعات. من الطريف أن الإسلام السياسي في تركيا، وهو المصنف معتدلاً وذا علاقة بالعصر، يخرج منه نائب رئيس الوزراء داعياً النساء إلى عدم الضحك لأن الضحك مفسدة للأخلاق. ليس مغامرة الشك بوجود إسلام معتدل، ففي تركيا أظهرت وقائع السنوات الماضية سعياً من الإسلام السياسي إلى إلغاء الكثير من مظاهر التمدين التي عرفتها تاريخياً بعد إصلاحات مصطفى كمال. وإذا كان الإسلام السياسي يتصرف بحذر في هذا الجانب، فإنما يعود السبب إلى موقع المؤسسات المدنية والعسكرية والسياسية التركية التي تقف حاجزًا في وجه العقل الأصولي لحزب العدالة والتنمية. أما في سائر البلدان العربية، فقد تهاوت ادعاءات الإسلام السياسي المعتدل بمجرد أن اشتمّ هذا الإسلام رائحة السلطة، فانقلب على مفاهيمه السابقة وعاد بفكره إلى زمن العصور الحجرية.
على رغم موقف الإسلام السياسي من التقدم الحضاري، فإن مسلكه العملي يتسم بأقصى الانتهازية لجهة استخدام منتجات العلم والتكنولوجيا الحديثة. هذه التكنولوجيا هي نتيجة الثورة العلمية وانتشار الحداثة، وهي بالأصل انقلاب فكري وثقافي وعلمي على الموروث السائد، وعلى هيمنة الخرافة والأسطورة ومعهما السماء على العقول والنفوس، لصالح العلم والعقل.
فهذه المنجزات ليست مجرد تقنيات بمقدار ما هي تقدم بشري على جميع المستويات. يعيش هذا الإسلام السياسي انفصاماً بين واقع العصر وسيادة العولمة بكل منجزاتها الفكرية والعلمية والتكنولوجية ونمط الحياة الذي تفرضه. فالعولمة بهذا المفهوم تخترق المجتمعات وتؤثر على البشر كلهم من دون استئذان، تدخل البيوت عبر القنوات الفضائية وتعمل تغييرًا في الذهنيات. ومهما استعصت العقول على التأثر بهذا القادم، فإن المستقبل سيفرض تحولات في العقول لا بد لها آجلا أم عاجلاً من الاصطدام بالعقول المتحجرة مهما قاومت وامتنعت عن التفاعل.
المصدر: http://www.alawan.org/spip.php?page=article&id_article=15469