رمضان وربيع الحرية
مصطفى الحباب
الفرح والاعتزاز يغمران كل حرّ في أي مكان في العالم الإسلامي؛ لما شاهده من انتفاضة شعبية نزيهة.. وأهم من ذلك: المعنويات التي ارتفعت لدى شباب الأمة خاصة وشعوبها، بل وأحرار العالم أيضًا، بحيث إنهم أصبحوا على يقين بأن المستضعفين وعامة الناس:
“راياتُهم فوق الرؤوسِ ترفُّ يعلوها النجيعْ
ثاروا على الطغيان والإرهاب والظلمِ الشنيعْ
متكاتفين يسودُهم ويقودُهم هدفٌ رفيعْ
هدفُ القضاءِ على الفسادِ قد استبدّ بكلِّ ريعْ
هذي النفوسُ إلى التحرّر للتقدّمِ للطلوعْ”
(وليد الأعظمي – الأعمال الكاملة)
وهذه الفرحة تضاعفت حينما حلّ علينا رمضان في أيام الربيع العربي، ولو علم ابن عون الكاتب بزماننا هذا لنظم أبياته لربيع الحرية العربي حينما قال:
جَاءَنا الصّومُ في الرَّبِيعِ فَهَلاّ
اختارَ رَبْعاً من سَائِرِ الأرْبَاعِ
وكأنَّ الرَّبيعَ في الصّومِ عِقْدٌ
فوقَ نَحْرٍ غَطّاهُ فَضْلُ قِنَاعِ
نستطيع أن نقول بشكل عام: إن النُّظُم المستبدة أصابها الهلع من يوم الجمعة، أفضل أيام الأسبوع، وكذلك الرعب من قدوم أفضل الشهور.
هذا الشهر الكريم، رمضان الذي يربّي النفس على العزيمة والصبر والشوق للحرية، ويجعل من نفسية المسلم نفسية حرة مناضلة دومًا، لا تقبل بالخضوع والذلّ والظلم، بل تصبح نفسية محرّرة من قيود الاستبداد، وتحمي المستضعفين وتحمي المجتمع.
وحين يصوم الإنسان عن الطعام والملذات، ويحسّ بالحرمان والجوع؛ فمن الطبيعي أن تشتهي نفسه في وقت الإفطار أنواعًا من الطعام والملذات، وكذلك فإن الكبت والحرمان اللذين تعاني منهما بعض الشعوب العربية يدفعانها إلى الإقدام على طلب الحرية والتحرر من أنواع الظلم والقهر، وهذا ما سوف يحركه شهر رمضان في نفوس المتشوّقين للعدل والتغيير.
وهذا الجوع يذكّر المسلم بالجوعى من أثر سرقة موارد الشعوب الغنية في كل أرض عربية، فقد قيل “لا يعرف الحرمان إلاّ من يكابده”، ففي الصوم يحسّ الإنسان بالحرمان، والنفس الأبيّة تعي حرمان الحرية والعدل والكرامة.
إن الأمم التي تريد أن تعيش في هذه الحياة مصونة الحقوق، محفوظة الكرامة لا بد أن تكون صابرة ومستعدة للتضحية؛ ولذلك قال الفيلسوف الألماني هيجل: “إن الناس يتحركون حينما يؤثرون الحرية على الحياة”، فالنجاح والتقدم لا تستحقّه أمة تعلّقت بالملذات، وركنت إلى الشهوات، وهذا ما يُحدثه شهر رمضان في نفوس الصائمين، والصوم من أبرز ما شرعه الإسلام في تربية النفس على الحرمان والامتناع عن الملذات، وهو مظهر من مظاهر الخضوع لأمر الله والعبودية والطاعة لله وحده، ووسيلة لتهيئة النفس على تنمية قدراتها، وتغليب الإرادة على البيئة وعلى ما يحيط بها.
وشهر رمضان هو شهر التقرب والإيمان الذي يمدّ المسلم بالقوة والإرادة، ذلك الإيمان الذي يزين للمسلم التحرّر من عبودية البشر إلى عبودية خالق البشر، ويحرّر الإيمان بالله من الاستبداد السياسي الذي يتسلط فيه فرد أو مجموعة على الأمة، وتحتكر هذه الفئة قراراتها وتدبير شؤونها؛ فالإيمان يقتضي أن يكون أمر الأمة لله وحده، ويحرر الإيمان أهله من الاستبداد عبر الاعتقاد والاستشعار بأن المالك الحقيقي لكل شيء هو الله تعالى، وأن الإنسان إذا ملك سلطة أو مالاً فإنما هو مؤتمن على ذلك ومُساءل عليه؛ فيستشعر المؤمن أن مَن امتلك ملكًا لا يحق له التصرف به إلاّ على الوجه الذي أمر به الله تعالى بالعدل والقسط؛ ومن ثَم تتحقق العدالة والكفاية، وينتفي كل أشكال الاستبداد السياسي، هذا الإيمان بالله يدفع المسلم إلى التحرّر ومقاومة الباطل.. والتاريخ يبرهن على أنه حينما عمّر الإيمان في قلوب المسلمين تحرّروا من الاستعمار، وانتصروا ونهضت أمتهم.
فالصوم هو مجال تقرير الإرادة العازمة الجازمة التي تتجاوز الأزمات، وفيه إعداد النفس لتحمل مشقات طريق الحرية؛ فطريق الحرية شاق وصعب من الناحية التطبيقية لشعوب لم يتيسر لها السير فيه.
وكما قال الرافعي: “أما والله لو عَمَّ هذا الصوم الإسلامي أهل الأرض جميعًا لآل معناه أن يكون إجماعًا من الإنسانية كلها على إعلان الثورة شهرًا كاملاً في السنة؛ لتطهير العالم من رذائله وفساده”.