تجديد الخطاب الديني: المضامين والإمكانيات

الدكتور رضوان السيد

 

ما نجحنا بعد خمس سنواتٍ بل عشر في مكافحة الخطابات الأُصولية أن نقلِّل من الإقبال على الانضمام الشبابي إلى تنظيمي القاعدة وداعش، والتنظيمات المشابهة. ويزيد هذا الأمر من اعتقاد باحثين كثيرين مسلمين وغير مسلمين، أنّ هذا العنف هو عِرْقٌ أصيلٌ في الإسلام!

أقول هذا هنا واليوم، لأنّ المثقفين العرب المقبلين على التشخيص والأرخنة يربطون أيضاً هذا العنف الهائج بالتقاليد الموروثة حيناً، وبأصول الإسلام القرآنية حيناً آخر. لقد توفّي قبل أسبوع الأستاذ علي مبروك، وهو أحد أساتذة الفلسفة وعلم الكلام بقسم الفلسفة بجامعة القاهرة. وقد خصّص كل كتاباته للهجوم على الأشعرية أو الأرثوذكسية السنية لأنها سبب الفكر الجبري والتخلف، ولأنها شغّلت الدين عند الخلفاء والسلاطين، ولأنها هي الأصل في كل ما نراه اليوم من عنف. وقبل شهر توفي الأستاذ جورج طرابيشي، وقد كانت كتاباته أكثر تنوعاً بكثير من علي مبروك، لكنه ختم حياته الكتابية بدراسةٍ عن السلفية وأهل الحديث توصل فيها إلى ما توصل إليه علي مبروك بشأن الأشعرية. والواقع أنّ معظم كبار الكتّاب العرب مضوا في أحد هذين التيارين: القول أنّ القاعدة وداعشاً وليد التقليد والأرثوذكسية، أو القول إنهما مترتبتان على فهمٍ معينٍ للقرآن والسنة!

إنّ أول شروط تجديد الخطاب الديني يكمن في فهم وتشخيص علل وأسباب الظاهرة الأصولية. ومن المسلَّم به أنه لا يمكن تجديد الخطاب من طريق إزالة الدين، أو إزالة الموروث! ثم إنه كيف يكون التقليد أو الموروث هو علةُ العنف إذا كان الجهاديون جميعاً يتنكرون للتقليد الموروث، تقليد المذاهب الفقهية، والتفسير الكلاسيكي للقرآن، ويعتبرونه انحرافاً عن الدين، ويزعمون أنهم يمضون مباشرةً إلى الكتاب والسنة، وما يرونه ملائماً من سيرة الراشدين

لدينا مشكلةٌ إذن في تفسير الأصوليات أو تشخيص ظواهرها من جانب المثقفين العرب المعاصرين. ومن أجل ذلك ما أمكنهم المساعدة في إنتاج خطابٍ مقنعٍ يتصدى للعنف الوحشي الثائر. لكنْ إذا كان المثقفون عاجزين عن طرح بدائل للخروج من العنف، فماذا عنمن ينبغي أن تكون لهم أولويةٌ في هذا المجال، وأعني بذلك علماء  الدين من المؤسسات الدينية وخارجها، والإسلاميين المثقفين الذين يتسمون بالاعتدال، ويحرصون على دينهم اعتقاداً وسمعةً ونفوذاً واعتباراً. فلا أحد من هؤلاء مهما بلغ من سخطهم على العرب والغزو الثقافي، مستعد لذبح دجاجة، فكيف بقتل وشرذمة مجموعات وجماعات بشرية؟! لكنْ، إذا كان الأمر كذلك، فلماذا رغم شدة الحملات على الإرهاب، ما أمكن صوغ خطابٍ قويٍّ يصرف القتلة عن القتل بسبب إجماعيته، أو على الأقلّ يُضائل من جاذبية خطابات القَتَلة هؤلاء على آلاف الشبان؟! قبل أيام قال فالس رئيس وزراء  فرنسا: المفروض أنّ السلفيات الجديدة  أو الجهادية بين المسلمين الفرنسيين البالغ عددهم خمسة ملايين، لا يزيد عدد المؤمنين بها على الواحد في المائة. لكنهم هم الوحيدون الموجودون في الشارع يتحركون ويفعلون أفعالاً شنيعة!

إنني أعتقد أنّ من أسباب التردد وعدم القدرةعلى إنتاج خطاب واضح: التحويلات القوية في المضامين والتي أجراها الصحويون الإحيائيون على كثيرٍ من المفاهيم مثل الشريعة والجماعة والجهاد والدولة وعلاقة الدين بالدولة، ومسألة المرجعية، والعلاقات بالديانات الأُخرى، وبالناس جميعاً!

والأبسط مناقشة ثلاثة مفاهيم مناقشةً أولية: الشريعة والجهاد والدولة. فعبر سبعة عقودٍ من التأويلات والتحويلات صار الإسلام ديناً ودولة، وصار تطبيق الشريعة المهمة الأولى لتلك الدولة. وإن لم يمكن ذلك بالحسنى يكون بالقوة والجهاد. وكل هذه الأمور يقول بها  الجهاديون جميعاً، لكنّ بعضهم أكثر تكفيراً من بعض، ومنهم من يفضّل مجاهدة العدو القريب(نحن)، ومنهم من يفضّل مجاهدة العدو البعيد! 

وإذا كان هذا هو الموقف من المسلمين والعالم، فماذا تفعل الجهات التي تريد مكافحة الإرهاب، وإيقاف القتل الداخلي، والصراع مع العالم؟ إنها تقول بهذه المقولات جميعاً، لكنها ما عادت تستطيع التنازل عن: الإسلام دين ودولة، ولا عن الدعوة الوهمية لتطبيق الشريعة! وبذلك فإنّ تجديد الخطاب يظلُّ ناقصاً، أو لا تتوافر شروطه الأولية التي ذكرها أحمد بن حنبل عندما قال: المسلمون على ظاهر الإسلام، ولا نكفِّر أحداً بذنب، ونصلي وراء كل إمام، ونجاهد مع كل أمير.

إذا أردنا "حفظ الإسلام على ثوابته المستقرة وأعرافه الجامعة"، كما يقول المارودي، فينبغي الخروج من تحويلات المفاهيم، والإقبال على استعادة السكنية والثقة بالدين وبالمجتمع. وهي جميعاً أمورٌ يسعى أهل العنف لعمل عكسها.

جريدة الاتحاد في صفحة وجهات نظر يوم الأحد10/4/2016

المصدر: http://www.ridwanalsayyid.com/ContentPage.aspx?id=2808#.V1byA9UrLIU

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك