الحرية ليست سوى كلمة: من أجل فهم في ظل الحراك العربي
الحريّة ليست سوى كلمة؛ لأن الحدّ الفاصل بين الحريّة والعبودية عبارة عن رهان للصراع في المجتمعات كافّةً؛ إنّها، في النهاية، مسألة سلطة. الحرية، من هذا المنطلق، على حدِّ قول هيغل، «لا تُعطى؛ بل تُنتزع انتزاعاً».[3]
في هذا الإطار، نبادر بالقول: لا جدالَ لدينا في كون الحرية، على حدّ تعبير كانط، مفتاح الوجود، والتي ستجعل منها الفلسفة الوجودية، فيما بعد، قيمة القيم؛ بل ضرورة وجودية للإنسان تتأسّس عليها ماهيّته، حيث سيصبح الإنسان، بلغة سارتر، محكوماً عليه أن يكون حرّاً[4].
مع ذلك، نؤكّد فكرةً مفادها أنّه لا يمكن القبض على حقيقة الحريّة، وفهمها، إلّا في تجلّياتها التاريخية، وإفرازاتها السياسية، والثقافية، والاجتماعية؛ ذلك كي لا تصبح الحريّة في مفهومها، كما أشار إلى ذلك عبد الله العروي، «تناقضـ(اً) وجدلـ(اً)، توجد حيثما غابت، وتغيب حيثما وجدت»[5].
من هذا المنطلق، لم يعد يُنظر إلى الحرية، في الكتابات المعاصرة، كبنية كليّة ثابتة، أو كقيمة مقدّسة في مقابل الحتمية والعبودية؛ بل بمثابة مفهوم مرتبط بسيرورة تاريخية قوامها السلطة التي تأخذ من خلالها الحريّة تلوينات متعدّدة؛ بل متناقضة في بعض الأحيان. ولعلّ مثال الأمن على حساب الحرية خير مثال على المساومات التي يمكن أن تأخذ الحرية أشكالاً متعدّدة لها.
لعلّ هذا ما جعلنا ندرك ضرورة الانتقال من الرؤية المثالية، التي تقدّس الحريّة (أي الطهرانية)، إلى تلك التي تَعدّها نتاجاً لصراع القوّة داخل المجتمع، كما هو الحال في قضية الدين، الذي يُعدُّ تفكيكه رهاناً لتحقيق الحريّة في العالم العربي ما بعد الحراك. وقد نبرّر هذا الطرح من خلال ارتباط أغلب النقاشات حول مطالب الحريات الفردية، والسياسية، والاقتصادية، في فترة ما بعد الحراك، بمسألة الدين (حريّة المعتقد، وحرية الضمير، والحرية الجندرية، وحقوق المرأة، وحقوق الأقليات... إلخ).
لا يمكن، مع ذلك، إنكار كون الحريّة ركناً مؤسّساً للدولة الحديثة؛ بيد أن مسار تحقيقها كثقافة، وتقنينها كمؤسسات، جاء نتيجة صراعات ومخاضات عسيرة. ولنا في الثورة الفرنسية، خلال القرن الثامن عشر، خير مثال، حيث أصبحت الحريّة شعاراً للثورات الاجتماعية عبر التاريخ، ومبدأ كفيلاً بخلق الأمل، ومن ثمّ تصوّر المستقبل.
مع ذلك، قد تكون عملية تقنين الحرية هي الأخرى خاضعة لإرادات السلطة، وقوة المصالح، على الرغم ممّا أنتجته من تطورات سياسية واقتصادية لا يمكن تغاضي الطرف عنها، إلا أنّها قامت بتجاوزات لحريّة الأفراد من أجل حمايتهم، وتحقيق أمنهم؛ أي التضحية بحريّة الفرد بحجّة الأمن والنظام، ولعلّ ما نلاحظه من تجاوزات أمنية بحجّة محاربة الإرهاب خير مثال على تعقد علاقة الحريّة بالأمن والسلطة.
لا يمكن الحديث، في العالم العربي ما بعد الحراك، إلّا عن تحديد سياسي، واجتماعي، وثقافي، للحريّة، في نطاق الدستور والقانون (اللذين ينظمان ممارسة الحرية)، وذلك من أجل تقنين أكثر كثافة وفعالية للحريّات الفردية؛ بيد أن عملية النقد والتساؤل لابدّ من أن تبقى مسايرة لعلمية التقنين، كي لا تصبح الحريّة حفّارة قبر نفسها من خلال قوانين حول الحرية هي في الحقيقة ضدها. بلغة أخرى، لئلا يتمّ استغلالها من طرف جماعات دينية متطرّفة، أو إيديولوجيات إقصائيّة، أو سياسات شمولية.
هناك عدة صور لصيقة بالحرية؛ فسواء كانت تلك الصور منبثقة عن فهم عام، أم عن معرفة عالمة، فإنّها عبارة عن تمثُّلات لواقع الشروط السياسية والاجتماعية التي تترجَم فيها، ومن خلالها، الحريّة في فترة تاريخية معينة. ولعلّ فترة الحراك العربي عرفت ترجمة جديدة للحريّة، من خلال الخروج من الحجر السياسي الذي طالما عاش فيه الإنسان العربي.
الشيء الأساسي، الذي أتى به الحراك العربي، في نظرنا، هو كونه أنزل الحريّة من السماء إلى الأرض؛ أي من كونها قضية نخبوية تهمّ المثقفين، إلى قضية تُرجمت على أرض الواقع، وأصبح لها تأثيرات على المستوى الثقافي، والاجتماعي، والسيكولوجي؛ أي الميكروسكوبي للأفراد.
في هذا الإطار، لابدّ من الوقوف على مسألة «التمثُّل» (Représentation)، التي قد تسعفنا في تجاوز فكرة أن تقول الحريّة كلّ شيء عن لا شيء، أو لا شيء عن كلّ شيء؛ حيث إنّ تعريف الحريّة هو نتاج لتمثُّلات تطوّرت بكيفية تدريجية، وتراكمت بحسب الفترات، والمجتمعات، والثقافات، والإيديولوجيات، من قبيل: الفوضى، والتغيير، والانفلات، والمسؤولية، وغياب الأمن... وغيرها.
انطلاقاً من هذا المعطى، يمكن ربط التمثلات السلبية للحريّة، ولاسيّما تلك التي ترى فيها شكلاً من أشكال الفوضى، إلى ما أشار إليه الشاعر أدونيس، من حيث إن مسألة الخوف من الحريّة نابعة من كونها في العمق مسؤولية؛ ولعلّ هذا التمثّل الإيجابي للحريّة، باعتبارها مسؤولية في التغيير، قد رأى النور في بدايات الحراك العربي، وذلك من خلال بنية اجتماعية واحتجاجية اتسمت بمبادئ التغيير، والكرامة، وكسر حاجز الخوف.
ما أحوجنا، في هذا الإطار، إلى دراسات سوسيولوجية حول تمثُّلات الحريّة لدى الإنسان العربي ما بعد الحراك، والإفرازات الواقعية لهذا التغيير الجذري في تمثّل الحرية، والبنيات الاجتماعية التي أسهمت في بناء التمثلات الجديدة للحريّة في علاقتها بالسلطة.
قد يقول قائل: إن التطبيق العملي للحريّة أهم بكثير من تمثلاتها وشعاراتها؛ الشيء الذي يجعلنا حبيسي ثنائية المثال والواقع في تصورنا لموضوع الحرية، في حين أن الحرية، سواء أكانت شعاراً، أم تطبيقاً عملياً، لن تفقد صدقيّتها؛ لأنّها مرتبطة بتمثّل تاريخي ومجتمعي معيّن، وما الشعارات، وحتى التطبيقات العملية، سوى ترجمة واقعية لتمثُّل الحريّة في المخيال المجتمعي؛ إذ كلاهما، في النهاية، وجهان لعملة واحدة.
لنُعرّج، بعد هذا الطرح، على مسألة ارتباط الحريّة بالكرامة في شعارات الحراك العربي، الذي إن دلّ على شيء فإنّما يدلُّ على أهمية الجانب الاقتصادي في تحقيق الحريّة الفردية. هذا ما أشار إليه عدد من التقارير والدراسات التي ترى أنّ الدول الأكثر ازدهاراً هي الدول الأكثر حريّة اقتصادياً، وسياسياً، واجتماعياً.
