طهران وسياسات القوة العبثية

الدكتور رضوان السيد

 

تبذل إيران منذ منتصف العام 2015 جهوداً هائلةً للاحتفاظ بمناطق النفوذ التي حصلت عليها خلال العقدين الماضيين بسياسات القوة والتسلل. ويتجلّى ذلك بخليطٍ من أربعة أمور: إحياء العداء للولايات المتحدة، وهذه المرة بدون: الموت لإسرائيل!- وتمتين التحالف مع روسيا والصين والهند- واندفاع جديد في سياسات التشييع- ودفع الجيوش والميليشيات التي جنّدتها  إلى سائر الأنحاء بوتيرةٍ أقوى وأسرع وأكثر عنفاً!

في المجال الأول (مع الولايات المتحدة) بدأ الجانب الآخر السلبي، إذا صحَّ التعبير، يبدو للعيان في العلاقة الجديدة مع أميركا  بعد الاتفاق النووي. والجانب الظاهر يتجلَّى في استمرار الحملات الأميركية على سياسات الصواريخ الباليستية الإيرانية، وإصدار محكمة أميركية حكماً يقضي بالتعويض بأكثر من ملياري دولار على أهالي أميركيين سقطوا ضحايا هجمات شنّتْها جماعاتٌ إرهابيةٌ تدعمها إيران. وستُدفع التعويضات من الأموال الإيرانية المحتجزة بالولايات المتحدة منذ السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. لقد جُنَّ جنون الإدارة الإيرانية بشقَّيها (الخامنئي والروحاني) من التصرفين الأميركيين. فالتقى وزير الخارجية ظريف عدة مرات مع كيري مهدِّداً بالويل والثبور وعظائم الأمور إن أُخذت التعويضات من الأموال الإيرانية. وقد حاول كيري تهدئته دون أن يستطيع الوعد بشيئٍ بالطبع؛ باعتبار أنّ القضاء مستقل، وأنّ التحقيقات استمرت حوالى العقدين ولا يمكن التشكيك فيها.

وكانت إيران قد فهمت من الاتفاق النووي، أنه بمجرد تنازلها عن إنتاج أسلحة دمار شامل، سيكون بمقدورها تطوير سلاحها الصاروخي (الدفاعي). بنيما نصَّ الاتفاق على أنّ الصواريخ البعيدة المدى لا تُعتبر أسلحلةً دفاعية. وعلى أي حال؛ فإنّ إيران زادت تجاربها على الصواريخ الجديدة (ذات الأصول الكورية والصينية والروسية)، كما زايد روحاني على الحرس الثوي بالطلب من البرلمان اتخاذ قرارٍ بزيادة القدرات الصاروخية للبلاد.

 

وقد عملت إيران طويلاً على العلاقات مع الصين والهند وروسيا. والصينيون والهنود يستوردون الطاقة من إيران، ويصدِّرون السِلَعَ الاستهلاكية والإلكترونيات الرخيصة مقارنةً بنظائرها الغربية. واتفاقيات الطاقة مع روسيا الغنية مثل إيران بالبترول والغاز تنصبُّ على تطوير الحقول والمعدات للاستخراج والتركيز. بيد أنّ أعظم الاتفاقيات هي اتفاقيات شراء السلاح الثقيل والطائرات والسفن الحربية. بل يصل الأمر إلى التعاون العسكري في أماكن مثل سورية واذربيجان وفي استخدام حزب العمال الكردستاني ضد تركيا. وفي لوم الحكومة الأفغانية لعدم التعاوُن مع باكستان بحجة مغازلتها لطالبان. لكن هنا أيضاً تبدو مشكلة الاموال مستعصية. إذ كل التجاذُبات خلال سنوات بشأن تزويد الروس لإيران لصواريخ (300S. ) تمثلت في الاختلاف على طرائق الدفع وزمانها. وقد استمر التجاذب إلى قبل ثلاثة أسابيع، حين قيل إنّ إيران استلمت الصواريخ أو لم تستلمها، وربما لنفس المشكلة!  وعلى أي حال ليس من المعروف كيف "نعوّض" إيران على روسيا بالمعنى الكبير في المسارعة لإنقاذها في سورية بعد إذ عجزت إيران خلال أربع سنواتٍ عن إنقاذ نظام الأسد. يقال عادةً إنّ روسيا لها  أهداف استراتيجية مستقلة، وقد صارت طرفاً رئيسياً في الصراع، وهذا صحيح. لكنّ إيران زادت تكلفتها لاستثمار العمل الجوي الروسي، بإرسال عشرات الألوف من الجنود والحرس والميليشيات الشيعية إلى سورية، وبخاصةٍ في حلب وشمالها لمضايقة تركيا، بعد أن تركز الجهد في السنوات الماضية من حول دمشق، وفي القلمون، وطرق  الإمداد بين دمشق وحمص ومناطق الساحل.

ولنمض مباشرةً إلى الجهد العسكري الإيراني الفائق هذه الأيام، بل ومنذ منتصف العام 2015. كان جنرال إيراني قد زعم أنّ إيران جندت مائتي ألف من غير الإيرانيين لدعم جبهة الممانعة، ومقاومة الإمبريالية الأميركية، والدول العربية المعادية للثورة الإيرانية(!). وما حدثت الحملاتُ في كل المواطن والأوقات دفعةً واحدة. لكنها تبلغ الآن ذُراها مع خليطٍ من أكثر من أربعين ألفاً في سورية. وهي تندفع بعشرين ألفاً في العراق في ديالى وصلاح الدين (إبعاد العرب السنة عن الحدود الإيرانية والاقتراب من الحدود السعودية، وفي طوزخورماتو بالمنطقة الكردية استناداً لأقلية التركمان الشيعية والقتال باسمها. وهذا إضافة بالطبع إلى عشرات الألوف من أكثر من أربعين تنظيماً عراقياً تنضوي جميعاً تحت لواء " الحشد الشعبي". وفي إيران، كما هو معروف، ملايين اللاجئين الشيعة من أفغانستان وباكستان، والأكثر من أفغانستان. ومن هؤلاء إضافةً لحزب الله والميليشيات العراقية عشرات الأُلوف دُرّبوا وأُرسلوا إلى سورية. وقد قُتل منه ألوفٌ  في البداية لضآلة التدريب وعدم معرفة البلاد. ولأنّ المبالغ المدفوعة لهم ما كانت مغرية، فقد أقرّ البرلمان الإيراني أخيراً قانوناً يجوز بمقتضاه تجنيس أهالي الشهداء وأبنائهم ممن قُتلوا وهم "يجاهدون" مع من جهاتٍ إيرانيةٍ رسمية، دفاعاً عن مصالح الثورة الإسلامية.

ونصل إلى الجَهد الإيراني الكبير في "التشييع" منذ الثمانينات من القرن الماضي إيران تدعم  جمعيات شيعية كثيرة في سائر أنحاء العالم. وقد طوّرت ذلك في بعض النواحي الملائمة إلى تنظيمات مسلَّحة أو غير مسلَّحة للاستيلاء ونشر الاضطراب. وفي عز أيديولوجيا الثورة والقدس وفلسطين نشرت ودعمت نوعاً سميتهُ: التشيع السياسي. وهي تنظيمات سنية في فلسطين (حماس والجهاد)، وفي غير فلسطين بالطبع. وكان المقصود بذلك حشد أنصار في البيئات السنية، ورفْع شبهة الطائفية والمذهبية. إنما مع تضاؤل الموارد، وتضاؤل شعبية إيران في العالم السني على أثر احتلال غزة وبيروت وصنعاء والتدخل في سورية والعراق واليمن ولبنان والبحرين والكويت؛ فإنّ الجمهورية الإسلامية رأت أن تقصُر الأمر على "التشيع المذهبي"، بمعنى التركيز على تشييع أو شيعنة السنة ولا شيئ غير. وكان وجهاً من وجوه هذا التركيز ضآلة الاهتمام بحماس والجهاد إلى الحدود الدنيا، والتوقف عن الدفع لميليشيات سنية كثيرة. وحتى في غزة تشيّع عشراتٌ سمتهم إيران: الصابرون. فليس هناك اليوم أي بلد في إفريقيا وآسيا  إلاّ وفيه فريقٌ للتشييع!

ولأنّ الموارد ما عادت بالوفرة نفسها، فقد رأى المرشد الأعلى، أن يفصل بين النشاطات، فيجعل التشييع ورعاية الشيعة، تحت قيادته مباشرةً. ولذلك تغير ممثلوه في هذه الفترة في نواحي كثيرة من العالم. وما عادوا يداومون في السفارات الإيرانية بالبلدان المختلفة. فكأنما هي دويلةٌ في الدولة، ويقال إنّ هذا النظام مأخوذ من نظام فتح الله غولن الداعية التركي الشهير أو أنه تقليدٌ لعمل المراجع الدينية الشيعية الكبرى الذين لا يعترفون بالحدود، ولهم أتباع في كل مكان. 

إيران اليوم في أقصى حدود أو درجات الانتشار. وهي تعلل هذا الجهد بالعداء الأميركي والسعودي والتركي. وضرورة الدفاع عن مصالحها في المناطق التي حصلت أو تريد الحصول عليها . ولذلك توقعت أن تفشل مفاوضات الهدنة والسلام بشأن اليمن وسورية. بيد أنّ "المشروعات" التي دخلت فيها هي المشكلة، إذ ما هو مستقبل الاستثمار في بشار الأسد وتغيير هوية سورية، أو في تعطيل الدولة اللبنانية، أو في نشر الفوضى في اليمن، أو استمرار العمل  في تدمير العراق؟ّ! إنها القوة العبثية أو اليائسة، إلاّ إذا كان الهدف الأوحد نشر الخراب في كل مكان، حتى في المواطن الشيعية!

جريدة الشرق الأوسط في صفحة الرأي يوم الجمعة 6/5/2016

المصدر: http://www.ridwanalsayyid.com/ContentPage.aspx?id=2820#.V1M-RdUrLIU

الأكثر مشاركة في الفيس بوك