داعش أو الجسد العربيُّ الجريح

يوسف عدنان

 

لقد شهد تاريخ الإنسانيّة أصنافا متنوّعة من الإيديولوجيات، حتّى أمست كلّ حقبة زمنيّة مخنوقة بحبال الإيديولوجيا الَّتي تلجمها. وبالرَّغم من أنَّ منابع الفكر الإيديولوجي ومشتلاته تتعدّد وتختلف حسب السّجلات الّتي تغترف منها وكذا الأرحام الَّتي تنسل من أحشائها إلا أنَّه يظلّ الدّين في نسخته الظَّلاميَّة المتطرّفة ذلك الصبيب الفياض الَّذي يغمر كلّ تربة قاحلة، متعطشة لقطرات الحقيقة ولو أتت متزينة برداء الوهم.

ربَّما لم يبتلع التَّاريخ بعد مقولة المفكّر والفيلسوف ذائع الصّيت كارل ماركس، حين جاء على لسانه ذات مرّة أنّ "الدّين أصبح أفيونا للشّعوب" معبّرا عن مزاج عصره المتشكّك، وقد استهلكت بعده هذه العبارة إلى حدّ أفقدت معه من معناها. إلاّ أنّني أتوقّف هنا لأسجّل القلب الحاصل على مستوى أطراف الديالكتيكdialectique . فالدّين وإن كان يمتح من المتعالي والهيوليle divan تبقى مجالات تطبيقاته أرضيّة تتَّخذ شكل أفعال وممارسات عمليّة يتمُّ تقييمها على ضوء الواقع. 

إذ الملحوظ في واقعنا الرَّاهن، أنَّ الشُّعوب هي من باتت أفيونا للدّين ووقوده المنهمر بلا انقطاع، كما لو أنَّ الأمر أشبه ما يكون بتغذية راجعة مرتدّة بشكل انعكاسي. ويسطع برهان هذه الفرضيّة بوضوح تام من حيث كيفيّة "صناعة الحدث الإرهابي" وتسويق كلّ طائفة لفكرة الدّولة ولدينها المرتضى ولإلهها المعبود، مع كامل الحرص على الحشو الذّهنيّ للمريدين (الطَّائفة النَّاجية في المعتقد الإسلاميّ الجهاديّ) بالسُّموم العقديَّة والمذهبيَّة والأصوليَّة الَّتي تضمن ليونة حركة مفاصل آلة التَّطرف، ممَّا أصبح يستلزم إنجاز دراسات معمَّقة تنكبُّ على تفكيك بنية السُّلوك الجهاديّ المتشدّد، مواكبة لتطوّر منظومة الإرهاب فكرا وممارسة*. من هذا المدخل الجدليّ نستطيع النَّظر في كيفيَّة التَّأثير النَّافذ لداعش على الأتباع، وغواية العرض الجهاديّ المفضي إلى ’صناعة الحدث’ الَّذي يتعطَّش له التَّاريخ منذ نهاية الحرب الباردة. كيف؟

تبدو داعش "الدَّولة الاسلامويَّة" من أعنف إيديولوجيات القرن الواحد والعشرين، كما تنظم الدَّاعشيَّة كنزعة تسلطيَّة، استيطانيَّة، توتاليتاريّة لا ترضى سوى بنموذج الحكم المطلق، إلى كلّ من النَّازية والفاشيّة (والَّتي بالمناسبة أصبح يستقض جثمانها هذه الأيَّام من سباته) لتسجل حضورها الدَّمويّ في مذابح التَّاريخ المعاصر. وتجد هذه النَّزعة سندها الإيمانوي في تخوم الموروث الجهادي الأصولي الَّذي تردُّ من مستنقعاته، فضلا عن الارتباط الوثيق الَّذي تقيمه مع ما يصطلح عليه "بالعنف المقدّس" أو "العنف الإلهي"، وهذا ما سبق التَّأشير عليه من قبل الفيلسوف وأستاذ الفلسفة "ريمي براغ" "Rémi brague" حينما خلص إلى اعتبار العنف مسجل في أحشاء الإسلام الرَّاديكالي وفي جيناته الوراثية الأولى (1).

لا يفوتني هنا أن أنبّه القارئ الكريم إلى أنّ هذا المقال يجد خيطه النَّاظم في مقال سابق له كنت قد نشرته إبَّان الحراك الَّذي شهده العالم العربيّ، في جزأين تحت مسمَّى "الرَّبيع العربيّ والهويَّة العذراء"، وقد حاولت في طياته قراءة علامات محنة الذّات العربيّة وهي تلبي نداء الحتميّة التَّاريخيَّة في ثورات إنسيابيّة إنبثقت من طياتها ملامح التَّاريخ العربيّ المعاصر. مؤشّرا آنها على أنَّ العالم الإسلاميّ – العربيّ يشهد حركة تفكيكيَّة للاَّهوت السّياسيّ، حركة تخترق مساحة مدلولات عليا من قبيل ’الكينونة، الجوهر، الحقيقة’ وتميط اللّثام عن مفاهيم متصلّبة كالذَّات، الآخر، الهويّة، الموروث، المعرفة، الدَّولة، السُّلطة (...) إلخ.

كما جاء مضمون المقال كنقد للذَّات العربيَّة الممزَّقة كلّ ممزق والمترنحة داخل وضعيَّة مأزميّة لم تشهد مثلها منذ ثورة العرب الأولى مع البعثة المحمديّة قبل خمسة عشر قرن من الزّمان. فالشّتات والتَّفكّك قد كانت ولا تظلّ عوامل حاسمة في امتداد الكيان الإسلاميّ ومنحه مساحة لإعادة تشكيل وجهه على مرّ تقلّبات التَّاريخ، ويشهد الزَّمن الجاهليّ مرورا بفترة البعثة والفتوحات الإسلاميّة إلى عصر الانحطاط بهذا المعطى. فالتّيه والغربة والموت والتَّضحية والفقدان والهجرة هي مظاهر قصوى من التَّحوُّلات الجذريَّة، لطالما منحت ولادة متجدّدة للذَّات العربيَّة.

ولعلَّ نقطة التّمفصل الَّتي أمكنني بها وصل السّابق باللاَّحق قد تخطّ مسارها عبر ديمومة قلق السُّؤال حول المصير العربيّ المجهول، خاصَّة بعد انطفاء شرارة الرَّبيع العربيّ وتصاعد المدّ الدَّاعشيّ. فأنا أرى أنّ هناك علاقة تلازميّة بين الحدثين يجب الكشف عن عليهما، بحيث كلّما حاولت، زحفت، تقدّمت الذَّات العربيّة نحو ’الانعتاق’ وخاضت في تحطيم الأغلال للخروج من أوهام الكهف، إلاّ ووجدت نفسها تنعطف عائدة إلى دائرة الانحباس والانغلاق في حركة شبه حلزونيّة ترسم أفق انسداد لولبيّ منحصر لا مخرج منه. هذه الحركة الثّنائيّة ’انعتاق/انغلاق’ هي ما أسعى إلى اقتفاء أثرها في هذه السّطور. فالرَّبيع قد مثّل لحظة من لحظات الانعتاق الَّتي عانقت فيها الحريّة روح الشّعوب في أحداث توقف فيها نبض الزّمن، لتأتي داعش كقوى ارتكاسيّة – مستعيرا المفهوم من فلسفة نيتشه الانقلابيّة– مجهضة وبشكل مضادّ أنفاس الرَّبيع وهو في مراحله الجنينيّة - من حيث ترسيخ مكتسباته على مستوى الذّهنيات- معيدة معها نفس الحركة إلى دائرة الانحباس، كنوع من المقاومة الممانعة المتشبثة بأسطورة السَّلف*. 

