بين الإسلام والديموقراطية

حسن أبو زيد

كثيراً ما تمّت المقارنات بين الإسلام والديموقراطية، سواء من حيث المطابقة والاختلاف، أو من حيث الأصلح والأكمل والأفضل.. وهذه مقارنات لا تأتي بخير أبداً، فما بُنِيَ على باطل فهو باطل، والمقارنة بين الإسلام والديموقراطية مقارنة باطلة فاسدة، فالإسلام دين تعبّد ومنهج حياة، منهج قائم على العدل المطلق وعلى العلم المطلق، العلم بحقيقة الكائن الإنساني وحاجاته وحقيقة الكون الذي نعيش فيه، وهذا لا يتوافر للمناهج البشريّة التي تخبّطت بين نظريّات لم تتأكد فاعليّتها، فهو أشمل وأكمل وأوسع وأعمّ من الديموقراطية التي تقدّم حلّاً لمشكلة جزئيّة، “مشكلة الحكم والتداول والتّعبير عن الرّأي”.

ومن هذا المنطلق فالمقارنة بين الجزئي والكلّي، بين المحدود واللّامحدود، بين المقيّد النّسبي والمطلق، بين المخصّص الضيّق والعام.. مقارنة متهافتة غير علميّة.

ولكن يمكننا النّظر ودراسة العلاقة بين الديموقراطية والشّورى كأحد أهم محدّدات نظام الحكم في الإسلام.

فالشّورى “الائتمار المشترك” هي فلسفة نظام الحكم والاجتماع في الفكر الإسلامي السياسي، فقضاء الله وأمره هو سيادة وحاكميّة إلهيّة، أما قضاء الناس وأمرهم فهو شورى بينهم فيما لم يرد به نصٌّ قطعيّ الثّبوت والدّلالة، وفي معرض المقارنة بين الشّورى والدّيموقراطيّة نرى كثيراً من الباحثين ذهبوا إلى القول بالتّطابق الكلّيّ بين الشورى والديموقراطية، وقسم آخر رأى افتراقاً كلّيّاً بينهما، وبين الرأيين برز الاتجاه الثالث الذي أميل إليه، والذي يقول بوجود مساحة للتطابق والاتفاق ومساحة للتغاير والاختلاف، ولعلّ الجزئيّة الأبرز في الاختلاف بينهما تتجلّى بإشكالية “السيادة الابتدائية في التشريع”، فالديموقراطية تزعم أنّها للشعب صراحة، أو ضمناً عبر اعتناق فكر القانون الطبيعي، فالتشريع عائد للإنسان في الديموقراطية، أما في الشورى الإسلامية فالتشريع لله سبحانه، وهو ليس حقاً بشريّاً ولا طبيعياً، ومن ثمّ فإن للإنسان سلطة البناء على هذه الشريعة الإلهية، والتفصيل لها، والتقنين لأصولها، والتفريع لكلياتها، وكذلك لهذا الإنسان سلطة الاجتهاد فيما لم ينزل به شرع سماوي، شريطة أن تظل “السلطة البشرية” محكومة بإطار الحلال والحرام الشرعي، أي محكومة بإطار فلسفة الإسلام في التشريع، فخلافة الإنسان عن الله في أمره وتدبيره محكوم بإطار “أمر الله وتدبيره” التي هي حاكمية الله وشريعته الإلهيّة كما يقول الدكتور محمد عمارة، فهنا نلاحظ الاختلاف الرئيسي بين الديموقراطية والشورى، كما نلحظه في المقاصد والغايات ، فنرى أن الديموقراطية فكرة وضعية تستهدف تحقيق النفع وإصلاح الدنيا، وذلك بالمقاييس الدنيوية المحضة لهذا الإصلاح، أما الشورى فهي فريضة إلهية تربط بين صلاح الدنيا والآخرة، فتقيس الصلاح الدنيوي بعدّاد قيميّ مرتبط بالآخرة، مما يصلح النيّات ويعظّم الخيرات ويضبط المقاصد.

ويظهر هذا الفرق جليّاعند المقارنة الجزئية ما بين الشورى والديموقراطية، ولنأخذ – على سبيل المثال لا الحصر- قضية الفصل بين السلطات، فهي في الشورى الإسلامية تؤتي أُكُلها وتثمر نظاماً فاعلاً نزيهاً، فقد كان للعلماء والفقهاء قراءتهم للنص الشرعي عبر المواءمة بين فقه النص وفقه الواقع لإنزال الأول على الثاني بما يُعرَفُ اصطلاحا بالاجتهاد، وهو روح التشريع ومبدأ التّقنين، والذي كان مستقلّاً تماماً عن السلطة التنفيذية ومؤسسة الحكم التي كانت تُنتَخَب وتُراقَب وتُحاسَب بكلّ شفافيّة ونزاهة وحرّيّة ممّن اصطُلِحَ على تسميتهم بـ “أهل الحلّ والعقد” من الفضلاء والعلماء والأمراء والوجهاء، أما في الديموقراطية الغربية فقد آلت فيها سلطة التشريع للبرلمان الذي يشكّل الحزبُ الحاكمُ فيه العصبَ الرئيسي والكثرةَ الكاثرةَ المتحكّمةَ بصناعة القرار في المطبخ التشريعي (بالأخصّ في الأنظمة البرلمانية)، وهي بذلك تنحاز انحيازاً واضحاً للسلطة التنفيذيّة التي يتولّاها ذلك الحزب الحاكم، فصارت استقلالية السلطات منقوصة، وأضحى الفصل بينها اسميّاً وصوريّاً أكثر منه فعليّاً!!

الخاتمة:

لا شك أن النظام الديموقراطي في الحكم ليس واحداً في العالم اليوم، فهناك أشكال عديدة له، كالديموقراطية المباشرة، وغير المباشرة “التمثيلية النيابية”، وهذه  كذلك تتفرع للديموقراطية البرلمانية والديموقراطية الرئاسية والمختلطة، وهناك البرلمانية الملكية.. كما نرى الديموقراطية الليبرالية وغير الليبرالية…إلخ

وكل دولة من دول الغرب المتقدّم قد اتّخذت لها شكلاً ونظاماً سياسياً للحكم يناسبها، ويقوم جوهريّاً على الدّيموقراطية، إلا أنه قد يتقارب أو يتباعد مع غيره من الديموقراطيات الأخرى في التفريعات والأشكال والتقسيمات الجزئية.

إلا أن ما تناوله هذا البحث هو جوهر الديموقراطية عموماً، بدون التطرّق لدراسة أشكال النظم السياسية الديموقراطية ومقارنتها، وهذه الأسطر تحاول بحث إمكانيّة الاستفادة مما لا ضرر فيه ولا محظور، فنحن لسنا مقيّدين بصورة واحدة للديموقراطية، ولا بشكل وصيغة مقولبة جاهزة، ونستطيع أخذ ما يلائمنا ويلبي حاجتنا ويراعي خصوصيتنا الثقافية والحضارية والشرعية، وينهض بواقعنا إلى الأفضل، بل إن هذا الأخذ قد يتعدى مجرّد كونه جائزاً إلى أن يصير في خانة الضروريات والحاجيات، فأمّتنا بحاجة إلى نهضة شاملة في كل مناحي العمران “بمصطلح ابن خلدون”، نهضة تقوم على ثنائية لا انفكاك بينها:

الثبات في المبادئ، والمرونة في الأساليب..

ولعله من المناسب أن أختم بما كتبه المستشار الشهيد عبد القادر عودة رحمه الله في كتابه القيم: “التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي” حيث يقول:

“إن النظام الديموقراطي يقوم في الأصل على الشورى والتعاون، ولكنه انتهى بسوء التطبيق إلى تسليط المحكومين على الحاكمين، وانعدام التعاون بينهما، وإن النظام الديكتاتوري يقوم في الأصل على السمع والطاعة والثقة بين الحاكمين والمحكومين، ولكنه انتهى بسوء التطبيق إلى تسليط الحاكمين على المحكومين وانعدام الثقة بينهما. أما النظام الإسلامي فيقوم على الشورى والتعاون في مرحلة الاستشارة، وعلى السمع والطاعة والثقة في مرحلة التنفيذ، ولا تسمح قواعده بتسليط فريق على فريق، وبهذا جمع النظام الإسلامي بين ما ينسب إلى الديموقراطية من فضائل، وما ينسب إلى الديكتاتورية من مزايا ومحاسن، ثم هو في الوقت نفسه بريء من العيوب التي تنسب للديموقراطية والديكتاتورية معاً”.

والله تعالى أعلم وأحكم.

المصدر: https://alfajrmg.net/2014/05/26/%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك