مفهوم التربية

كريمة موندون

 

كيف لنا أن نحدد مفهوم التربية؟

إن مصطلح التربية في الواقع من العموم بمكان بحيث يجمع في طياته العديد من التخصصات ويشمل كل مراحل الحياة. والتربية في مفهوم كانط هي نشاط خاص بالبشر يُعنى فيه بالقضايا التعليمية. والبشر هم الكائنات التربوية الحية الوحيدة على وجه الأرض. من هذا المنطلق، يمكننا القول بأن التربية هي الهبة (الأمانة؟) التي خولها الله لخلقه. ولذا تصبح التربية إحدى الأولويات بالنسبة للمؤمن حتى يحقق التغيير المنشود في القلب وصولاً إلى مجتمع أكثر عدالة، وتحقيقاً للاستخلاف.



وتشمل التربية القضايا المتعلقة بالأبوة وتنشئة الأطفال، وكذا القضايا المتعلقة بالإرشاد والتعليم. لذا فإنها وحدة كاملة موحدة تحتاج من أجل الحفاظ على تماسكها وترابطها إلى التناول بطريقة كلية شاملة، بدلا من تناولها مقسمة إلى فئات. وهذا المنهج الشمولي في التناول يتفق من وجهة نظرنا مع التعاليم الإسلامية. ألم يرشدنا القرآن الكريم إلى أن نربط النظام العالمي ونواميسه وسننه وطريقة عمله بخبراتنا وتجاربنا ومشاعرنا وأعمارنا على هذه الأرض؟ ولأن الله قد جعلنا خلفاء في الأرض كما جاء في سورة البقرة في الآية رقم 30، لذا من الضروري للإنسان أن يتعلم حتى يكون أهلاً لهذه المهمة. لكن ما هي الخطة التعليمية التي تتيح للإنسان القيام بهذه المهمة على أكمل وجه؟

للإجابة على هذا السؤال، لا بد أن نسأل أنفسنا عن الغاية والهدف من وجود مجتمع إسلامي. ولسنا نعني بإسلامي هنا: المجتمع الإسلامي فقط وإنما كل المبادئ الأخلاقية والقيم العالمية التي جاءت بها الكتب السماوية. أليس الإسلام رحمة للعالمين جميعاً؟ إن المجتمع الإسلامي لا بد أن يتصف بالعدل ويحافظ على الانسجام والتوازن مع العالم أجمع. إن ما نوضحه هنا هو النقاط الرئيسة فقط أما الخريطة التفصيلية فتحتاج إلى مزيد من النقاش والاستطراد الذي يخرج بنا عن موضوعنا الرئيس. وتعد التربية المحرّك الأساسي في سبيل تحقيق العدل والتوازن. كما أن الأسرة هي بمثابة الخلية الجذعية من الجسم لهذا المجتمع، والمدرسة بمثابة الجنين. وإذا طغى أحد هذين العنصرين على الآخر، تعذّر تحقيق الانسجام والتناسق المنشود في المجتمع. ولنوضح هذا الأمر بمثالين واقعيين من حقل التربية الأبوية للأطفال والتعليم والإرشاد.

المثال الأول: ما هو الأمر المشترك بين كل من ألمانيا واليابان ورواندا؟ من حيث المبدأ، لا شيء. فهذه الدول تنتمي إلى مناطق جغرافية مختلفة تماماً، كما أنها تختلف من حيث الثقافات والتراث الإنساني. ومع ذلك، فقد عانت تلك الدول من سياسة غاشمة أدت إلى وقوع جرائم إبادة جماعية. وقد أجرى إيمانويل تيد المتخصص في علم السكان والأنثربولوجي وعالم الاجتماع تحليلاً للمنظومة الأسرية في تلك الدول واكتشف أن هذه الدول تشترك في نفس النموذج الأسري وهو العائلة الأصلية أو الكبيرة (Stem family) حيث تكون الهيمنة للأكبر سناً في أفراد العائلة. وانعدام التناغم في أسرة كهذه يعزز الشعور بعدم المساواة بين البشر. وبحكم عملنا حقل علم الاجتماع الكلي يمكننا أن ندرك بسهولة أن مثل هذا النوع من الأنماط الأسرية يمكن أن يؤثر بشكل مباشر على المنظومة الاجتماعية.

المثال الثاني: إن الكائنات الاجتماعية تكون بطبيعة الحال أكثر كفاءة وفعالية من خلال التعاون لا التنافس الفردي. ومع ذلك، ففي فرنسا، وغيرها من الدول، يهدف النظام المدرسي إلى تعزيز التنافس الفردي عبر نظام التقويم والدرجات. وهذا التعود المبكر على المنافسة يكسر الإرادة التعاونية لدى الأطفال. وهو الأمر الذي يؤدي إلى ظهور نزعة الفردية ونشوء مجتمع تسوده هذه النزعة بشكل واضح. لذا فإن غياب المعنى التربوي عن البيئة التعليمية يؤثر هو الآخر بشكل مباشر على المجتمع.

ثبت المثالان السابقان أن التعليم جزء لا يتجزأ من نسيج المجتمع، لذا لا بد لنا من العناية به إلى أقصى حد ممكن، وينبغي أن تقود العناية بالتعليم إلى إصلاح الفرد وبالتالي إصلاح المنظومة ككل. ألم يخبرنا الله عز وجل في كتابه “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” (الرعد: الآية 11). عندما يؤدي نظام ما إلى انتكاس القيم الطبيعية لمجتمع معين، فلا بد لنا حينئذ أن نوفر لهذا المجتمع الأدوات اللازمة لتحرير أكبر قدر ممكن من البشر لاستعادة تلك القيم. ولسنا نقصد بالقيم الطبيعية المنظومة الثقافية فقط أو المعايير الأخلاقية، وإنما أسس الأخلاق الإسلامية التي يتلقاها العالم أجمع بالقبول، فحديثنا هنا ينبغي أن يكون عن منظومة الأخلاق العالمية حتى تتضح أهدافنا.

لا ريب أن المعرفة هي أساس التحرر، وفي ذلك آيات لأولى الألباب. إن الحث على طلب العلم مع التفكر والتأمل هو أمر أكدت عليه الكتب السماوية في العديد من المواضع، لذا ينبغي أن تقدم المنظومة التعليمية آيات يتأملها أولو الألباب، وأرباب العقول، لا أن يكون قدرها أن تبقى أداة للتقليد المذموم، كما هو الحال في التقليد الفقهي المذموم. إن التبعية والانسياق الأعمى هو انتحار تعليمي.

وهذا التضاد بين التبعية التعليمية والتقليد وبين الابتكار قد أرّق تراثنا الإسلامي والفلسفة الغربية على حد سواء لذا نجد الإمام علي ومن بعده ماريا منتيسوري يؤكدان على معنى هام يظل حاضراً في الأذهان على مدار أربعة عشر قرناً: “لا تربوا أولادكم على ما نشأتم عليه لأنهم ولدوا لزمان غير زمانكم”. علينا أن نتذكر دوماً أن التغير سنة الله في كونه، وفي هذا تحدٍ كبير للتربية والتعليم.

 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك