علي مبروك وتصحيح مَسَار العَلمانيّة العَربيّة
يرى الكثيرون أنَّ كتابات المُفكر المِصري الراحِل "علي مبروك" (1958 - 2016) تتسم بالنزعة العَلمانيّة، وصنَّفه كثيرون على أنّه الابن الشرعي لأسلافه من العَلمانيين العَرب أَمثال نصر حامد أبوزيد وفرج فودة وفؤاد زكريا وغيرهم، وأنَّ الانتصار للعَلمانية وتنقيتها من كافةِ الشوائبِ التي تَلحق بها من جرّاءِ زرعها في التربة العربية كان دأَبه وديدنه على مدار مؤلفاته كلها، وقد بَدتْ رؤاه العَلمانيّة خاصة فيما يتعلق بتلك المسائل الفكرية التي دارت حولها كتبه ونقوده الشهيرة للأشعرية والشافعي وابن حزم وابن تيمية، وكذلك نقده للمؤسسة الدينية الأكبر في مصر وهي مؤسسة الأزهر التي خصَّها بآخر كتبه، ونقده اللاذع جداً لسائر تيارات الإسلام السياسي.
في حين تساءل آخرون كيف يكون عَلمانياً وجُلُّ كتاباته تنطلق من الدراسات الدينيّة، فالدين هو حجر الزاوية الذي تدور حوله كتاباته، والعَلمانيّة في أبسط تعريفاتها وأكثرها شكلية هي فصل الدين عن العلم والسياسة! واستندوا إلى رؤيته في أنَّ من يريد معرفة النظام المحرّك للثقافة ونظام العقل، عليه أن يتجه إلى أصول الفكر والشريعة؛ ومن ثم كيف يكون مبروك علمانياً.؟!
لذلك كان السعي هنا للوقوف على حقيقة موقف "علي مبروك" من العلمانية، الأمر الذي استدعى تفنيد هذين الرأيين الذائعين والمتناقضين عنه بعد الاطلاع على كافة كتاباته، ومحاولة الوقوف على حقيقة موقفه من العلمانية، وما هو الأمر الذي أدى إلى هذا اللبس فَفُهِمَ مبروك بطريقتين متضادتين؟
وانطلاقاً من تعريف مراد وهبة للعلمانية بأنّها "التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق"([1]). فإنّ هذا هو المعنى الذي تَمَثّله "علي مبروك" في نزع القداسة عما هو غير مقدّس؛ حيث رأى أنّ القداسة لا تكون إلا للمطلق الديني المتعالي، فنجده يقول: "إنّ مفهوم المقدّس ينصرف إلى موجود بعينه، متعال مفارق، وتكون قداسته من نفسه، ثم تتنزَّل إلى ما يصدر عنه، ويرتبط به، من كتب ووصايا ووعود وهياكل وأماكن وبيوت، بل حتى أزمان وأيام"([2]). إذن فالمقدس هو الله سبحانه وتعالى من حيث كونه مفارقًا ومتعاليًا، وقداسته نابعة من ذاته وليست مضافة إليه، بل إنّ تلك القداسة تسم كل ما ارتبط به من كتب سماوية وما جاء فيها من وعود وأماكن وأزمان تحمل صفة التقديس.
ولكنه لاحظ أنّ الثقافات التي اصطنعها البشر لم تتوقف عند هذا الحد من التقديس، بل عملت على إنتاج ضروب من المقدس تُخضِع لها - وبها - البشر، وتلزمهم بعدم انتهاكها أو حتى التفكير النقدي فيها، وذلك عبر التعالي بضروب من الأفكار والنصوص، بل وحتى الأشياء والأشخاص، الذين يتم رفعهم فوق النقد وخارج حدود القابلية للتفكير والفهم.