ولخلق تناص بوليفوني مع هذا التّصور الَّذي نذهب إليه تشكيل معالمه، أحيل القارئ في هذا السّياق إلى مراجعة مؤلّف للباحث الرزين هاشم صالح تحت عنوان"الانتفاضات العربيّة على ضوء فلسفة التّاريخ" (2)، إذ في الفصلين الثّالث والرَّابع تحديدا منه، انكب الباحث على البحث في جذور هذا الانسداد التّاريخيّ والانغلاق اللاَّهوتيّ داخل الثَّقافة الإسلاميَّة، والَّذين ينظر إليهما باعتبارهما العائقين المركزيين أمام أيّ عمليّة تحول في مسيرة العرب، آملا بعد تقليبه دفات التّاريخ - من منظور فلسفيّ- مجيء كلّ بديل مشرق على يد المشروع التَّنويريّ العربيّ. كما سعى في ثنايا مؤلّفه إلى افتعال نوع من المماثلة بين شروط قيام الثّورات الغربيّة ونضيرتها الرَّبيعية العربيّة إلى حدّ نجح فيه بعث ركام فلسفة التّاريخ من مرقده وإنضاج سبل التّفكير في الأحداث الّتي شهدها العالم العربيّ بحسّ كونيّ رفيع يخطب ودّ الجدل الهيغلي في أكثر من مناسبة. 

غير أنّه ومع ذلك، قد ألتفت إلى التَّنصيص على ضرورة تبين الفرق الجوهريّ الموجود على مستوى المنطلقات التَّنظيريَّة قبل أن يقودنا الحماس إلى تطويع اللّغة المعبّرة عن فكر قد لا ينبع من واقع فعلي يحتضنه: وهذا الفرق ماثل في كون النّتائج الحاسمة الَّتي آلت إليها الثَّورة الفرنسيّة تمثلّت في تصفية حساباتها القديمة مع المنظور القروسطويّ وتجميد رصيد رجال الدّين لمنعهم من الاستثمار في الحقل السّياسيّ الشَّيء الَّذي ساهم في كسر شوكة الكنيسة على يد الحياة المدنيّة، وبداية مرحلة ما يعرف بـ"الأنواريّة الأوروبيّة"، في حين أنّ المحصلة الرَّاهنة لسنوات الرَّبيع العربيّ تمثلّت بالأساس في سيطرة "التيّار الإخوانيّ – السَّلفيّ" على الحكم، وأنّ انتفاضات الرَّبيع العربيّ انتهت بعودة السّلطة إلي كنف اللاَّهوت السّياسيّ. لذلك، فأحداث الرَّبيع لم تحل معضلة الانسداد التَّاريخيّ بقدر ما اكتفت بتفجير جملة المكبوتات السّياسيّة والاجتماعيّة داخل الجسد العربيّ، ما يشكّل نقطة الانطلاق الحقيقيّة نحو المستقبل وليس نقطة النّهاية. وما يهمّنا من خلال استحضار روح هذا المؤلّف في بحثنا هو تعميق أغراض السُّؤال حول فكرة الانسداد التّاريخي. منبّها في هذا الجانب على أنّ محرّك الثّورات الغربيّة قد اشتقّ مصله من مبدأ اللَّذّة أو بالأحرى إشباع الرَّغبة، بالمقابل نجد محرّك الثَّورات العربيّة قد كان ولا يزال مبدأ عودة المكبوت المحافظ.

