نحو التحرّر من الخطابيّة واللفظانية في الخطاب السياسيّ العربي
عبد الإله بلقزيز
للعربيِّ وَلَع شديد بالخطابة. تلك كانت حالُه منذ بَدَأ يقرض الشعر ويذبّ عن القبيلة بالكلمة؛ وما زال كذلك، حتى اليوم، إذْ يحرّر البيان السياسي أو يقرأه وهو يَمْنَعُ مصالح الشعب – أو هكذا يقول- ويذوذ عن بيضة الأمة وحُرْمتها!
كانت الخطابة شعرًا مع فطاحل القصيد العربي قبل الإسلام، خاصة من نَظَمُوا منهم في أغراض الفخر والحماسة، وهم الكثرة الكاثرة، ثم استقلت مع الإسلام، وقيام الدولة،- في فنّ من الكتابة خاصّ حمل اسمها. وهي اليوم، وإن فَقَدَتْ جمالية التعبير فيها وأُرْسِلَتْ على غير قيْد أو سَجْع وأَغْلَظَت في القَوْل، تكاد أن تستوطن المساحة الأوسع من الخطاب السياسيّ العربي والحركيّ منه على وجه التحديد!
المعلومُ من أَمْر الخطابة أنها ضربٌ من القول يَتَغَيَّا سِحْرَ المُتَلَقِّي بِشُحْنَتِه البيانية الأَخّاذة، قصْد استمالته إلى المعنى، والتأثير فيه، وتجييشه. والسّحر فعْل يَشُلّ وعي الواقع عليه فعْلُه، ويَدْفَعهُ إلى الانقياد الأعمى إلى الساحر، وإتْيَان ما يَأمرُه به، أو التصديق -أَقَلا- عليه. ولقد أَدَّت هذه الوظيفة – في ما مضى- قصائد عمرو بن كلثوم، وعنترة، ثم حسَّان بن ثابت، وأبي تمّام، وخطب الإمام علي بن أبي طالب وسواها من خطب أمراء وقادة الجهاد، مستعينة – ومتوسّلة- ببليغ اللفظ والتعبير، ومستثمرة جاهزية الوجدان والذائقة العربيَّيْن لاستقبال خطاب البيان والبلاغة والتفاعل معه قويَّ.
واليوم، ما بَرِحَت الخطابةُ تؤدِّي الدور نَفْسَهُ، طالبة من مُتَلَقِّيها أن يؤوبَ إليها أَوْبَةَ النصير والوزير الذي يَحْمل معها أعباءَ القضية التي تقول. لكنها إذْ تَفْعل ذلك بقليل من البيان والزخرف والبديع، بل بكثير من الفقر في التعبير الجمالي، تَسْتَعيضُ عن غياب بيان البلاغة فيها ببلاغة البيان عندها. والبيان عندها بلاغ سياسيّ تُعْلِنُه على المَلَأ، وينتمي ملفوظهُ إلى المعنى أكثر ممّا ينتمي إلى المَبْنى، أي إنه يحاول أن يخاطب فيها مَلَكَة اليوتوبيا السياسية والاجتماعية أكثر مما يحاول مخاطبة ذائقتها الأدبية والرمزية.
ليس معنى ذلك أن الخطابة السياسية العربية الحديثة ما عادتْ تتوسّل باللغة لإحداث الإغراء والتأثير في الجمهور، إنما القَصْدُ أن نقول إن معجم هذه الخطابة تغيّر عما كان عليه في سابقِ أَعْصُرِها، لم يَعُدْ معجمًا أدبيّا – شعريّا وسَجْعيّا- يستثير حاسة الجمال في قارئه أو سامعه، بل بات معجمًا اصطلاحيّا – مفاهيميّا- يعزف على أوتار الحرمان والضائقة والكُربة لدى ذلك القارئ أو السامع، فيدفعه إلى التماهي مع الخطاب وصاحبه، وبهذا المعنى، تكون خطابة اليوم قد بدّلتْ وسائلها بعضَ تبديل: إمّا سَتْرًا لعورةِ عجز في التعبير – وهذا ثابت لا ريب فيه- وإمّا تكيّفا مع حاجات جمهور مختلف. غير أن الذي الْتَزَمتْه التزامَ وفاء هو وظيفتها المتمثلة في سِحْر المتلقي، وشَلّ ملكة التعقُّل عنده، واستدراجه إلى أن يَنْقاد طائعا إلى مضمون الخطاب المُرسَل.
مشكلة المشاكل في الخطاب السياسي العربي المعاصر (هي) في نزعته الخطابية. هو يَعْشق الخطابة ويقدِّسُها، ويحسبها نصابَ اللغة النفيسةِ في السياسة ودونها لَغْو وثرثرة. وهو يقيس القيمة فيها بمعيار الأهلية في ترتيل القولِ الذي به يجيش الوجدان الجمعي وتُحْشَد العزائم والهمم، والذي به يُستَعاد التشديدُ على مرجعية المبادئ والثوابت والقيم. وفي هذه المعادلة اللغوية، لا قيمة إلا لما هو ثوريّ يتنزّه أمرهُ ويتعالى على متغيرات العالم، ونسبية المكان والزمان، كَما لا قيمة إلاّ لفَخْم الألفاظ وأشَدّ معانيها هَوْلا! أما أن يتنَاسب المَقول الخطابيّ مع الممكن والواقع، أو يتوسَّل لُغتهُمَا، فذلك ممّا لا يقع في حسبان الخطاب السياسي ذاك، حتى لا نقول عكس ذلك وأعظم.
ولا بدّ – إذًا- من تحرير الخطاب السياسي العربي من سجنه المقيم فيه أمدًا، عُمِّرَ حتى صار السجن مَسْكنًا أَلفَه! والسجن الذي نعني هو الخطابة وقد استحالت هويته له لا يُعْرَف بغيرها! ولا نخال أن مثل ذلك التحرير ممكن دون جراحة معقّدة لاستئصال وَرَم اللفظانية الخبيث الذي يأكل روحه. وهي جراحة لا يمكن أن ينهض بها غير العلماء: علماء السياسة ـ والباحثون في ميدان المعرفة، ممّن يتحوَّزون مبضع الجراحة. لكن استئصال ورم الخطابة يحتاج إلى عملية رديف وموازية، هي تغيير الدم الملوَّث – دم الخطاب- بدم سليم؛ وقَصْدُنا أن نقول إن الدم المطلوب نقلُه هو المعرفة للتخلص من دم ايديولوجي يغذي خلايا الخطاب بعناصر التآكل!.