أردوغان وفتح الله كولن.. حروب الإخوة الأعداء!
يسدل العام 2013 أستاره على مشاهد لافتة لصراعات مستعرة بين جماعات وأحزاب الإسلام السياسي، تظهر بوضوح في تركيا و مصر، وبدرجة أقل حدية في العراق وتونس، وبصورة دمويَّة في سوريا بين التنظيمات الجهادية. هي ليست المرة الأولى التي تأكل فيها نار الإسلاميين بعضها، ففي الذاكرة مشاهد اقتتال فصائل المجاهدين في منتصف التسعينات بعد انسحاب السوفييت من أفغانستان، وفيها أيضًا انقلاب الإسلاميين على بعضهم في السودان في أواخر التسعينات. وبالتأكيد هناك المحطة المفصلية في تاريخ الإسلام السياسي في تركيا عندما ظهر حزب العدالة والتنمية التركي من رحم الانشقاق الذي ضرب حزب الفضيلة الإسلامي بعد أن اختلفت الرؤى الإصلاحية لقيادات الإسلاميين الجديدة في تركيا (أردوغان وغول) مع الرؤية المتشدِّدة لنجم الدين أربكان على إثر قرار المحكمة الدستورية بحل حزب الفضيلة عام 2001.
لكن صراع القوى الدائر في تركيا اليوم بين حلفاء الأمس حكومة رجب طيب أردوغان، وجماعة الداعية فتح الله كولن مختلف. فهذه المرة يختلف الإسلاميون مع بعض بعد أن خلت الساحة لهم، وبعد أن نجحوا في الانتصار على خصومهم التقليديين “الدولة العميقة” والأحزاب العلمانية. فخلافات حكومة أردوغان وجماعة فتح الله كولن، وإن كانت تعود إلى عام 2010 على إثر تباين مواقفهم تجاه حادثة أسطول الحرية، إلا أن ظهورها بهذا الشكل العلني المكشوف بدأ بعد نجاح أردوغان في تحييد المؤسسة العسكرية التركية التي ظلت تاريخيًّا الحامية للدستور العلماني للدولة والرادع للأحزاب الدينية. وهو النجاح الذي لم يكن ليحدث من دون مساعدة جماعة كولن. فهذه الجماعة الدينية المتصوفة تملك قاعدة عريضة من البيروقراطيين الذين نجحوا في اختراق أجهزة الدولة في تركيا (الشرطة و القضاء)، وسهلوا بالتالي من عملية إقصاء المؤسسة العسكرية من الحياة السياسية عبر قضايا ومحاكمات “إيرغونيكن” و”المطرقة”. كما أنها تملك قاعدة من رؤوس الأموال الإسلامية قوامها رجال الأعمال العصاميين ذوي الميول المحافظة الذين يطلق عليهم لقب “نمور الأناضول” والذين كان لهم دور في نمو الاقتصاد التركي خلال فترة حكم حزب العدالة والتنمية، ودور في تحقيق أردوغان و حزبه لانتصارات كبيرة في انتخابات 2007 و 2011.
نفس الملاحظة، أي نزوع الإسلاميين للصراع مع بعضهم بعد إقصاء خصومهم، تنطبق على معركة الإخوان والسلفيين في مصر. فالمعركة المشتعلة بينهم اليوم -على خلفية مشاركة حزب النور السلفي في خارطة المستقبل التي فرضتها ثورة 30 يونيو- بدأت في الواقع منذ أواخر العام 2012، أي بعد وصول الرئيس المعزول محمد مرسي إلى الرئاسة وتثبيته لحكم الإسلاميين عبر نجاح تحالف جماعة الإخوان والسلفيين في فرض دستور 2012 . وقتها تعرض حزب النور إلى ما يشبه الانفجار الداخلي الذي أدى إلى انشقاق بعض قياداته المؤسسة كعماد عبدالغفور ويسري حماد، وقيامهم بتأسيس حزب سلفي آخر هو حزب الوطن. الكثير من المحللين ألقوا بمسئولية محاولة تفتيت حزب النور إلى جماعة الإخوان وإلى نائب مرشد الجماعة خيرت الشاطر بالتحديد على اعتبار أن حزب النور كان هو منافس الإخوان الأقوى في الانتخابات البرلمانية لو قدر لها أن تتم في تلك الفترة.
معارك الإسلاميين الأتراك تشكك بكل أدبيات “النموذج التركي” وادعاءات أحزاب الإسلام السياسي بقدرتها على التعايش مع باقي أطياف المجتمع، طالما أنها غير قادرة أصلاً على التعايش مع نفسها.
يصعب التوقع بشأن النتائج المباشرة لخلافات الإسلاميين في تركيا. يرى البعض بأن أسهم حزب العدالة والتنمية ستتراجع خلال الانتخابات البلدية في مارس القادم بعد فضيحة الفساد التي تورطت فيها أطراف مقربة من الحكومة خصوصًا وأن الناخبين الأتراك اشتهروا بمعاقبتهم السريعة للأحزاب المتورطة في قضايا الفساد. ويرى آخرون بأن التعويل على هزيمة الحزب في الاستحقاقات القادمة صعب بسبب ضعف الأحزاب العلمانية المنافسة وامتلاك الحزب لقاعدة عريضة من المناصرين، لكن احتمال وقوع تصدعات داخل الحزب يبدو أكثر واقعية. فمنذ الصيف الماضي تتحدث صحف ووسائل الإعلام عن تذمر بعض أعضاء الحزب من سياسات أردوغان التصادمية، والتي تحرق الجسور مع جميع الأطراف داخليًّا و خارجيًّا. وخلال الأسبوعين الماضيين ظهرت بوادر فردية لتشققات داخل الحزب، فقد قدم اللاعب المعتزل والنائب في البرلمان “هاكان شكور” استقالته من الحزب احتجاجًا على قرار الحكومة التركية إغلاق المؤسسات التعليمية الخاصة التي تديرها جماعة فتح الله كولن، وبعدها بأيام هاجم وزير الثقافة السابق وعضو الحزب الحاكم “أرطغرل غوناي” حكومة أردوغان بسبب أسلوبها السيئ في إدارة الأزمة التي خلفتها فضيحة الفساد.
التشققات داخل الحزب الحاكم قد تتفاقم في حال دعمت جماعة فتح الله كولن ترشح الرئيس التركي الحالي عبدالله غول لرئاسة الوزراء، وفشل مشروع أردوغان في تحويل تركيا إلى النظام الرئاسي عبر تعديل الدستور، وهو ما قد يعجل بنهاية الحياة السياسية لأردوغان.
لكن يبقى الأهم من ذلك هو النتائج غير المباشرة والتي قد يمتد تأثيرها إلى خارج تركيا وفي مقدمتها انهيار الصورة المثالية لما يعرف بالنموذج التركي في المنطقة. فجناحا هذا النموذج: السياسي ممثلاً بالحزب الحاكم، والديني ممثلاً بجماعة كولن، دخلا في صراع جشع لبسط النفوذ واحتكار السيطرة على أجهزة الدولة من شرطة وقضاء واستخبارات وتعليم، وهو صراع ظهرت فيه خلال الأسبوع الماضي روائح لفساد مالي وفساد سياسي وإساءة استغلال للسلطة، ما جعله أقرب لصراعات عصابات المافيا. الأمر الذي يدفع المتابع للتشكيك بكل أدبيات “النموذج التركي” والتشكيك في ادعاءات أحزاب الإسلام السياسي بقدرتها على التعايش مع باقي أطياف المجتمع، طالما أنها غير قادرة أصلاً على التعايش مع نفسها.