لعلّ العلاقة الجدلية بين الحريّة والاقتصاد تفترض قطباً ثالثاً هو السياسة. هذا الأخير، من خلال مؤسّساته، يُترجم الحريّة اقتصاداً، وبه يصبح الاقتصاد حرّاً؛ وقد نجد لهذه الفكرة صدى كبيراً في كتابات الاقتصادي ميلتون فريدمان، الذي يرى أن الحريّة في الأنظمة الاقتصادية جزء لا يتجزّأ من مفهوم الحريّة الواسع؛ ومن ثمّ فإنّ «الحرية الاقتصادية وسيلة لا يُستغنى عنها في سبيل تحقيق الحرية السياسية»[6].
لا مناص، إذاً، من الحديث عن الليبرالية كجانب اقتصادي للحريّة أساساً، إلّا أنّه يجب تأكيد البعد الاجتماعي والثقافي لليبرالية؛ أي باعتبارها ثقافة أكثر منها منجزاً ماديّاً، ويتضح ذلك من خلال الإعلاء من قيمة الفرد، والإيمان بكونه كائناً عقلانياً قادراً على تحديد اختياراته بشكل عقلاني ورشيد، دونما حجر سياسي، أو وصاية أبوية. تبدأ الحرية من هذا المنطلق الليبرالي بالفردية، ومن ثمّ الحريّة، على حدّ قول غوسدورف، «لا تعدو أن تكون شيئاً آخر سوى شكل التدخل الإنساني في الكون»[7].
وهكذا تصبح الفردية أساس الحريّة؛ بل لا حريّة، على الأصح، دون فرد حرّ. ولعلّ هذا ما جعل جون ستيوارت مل يؤكّد، في غير موضع، أنّ «الحرية الوحيدة التي تستحق هذا الاسم هي حرية السعي وراء صالحنا بطريقتنا الخاصة، طالما أنّنا لا نحاول حرمان الآخرين من صالحهم، أو إعاقة جهودهم للحصول عليها»[8].
من هنا تأتي ضرورة إعادة التفكير في ثنائية الحرية الطبيعية الأصلية والحرية الاجتماعية المكتسبة، وذلك من خلال إعادة صياغة الحرية الاجتماعية على أساس الحريّة الطبيعية، وليس العكس؛ ومن ثمّ تكون الحريّة الكاملة، كما ذهب إلى ذلك جون لوك، هي التحرُّك ضمن القوانين الطبيعية، وإمكانية اتخاذ أيّ قرار شخصي دون قيود خارجة عن هذه الأخيرة[9].
نودُّ، في الختام، أن نُعرّج على سؤال طالما شغل كتابات المثقف العربي المعاصر، الذي لا يختلف في طريقة طرحه ومقاربته عن سؤال الحريّة؛ إنه سؤال الهوية، الذي لم يسلم هو الآخر من السقوط في مطبّ الميتافيزيقا، من خلال اعتباره شيئاً قابعاً وراءنا نبحث عنه، وليس مشروعاً مستقبلياً نبنيه. من هنا، ضرورة إعادة التفكير في العلاقة بين الحرية والهوية، حيث ثمّة ارتباط وثيق، وعملية شدّ وجذب بينهما، كانت من عوامل تكوّن هويتنا التاريخية.
لا يزال الخطاب حول الحرية، في ظلّ الحراك العربي، يشتغل ضمن حقل الهوية، الذي، بدوره، يستند في طرحه على حقل الدين، ليتشكل بذلك ثلاثي: الحرية، الهوية، الدين، ضمن تصور ميتافيزيقي وتقليدي يجعلنا، في كثير من الأحيان، ندور في حلقة مفرغة، حتى أصبحت نقاشات هذا الأخير بمثابة ثوب بينلوب، كما جاء في الأسطورة اليونانية، الذي ما إن نأتي على حياكته نهاراً حتى نقوم بحلّه عند المساء.
يتضح، إذاً، أنّ النقاش الإيديولوجي، والمقاربة التجديدية، لن تسعفنا في الخروج من هذا الوضع، وأنّنا نحتاج، اليوم، أكثر ممّا مضى، إلى ولوج مرحلة التفكيك بلغة جاك دريدا؛ أي تفكيك الخطابات والنظم الفكرية، وإعادة النظر في تشكّلها التاريخي، وإرادات السلطة التي تسكنها، والوقوف على البؤر الأساسية المطمورة فيها، والتي لا تزال تَحبل بإمكانات جديدة، وما ثلاثي: الحرية، الهوية، الدين، إلّا بمثابة مادة أوليّة قد تسمح عملية تفكيكها بالانخراط في مشروع الكونية الواسع.
المراجع المعتمدة
باللغة العربية:
- العروي، عبد الله، مفهوم الحرية، المركز الثقافي العربي، بيروت- الدار البيضاء، ط 6، 2002م.
- مل، جون ستيوارت، عن الحرية، ترجمة عبد لين الله غيث، منبر الحرية، الأهلية، منشور بوساطة المركز العلمي العربي للأبحاث والدراسات الإنسانية.
- فريدمان، ميلتون، العلاقة بين الحرية الاقتصادية والحرية السياسية، معهد كيتو، مصباح الحرية، 13 أيار/ مايو 2006م. استُرجع في 02 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015م، موقع منبر الحرية، على الرابط: http://minbaralhurriyya.org/index.php/archives/898
باللغة الفرنسية:
- GUSDORF Georges, Signification humaine de la liberté, Payot, 1962.
- HEGEL Friedrich, La raison dans l'histoire: Introduction à la Philosophie de l'Histoire, Traduction Kostas PAPAIOANNOU, Union Générale d'Editions, Librairie PLON, Paris, 1965.
- LOCKE John, Deux Essais sur le pouvoir civil, 1690.
- SARTRE Jean-Paul, L’existentialisme est un humanisme, Nagel, Paris, 1946.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] استعرنا صياغة هذه العبارة من مقولة للسوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو حول الشباب: «الشباب ليس سوى كلمة»، «La jeunesse n’est qu’un mot»، وحاولنا تطبيقها على مفهوم الحريّة لتأكيد ثلاثي: الصراع، التمثل، السلطة، الذي يجعل كل خطاب حول الحريّة خطاباً قابلاً للتحقُّق تاريخياً وسياسياً، وللأدلجة دينياً وثقافياً.
[2] اخترنا كلمة «حراك»؛ لأنّها أكثر حيادية تجاه ما حدث في المجتمعات العربية، على عكس كلمة «ثورة»، التي تقتضي تغيّراً جذرياً في البنى الاقتصادية والسياسية، وكذا كلمة «ربيع»، باعتبارها حكماً قيمياً إيجابياً تجاه التحوّلات القائمة. أمّا بخصوص كلمة «عربي»، فقد استعملت بمعناها الحضاري، ولا يجب أن تُفهم، في سياقنا هذا، على أساس عرقي - إثني.
[3] Friedrich HEGEL, La raison dans l'histoire: Introduction à la Philosophie de l'Histoire, Traduction Kostas PAPAIOANNOU, Union Générale d'Editions, Librairie PLON, Paris, 1965, p.76-140.
[4] Jean-Paul SARTRE, L’existentialisme est un humanisme, Nagel, Paris, 1946, p. 37.
[5] العروي، عبد الله، مفهوم الحرية، المركز الثقافي العربي، بيروت- الدار البيضاء، ط 6، 2002م، ص 86
[6] فريدمان، ميلتون، العلاقة بين الحرية الاقتصادية والحرية السياسية، معهد كيتو، مصباح الحرية، 13 أيار/ مايو 2006م، استرجع في 02 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015م، موقع منبر الحرية، على الرابط:
http://minbaralhurriyya.org/index.php/archives/898
[7] Georges GUSDORF, Signification humaine de la liberté, Payot, 1962, p.169.
[8] مل، جون ستيوارت، عن الحرية، ترجمة عبد لين الله غيث، منبر الحرية، الأهلية، منشور بوساطة المركز العلمي العربي للأبحاث والدراسات الإنسانية، ص 59
[9] John LOCKE, Deux Essais sur le pouvoir civil, 1690, (page non numérotée).