الخطاب الشرعي المعاصر وتقديم البدائل النافعة
د. عبد الرحمن إبراهيم زيد الكيلاني
الخطاب الشرعيإن من الأصول العلمية التي يجب على العلماء والدعاة اليوم أن يؤسسوا عليها خطابهم الشرعي المعاصر: تقديم البدائل النافعة، التي تلبي حاجات الناس وتحقق مصالحهم وتقيم حياتهم الكريمة الطيبة ، إذ لا يكفي أن يُذكر للناس أن هذا الفعل الحرام دون أن يُذكر معه الحلال الطيب الذي يغني عن ذاك الحرام الخبيث ويعين على تركه، ويمكّن الناس من البعد عنه واجتنابه، ولا يقبل أن يُحكم على الفعل بأنه منكر ومحظور دون يقدم معه الحل الممكن والفكرة الرائدة والاقتراح النافع المتاح الذي يجعل الناس في سعة وفسحة عن الوقوع في ذاك المنكر والحاجة إليه.
وإن الدارس لكتاب الله تعالى والناظر في أحاديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يجد أن تشريع الأحكام وبيانها للناس قد ارتبط دائما بتقديم البدائل النافعة في مقابل تحريم الأفعال الضارة (1)، فلا يحرِّم الله تعالى على عباده شيئاً إلا ويكون قد أحل في مقابله ما هو خير للعباد وأنفع لهم في تحقيق مصالحهم الدنيوية والأخروية، وقد نبه الله تعالى إلى هذا المعنى في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف-157].
أرشدت هذه الآية الكريمة إلى أن التشريع ليس نهياً عن المنكرات وتحريماً للخبائث فقط، وإنما هو أيضاً أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وهذا دليل على تكامل الشريعة وتوازنها في مراعاتها للجانبين معاً.
وقد كشف ابن القيم –رحمه الله -عن هذا القانون العام والقاعدة المطردة بقوله: “ومن تأمل أسرار الشريعة وتدبر حِكمها رأى ذلك ظاهرا على صفحات أوامرها ونواهيها باديا لمن نظره نافذ، فإذا حرم عليهم شيئا عوضهم عنه بما هو خير لهم وأنفع، وأباح لهم منه ما تدعو حاجتهم إليه ليسهل عليهم تركه”(2).
ويؤكد على هذا المعنى الاستقراء لموارد الأحكام من الكتاب والسنة، حيث إن المتتبع لهما يجد أن جميع المحرمات من الأفعال قد شرعت في مقابلها الأفعال الجائزة النافعة التي يستغني بها العبد عن الوقوع في الضار الممنوع، ويقدر على تلبية حاجاته ومطالبه الجِبِلِّيّة من خلال النافع المشروع، فما حرمه الله مثلا: من الربا و الزنا و الخبائث من الطعام والشراب، فإنه قد أحلّ في مقابله البيع والزواج والطيبات من الطعام والشراب، وذلك نظرا لما في المحرمات من المفاسد والأضرار، وفي المباحات من المنافع والمصالح.
وحرّم الله تعالى نكاح بعض النساء بسبب النسب أو المصاهرة أو الرضاع، قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا. وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ }[النساء -23-24]، وأحلّ في مقابل هؤلاء المحرمات ما عدا ذلك من النساء فقال:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } [النساء -24].
وحُرِّم على الرجال لباس الحرير والذهب، وأبيح لهم ما لا يحصى من صور التجمل والتزين المختلفة، كما أبيح لهم منه اليسير من الحرير الذي تدعو الحاجة إليه(3).
وهكذا مضت سنة الله تعالى في تكليفه لعباده أنه ما حرّم خبيثاً ولا ضاراً إلا أباح لعباده طيباً بإزائه أنفع لهم منه(4).
وهذه السنة المطّردة هي من لوازم وآثار خاصية السماحة والرحمة التي تتصف بها الشريعة الإسلامية، فالله تعالى إذا حرّم الأفعال الضارة الفاسدة، فإنه يفتح لعباده أبواب الحلال الكثيرة، ما يعينهم على اجتناب الحرام وتفادي أضراره ومفاسده، ويجعلهم بمندوحة عن اللجوء إليه ابتداء، فالمقصود إذاً هو تحقيق مصالح العباد، وليس النكاية بهم أو إِعْناتهم.
وليس شرطاً في الحلال النافع أن يأتي تشريعه مباشرة عقب المحرم ، وإنما لا بد من وجود الخيارات المشروعة في الجملة إزاء كل فعل محرم، سواء أكان المشروع متقدما على المحرم أو متأخراً عنه في زمان التشريع، فتشريع الحلال النافع عوضاً عن المحرم الضارّ يمكِّن العباد من الاستغناء عن الوقوع فيما حرم عليهم، ويعينهم على الالتزام بالتكاليف ما دام قد شرع لهم النافع الذي يلبي مطالبهم الفطرية ويشبع رغائبهم الغريزية ويحقق حاجاتهم الطبيعية.
وإن تشريع البدائل النافعة للعباد قد يكون تشريعاً أصلياً ابتدائياً، كالزواج في مقابل الزنا، وكالبيع في مقابل الربا، وقد يكون تشريعاً استثنائياً للحالات الخاصة التي فيها مشقة وحرج من الالتزام بالأحكام الأصلية التي تقتضي تحريم بعض الأفعال، كمشروعية أكل المطعومات المحرمة عند الضرورة استثناء من اصل التحريم، ومشروعية النظر إلى المخطوبة استثناء من أصل الأمر بغض البصر.
قال العز بن عبدالسلام: ” اعلم أن الله شرع لعباده السعي في تحصيل مصالح عاجلة وآجلة تجمع كل قاعدة منها علة واحدة، ثم استثنى منها ما في ملابسته مشقة شديدة أو مفسدة تُربي على تلك المصالح، وكذلك شرع لهم السعي في درء مفاسد في الدارين أو في أحدهما تجمع كل قاعدة منها علة واحدة، ثم استثنى منها ما في اجتنابه مشقة شديدة أو مصلحة تُربي-أي تزيد – على تلك المفاسد، وكل ذلك رحمة بعباده ونظر لهم ورفق، ويعبر عن ذلك كلِّه بما خالف القياس، وذلك جار في العبادات والمعاوضات وسائر التصدقات”(5).
وقال ابن عاشور(6): “لقد تأصل مما أفضنا به القول في مبحث سماحة الشريعة ونفي الحرج عنها، ما فيه مقنع من اليقين بأن الشريعة لا تشتمل على نكاية بالأمة. فإن من خصائص شريعة الإسلام أنها شريعة عملية تسعى إلى تحصيل مقاصدها في عموم الأمة وفي خويصة الأفراد، فلذلك كان الأهم في نظرها إمكان تحصيل مقاصدها، ولا يتم ذلك إلا بسلوك طريق التيسير والرفق.
وأحسب أن انتفاء النكاية عن التشريع هو من خصائص شريعة الإسلام، ولما دل عليه القرآن من أنه قد أوقع النكاية ببعض الأمم في تشريع لها، قال تعالى: { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا. وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[النساء- 160-161]، فدلّ على أن تحريم بعض الطيبات على بني اسرائيل كان عقاباً لهم على ما صدر منهم من التوغل في مخالفة الشريعة.
فالإسلام إذا رخّص وسهّل فقد جاء على الظاهر من سماحته، وإذا شدد أو نسخ حكما من إباحة أو تحريم أو نحو ذلك فلرعي مصلحة الأمة والتدرج بها إلى مدارج الإصلاح مع الرفق”(7).
وخلاصة الأمر أن الله تعالى ما حرم على عباده خبيثاً ولا ضاراً إلا أباح لهم طيباً بإزائه أنفع لهم منه، ولا أمرهم بأمر إلا وأعانهم عليه، فوسِعتهم رحمتُه ووسِعهم تكليفُه، وهذا ما يجب على الفقهاء والعلماء والدعاة اليوم أن يترسموه في دعوتهم وبيانهم وخطابهم للناس، بحيث يقدمون البدائل الشرعية، ويبتكرون الحلول العملية، ويقترحون الأدوات المناسبة التي تمكن الناس من ترك المعاملات الضارة والأفعال الفاسدة، وذلك حتى يكون الخطاب الشرعي واقعياً وعملياً يجد فيها الناس ما يلبي حاجاتهم ويحقق غاياتهم ويقيم مصالحهم بكل سعة ويسر.(8)
________________________________________
(1) انظر: هذه القاعدة تفصيلاً في موسوعة زايد للقواعد الفقهية والأصولية، قسم القواعد المقاصدية، وإعلام الموقعين لابن القيم 2/166.
(2) انظر: إعلام الموقعين لابن القيم 2/166.
(3) إعلام الموقعين لابن القيم 2/166.
(4) انظر: إعلام الموقعين لابن القيم 2/166.
(5) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2/283.
(6) ابن عاشور هو: محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر ابن عاشور، فقيه أصولي، ولد سنة 1296، والتحق بجامع الزيتونة لطلب العلم فنبغ حتى صار شيخاً له سنة 1351هـ، توفي سنة 1394هـ، له: “التحرير والتنوير” في التفسير، و”مقاصد الشريعة الإسلامية” وغيرهما.
(7) مقاصد الشريعة لابن عاشور ص 337.
(8) إعلام الموقعين لابن القيم 2/166.
المصدر: https://alfajrmg.net/2015/05/09/%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B7%D8%A7%D8%A8-%D8...