من أدواء التعامل مع الحدث اليومي
سحبان مشوح
إطلالـة عجْلـى على داءيـن يكتنفـان عمـل كثيـر ممـن يتصـدّى لتفسير الحدث اليومي!
قال الله تعالى: «أرأيتَ من اتخذ إلهه هواهُ، أفأنت تكون عليه وكيلا» [43 الفرقان].
جاءت هذه الآية في سياق الإبانة عن التنافس الأيديولوجي بين المسلمين بواكيرَ الدعوة وبين خصومهم؛ فقد ضجّت قريش من علو القرآن وإذعان الناس له، وأثره في تحطيم مكانة القوم السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ فلم يجدوا سوى السخرية بابًا ليلجوا منه إلى مبتغاهم في التقليل من قدْر النبي صلى الله عليه وسلم -حاشاه- في نفوس الملتحقين بركب دعوته؛ فقالوا قولتهم الساخرة المستنكرة: «أهذا الذي بعث الله رسولا»؟!
المنافسة الأيديولوجية باب من أبواب عبادة الهوى، ومزلق من مزالق النفس؛ تستجلب العبودية للذات وما يصدر عنها، وتحيط الفكرة وأصحابها بهالة من القداسة مصطنعة؛ يفرضها العناد والإعجاب بالرأي والانكفاء على المناصرين .. وعند ذلك؛ تختلط الأوراق أمام الناس، وتتشابه المفترقات وتتشعب الطرقات، وتعمى الأبصار والبصائر؛ فلا يبين الصواب من الخطأ، ولا الحق من الباطل .. بل يعمد أهل الهوى من عبيد الأيديولوجيا إلى التلبيس والتدليس والتشويه لنصرة آرائهم وتقوية حججهم، وإضعاف خصومهم، عبر ليّ أعناق النصوص، واحتكار الفهم والرؤية السويّة، والتقليل من الآخر المنافِس برميه بالقصور والسطحية!
ثم أمر آخر؛ وهو الطور التالي؛ لتصبح الأيديولوجيا رِبقة في عنق صاحبها لا يستطيع الفكاك منها بحال؛ فهو مرتهن لها، خاضع لسطوتها، تستحكم به، وتسيطر على قواه في التحليل والتكييف للأحداث في سياقات الزمان والمكان .. لينتصر لفكرته وإن كانت شوهاء، أو يؤيد مجموعته وإن كانت على الضلال .. وهذه هي العبودية بعينها .. عوضَ أن تكون الأيديولوجيا وقودا لصاحبها وعقيدة صُلبة ينطلق منها لإيضاح الحق واتباعه، وإن خالف النفس والشيطان!
وعيب آخر ليس أقل فتكا من صاحبه؛ وهو المثالية في النظر إلى التاريخ والواقع وفي تفسير الأحداث واستشراف المستقبل؛ قال تعالى: «وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون» .. وقال سبحانه: «ألا يعلم من خلق»؟!
إننا هنا أمام طبيعتين اثنتين متغايرتين؛ ملائكية وبشرية .. وسعي الإنسان في هذه الدنيا لا يتطلع إلى الوصول إلى ملائكية قاصرة على الخير، بل يدور حول بشرية مزدوجة الطبيعة حرة الإرادة، محمّلة بأمانة شاقة، فرضت عليها خيارين لا ثالث لهما؛ «وهديناه النجدين» .. «إما شاكرا وإما كفورا» .. فهو يتقلّب بين الطبيعتين على جمر حارق من الأهواء والتحديات والصعاب .. وأمام هذا الابتلاء كان هذا التكريم: «اسجدوا لآدم؛ فسجدوا» .. ثم إلى النعيم أو الجحيم!
ثم ومن خلال هذا التقلب على جمر الإرادة الحرة؛ تصطرع الآراء، وتستبد الشهوات، وتصطخب الذوات، وتصطف القوى وتشتبك الأيدي، فيفسد الإنسان في الأرض ويسفك الدماء! .. ولذا فرض الله الجهاد وجعله ذروة سنام الإسلام .. ليكون حكما عدلا بين الخصوم؛ فيرتدع الباغي وينكفئ الصائل ويستعلن الحق ويزهق الباطل!
ولأن أصحاب الحق بشر كذلك؛ فإن الباطل يتلبّس بعضَ سلوكهم، ويشوب شيئا من فعالهم؛ مما يستدعي تدافعا داخليا يجنب الأمة فساد الأرض، وأسن الحياة؛ في حركة موّارة تستخرج أرذل ما في الطبيعة البشرية من خصال؛ لتقذف بزبده بعيدا وترمي بباطله إلى حيث يدمغه الحق!
هذه هي الواقعية كما تتجلى في آي الذكر الحكيم وفي سيرة النبي الكريم؛ وفي تجارب أربعة وعشرين قرنا؛ هي تاريخ البشرية المكتوب بالدم والجماجم؛ لا تعاليَ فيها على طبيعة الناس ولا مصادمة لها مع فِطر البشر.
ويرحم الله محمد بن طلحة بن عبيد الله؛ إذ يناشد قاتله في معركة الجمل بـ «حم»! فيقول قاتله بواقعية السياسي وحزن المشفق!!:
وأشــــعــثَ قـــــــوّامٍ بآيـــــــات ربــــــه
قليل الأذى في ما ترى العين مسلمِ
شققت له بالرمح جيب قميصـه
فخــــرَّ صــريعــــا لليـديـن وللـــــــفمِ
على غير شيء غير أن ليس تابعا
علــــيّا ومن لا يتــبعِ الحــــــق ينــــدمِ
يذكّرني «حــم» والرمح شاجـــر
فهلا تــلا «حــــــــــم» قـــبل التقدمِ ..!
وأشدّ ما يكون فتك هذين الداءين؛ ما كان متعلقا باستشراف المستقبل واستيضاح الآتي من الأحداث؛ فإن عبيد الأيديولوجيا والخاضعين لسطوة المثال؛ يبنون مكانة مستقبلهم على جرف هار، ويخطّون آمال أجيالهم على الماء، ويشيدون قلاع دفاعهم من الرمال!!
المصدر: https://alfajrmg.net/2015/07/08/%D9%85%D9%86-%D8%A3%D8%AF%D9%88%D8%A7%D8...