ومن ثم يأتي نقده للخطاب الديني من هذا المنطلق، وهو ما يجعله متشابها جداً هنا مع سلفه نصر حامد أبوزيد الذي كان يؤكد أنّ الخطاب الديني لا يطرح أفكاره بوصفها اجتهادات، وإنّما يجزم أنّها الدين نفسه([3])، وذلك عبر آليات خمس: أوّلها، التوحيد بين الفكر والدين وإلغاء المسافة بين الذات والموضوع. وثانيها، تفسير الظواهر كلها بردّها جميعا إلى مبدأ أو علّة أولى، تستوي في ذلك الظواهر الاجتماعية والطبيعية. وثالثها، الاعتماد على سلطة "السلف" أو "التراث" وذلك بعد تحويل النصوص التراثية - وهي نصوص ثانوية - إلى نصوص أوّلية تتمتع بقدر هائل من القداسة - لا تقلّ في كثير من الأحيان - عن النصوص الأصلية. ورابعها، اليقين الذهني والحسم الفكري "القطعي"، ورفض أي خلاف فكري - من ثَمَّ - إلا إذا كان في الفروع والتفاصيل دون الأسس والأصول. وخامسها، إهدار البعد التاريخي وتجاهله، ويتجلى هذا في البكاء على الماضي الجميل، يستوي في ذلك العصر الذهبي للخلافة الرشيدة، وعصر الخلافة التركية العثمانية([4]).
ومن ثم سعى مبروك إلى نزع التقديس وإلى كشف ما أسماه بـ "مرواغة الإسلاميين" حيث رأى أنّ هذه المرواغة تكمن في استخدام لفظة الشريعة بحمولاتها التاريخية، وهو ما يجعل آراء الفقهاء البشرية محل "تقديس"، فالشريعة إلهية والفقه بشري، ولذلك تم استخدام لفظ "الشريعة" محلّ لفظة "الفقه" إدراكًا منهم بأنّ مفردة "الفقه" تخلو من هالة القداسة التي تحيط بلفظة "الشريعة". وغنيٌّ عن البيان أنّ سعيهم إلى إخفاء الفقه "غير المقدس" وراء الشريعة "المُحاطة بالقداسة" يستهدف إضفاء القداسة على رؤاهم الخاصة التي هي نتاج اجتهادات وميول وتحيزات هي بشرية بطبيعتها. إذن فإنّ السعي إلى إضفاء القداسة على ما هو إنساني، وغير مقدسٍ بطبيعته، هو القصد من وراء إستراتيجية إخفاء "الفقه" وراء "الشريعة"!! ولذلك نجده يفرّق بين ضربين من القداسة. أحدهما يكون "هبوطاً من الأعلى"؛ وهو المقدّس المُوحَى به من قبل الله تعالى والمُتنَزَّل على النبي، حيث يُضفي المقدس المتعالي قداسته على كتبه ووصاياه ليهبها دوام الحضور وأبدية البقاء. أما الضرب الثاني من القداسة فيكون "صعوداً من الأدنى" أي من الأفكار الإنسانية، حيث يتم إلباسها ثياب التقديس فتستعصي على أي تجاوز وانكسار أو نقدٍ وتمحيص([5]).
وإذا ما عدنا إلى العلمانية فإنّه يرى أنّ العلمانية العربية قد وقعت في مأزق حقيقي، حيث إنّها "إذا كانت قد تبلورت في السياق الأوربي كسلاحٍ فعَّال في مواجهة التفكير الدوجماطيقي المنغلق، فإنّ إعادة إنتاجها في السياق العربي قد تمخضت عن تحولها إلى أداة لدعم الدوجماطيقية وتثبيت حضورها الخالد"([6]).
وهنا يقرر على مبروك أنّ العَلمانيّة قد نشأت بالفعل في أوربا لتندد بالتفكير المنغلق وضد سيطرة الكنيسة على مجريات الأمور الدينية والعقلية. فإذا كان رجال الدين في العصور الوسطى الأوربية قد كفلوا لأنفسهم التفكير في أمور الدين بدلاً من العامة، وجعلوا أمور العلم في حدود ما تسمح به الكنيسة، فإنّ العلمانية الأوربية قد حصرت تفكيرهم داخل أسوار الكنيسة، وجعلت الإنسان المفكّر هو الموجود "أنا أفكّر إذن أنا موجود" أو ما عُرف بالكوجيتو الديكارتي، فنشأت العلمانية الغربية إذن في سياق عمليات الخلخلة الدؤوبة لليقين القاطع المنسرب من عالم العصور الوسطى الأوربية. وهكذا كما يقول على مبروك "جعلت منها نسقاً من التفكير المفتوح الذي لا يقبل الانغلاق"([7]). فأتاحت الفكر المنفتح أمام الجميع فَخَطت أوربا خطوات سريعة من الإصلاح، إلى النهضة، إلى التنوير، إلى التقدم التقني والتكنولوجي.
أما العَلمانيّة العربيّة عند مبروك فقد اتجهت بصورة مُضادة للعلمانيّة الأوربيّة، إذا يمكننا القول بأنَّ الصورة المشوّهة للعلمانيّة العربيّة قد جعلتها ضد العلمانيّة بمفهومها الأوربي "فإنّها (أي العلمانية) قد تحولت - في السياق العربي - إلى نَسقٍ مغلق من الأفكار التي يعتقد معتنقوها في جدارتها المطلقة ويقينها القاطع. إنّ ذلك يعني أنّها قدّ تحولت من "طريقة مفتوحة" في التفكير إلى ما يشبه "المذهب المغلق" المتضمن لجملة أفكار هي أشبه ما تكون بالعقائد الجامدة"([8]).
فإذا كانت العلمانية قد نشأت لتفادي المطلق والتفكير في النسبي من حيث هو نسبي، ولذلك بدت وكأنّها مضادة للأديان التي يدَّعي رجالها بأنّهم يمتلكون الحقيقة النهائية ويتكلمون باسم الحق المطلق. وفي الحقيقة إنّها لم تكن مضادة للدين في حد ذاته الذي يقول مخاطباً البشرية جمعاء "وما أوتيتم من العلم إلى قليلاً"([9]). فإنّها قد تحولت - فيما يرى مبروك - عند العلمانيين العرب إلى عكس ما نشأت من أجله؛ حيث يبدو ذلك "من تحولها إلى ما يشبه "الدين" الذي لا يختلف عن أي دين آخر إلا في نوع نصوصه وممارسات شعائره وطقوسه"([10]).
وبناءً على ذلك رأى مبروك أنّ الموقف المتحفِّظ، أو حتى الرافض، للأديان التقليدية من جانب معظم من يجري تصنيفهم بوصفهم علمانيين- من الأجيال الجديدة بالخصوص- لا يؤثر في حقيقتهم أنّهم يتعاملون مع العلمانيّة كديانة خلاصيّة جديدة. فهو يرفض كل رؤى العلمانيين العرب الذين يريدون فرض العلمانية بطريقة قسرية على الواقع العربي والإسلامي، ولكن لابد أن ننتبه إلى أنّ هذا الرفض لا يعني رفض مبروك للعلمانية كليةً، جملةً وتفصيلاً، ولكل ما تحمل من أفكار ورؤى ومناهج – كما ادَّعى بعضهم- ولكنه رفض فرضها "كمنظومة جاهزة على واقع مجتمعات تقع خارج سياق تبلورها التاريخي والمعرفي؛ لأنّ ذلك من شأنه أن ينتج حداثة مشوهة وأسلمة مشوّهة"([11]).
وهنا يعود بنا مبروك إلى المعنى الأصلي للعلمانية المتمردة على النموذج؛ فهي آلية مفتوحة غير منغلقة أو مقيدة، تأبى القواعد الصلبة وترفض التفكير الدوجماطيقي المغلق بحثاً عن نسق التفكير المفتوح الذي يرفض تَملُّك الحقيقة النهائية المطلقة. ويرى مبروك أنّ الحاجة إلى هذا المعنى مخالفٌ لما نشأت وتكونت عليه العلمانية العربية منذ رائدها الأكبر رفاعة الطهطاوي ومروراً بصاحب الصياغة العربية للعلمانية "شبلي شِمَيّل"، وقد تأثر هذا الأخير في صياغته للعلمانية بتلك الصيغة التقليدية التي بلورها الطهطاوي؛ فيقول مبروك: "حيث من الملاحظ أنّ تفكيكاً لخطاب "شميّل" يكشف عن استمرار اشتغاله بحسب ذات الصيغة التقليدية التي بلورها الرائد الأكبر رفاعة الطهطاوي؛ وهي الصيغة التي لا نزاع في إعاقتها لأي إنتاج حقيقي للعلمانية"([12]).
إذن يرفض مبروك تلك العلمانية التي تنبني عل السعي إلى امتلاك منتوجات الحداثة البرانيّة الصلبة (المنتجات التكنولوجية والتقنية من سائر المخترعات والاكتشافات الغربيّة) مع عزلها الكامل عن الأساس الفلسفي النظري الذي تنبني عليه. فهذا ما دأبت عليه العلمانية العربية- من وجهة نظر مبروك- منذ البداية؛ فقد سعى شبلي شميل إلى نقل النظرية العلمية (التي كانت نظرية التطور آنذاك) مع إهمال الخلفية الفلسفية التي تؤسس للعقل المنتج للعلم نفسه. ومن ثم بدا تحوّل نظرية التطور عنده إلى ما يشبه اللاهوت الأمر الذي عكس مأزق العلمانية عند شِميّل؛ حيث أرادت أن تبني نفسها بعقل، هو نفسه، عقل لاهوتي.
هنا يريد مبروك أن يدعونا إلى ضرورة إعادة فتح الحوار مرة أخرى حول المقدّس والعلماني – تماماً مثلما حدث مع بدايات العلمانية في أوربا- عندما طرح الكاتب الإنجليزي جورج جاكوب هوليواك مفهوم العلمانية Secularism مؤكداً على أنّه ليس مفهوماً ضد الدين أو بعبارة أخرى أنّ العلمانية ليست ضد الديانة المسيحية، وإنّها دعوة مستقلة عنها تشتقّ من العالم وتهديه إلى تحقيق الرفاهية ويكون هذا العالم هو محك اختبارها والحكم عليها بالنجاح أو الفشل.
إذن ما هي العلمانية التي يريد أن يصل إليها مبروك؟ وأيّ صفات يجب أن تحملها كي تعبر عن نفسها؟ يرى مبروك أنّ العلمانية "تجربة" حية وليست أصلاً أو أنموذجًا يفكّر به، "فالتفكير بالأصل أو النموذج لا يمكن أن يكون تفكيراً علمانياً، حتى لو كانت العلمانية هي مضمون هذا النموذج"([13]).
وهنا يبدو مُتفقاً إلى حدٍ بعيدٍ مع رؤية الدكتور أحمد زايد الذي يرى أنّ العلمانية لا تعني مُطلقاً إنكار الدين، أو الإلحاد، وإنّما تعني العيشَ والحياةَ في العالم ([14])، وحكم هذا العالم عبر مبادئ متغيرة يمكن الوصول إليها بعيداً عن سلطة رجال الدين، أو المؤسسات الدينية، والذين يفكّرون عن طريق النموذج المُعد سلفاً، فالبشر يعيشون في عالم دنيوي متغيّر، تحكمه الصيرورة والتبدل من حال إلى حال ومن ظرف إلى ظرف، ومن ثم تصبح معاملة هذا العالم المتغير من قِبل أنموذج ثابت هو الجمود والتخلف بعينه. وأنّ الأمر لا يقتصر على الأنموذج الديني وحده، بل المقصود أي أنموذج آخر، حتى لو كان هذا الأنموذج هو العلمانية ذاتها. وأنّ هذا هو المأزق الحقيقي التي وقعت فيه العلمانية العربية أنّها فكرت في العلمانية من خلال أنموذج العلمانية نفسها أو بعبارة أكثر وضوحاً أنّها جعلت من العلمانية أصلاً وأنموذجاً تحركت من خلاله.
وهذا ما اتضح- حسب مبروك- عند رفاعة الطهطاوي الذي ميَّزَ في كتابه التأسيسي "تخليص الإبريز من تلخيص باريز" بين "الإبريز النفيس" وما علق به من الشوائب "الخسيس"، وقصد بـ "النفيس" العلوم البرانية من سائر الفنون والصنائع وأنّ "الخسيس" هي تلك الحشوات الضلالية والبدع المخالفة للأديان السماوية، ولذلك دعا الطهطاوي إلى أنّ من أراد التبحّر في علوم الحداثة الغربيّة عليه أن يتمكن من الكتاب والسُنّة أولاً، حتى لا يغترّ بما فيها من بدع وضلالات، فيفتر عن اعتقاده ويضيع يقينه([15]). وهنا يصبح التراث الديني الأنموذج والأصل الذي يتم الحكم من خلاله، فما وافق التراث يصبح "نفيساً" وما خالفه يصير "خسيساً" وهذا أبعد ما يكون عن العلمانية التي يقصدها مبروك.
وثمة أنموذج آخر يطرحه على مبروك وهو أنموذج سلامة موسى، ذلك العلماني القحّ كما يعرفه قرّاء العربية ومثقفوها، فيرى مبروك أنّه أيضاً مثله مثل من سبقه ومن تلاه من العلمانيين العرب الذي لا يفكرون إلا من خلال الأنموذج، فإذا كان التراث هو الأنموذج أو الأصل عند الطهطاوي، فإنّ ما تجدر ملاحظته هو أنّ العلمانية قد استحالت، هي نفسها، من آلية تفكير لعقل مفتوح إلى أصل جامد يفكر به العقل، فإنّه لا معنى لما مضى إليه سلامة موسى في قوله: لا أستطيع أن أتصور نهضة عصرية لأمّة شرقية ما لم تقم على المبادئ الأوربية للحرية والمساواة والدستور مع النظرة العلمية للكون. إلا أنّه قد أحال أوربا من تجربة إلى أصلٍ أو أنموذجٍ يفكر به([16]).
وهكذا يحيل علي مبروك العلمانية إلى تجربة حيّة تأبى الانغلاق وتنشد التحرّر وتتّصف بالتغيّر والصيرورة الزمانية والمكانية، فيصبح بذلك وفقاً لما يقوله أحمد زايد "إنّ الناس، جميع الناس، هم علمانيّون بدرجات مختلفة، فالبشر يعيشون في عالم دنيوي، ولم يصلوا إلى الآخرة بعد... وجلّ حياتهم هي سلسلة من القرارات المتصلة التي تتجه نحو إقامة هذه الحياة الدنيا والاستمرار فيها، ومن ثم فإنّ إنكار العلمانية هو إنكار للعالم، ولا أدري أين يمكن أن يعيش البشر الذين يقولون بأن لا مكان للعلمانية في حياتهم، إنّ عليهم أن ينظروا حولهم ليدركوا أنّهم يعيشون في عالم دنيوي يمتلئ بالصراعات والتدافعات كما يمتلئ بسبل الخير والسلام، وما عليهم إلا أن يعيشوا فيه، وأن يخلقوا من سبل الحياة ما يمكنهم من الاستمرار فيه"([17]).
ومن هنا نفهم ذلك الموقف الملتبس عن عَلمانية علي مبروك، فهو ضد العلمانية المنغلقة التي تفكر من خلال أصل أو أنموذج؛ والتي يرفضها بشدة وكذلك يرفض الأيديولوجيات العلمانية الصرف التي حاول أصحابها أن يفرضوها على الواقع الإسلامي منذ بدايات القرن التاسع عشر الميلادي. وهو من ناحية أخرى يؤمن بالعلمانية المنفتحة، فلا ينظر إلى العلمانية على أنّها الفصل بين الدين والدولة لأنّ هذا الفصل هو معلول العلمانية، ولكن ينظر إلى العلمانية باعتبارها تنفي القداسة عن كل ما هو بشري، والتفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق.
وهو بذلك يكون قد عمل على تصحيح مسار العَلمانية في بلداننا العربية، فهو برفضه ونقده لمن ينقلون إلينا "التجربة" الأوربية على أنّها أصل أو أنموذج علينا أن نسير وفقاً له، ينقذها (أي العلمانية العربية) من الاغتراب الثقافي أي الاغتراب في المكان، بمعنى أنَّ تبنّي العلمانيّة الأوربيّة على أنّها أصل يجعل أصحابها يقعون في حبائل الغزو الثقافي، فتوجه إليهم تهم الاغتراب الثقافي، بمعنى أنّهم لا يعبرون ولا ينتمون إلى ثقافة بلادهم الأمر الذي يهدد وجودهم الأصيل وهويتهم الحقيقية.. وعلى الجانب الآخر فإنّ تناول العلمانية على أنّها تجربة حيّة غير مقيدة بشرط ثقافي تنقذ العرب والمسلمين من اغتراب أشد وأخطر وهو الاغتراب في أنموذج الماضي والعيش في كهفه العتيق، مما يجعلهم يبحثون في الماضي القديم عن حلول لمشكلات معاصرة وهو الأمر الذي لا يعودون منه سوى بخفي حُنين!
وفي الختام ينبغي علينا أن نشير إلى أمرٍ جدير بالذكر وهو دعوى مبروك نفسه بأنّ علمانيته المنشودة لم تكن أبداً يوماً ضد الدين، وإنّما هي محاولة لعقلنة الدين أو تقديم خطاب عقلاني حول الدين، فيقول: "فإذا استطاع المثقف تحرير خطاب الدين وتحويله إلى خطاب عقلاني؛ وليس المقصود بخطاب عقلاني أنّه خطاب ضد الدين، فالدين نفسه يحتاج إلى التحرر من الوهم وسطوة الخرافة، فالسلف الذي يقدم إلينا هو سلف مصنوع من أجل أداء دور سياسي وإخضاع الجمهور، لذلك على المثقف أن ينقد هذا الخطاب ويشتغل عليه ويحلله، ومن ثم تحريره من الوهم والخرافة"([18]). وبذلك يتم استدعاء الدين بما هو جوهر وروح وليس بما هو رسم وحرف، فالدين قد أمر الناس بإعمار الأرض لا بتركها خراباً والفناء في عالم الآخرة، وأكد لهم أنّهم أدرى بشؤون دنياهم.
وإن كنت أرى أنّ التفكير خارج الأنموذج الديني فيما يخص الشؤون الفقهية للحياة التي أوصى بها القرآن الكريم وصحيح السنة النبوية هو ضد الدين، إلا إذا كان مبروك يقصد أنّ ما يخص الدين يجب التفكير فيه حسب الأنموذج الديني المتفق عليه، وأنّ ما يخص شؤون الحياة من العمارة والسياسة والثقافة والاقتصاد وغيرها فيما لم يرد فيه نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة فهو ما يجب إخضاعه للتفكير الإبداعي المتمرد على الأصل أو الأنموذج. مع العلم بأن هذا لا يتعارض مع الفكرتين المحوريتين اللتين تدور حولهما كتاباته المختلفة، وهما: الأولى، إعادة قراءة التراث من منطلق أبعاده المعرفية لا الأيديولوجية(**)، والثانية تاريخية النصوص التراثية - بما فيها النصوص الدينية - وتعدد دلالاتها ومعانيها وهي التعددية الناجمة عن فعل القراءة وإعادة القراءة والتفسير والتأويل، وهي بلا شك منتوجات بشرية لا ينبغي تقديسها؛ بل يرى أنّ من أهم واجباته، بوصفه مثقفًا، أن يسعى إلى نزع أقنعة التقديس عنها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] مراد وهبة: ما العلمانية، مقالة ضمن كتاب "مُلاّك الحقيقة المطلقة" القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، 1999، ص 29
[2] علي مبروك، ما وراء تأسيس الأصول- مساهمة في نزع أقنعة التقديس، القاهرة، دار رؤية، الطبعة الأولى، 2007، ص 24
[3] سامية صادق سليمان، التأويل وسلطة النص عند نصر حامد أبوزيد، القاهرة، مجلة الثقافة الجديدة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، العدد299، أغسطس 2015، ص 57
[4] نصر حامد أبوزيد، نقد الخطاب الديني، القاهرة، دار سينا للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1994، ص ص 67-68
[5] علي مبروك، ما وراء تأسيس الأصول- مساهمة في نزع أقنعة التقديس، القاهرة، ص 26
[6] علي مبروك، هل يمكن إنتاج العلمانية خارج الشرط الثقافي؟ مجلّة الثقافة الجديدة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، العدد(299)، أغسطس 2015، ص 17
[7] المصدر السابق، الموضع نفسه.
[8] المصدر السابق، الموضع نفسه.
[9] سورة الإسراء الآية 85
[10] علي مبروك، هل يمكن إنتاج العلمانية خارج الشرط الثقافي، ص 17
[11] علي مبروك، أفكار مؤثمة – من اللاهوتي إلى الإنساني، القاهرة، دار مصر العربية، الطبعة الأولى، 2015، ص 10
[12] علي مبروك، هل يمكن إنتاج العلمانية خارج الشرط الثقافي، ص 17
[13] المصدر السابق، ص 19
[14] أحمد زايد، الدين والعلمانية: جدل الانحسار والانتصار، مجلة الثقافة الجديدة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، العدد(299)، أغسطس 2015، ص ص 13-15
[15] أنظر، رفاعة الطهطاوي، تخليص الإبريز في تلخيص باريز، نشره: محمود فهمي حجازي، القاهرة، دار الفكر العربي، د.ت، ص 297
[16] علي مبروك، هل يمكن إنتاج العلمانية خارج الشرط الثقافي، ص 19
[17] أحمد زايد، الدين والعلمانية: جدل الانحسار والانتصار، ص 13
[18] علي مبروك، الحداثة مجرد طلاء للثقافة التقليدية، حوار أجراه حسام علاء، جريدة أخبار الأدب، (عدد1683) بتاريخ 27/3/2016، ص 9
** فالقراءات الأيديولوجية غالباً ما تضحّي بالأبعاد المعرفية للنص، بل قد تُستخدم لتشويه معاني النصوص ودلالاتها ومن ثم إعادة تأويلها لتخدم أغراضًا نفعيةً سياسيةً أو اجتماعيةً بعينها.
المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%B9%D9%84%D9%8A-%D9%85%D8%A8%D8%B1%D...