التّعايُش.. إلى أين
لم تُعد مسألة التّعايُش اليوم قضيّة توزيع عادل للمُواطنة والهويّة بين الأقلّيّات داخل البلد الواحد فقط، وإن كان هذا مطلباً لايزال البناء الدُّستُوريّ فيه غير مُكتمل في الكثير من الجُغرافيّات، بل إنّها من حيثُ المبدأ والقيمة باتت مسألة كونيّة مطرُوحة بصُورة عاجلة كحلٍ إقليميّ ودُولي للصراع القائم في مناطق النّزاع والهجرة. مُنذُ أواخر القرن العشرين وبداية القرن الحاليّ ساهمت كُلُّ من التّجربتين الأميركية والأوروبية في ترسيخ نمُوذج للتّعايُش عبر سنّ سياسات تطبيقيّة من قبيل التّعدُّد الثّقافيّ والاندماج والمُواطنة المُكرّسة، لكُنّ مجرى الأحداث اليوم يُوقّفُنا على مُلاحظة تبدُو فيها هذه التّجارُب وكأنّها قد استنفدت قدرتُها على احتواء التّحوُّلات البُنيويّة داخل مُجتمعات الهجرة، وبشكل أكثرُ استفحالاً مع رُدُود الفعل الّتي تلتّ الحربُ على الإرهاب إبان تفجيرات 11 سبتمبر 2001 إلى الآن. والحالُ أن هذا الاستنفاد إذا ما أضيفُ إليه تاريخ المُراوغة الدُّستُوريّة داخل الدّولة الوطنيّة المُصدرة للعُمّال المُهاجرين وفشلها في تنزيل قوانين التّنوُّع الهويّاتي والعرقيّ محلّياً، يبقى مفهومُ التّعايُش الكونيّ مُعلّقاً بين المحلّيّة والكونيّة، وبديهيّاً فإن فشل الاندماج محلّياً يُساوي نظيره في مُجتمعات الهجرة. نظريّاً، يبدُو الحلُّ الدُّستُوريُّ للتّعايُش المحلّيّ في هذه المُعادلة المُبسّطة مُقتصراً على الاثنيات الثّقافيّة الوارثة لتاريخ مُثقل سمّته الإقصاء والحرمان من التّمتُّع بالهويّة والذّاكرة الخاصّة، والتّجارب السّياسيّة الليبرالية في تلبية مطالب الحركات النّضاليّة الاثنية حقّقت مُكتسباتُ نمُوذجيّة ناجحة كما هو حال السُّكّان الأصليين: كالهنود الحُمُر في أميركا وكندا، والأبوريجان في أستراليا، وسكّان المُورُو في نيوزيلاندا، والسّامّ في إسكندنافيا، وكذلك بالنّسبة للأقاليم والمُقاطعات الوطنيّة كمُقاطعة الكيبيك في كندا، واسكتلندا والغال في بريطانيا، والقشتاليين والباسك في إسبانيا، والفلاموند في بلجيكا، وأيضاً تجربة الملايُو في ماليزيا وآتشيه في إندونيسيا... وعلى الرّغم من مخاضات هذه التّجارب وحُصُولها على الحُكم الذّاتيّ وإمكانية استمرار الصّراع مع الدّولة المركزيّة يصل في بعضها إلى المُطالبة بالاستقلال، فإن الآليّة البرلمانيّة الخاضعة لموازين القُوّة الحزبيّة تجعلُ من الصّراع السّياسيّ السلميّ ضامناً للمُكتسبات والمطالب الدُّستُوريّة، وهو ما ينتفي في الكثير من مناطق الصّراع الّتي يستنزفُ فيها الطّرفان الثّروة الوطنيّة، كما يتمُ تعطيل المُشترك الثّقافيّ بينهما، وبالمآل نفسه باتت لشُعُوبها أسبقيّة تصدير الأفكار المُتطرّفة والمُهدّدة للسلم والتّعايُش.
المصدر: http://www.aldohamagazine.com/article.aspx?n=146089DF-E4A2-49D9-9477-B4D...