التعايُش في فضاء عالمي مضطرب

أ.د. محمد غانم الرميحي



في محاضرة ألقاها المفكِّر الاستراتيجي الأميركي السيد زبينغيو برزجنسكي، قال إن العالم اليوم به ثلاث قوى عظمى، هي الولايات المتحدة وروسيا والصين، ولكن أي منهما لا يقدّم قيادة فعالة للعالم، أي أن العالم اليوم فاقد القيادة، ولهذا الفقدان أسباب عديدة على رأسها صيرورة التاريخ، حيث تقوى الأمم وتتقدّم للقيادة، ثم تضعف تدريجياً وتتراجع، نحن الآن في عصر تراجع القوة الأميركية الني صعدت بسرعة لقيادة العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وفي مرحلة تنافس بين قوى تقليدية لم تبرز إحداها حتى الساعة للقيادة. البعض قد لا يلحظ هذا التراجع، لأنه تدريجي ويأخذ فترة من الزمن، ولكن هكذا كان مع قوى في التاريخ آخرها بالطبع الإمبرواطورية البريطانية التي كانت تُوصف أن (ممتلكاتها لا تغيب عنها الشمس) بعد الحرب العالمية الثانية كانت الإمبراطورية البريطانية تعتقد، أو على الأقلّ سياسيوها، أنهم بصدد إنعاش تفوّقهم، في الحقيقة أخذ الانحدار حتى التلاشي في التأثير العالمي حوالي ثلاثة عقود لا غير، وما أن جاء منتصف عقد السبعينيات من القرن الماضي حتى أصبحت بريطانيا دولة مثلها مثل الدول الأخرى تعصف بها الأزمات الاقتصادية وتتوّزع بين الاجتهادات السياسية في الداخل. الأمر بالضبط يحدث في الولايات المتحدة اليوم، وما نشهد من (استجداء) لأصوات الناخبين من قِبَل المتنافسين للوصول إلى البيت الأبيض، عن طريق إرسال رسائل (عنصرية) مليئة بالكراهية ضد الآخر المختلف، يعني الإفلاس الحضاري والتراجع القيمي للقوة الكبرى، كما يفعل المرشح الجمهوري دونالد ترامب، مؤشر إلى الانحدار، يعني ضمن ما يعنيه إثارة الاضطراب الاجتماعي في الداخل والخارج. من جانب آخر يبدو أن السيد فلاديمير بوتين يحنُ إلى الإمبراطورية الروسية التي تحوّلت إلى سوفياتية، ثم انتهت في بداية تسعينيات القرن الماضي إلى دولة، ترغب أن تُعيد الماضي، والماضي للشعوب كما هو للإنسان الفرد لا يعود من جديد لتدخل في مغامرات تُثير من جديد الكراهية والمشاعر السلبية. في هذا الجو المضطرب نشهد الصين، التي تقف على خط التماس متفرّجة، وربما متشوّقة، أن تعلب دوراً عالمياً، إلّا أن قدرتها التي حصلت عليها في الاقتصاد لا تماثلها قدرات سياسية، لأن النموذج الذي تقدّمه لا يحمل أية إغراءات للآخرين للسير في مساره. 



العالم إذاً في مرحلة صعبة من التحوّل الكبير، الذي لا بوصلة له حتى الآن، ولا فكر أو رجال يقودونه. يرى بعض معلّقي الثّقافة أننا أمام مشهد يشابه إلى حَدٍّ ما في عمومه مشهد العالم قبل الحرب العالمية الثانية (وحتى الأولى) من انشطار كامل وتضارب عميق في المصالح وغياب التوافق، وتوقع أن القوة هي التي يمكن أن تحلّ المشكلات، وهي لن تفعل هذه المرّة، بسبب التغيّرات الهيكلية دائمة الحركة على النطاق العالمي، خاصة في العُدّة العسكرية. وحتى مجلس الأمن الأداة التي اخترعها المنتصرون بعد الحرب العالمية الثانية لحلّ النزاعات، لم تعد قادرة على وضع حلول للصراعات التي تنتشر في العالم، وجلّها صراعات يغذيها التنافس بين القوى الكبرى التي تفقد قدرتها على الحسم أو على الانتصار، فتحارب بعضها من خلال وكلاء مختلفي المشارب أو من خلال أدوات ضغط مثل الحصار والمقاطعة، بل وحتى العمل مع شبكات الجماعات السريّة!!



يجري الإخلال بالتعايُش بمعناه العام على المستوى العالمي وعلى مستوى المجتمعات المحلية من خلال أربعة متغيّرات هي الأكثر بروزاً في إحداث خلل في التعايُش الحضاري في هذا الزمن وتفعل فعلها في العلاقات الدولية وفي العلاقات البينية بين شرائح المجتمع الواحد على حَدٍّ سواء، ويعتمد عمق تأثيرها على ظروف محلية وإقليمية تغذّيها سلباً أو إيجاباً.



المتغيّر الأول



الصراع الدولي المحتدم الذي سبّبه فقدان القيادة الدولية الفاعلة، وانهيار الإمبروطريات التي سادت إبان القرن العشرين، فقد بدا ذلك القرن وكأن الصراع قد انتهى من الساحة العالمية، وما هي إلّا عشرون عاماً حتى حصدت حرباً ضروساً سُميت الحرب العالمية الأولى أرواح ملايين البشر، واختفت إمبراطوريات عاشت مئات السنين، مثل الإمبراطورية العثمانية أو النمساوية/ الهنجارية، أو القيصرية الروسية، وبرزت دول جديدة قوية على سطح العالم سمت نفسها (إمبراطورية) وبعد عقدين من الزمان بقليل اضطرب العالم من جديد، واكتسحت النازية الألمانية التي خرجت مهزومة قبل عشرين عاماً العالم بقوة جحافل الرايخ الثالث (رايخ الألف عام كما كانت تقول الدعاية الألمانية)!، إلّا أن تحالف الفاشيست الإيطالي مع النازية الألمانية سرعان ما انهار أمام تحالف سوفياتي/ أميركي غربي (بريطانيا وفرنسا) وصعدت دول وقوى حديثة، هذه المرّة استمر بعضها إلى أكثر من ثلاثة عقود، ثم انتهى الصراع بين المنتصرين بخروج الاتحاد السوفياتي وانتهاء صيته المدوي. هذه الفترة، أي بعد الحرب العالمية الثانية والسنوات التي تلت تفتق ذهن المتصارعين على حروب جديدة، هي الحروب بالوكالة (حيث امتنع تقنياً شن الحروب الكبرى بسبب تطوّر أسلحة الدمار الشامل التي يمكن أن تمحي الأرض ومن عليها) لا زالت هذه المرحلة تفعل فعلها حولنا وقد مرّت بمرحلتين: الأولى مرحلة الحرب الباردة، وتقسيم العالم إلى معسكرين، والمرحلة الثانية التي نعيش وهي مرحلة الحروب بالوكالة، مع إضافة جديدة هي ضعف القوى الكبرى، وصعود قوى أقلّ ولكنها تملك الخلطة السحرية (القوة النووية المدمرة) وجلّها من دول العالم الثالث، ومن هنا فإن البشرية تغادر مكاناً في التاريخ لتدخل آخر، أصبح له لاعبون جدد يستطيعون أن يعطلوا هيكلية التعايُش، سواء في داخل الأوطان أم بين الشعوب، هؤلاء اللاعبون الجدد هم قوى ما دون الدولة، أو دول تسمى مارقة.



المتغيّر الثاني 



في هذه الأثناء (أي مرحلة ما بعد الحرب العظمى الثانية)(1) بدأ ظهور الدول الصغيرة والمتوسطة في كل من آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، واستُقطبت هذه الدول أو معظمها إلى المعسكرين اللذين تقابلا في خصومة بعد الحرب الثانية، وهما (الدول الرأسمالية) والأخرى معسكر الدول (الاشتراكية)، على اختلاف الأشكال التي اتخذتها تلك الدول الجديدة في الممارسة في أي من الرأسمالية أو الاشتراكية!، وأصبح كثير من هذه الدول الجديدة في مكان قريب أو بعيد لطرف خصيم للآخر، إلّا أن ما يجمع معظم تلك الدول (التي سميت نامية) خلل في الحوكمة عند معظمها، تقلبت فيه مجتمعاتها من حكومات عسكرية ديكتاتورية، أو حكومات مدنية أيضاً ديكتاتورية، أو شبه ديموقراطيات هشّة، شابها ضمور الحوكمة الرشيدة (المشاركة والشفافية والحكم بالقانون) وزيادة جرعة الفساد، كل تلك العوامل جعلت ما يمكن تسميته بمرض الانحباس الديموقراطي يتفشى في معظم تلك الدول، الأمر الذي نتج عنه إما حروب أهلية أو حروب بينية أو حركات إرهاب، مما دفع قطاعات كبيرة من هذه الشعوب إلى نبذ الآخر (المستعمر) الداخلي، كما في جنوب إفريقيا وفلسطين، أو الخارجي، كما في حروب التخلُّص من الاستعمار. إلّا أن انحباس الديموقراطية والتدخل الخارجي، كان لهما أثر كبير في فشل الدول الصغيرة وانهيارها تحت الضغوط، خاصة ضغوط التنافس بين القوى الكبرى والحروب بالوكالة. وظهر شيء اسمه (الإرهاب) وتفشّى، وكان ظهوره الأكبر في أفغانستان، المكان الذي أصبح أولاً حاضنة للحروب بالوكالة ثم حاضناً للإرهاب. كان تشجيع حركات (المقاومة) للمعسكر الآخر مكاناً لتفريخ (الإرهاب) بعد ذلك.



المتغيّر الثالث



زاد من سرعة الاستقطاب والصراع وانحسار التعايُش ثورة وسائل الاتصال الاجتماعي في العقدين الأخيرين، والتي هي الآن في كل ما نعرف (جنينية) ويرى الخبراء أنها سوف تزداد سرعة وانتشاراً، فلم تعد هناك (بوابة) حكومية محلية أو دولية تمنع وصول الأفكار والمعلومات أو تقلّل من التشابك والتجنيد. يقول الكاتب الأميركي توماس فريدمان في مقال نُشِرَ له الأسبوع الثاني من ديسمر/كانون الأول 2015 بعنوان (لست أميركياً) إنه كان في الكويت في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2015 وسأله أحدهم عن تصريحات دونالد ترامب، بعد ساعات من إطلاقها في أميركا عن (وجوب قفل المساجد)(2) هكذا هي وسائل الإعلام الجديدة التي تنقل الأخبار بسرعة غير مسبوقة، وهي تحمل الكثير من المخاطر من جهة، والفرص من جهة أخرى، ولكنها بالتأكيد تنحى نحو إشاعة سريعة للضرر بين المكونات البشرية، وتقلِّل من فرص التعايُش الحضاري والانسجام الإنساني، لأن البشر جُبِلَ بطبعه على ما يمكن أن يُسمى (حب الدم) أو (الأخبار السلبية والمؤججة للعاطفة) هذه الوسائل في أيدى العامة من الناس، تساعد إلى حَدٍّ كبير في إشاعة مساحة من عدم التسامح بين الثّقافات المختلفة وبين الدول وبين الجماعات في الدولة الواحدة، بل وتستخدم لتلميع وتسويق الأفكار المتطرّفة الدينية والمذهبية والعرقية والاقتصادية، وتشويه سمعة آخرين مختلفين في الاجتهاد السياسي أو الديني أو المذهبي، وتزداد سرعة انتشار تلك الوسائل حتى غدت (ميدان) معركة للأفكار والرؤى وترويج السياسات.



المتغيّر الرابع



الإرهاب بأشكاله المختلفة هو المحك هنا، ولكن يجب أن نتوقّف مليّاً للنظر إلى المفهوم علمياً، فقد كان دائماً هناك خط رفيع بين الحركات التي تنادي بالتحرّر الوطني وبين الإرهاب، هذا الخط الرفيع يتلاشى عند تغيير المناخ السياسي، ولو أن الفروقات بين حركات التحرّر وبين الإرهاب (اي استخدام العنف) فروقات معيارية، فإن حركات التحرّر لها (أجندة أو منافستو فكري)، في الوقت الذي لا تحمل حركات الإرهاب العنفية الأخرى أجندة سياسية أو أن تلك الأجندة غير مرغوب فيها أو معترف بها أو خارجة عن سياق التاريخ! مثال: فحتى سنوات قليلة مضت كانت منظمة التحرير الفلسطينية تُسمى (إرهابية) إلى درجة أن مندوب الولايات المتحدة في الأمم المتحدة اندروينج، عندما جمعه السيد عبد الله بشارة، مندوب الكويت في أواخر السبعينيات من القرن الماضي (1979) في تلك المؤسّسة، على غداء مع مندوب مراقب لفلسطين زهير الطرزي، وعلمت الصحافة بذلك، شنّت حمله ضد المندوب الأميركي اضطرته للاستقالة(3)، والآن نرى منظمة مثل طالبان حتى الأمس القريب كانت تُصنّف بأنها إرهابية، اليوم تُجري مباحثات بينها وبين الحكومة الأفغانية، من أجل المشاركة في الحكم، وكذا ينطبق على حزب الله اللبناني الموكول إليه من إيران، حمل الكثير من المهمات غير السويّة سياسياً، يشارك في الحكم اللبناني، أما حزب الدعوة العراقي الذي قام بأعمال إرهاب في الثمانينيات من القرن الماضي في عدد من البلدان من بينها الكويت، فيشارك اليوم، وحتى بأشخاص متهمين بالقيام بأفعال إرهابية ارتكبت بأيديهم، في الحكم القائم في بغداد(4). 



إلّا أن شكلاً من الإرهاب تقوم به الدول أيضاً، وخاصة الفاشلة؛ فمفهوم إرهاب الدولة أمر متداول، أي استخدام العنف عشوائياً ضد المواطنين، وهو أمر يُرتكب اليوم من قبل النظام السوري على نطاق واسع. ضد شعب أعزل، إلّا أن الجماعات ما دون الدولة هي الأكثر خطورة لأن إرهابها مباغت لا يعرف أحداً متى يضرب أو أين يضرب، فأحداث باريس 13 نوفمبر 2015 أحدثت صدمة اتّسقت مع التهجير الضخم للسوريين باتجاه أوروبا، فغاصت أوروبا في مشكلة لم تألفها قط، بين شعارات التسامح والمساعدة والقبول، وبين الخوف والريبة من القادمين الجدد، إلى درجة أخذ احتياطات متشدّدة عند عبورهم إلى الأراضي الأوروبية، علاوة على ما يكلّف اقتصادات تلك الدول من خسائر. ولأن الإرهاب كمفوهم لا زال مختلفاً عليه وغير مُقنّن في القانون الدولي، فإن الموقف منه يعيدنا إلى المقولة المعروفة إن (حركة تحرير للبعض، هي إرهاب للبعض الآخر، والعكس صحيح)، ولكن بالنتيجة فإن الضحية الأولى لكل أشكال الإرهاب هو التسامح والقدرة على التعايُش وقبول الآخر.





الاستنتاج





إن التعايُش والتسامح الحضاري في هذه الفسحة من الزمن (العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين) يمران بأزمة أخلاقية طاحنة تختلط فيها الألوان وتتضارب الاجتهادات، والخاسر الأكبر فيها هو قيم حضارية أساسية ناضل الإنسان في أماكن مختلفة وبأشكال شتى للوصول إليها، ومن هنا فإن الاعتراف أولاً بأهيمة القضية وتأثيرها العميق على حضارة الإنسان، هو أول الطريق للبحث عن حلول عقلانية لها، تبدأ بعدم الانجرار وراء التعميم أو تعظيم المخاوف من الآخر والنظر إلى الظاهرة نظرة علمية ومحاولة بيان أسبابها العميقة ودوافعها وتاريخ صيرورتها، واقتلاع جذور تلك الأسباب، وتبقى الحلول على المدى المتوسط في إقامة الدولة الوطنيّة المدنية العادلة والمؤسّسية القابلة بالتعدّدية على قاعدة المواطنة المتساوية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



1 - بدأت الأمم المتحدة بخمسين دولة فقط هي التي وقّعت على وثيقة الإنشاء.. هي خمسون دولة (بولندا وقعت لاحقاً)، والآن عدد الدول المنضمة للأمم المتحدة 193 دولة عدا المنظمات المراقبة!



2 - نقل المقال بالعربية في جريدة الشرق الأوسط بتاريخ الخميس 10 ديسمبر 2015، في الوقت الذي صرح ترامب من جديد بوجوب منع المسلمين من دخول الولايات المتحدة.



3 - كان ذلك في ولاية السيد كارتر كرئيس للولايات المتحدة!



4 - أحدهم جعفر محمد علي الإبراهيمي المحكوم بتهم الإرهاب في الكويت هو المعروف بـ«أبو مهدي المهندس»، الآن نائب رئيس الحشد الشعبي العراقي!!!

المصدر: http://www.aldohamagazine.com/article.aspx?n=B76AFE53-723B-4678-92B3-AEA...

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك