جذور التسامح العماني
حاتم الطائي
في الوقت الذي تغلي فيه منطقتنا العربية على مرجل يفور بنيران التطرف والحروب والدمار، يعمل العُمانيون على تكريس نموذج فريد من التسامح والتعايش والسلام، وهو نموذج مُتأصِّل، ومكوِّن أصيل من مكونات وهُوية الشخصية العُمانية، وتمتدُّ جذوره عميقا في تربة التاريخ ويستمد ديمومته من جُملة عوامل سنعرض لها تفصيلا. وقد ترسَّخ هذا المفهوم، واكتسب أبعادا جديدة بدافع من قوة الإرادة السياسية التي يُجسِّدها السلطان قابوس -حفظه الله- حيث انتهجَ ومنذ العام الأول في عهده الزاهر قبل أكثر من خمسة وأربعين عاماً، نَهْجًا فريدًا من التسامح والصلح، في اتساق وتناغم مع التجربة التاريخية العُمانية، مع إضفاء مزيد من الفاعلية والديناميكية عليها، وحرص بالغ على استمرارية هذا "الحبل السُّري" الذي يُمثل الرباط الذي يشدُّ حُقَب التاريخ العُماني إلى بعضها البعض، ويزيد الهُوية العُمانية تماسكا وتفرُّدا.
فهُناك عوامل أساسية أسهمت في تشكيل نَهْج التسامح العُماني على مدى أكثر من خمسة آلاف عام، يُمكن إجمالها في ثلاثة عوامل؛ هي: الموقع الجغرافي، والتاريخ البحري، والإرادة السياسية. وسنحاول عَبْر هذه السطور استقراء دور وتأثيرات هذه العوامل في بلورة هذا النهج المتفرد.
الموقع الجغرافي
فيما يتعلَّق بعامل الموقع الجغرافي، فإنه -وكما هو معروف- تقع عُمان في أقصى شرق العالم العربي، وتطل على ثلاثة بحار -منها المحيط الهندي- وهي بهذا تُجاور من جهة الشرق كلًّا من: الهند، وإيران، وباكستان، وعلى مسافة بحرية ليست ببعيدة عن القرن الإفريقي وشرق إفريقيا. وقد سَاعَد هذا الموقع الفريد على التواصل مع شعوب غير ناطقة باللغة العربية منذ فجر التاريخ، كما أنَّ تميُّز الموقع الإستراتيجي أهَّلها للاستحواذ على طُرق الملاحة التجارية في فترة مُبكِّرة من عُمر التاريخ. وقد أتاح ذلك للعُمانيين القيام بدور مهم لتبني السلم والسلام كنهج للتعايش مع الآخر وتبادل المصالح التجارية.
كما أنَّ امتدادَ سواحل عُمان من مضيق هرمز شمالاً وحتى الحدود مع اليمن جنوباً -والتي تضم بيئات مناخية مختلفة تتدرَّج من شبه إستوائي إلى صحراوي ومداري- ينعكس على التنوع البيئي، والذي بدَوْره يُسهِم في إثراء التنوع وقبول الآخر.
وفي البيئة الداخلية، أيضًا أسهم نظام الأفلاج -الذي يُمثِّل استجابةً عبقريةً لتحدِّي المكان والجغرافيا، ويُعدُّ نظامًا فريدا لا يوجد سوى في عُمان- في تشكيل الهُوية العُمانية ضمن نهج التسامح والصلح لضمان استمرارية الفلج الذي يُعد بمثابة شريان للحياة؛ فانتعشتْ تبعا لذلك الواحات الزراعية والتي عملتْ على تعميق التعايش وتعزيز السلم بين السكان.
إذًا.. لعبتْ الجغرافيا دورًا ملموسًا في تجذير نهج التسامح لدى الشخصية العُمانية.
التاريخ البحري
وفيما يتعلَّق بتأثير التاريخ البحري، نجد أنَّ الاكتشافات الأثرية الحديثة في مواقع رأس الحمراء ورأس الحد ورأس الجنز، تُشير إلى ريادة العُمانيين الأوائل للبحار المفتوحة منذ ما يربو على الخمسة آلاف سنة قبل الميلاد، وهو تاريخ مُوغِل في القدم.. ويحفظ للعُمانيين السبق في عبور البحار المفتوحة في سفن صغيرة شقوا بها عباب المحيط الهندي، وعملوا في التبادل التجاري بين الهند وفارس وبلاد ما بين النهرين، واستمرَّت سيطرتهم على الطرق البحرية المطلة على المحيط الهندي حتى مجيء البرتغاليين في القرن السادس عشر الميلادي. وطوال هذا التاريخ الطويل، كان العُمانيون يعملون كبحارة وتجار؛ فبرعوا في الملاحة البحرية، وأسَّسوا إمبراطورية تجارية قامت على التبادل التجاري مع الشعوب باختلاف لغاتها وأديانها، في إطار نهج من التفاهم والتسامح وتثبيت قيم التعايش المشترك، وتكريس التعامل القائم على الإنسانية دون تفرقة بين الشعوب التي تعاملوا معها -من الهند وإفريقيا وبلاد فارس- رغم ما تحويه هذه البلدان من تعدُّد إثني وثقافي. وقد كان لهذا التعامل مع هذا العدد من الحضارات والإثنيات أثره البالغ في توطيد نهج التسامح، ونجاح الإمبراطورية العُمانية في مدِّ صلات وثيقة مع دول العالم، والتي بلغتْ أوجَّها آنذاك في عهد السيد سعيد بن سلطان؛ حيث وصلتْ السفينة "سُلطانة" إلى نيويورك لتكون بذلك أول سفينة عربية تصل إلى أمريكا.
لقد تمثَّل العُمانيون وهم يمخرون عباب البحار قوله تعالى: "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا"؛ ليُبحروا بمعية قيمهم الفاضلة التي ترسو معهم أينما حلوا، ناشرين التعارف مع العالم: رُسل سلام وتسامح، ودعاة إخاء ووئام، يعتمدون في إنهاء معاملاتهم المهنية التجارية على الأمانة والثقة لضمان استدامة مصالحهم، ومنتهجين مبدأ "السلام والأمان". ومن هنا، نجد الجذر التاريخي لمنهج التسامح العُماني الضارب في القدم، والذي يبقى نهجا أصيلا ومكوِّنا أساسيا للهُوية العُمانية.
لم تقتصر مُهمَّة النشاط البحري للعُمانيين على الجانب الاقتصادي واكتساب المعيشة، بل تجاوزتْ ذلك إلى إرساء قيم للتواصل مع الآخر، تقوم على الاحترام المتبادل والفهم المشترك؛ لذا نجد أنَّ للتاريخ البحري العُماني دورا في غاية الأهمية فيما يتعلق بترسيخ نهج التعامل الحضاري مع العالم، حتى عُرفوا بأنهم شعب سلام وتسامح، يسعون لنشر هذه المبادئ السامية لتعم العالم.
الإرادة السياسية
ولأنَّ الحفاظَ على القيم وضمان ديمومتها مرهونٌ -في جانب منه- بتوافر الإرادة التي تحرص على إبقاء جذوتها حية في النفوس حتى لا تتأثر سلبا بالمعطيات العصرية والتقلبات الاجتماعية، تبرُز أهمية هذا العصر الزاهر في صَوْن القيم العُمانية الأصيلة؛ وفي مقدمتها: التسامح وتطوير مفهومه ليصبح رؤية متكاملة تصلح للتأسيس عليها؛ لخلق مناخات تعايش بين مختلف الكيانات والدول.
وقد وظَّف السلطان قابوس هذا الفهم المتقدِّم للتسامح ليكون بمثابة منطلق للسياسة الداخلية والخارجية لعُمان؛ فداخليًّا ضرب جلالته أروع الأمثلة لقيادة السفينة العُمانية إلى برِّ الأمان في منطقة تعجُّ بالصراعات والنزاعات؛ فابتعدتْ عُمان عن الفتن والحروب والتحالفات لتؤسِّس لنفسها مكانة مُقدَّرة بين شعوب العالم وبشهادة الجميع، ضمن ثوابتها الرئيسية بعدم التدخل في شؤون الغير وعدم قبول تدخل الآخرين في شؤونها الداخلية.
وخارجيًّا.. كان لعُمان دَوْر أساسي في إطفاء بؤر التوتر في العديد من القضايا، كما أسهمت في التوصل لاتفاقيات بشأن أمن واستقرار المنطقة. ومن ذلك -وعلى سبيل المثال وليس الحصر- الاتفاق النووي الإيراني-الأمريكي، كما أنه وخلال الحرب العراقية-الإيرانية التزمت عُمان الحياد الإيجابي، ولطالما دعتْ الأطراف المتنازعة إلى وقف سفك الدماء واللجوء إلى الخيار الدبلوماسي والسياسي لحل الخلافات، إضافة للكثير من الأمثلة المشابهة على النجاحات العُمانية التي جاءتْ نتيجة التزامها نهجَ التسامح والسلام والصلح، مُغلِّبة إياه على غيره من وسائل صراع غير حضارية تكلف البشرية الكثير.
إنَّ التسامحَ بأشكاله وصوره ومظاهره المختلفة، يظل نهجا أصيلا للعُمانيين بامتياز، وهو ليس طارئا، بل تشكَّل على مدى قرون من معطيات الجغرافيا الاقتصادية التي أجاد العُمانيون توظيفها في ابتداع مفاهيم إنسانية قادرة على بناء الحضارة بالتعارف والتفاهم والعيش المشترك، بعيدا عن الصراع والاحتراب.