صدام التعايُش الحضاري

د. حسين محمود 





لم تنقطع قنوات الاتصال بين الشرق العربي والجنوب الأوروبي على مَرّ التاريخ. ذلك التاريخ الذي يحكي سير البطولات والمعارك الطاحنة بين الطرفين، كما يحكي بالقدر نفسه من الحماس العلاقات التجارية والإنسانية بينهما. ومن هنا فإن إحدى هذه القنوات كانت بلا شك الحرب. وكما يقول ابن جبير في رحلته «أهل الحرب مشغولون بحربهم والناس في دِعة»، وهو يصف حال سكان عكا التي زارها إبان الاحتلال الصليبي لها، فوجد العرب والصليبيين يختلفون إلى المقاهي نفسها ويشربون معاً، ويتزاوجون فيما بينهم. هذه الحرب الغاشمة، وكل الحروب غاشمة، كانت لها جوانب إيجابية كثيرة على العرب وعلى الغرب في الآن نفسه. يحكي أسامة بن منقذ قصصاً كثيرة عن العلاقات التي أقامها مع الصليبيين إبان احتلالهم لتلك الأراضي، وكانت كلها علاقات تعايُش ثقافي بينه وبين أعدائه، انتقلت من خلالها فنون أدبيّة في الشعر والقصّة، كما انتقلت معارف كثيرة من الشرق إلى الغرب، وانتقلت زراعات، وعلوم، وتطوّرت في ظِلّ الحرب صناعات، وخاصّة الصناعات الحربية، كما كان هناك جهد فكري وفلسفي دفع الصليبيين إلى التماس أسباب النهضة في الشرق، وأن ينهلوا من منابع العلم الإسلامي الموجود بين جنبيهم، في الأندلس وصقلية، ويبدؤون عصر النزعة الإنسانية التي نهلت من منابع العلم الشرقي بلا حدود. وقصة القديس فرانشيسكو مشهورة، ففي زمن الحروب الصليبية جاء إلى مصر وانضمّ إلى الصليبيين، ويقال إنه جاء معهم لتحميسهم ضد «مغتصبي» القدس من العرب، ولكنه عندما التقى بالملك الكامل الأيوبي، وجرى بينهما حوار ثقافي انتهى به الحال إلى العودة إلى بلده إيطاليا زاهداً مُتقشّفاً نابذاً للحرب داعياً للتعايُش بين المسلمين والمسيحيين، وتقول باقي الأسطورة في الغرب إن فرانشيسكو أقنع الملك العادل باعتناق المسيحية، فيما تُشير المصادر الإسلامية إلى أن الملك الكامل هو الذي أقنع فرانشيسكو باعتناق الإسلام، ولكن هذا كله لا ينفي أنهما التقيا وأنهما تحاورا وأن حوارهما كانت له نتيجة إيجابية، بل إن وجود العرب في صقلية وفي الأندلس لقرون طويلة بدأ باحتلال تلك الأصقاع ثم بإقامة أُسس الدول الحديثة بها. وتطوّرت هذه الدولة وازدهر فيها العلم والأدب، وكانت هي البنية الأساسية التي بنى عليها الإيطاليون عصر النهضة بما يحمل من تطوّر وتقدّم في جميع المجالات. 



الآن وقد أفل نجم هذه الدول ولم يعد لها أثر سياسي على أرض الواقع، لم يتبقَ منها إلّا آثار خالدة تدل على وجود عربي ثقافي حضاري في المرتبة الأولى. بلاط الملوك تزول منه حوارات شن الحروب بما تحمل من كلمات كبيرة وقاسية، وتبقّى منها فقط مخطوطاتها وكتبها النادرة وتماثيلها الفاتنة ولوحاتها الباهرة، وتصبح قبلة للزائرين والسائحين. 



كنت سائحاً في بريطانيا في بداية أعوام الثمانينيات، واستوقفني رجل إنجليزي مُسن في الشارع عندما سمعني أحادث زميلاً باللّغة العربية. قال لي باللغة العربية بلكنة قاهرية: انتو من مصر؟ قلنا له نعم. وكان هذا هو كل ما قلناه، والباقي قاله كله هو، كيف أنه عاش في مصر طويلاً، وأنه كان جندياً في الجيش الإنجليزي، وأنه تعلّم العربية هناك، واعتنق الإسلام، وأحب فتاة لم يرضَ أهلها أن يزوجوها له «حتى لا تتغرّب» إذا سافرت معه، ولكنه لا يزال يحبها رغم مرور السنين ورغم أنه لا يعرف إن كانت حيّة أو ميتة، وكيف أنه يشتاق لأكل طبق كشري. كان الحنين الدافق الذي يتحدّث به الرجل ينمّ عن تعايُش عميق مع الجماعة التي جاءها غازياً وخرج منها عاشقاً لها ولأهلها، ولثقافتها. 



يضمحلّ النفوذ السياسي الذي يعكس موازين القوة، ويستمر النفوذ الثقافي قوياً، لأن قدرته على العيش بين الناس والتعايُش معهم أقوى كثيراً من أي قوة حربية، تزول إذا ضعف الغازي المغتر بقوته. يكفي أن نذكر نابليون وحملته العسكرية على مصر في أواخر القرن الثامن عشر، والتي حملت معها إلى مصر حملة أخرى علمية درست مصر بكل تفاصيلها ودوّنت دراساتها في سِفْرٍ كبير لا يزال مرجعاً أساسياً في الشأن المصري هو «وصف مصر»، الذي ساعد على دخول مصر إلى العصر الحديث وبداية النهضة التي قادها محمد علي، اعتباراً من أوائل القرن التاسع عشر، بعد الحملة الفرنسية بسنوات قليلة. 



ففي الوقت الذي لم يكنْ حوار المدافع والبنادق والسيوف ينقطع كانت هناك علاقات إنسانية بين الطرفين المتحاربين، بما في ذلك علاقات الحب والزواج واعتناق كل منها دين الآخر. قصة حب أنطونيو وكليوباترا كانت ذروة أحداث حرب طاحنة بين مصر البطلمية وروما القيصرية انتهت باحتلال مصر. 



لا نذهب بعيداً، إذا قرّرنا أيضاً أننا نتعايش ثقافياً مع ألد أعدائنا الحربيين، ففي عِزّ الاحتلال الإنجليزي لمصر كان الأدب الإنجليزي من الروافد المهمة لنهضة الأدب فيها هي نفسها. كما اعتمدت حركة الترجمة المزدهرة في القرن التاسع عشر على مصادر معرفيّة وأدبيّة لا تخرج عن لغتين هما لغتا المستعمرين الكبيرين اللذين تقاسما العالم العربي بمعاهدة سايكس بيكو، وهما اللّغة الإنجليزية، لغة الإنجليز المحتلين. أليس هؤلاء هم الإنجليز الذين كان المصريون يهددونهم دائماً بالموت رفضاً لاحتلالهم؟ لا زلنا نذكر الشعار الخالد لثورة 1919 وما بعدها من فترات النضال المصري ضد المستعمر «الجلاء التام أو الموت الزؤام». ولم يمنع وعد بلفور الذي أعطاه الإنجليز للصهاينة لكي يغتصبوا فلسطين بموجبه، لم يمنع هذا المثقفين العرب من قراءة وترجمة الإنتاج الأدبي والفلسفي للإنجليز. 



واللّغة الأخرى هي اللّغة الفرنسية، لغة الفرنسيين الذين احتلّوا قطعاً واسعة في المشرق والمغرب، وأذاقوا أهلها صنوف العذاب والإهانة، والقتل والتطهير، والاستيلاء على مقدرات الشعوب المحتلة.



ولا يزال الأمر على حاله في العصر الحديث، فالهجوم الإرهابي على العاصمة الفرنسية باريس، ومن قبله على نيويورك، ودائماً في أصقاع كثيرة من العالم الإسلامي، من أفغانستان حتى سوريا وليبيا وقطاع من إفريقيا، لا ينفي أن هناك كُتّاباً سوريين وعراقيين ومصريين وليبيين وسودانيين وغيرهم من أبناء العالمين العربي والإسلامي، ممن يعيشون ويبدعون ويتألقون في سماء الأدب والفنّ والثّقافة داخل المجتمعات الأوروبية التي يضربها بنو جلدتهم، وأن هناك كُتّاباً غربيين يختلفون على بلادنا ويكتبون فيها وعنها ما يُشبه الشعر، في مدح خصالها وطبيعتها وكرمها. هؤلاء هم المهاجرون، الذين يحملون على ظهورهم أفكار أممهم، جنباً إلى جنب مع حقائب السفر، ويتعايشون ثقافياً رغم الاضطهاد السياسي والاقتصادي والمطاردات البحرية والبريّة، والاستقبال في مراكز هي أقرب للسجون. حتى هؤلاء المهاجرين «غير الشرعيين» يجدون دائماً من بين أهل لامبدوزا، حيث ترميهم الأمواج، من يؤويهم من أهلها، ويأخذ بأيديهم حتى تستقر بهم الأحوال. 



ربما كانت المعادلة في غاية البساطة، وربما كانت شديدة التعقيد، ولكن الثابت في تاريخ الأدب أنه لم يُعنَ كثيراً بتاريخ الحرب، حتى كُتّاب العصور الوسطى الذين وصفوا الصراعات بين الشعوب الأوروبية والشعوب العربية كانوا يضمّنون وصفهم للمعارك، ربما من باب الحلية والزينة الأدبية، قصص حب بسيطة وخلّابة بين المتحاربين.



الثابت أيضاً أن الشعوب لم تكن تتحارب أبداً، ولم يعرف التاريخ كثيراً من الحوادث التي تصادم فيها شعبان، أو ثقافتان، وإنما تتحارب الأنظمة فيما بينها، أو يتحارب الباحثون عن السلطة، أو يتباغض الطامعون في ثروات غيرهم. ولكن الشعوب على خلاف هذا كانت تعرف كيف تتعايش معاً، حتى وإن احتمل هذا التعايُش أن تتشاجر أحياناً، أن تدرك أن بينها اختلافاً، ولكنه الاختلاف الذي لا يُفسد للودّ قضيّة.

المصدر: http://www.aldohamagazine.com/article.aspx?n=489BF9CF-7887-489B-830D-4F4...

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك