سُلطةُ المعرفة!
مونية الديغوسي
حين رأوْه وحيداً، جاهلاً، ضالا في سرداب مظلم؛ كان قد مشى في شوارعه طويلا؛ حيث تورّمت قدماه، وملأت المكان ظلمةٌ أعْيت عيناه، ولوّثَ رمادها رئتاه… تربّصوا للفتك به، وحاولوا تطويقه بسلاسل وأغلال.. ووسط ركامٍ كبير أخرج رأسه، هذا الرأس الذي ازدحم بأفكارٍ؛ لمْ تَنْمُ بعدُ لتدبّ على الأرض، ثم التفتَ إلى العالم من حوله، فنظر إلى السماء، رافعا يديه بالدعاء، ومستبشرا خيراً بتأهّب رحيل تلك الغيوم السوداء، وما هي إلا لحظاتٌ حتى تكشَّف له وجه الشمس الوضّاء، هنالك فهِم ما غاب عن ذهنه فترةً من الزمن، وتعلَّم درسا مهمًّا في حياته؛ هو أنَّ عليه أن يظلّ وفيًّا لموعدِ الدَّرس…
بين السلطة والمعرفة
هل السلطة هي التي تأتي بالمعرفة، أم أن معرفتنا هي التي تزيدنا سلطة وتحكّما؟
المعرفة؛ هي فقه أسباب الظاهرة، ونتائجها، وإمكانية إعادة إنتاج الظاهرة من جديد، أما السلطة؛ فلا نعني بها المنصب السياسي، أو نظام الحكم…، إنما تشمل السلطة بكل أنواعها: سلطة العالِم على الأقل معرفة، سلطة الطبيب على المريض…
في معالجته لموضوع الاستشراق، حاول الأستاذ إدوارد سعيد دراسة العلاقة بين الشرق والغرب، منطلقا من سؤال أزمة أرّقه منذ صباه، وتوتر حضاري حرّكه، إلى مستوى شمولي يخص واقع الأمم.
كذلك نحن ومن خلال حياتنا اليومية نعيش أسئلة صغيرة قد تخصّنا على المستوى الفردي، لكنها في عمقها أسئلة فكرية معرفية. فهل بإمكاننا تجاوز المعالجة الشخصية لها إلى الإحاطة بها: فكريا، إيمانيا، معرفيا؟ هل نحن مشتغلون بصناعة المعرفة، مثلما اشتغل علماء محترقون مثل مالك بن نبي، ومصابرون على ترشيد أنفسنا والناس من حولنا، خاصة عندما ندرك أنّ الأزمة في جوهرها أزمة فهم ومعرفة وإدراك، يتولّد عنها فعل؟
فِقْهُ سلسلة الأسباب
يقول ابن خلدون في مقدّمته: “أول العمل آخر الفكرة، وأول الفكرة آخر العمل فلا يتم فعل الإنسان في الخارج إلا بالفكر في هذه المرتبات لتوقف بعضها على بعض. ثم يشرع في فعلها. وأول هذا الفكر هو المسبب الأخير، وهو آخرها في العمل. وأولها في العمل هو المسبب الأول وهو آخرها في الفكر”.
فالقدرة على ترتيب مجموعة الأسباب بصورة متناسقة يؤدي إلى النتيجة المرجوّة، وإن الاختلال في معرفة سلسلة الأسباب على مستوى الفرد ابتداء، وعلى مستوى المجموع بصورة عامة، تنتج عنه آثار تزحف لتفتِك بالمشاريع الحضارية التي تحتضن الأمة.
فإذا تمكّن الإنسان من أن يفقه سلسلة الأسباب، واستطاعت الأمة أن تتحكم في دائرة الأسباب كانت النتيجة ثمارا طيبة يتقاسمها الفرد والمجموع، وفي هذا المضمار يشير الأستاذ فتح الله كولن إلى ضرورة أن تتسم مشاريعنا بالمعقولية؛ بمعنى أن يقوم الإنسان بالفعل المتناسب مع المرحلة، وأن تكون سلسلة أسبابه متناسقة مع طبيعة العمل، لأن الإنسان الذي لا يرتب سلسلته السببية -بشكل متناغم- يقع في شباك “تجنين الزمن”، كما يصطلح عليه الأستاذ كولن؛ ذلك أن الإنسان إن غاب عنه فقه سلسلة الأسباب غاب عنه أيضا فقه الحضارة.
معركة العصر…
في ساحتها، لا تسمَع دبيب أقدام العدوّ على أرضِك، ولا صوت الدبابات يَشلُّ أمنك. إنها معركةٌ يُحكم قائدها السير في ميدانها بخطى متأنّية صامتة؛ حتى لا يقلق نومة الآخرين، فيها تعتلي الفكرة المنبر، لأن لديها خطابا تودّ أن تلقيه على الجمهور…
لقد عرف الإنسان الغربي بأنه إنْ فَقِهَ نفسية مجتمعٍ ما وتوغّل في أرجاء خارطته النفسية والاجتماعية، فسيستطيع أن يُحكم قبضته على ذلك المجتمع، ذلك أن فهمه للظاهرة هو جزء من قدرته على التحكم، وفي هذا الصدد يعرّف الأستاذ إدوارد سعيد الاستشراق؛ بأنه: “علم إدارة الأجناس المحكومة مما يجعل إدارتهم يسيرة ومربحة”.
فالأمر مرتبط بمعرفة الخصائص التي يحملها الإنسان الشرقي حتى يدخل في دائرة المتحكَّمِ فيه، وعليه فإن جوهر المشكلة فكري معرفي متعلّق بذاتية الإنسان؛ فإذا تحرّك فسيتحرك كل شيء.
إذن، فنظرتنا قاصرة ومختزلة لمفهومنا للاستعمار، حين نظنّ أنه لا يتحرك إلا في معركة مادية ميدانية، غافلين عن أن معركته الضروس تُدار رحاها في حلبة “عالم الأفكار” !
استعمار أم قابلية للاستعمار؟
الكثير من الناس يحاولون صدَّ الباب أمام ريح “الاستعمار”، لكنهم يُفسحون الطريق أمام عواصف “القابلية للاستعمار” لتمُرّ بسلام؛ غير مدركين أنها ذلك اللّصّ الذي دخل بيوتهم فاحتضنوه، ولم يشكّ أحد منهم في أخلاقه الحميدة!
لقد أدرك الغرب أنه بتعطيل فعالية الإنسان الشرقي سيعطّل كل شيء في الشرق. كما أنه يعي تماما بأن عقلا إذا فهم وحرّك عقولاً أخرى، فإن خططا كثيرة بُنيت على أنقاض “القابلية للاستعمار” حتما ستنهار. يقول الأستاذ مالك بن نبي: “الاستعمار كثير الحذر من الأفكار ويعرِف مدى قوة الفكرة حينما تواجَه خططه بالقوة”.
نعم، فأشدّ ما يرهب العدو، وتخرّ له قواه هو إنسان أدرك بحق معنى “القابلية للاستعمار”؛ تتبَّع آثار تلك الأقدام السوداء، وفقِه تفاصيل الخطط المتعفنة؛ وهنا تتأهب المعركة لتقف أمام المواجهة الحقيقية، مقتحمة مجال “مراصد الفكر”. وهي التي يقول المفكر بن نبي بشأنها أنها في العالم الغربي تتحرّك وفق قوله سبحانه وتعالى: ﴿…لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾. وهذا منهج الشيطان في خطابه مع الله تعالى، وهو نفسه منهج الشيطان الحضاري الذي يتغلغل في جذور الأمة محاولا زعزعة استقرارها وتوازنها.
السؤال عن دورنا؟
“القدرةُ” أو “الوُسْعُ”، كبديل عن مصطلح “السلطة”؛ فما وَسِعكَ فِعله فأنت متحكِّمٌ فيه، فالعالِم مسؤول عن من لم يعلم، والأكثر خبرة مسؤول عن الأقل خبرة… ولو نعود لخارطة العالم الإسلامي ونبحث عن عدد الأزمات المتفجّرة هنا وهناك، سنجد أن الكثير منها شقّ طريقه إلينا ونحن نصل رحم التقصير والضعف، ونحتفي بالجهل ضيفا في مجالسنا.
إنّ التحول من حالة التخلف إلى حالة الحضارة؛ يقتضي أن يُغيّر الإنسان من كونه مدروسا في مخابر الغير، ليصبح دارسا لما حوله. ووسط جمهور غفير من الناس؛ صِنْفٌ منهم: إنسان محلي؛ تحرّكت آلات كبرى (إعلامية، اقتصادية…) لإبقائه رهينا للإدراك الجغرافي، وصنفٌ ثانٍ هو إنسان عالمي؛ متجاوزٌ للقارات، وكل همّه أن لا تُخدش مصلحته، يتراءى من بعيد للأنظار إنسان ثالث؛ يزاحم محاولا أن يخترق الطابور ليوجِدَ له “مكانا وسطاً” في هذا العالم؛ إنه شخص صاحب رسالة ودورٍ تربوي، يسعى ليُحقّ الحق ويخدم الخلق، ويعيش وفق نبض الأمة وهمومها.
إذن، فالإنسان مطالبٌ بأن يحدّد الهدف، الدور، القيمة المضافة…، وأن يفكّر ويعيد التفكير إلى أن يصل إلى رؤية متناسبة مع الحالة التي يعيشها، ذلك أنه لا يكفي أن تكون الفكرة صحيحة، ولكن ينبغي أن تكون الآلة فعالة أيضا.
ولهذا فإننا نجد القرآن الكريم دائما يذكّر هذا المخلوق المكرَّم بمسؤوليته، فيقول عزوجل: ﴿كُلُّ نَفسٍ بِمَا كَسَبَت رَهِينَةٌ﴾، ويقول أيضا: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾.
جهاد المؤمن…
حتى لا يضيع الإسلام بين الإنسان الشرقي؛ الذي زكّى قلبه وفقد الفعالية، وبين إنسان غربي امتلك التقنية وضيّع بناء هذه النفس، يجتهد الإنسان في الطريق دومًا ليُلمِّع عدسته المكبّرة؛ بحثًا عن توازنٍ يُعبّر عنه الأستاذ علي عزّت بيجوفيتش بـ: “المسجد درسة”.
فليس على الإنسان أن يختار طريقين لا ثالث لهما؛ إما التفاؤل مطلقا، أو اليأس مطلقا، لكن ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن هو تقلّبه بين حالتي: الخوف والرجاء. فلا هو ممّن قال في حقهم الحق سبحانه وتعالى: ﴿فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾، ولا من الذين أشارت إليهم الآية الكريمة: ﴿وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾، إنه إنسان دائم البحث عن هذا التوازن؛ أملا في ألاّ يكون من (القوم الخاسرين) ولا من (القوم الكافرين)، بل يحاول التموقع؛ معتقدا بأن الخير كله من الله تعالى، والشر جميعه من قصوره وضعفه.
لابد أن نعلم بأن الله سبحانه وحده هو صاحب القدرة المطلقة، أما الطرف الخارجي فإن قدراته محدودة، لذا ينبغي أن يناضل الإنسان في معركة الفكر والإيمان، وفي هذا الصدد يشير المفكرون أمثال الأستاذ مالك بن نبي، الأستاذ فتح الله كولن، الأستاذ علي عزت بيجوفيتش… إلى ضرورة أن نصوغ علما جديدا هو علم تجديد الصلة بالله عزوجل.
حتى تولد المعرفة، فالأمر مرتبط بمراصد فكرية، وشبكة علاقات قوية تُنسَج بين المشتغلين بالمعرفة؛ فالمطلوب اليوم من هذا الإنسان أن يسعى للعودة إلى مكانه في صفوف الرشد والتمكين؛ يشدّ على يد الضعف، ويُساءل هذه الذات أن تَرشُد، لأنها كلما رشُدت كانت قابلة لأن تنثر بذور الرشد من حولها وتأخذ بيد الآخرين في سبيل الرشاد. كما أن عليه أن يجتمع مع إخوانه؛ حيث يتصافح العقل مع العقل، ويلقي القلب التحية على القلب، أملاً في الخروج من خندق التخلف نحو مروج الحضارة الفسيحة.