داعش هذا المولود الغير معترف بشرعيّة نسبه للإسلام، سيعمل على اختلاق عقيدة من داخل العقيدة الأم"la doctrine mère" بغرض تدعيش العقيدة الإسلاميّة وإعادة كتابة تاريخ الدَّولة الاسلاميَّة، وهي المسألة الَّتي شرّحها بشكل ملفت الأستاذ الباحث مصطفى السحيمي في دراسة له حول أصول المعتقد الدَّاعشي، مبيّنا أنَّ القاعدة الأولى للإيديولوجيا الجهاديّة قد انبتت من خلال مسار طويل وتاريخي للأصوليّة الإسلاميّة قد تغذَّت من خلال مفاهيم ذات حمولة لاهوتية متتالية داخل المدرسة الحنبليّة. عارضا في مناحي أخرى من تحليلاته مختلف الإيديولوجيات الَّتي اصدم بها تاريخ الإسلام السّياسي. وعلى هذا الأساس لا يمكن الاستغراب من المكانة المحوريّة الَّتي يحتلها العنف في الايدولوجيا الجهادية، فالتبريرات الدّينيّة المكسوة بالغلو والتشدد تعطي للجهاد طبيعة مشرعنة وبعدا إيديولوجيًّا في شقيه الحربيّ والجهاديّ، وذلك من خلال تمجيد المعتقد والفكر البطوليّ ويتجلّى ذلك بطريقة مثلى وأسطوريّة في صورة الشّهيد الَّذي بتضحياته سيدخل الجنَّة وسيكون من الطَّائفة النَّاجية يوم البعث.

في نفس الصدد أجد نفسي ميالا إلى استعراض بعض الأفكار الثاقبة التي طرحها jean pierre luizard في كتاب له تحت عنوان: "فخ داعش، الدولة الإسلامية .. أو عودة التاريخ"(3) « Le piège Daech: L’État islamique ou le retour de l’Histoire » بحيث عمد لويزارد إلى اقتفاء نشوء هذا الجسم السرطاني المنعوت بداعش بدءا من لحظة غزو العراق وتفكيك الجيش العراقي مرورا بالربيع العربي وثورة سوريا التي لم تضع أوزارها إلى حدود الساعة وصولا إلى اللحظة الراهنة التي استوى فيها التنظيم وبسط نفوذه لدرجة إرباك التعريفات الكلاسيكية لمفهوم الدولة الرائجة في قواميس العلوم السياسية وانعطاف الحديث عن وجود "الدولة العابرة للقارات" أو "العابرة للأوطان" بما هي تقدم نفسها على أنها الشكل الوحيد القادر على بناء دولة الخلافة (الإمارة الداعشية). كما اعتبر نفس الباحث أن مخطط تفكيك الشرق الأوسط وإعادة استعماره من جديد من طرف القوى الغربية لم ينجح وأدى إلى نتائج عكسية لم تكن منتظرة تماما. ومن ضمن هذه الارتدادات المرصودة بروز مخطط مضاد ينعث في أوساط داعش ب "الهلال الإسلامي" هدفه تطويق خريطة أوربا واستنزافها من الداخل بجعلها ترتد عن قيمها وتغيير مبادئها تحت ضغط "خطر الإرهاب" بل إن منتهى المخطط هو الوصول إلى ايطاليا واحتلال العاصمة روما ’Rome’ الرمز والقلب النابض للروحانية الكنسية المسيحية. (غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبتهم سيغلبون). وهذا بالضبط ما يقصده 

صاحب المؤلف بعودة التاريخ، أي إعادة إحياء وبعث البوليميكات الراكدة ببطنه في سبيل استعادة المجد الإسلامي المنقضي. ومن بين الأمثلة الحية الأخرى المشخصة لهذا العود التاريخي تدمير المتحف العراقي من قبل داعش اللذين عاشوا الحدث على مستوى "المخيال ما فوق المسلم" "l’imaginaire sur musulman" كيوم تحطيم أصنام الجاهلية اللات والعزى ومنات. 

وبصرف النظر عن ما قيل وما زال ينقال إلى الحدود الراهنة و من نزيف للأقلام حول هذا التنظيم المرعب وكثرة التشخيصات المتخمة التي طالت جل جوانبه العقائدية – السياسة – التنظيمية ... (الخ). أسعى في هذه الورقة تناول الموضوع من منظور أكثر توغلا ونفاذا إلى البنى والديناميات اللاواعية "للسلوك الداعشي/التدعيشي، مسائلا جوانب تكاد تخفى عن النقاش الفكري الدائر حيال المشهد العصابي الجاثم على سماء العالم. فأول منطلق علينا سلكه هو نزع صفة اللامعقولية على هذا التنظيم، فداعش ليسوا بشياطين صعدوا من منحدرات العالم السفلي ولا هم بملائكة نزلوا من معارج السماء، وإنما هم منتوج راديكالي Extrême لواقع أكثر منه راديكالية l’extrême de l’extrême . فهذه الهوية القاتلة "identité mortelle" التي تحملها في جوفها داعش، تجسّد في آخر فصول الرواية، تلك الصورة المفككة للكيان العربي الجريح، كما لو أننا بصدد التأمل في إحدى لوحات بيكاسو التكعيبية.

إن جذور هذا الصراع غير المسبوق داخل نموذج الذات المسلمة هو ما عرت عن مستوراته أطروحة المحلل النفسي فتحي بن سلامة Fethi Benslama في إصداره أخير له تحت عنوان "حرب الذاتيات في الإسلام (guerre des subjectivités en islam » la « (4، ذاهبا بصفته محللا نفسيا إلى قراءة هذه الفترة باعتبارها تاريخا مكتوبا ينطلق من متطلبات الأنا الأعلى للثقافة الإسلامية، "أنا" "ego" على أهبة دائمة بسبب رغبات ومخاوف جماعية من التحول إلى آخر مزدوج الهوية (أو متغربن). متمما تحليلاته في حوار له نشر على الجريدة الفرنسية لوموند (le monde (5، بالإشارة إلى أن تحليل الواقع الذاتي لهذه الظاهرة الداعشية لا يعني وصمها بالجنون والهذيان، مذكرا على أن الشأن النفسي ليس مصدرا محضا بل يتألف من السياق الاجتماعي والسياسي.إن المطلوب حاضرا وبشكل ملحاح هو الانكباب على انجاز اركيولوجيا نفسانية للاوعي العربي-الإسلامي لكي يتسنى لنا تشفير البنى الرمزية والكشف عن ما تبطنه من أعراض وصدمات تتمظهر عبر مسيرة عابرة للأجيال بأشكال مستجدمة corporée و متلونة colorée بسياقات اجتماعية وسياسية. 

وأسجل في هذا المنوال ملاحظة في غاية الأهمية، وهي تلك التي تخص المأزق الوجودي الذي يجد الإنسان العربي نفسه فريسته. فالتاريخ العربي المعاصر يعيش على وقع تراجيديا خاصة به تجد تعابيرها بأحلك صورها في مأساة "موت الأب" واجتراح مشاعر الذنب والخيبة والخيانة والخوف والعجز. لا شك أن انمحاء الصورة الأبوية l’image paternelle صورة الزعيم والقائد من الوجدان العربي إن لم نقل من المشهد السياسي العالمي، حيث لم نعد نجد صدى لتلك الشخصية الكاريزمية التي عرفت بها ستينات وسبعينات القرن الماضي- خاصة بعد أفول الخطابات القومية والاشتراكية والليبيرالية - قد جعل العرب يستشعرون أنفسهم كالأيتام تتخطفهم الإرادات العمياء من كل مكان. وهذه العقدة التي عرّفت الاسم العربي كغياب، نجد لها صدى مرة أخرى عند المحلل النفسي فتحي ابن سلامة في نظريته حول المثال الإسلامي الجريحL’idéal blessé بما هو ترويج في نظره لذكرى الصدمة trauma الموشومة في اللاشعور الجماعي وشكل من استعادة قهرية سوداوية لمشاعر الخزي والعار التي تلتهم السيكولوجية العربية منذ لحظات ابتدأت منذ صمت الإله – موت الرسول – انقطاع الوحي إلى انهيار دولة الخلافة واستيقاظ الفتنة في البيئة الإسلامية.

تبعا إلى ما تم ذكره، أعتقد أنه من أجل فهم طبيعة التشويش الحاصل بين ثنائية الجسد/السلطة، لا بد لنا من العودة إلى تفكيك مشهد الربيع العربي وتشكيل شظاياه المتلاشية في صور مركبة الأجزاء تعبر بعمق عن تراجيديا الجسد العربي الجريح، أقدمها كالتالي:

رئيس العراق صدام» الجسد المعدوم « / رئيس فلسطين عرفات »الجسد المسمم « / زعيم القاعدة بلادن »الجسد الفيتيش « / رئيس مصر مبارك » الجسد المقعد « / رئيس ليبيا قذافي » الجسد الطوطم « / رئيس الجزائر بوتفليقة » الجسد الصنم « / رئيس تونس زين العابدين »الجسد المنفي « .

تلك إذن الصورة المبتورة للجسد العربي الجريح بعد الربيع والتي أدت إلى انمحاء الصورة الأبوية من المخيال السياسي العربي، كما طال هذا الاهتزاز باقي البنيات الأخرى. من هذا المنطلق الذي أصبحت فيه مقولة موت الأب أو فقدان النموذج/ المثال، تنخر البنيان الأبيسي الممؤسس على مفعول مركزية السلطة البطرياركية، قد ذهبت الباحثة ’هالة وردي’ في كتاب لها صدر مؤخرا وأثار معه جدلا واسعا تحت عنوان: « les derniers jours de Mohammed ; enquête sur la mort mystérieuse du prophète » (6 إلى التقاط نفس العلامة ’signe’ الدالة على هذا الفقدان، على هذا الجرح النرجسي، حين اعتبرت أن نفس الضياع الذي أحسوا به العرب في الأيام الأخيرة من موت محمد وبعدها، هو نفس الإحساس يعود في اللحظة الراهنة مخترقا معه وجدانيات المسلمين في جميع بقاع العالم. مضيفة، أن الإسلام يمشي بخطى ثابتة نحو الخروج من التاريخ، ومرد ذلك إلى الأزمة العالمية التي يشهدها الإسلام السياسي القائم على اختلاف حاد حول طرق الجهاد ومناهجه، إلى جانب البعد الأبوكاليبتيكي "Apocalyptique" للرسالة المحمدية، بما هي قد حملت معها بعد نهاية التاريخ واقتراب أفول العالم*.

انتهي إلى القول ونحن بصدد مواكبة ما ستؤول إليه الأحداث نازعين عن كلّ تحليل مقدم صفة الإطلاقيّة، هو كون تنظيم داعش ليس فقط عبارة عن تكتلات إرهابيّة عالية الاستقطاب تمكّن منها العصاب الجماعي، بل نحن بصدد التَّعامل مع "بينة" ينتضمها منطق خاص. بمعنى أكثر استيضاح، لا يقف السُّلوك الدَّاعشي حدّ التَّخطيط والتَّنفيد للفعل الجرمي / الإرهابي. وفي هذا المستوى يسري التّمييز في التَّحليل بين المرور إلى الفعل واستتباع بنية الفعل، كالتّميز مثلا بين الجهاد الفعليّ في التَّنظيم، وبين مساندته من وراء الجدران، سواء كانت افتراضيّة أم نفسيّة لاشعوريّة. وهنا منشأ إزدواجيّة الذَّات المسلمة، ففي حين نجد من هو داعشي على مستوى الفعل (الانتساب المجاهر للتَّنظيم)، نعثر بالمقابل على من هو داعشيّ على صعيد النوايا واللاّمصرح به.

فالحاصل اليوم من اختلالات على مستوى القيم واهتزازات على صعيد العقيدة إلى جانب ثورة العالم الافتراضيّ قد فتحت مجال الفونتازم fantasme للمدّ الدَّاعشيّ الجارف ليستوطن جوانب من المتخيّل ويفجّر المكبوت العربيّ – الإسلاميّ تجاه الغرب المسيحي بشكل غير مسبوق، إذ لم يعد بإمكاننا حصر أو ترصّد السُّلوك المتطرّف - البادي كعرض متخفّي- هل هو مثلا متمظهر في الأفعال أم في الأقوال أم في النّظرات أم في الإيحاءات ... (إلخ)، فمجرَّد مشاهدة أحدهم لشريط يذبح فيه داعش أسراهم أو نساءهم حتّى تنفجر بنية المكبوتات وتفرز معها استيهامات تعويضيّة تؤجّج نشاطيّة "المخيال ما فوق المسلم"، لتبرز لنا كميّة منسوب العدوانيّة الكامن في الذَّوات العربيَّة. لذلك، فلا طائل من الكلام عن استئصال هذا الورم والبحث عن دواء له ما دمنا نبطن ترياقه في دواخلنا في دمائنا في أرواحنا المهاجرة إلى المخيال ما فوق المسلم.

مراجع وهوامش:

1. Article du Figaro . Rémi Brague : «Dans les gènes de l’islam, l’intolérance»: «En France, on a le droit de tout dire, sauf ce qui fâche» Par Martine le 18/01/2015 .

*ثم إذا ما تأملنا القيم التي دعى إليها الربيع من حرية بجميع مشتقاتها وكرامة ومساواة عادلة وكل ما لم نذكره من قيم وليدة رحم الديموقراطية المنظور إليها من طرف داعش كمرض يجب اقتلاعه من الجسم الإسلامي لتخلو لهم الساحة لزرع وتجذير مقولات تبطن كما تصرح باستباحة دماء الإنسانية.

2. هاشم صالح، "الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ" دار الساقي/ط 1 ، 2013، 350 صفحة. 

* أحيل القارئ الكريم في هذا الباب على كتاب ذو عمق استراتيجي سابق لأوانه تنبؤ بميلاد حركة إسلامية شمولية لصاحبه "أبو موسى" أحد أكبر منظري الفكر الجهادي الراديكالي، عنوانه: "الدعوة إلى المقاومة الإسلامية" الصادر في سنة 2006. قدم فيه أطروحة مضادة .. وتكثفت أهم مواده في ضرورة التركيز على الجهاد المحلي في انتظار نضج واستواء الشروط الاقتصادية والتاريخية لإعادة بناء الدولة الإسلامية الدائمة.

3. Pierre-Jean Luizard ; Le piège Daech : l’Etat islamique ou le retour de l’histoire

la Découverte, 2015 - 186 pages.

4. Fethi Benslama : La guerre des subjectivités en islam (Lignes) / Revue Sociologie 2014 N°1 Dossier Sociologie de l’islamophobie (PUF)

5. Pour les désespérés, l’islamisme radical est un produit excitant : Le monde culture et idees ; mis à jour le 26. 11. 2015 ; propos recueillis par soren seelow.

​ 6. Héla OUARDI ; Les derniers jours de Muhammad, Enquête sur la mort mystérieuse du Prophète, Paris, Albin Michel, 2016 , 365 pages.

* قد حاولت الباحثة وردي كذلك في كتابها المسبوق ذكره، أن تعيد تصويب رؤى العرب ومنطلقاتهم حيال فكرة المثال الأعلى/ النموذج المثالي عائدة إلى بواسطة منهجها الجينيالوجي الأدبي إلى الأصول، منتزعة معها القداسة على شخص الرسول وداعية في نفس الوقت إلى إعادة قراءة حياته الحبلى بالامتحانات بصيغة تساهم في إعطاء صورة إنسانية عنه حتى لا نقع في نفس المنزلق الذي وقعت فيه الكنيسة في تقديسها للمسيح، مبينة أن حتى حياة محمد لا تخلو من اختبارات، دسائس، انقلابات، خيانات ... حتى أنها شبهته بأبطال التراجيديا الإغريقية، ما دام الشموخ والتحدي هي القواسم المشتركة بين العظماء الذين ولدووا من قلب المأساة.

المصدر: http://www.alawan.org/article15193.html

الأكثر مشاركة في الفيس بوك