الشيعة والسنة: التوتُّر ومداه ومصائره

الدكتور رضوان السيد

 

I

 

يسودُ التوتُّر العلاقات بين السنة والشيعة في أرجاء مختلفة من العالم الإسلامي، ويبلُغُ في قوته ومَدَياته حدودَ القول إنه الموجةُ التاريخيةُ الثالثةُ في هذا السياق. والذي أقصِدُهُ أنّ التجربةَ التاريخية للعلاقة بين الفريقين مرت من قبل بحقبتي توتُّر كبيرتين، وهما الحقبة الواقعةُ بين القرنين الرابع والسابع للهجرة، والحقبة الواقعةُ بين القرنين التاسع والحادي عشر للهجرة. ونعيش خلال النصف الأول من القرن الخامس عشر الهجري، حقبة التوتر الثالثة والحاضرة.

في الحقبة الأولى، كان الصراع تكوينياً ومتشابكاً إذا صحَّ التعبير. فقد كان القرن الرابعُ قرناً شيعياً بامتياز سادَ فيه الفاطميون بالمغرب ثم بمصر والشام، وسيطر فيه البويهيون الشيعة على شرق العالم الإسلامي وصولاً إلى بغداد مقر الخلافة العباسية. ومن الناحية الفكرية والفِرَقية؛ فقد كان الفرعُ الإثنا عشري من التشيع في طور التكوين إلى جانب وفي تجاذُب مع الفريقين الشيعيين الآخَرين البارزين آنذاك : الإسماعيلي، والزيدي. أما السنة فقد كانوا أيضاً في حقبة تكوُّن من الناحية الفكرية والدينية. وأقصِدُ بالتكوُّن التمايُز العَقَدي بين الأشعري والأشعرية من جهة، والحنبلية والسلفية وأهل الحديث من جهةٍ ثانية. ولذلك فقد كان للصراع التاريخي ذاك بُعْدان: بُعْدٌ داخليٌّ في قلب الجانبين الشيعي والسني بدار الإسلام. وبُعْدٌ اشتباكيٌّ بين السنة والشيعة. تمثَّل البُعْدُ الداخليُّ للصراع بين الشيعة في بروز تيارٍ جديدٍ تقومُ عقيدتُهُ الخلاصية على انتظار ظهور الإمام المهدي بعد دخوله في الغيبة الكبرى، والتفكير في الآليات الضرورية والمؤقتة للقيام على مسألتين: إدارة شؤون الجماعة، وانتظار عودة الإمام والتمهيد له. وقد كان طبيعياً والمذهبان الإسماعيلي والزيدي قائمان في دولتين بأئمتهما ومتكلميهما وفقهائهما؛ أن يمثّلا التحدي الأبرز للإثني عشرية. أما الخصومةُ مع السنة فقد بدأت وقتها في بلاط عضُد الدولة البويهي ، وقد كانت فكريةً وكلامية. كما ظهرت في مناطق ومدن ظهور التشيع الإثني عشري حيث كانت هناك كثرة سنية أو شيعية مثل بغداد وحلب ونيسابور وبيهق. وما تطورت خصومةٌ فكريةٌ مع الإثني عشرية في القرن الخامس الهجري حيث صعد الإحياء السنّي، وتبلورت الأشعرية؛ بل ظلَّ الصراع الفكري والسياسي والعسكري السنّي مع الإسماعيلية التي سقطت دولتُها في خضمّ الصراع بين الدول السنية والصليبيين. وهكذا فطوالَ حوالي الثلاثة قرون بين الرابع والسابع للهجرة، تتحدث النصوص التاريخية، وتواريخُ المدن عن صِداماتٍ في الأحياء والنواحي بين السنة والشيعة(الإثني عشرية)؛ لكنّ الجدالات ضدَّ فكرة "غيبة الإمام" وضدَّ ربْطها بالمهدي القائم في آخر الزمان، ظلّت تجيءُ في الأساس من جانب الإسماعيلية والزيدية. وما تنبَّه لها الأشاعرةُ (والماتُريدية) إلاّ بعد القرن السابع الهجري.

ومع ذلك فقد كانت الحقبة الأولى للصراع هذه حاسمةً لثلاث جهات: أنها المرة الأُولى التي يقالُ فيها من جانب المؤرّخين إنّ هناك صراعاً شيعياً/ سنياً، أو بين الخلافة والإمامة. وأنها المرةُ الأولى التي تعلنُ فيها الدولةُ العباسيةُ عن نفسها باعتبارها دولةَ أهل السنة والجماعة (العقيدة القادرية)، وأخيراً لأنّ الإسماعيلية(والزيدية) شهدوا انحساراً كبيراً بين القرنين الخامس والسابع بحيث زالت الدول الإسماعيلية(بالمغرب ثم بمصر واليمن)، وظهر تيارٌ مهدويٌّ في قلب الزيدية نفسِها(= الشيعة الحسينية)، كما زالت دويلاتهم بالديلم وطبرستان، وتضاءلت باليمن. وبدا ذلك لأول  وهلةٍ باعتباره انتصاراً لأهل السنة ( وليس للعباسيين الذين استمرت دولتُهم في التراجُع بعد استفاقةٍ قصيرة)؛ لكنّ الظهور الإثني عشري أفاد من تراجُع الزيدية بطبرستان وارتباكهم باليمن، كما أفاد أكثر من انحسار الإسماعيلية وانقسامهم. والواقعُ أنّ عقيدة "الغيبة" – وهي فكرةٌ خلاصيةٌ قويةٌ- وممارسة التقية أنقذتا التشيُّع كُلَّه، بعد أن بدا الفاطميُّ والزيديُّ باعتبارهما حاكمين عاديين لا يختلفان كثيراً ولا قليلاً عن الخليفة العباسي، ولا تتوافرُ فيهما- رغم تحدُّرهما من سُلالة النبي(ص)- أية خصوصياتٍ مهدوية. وزاد الطينَ بلّة ظهور القرامطة ثم ظهور راديكاليي الإسماعيلية (=الحشاشين) الذين روّعوا الأجزاء الشرقية ثم الشامية من ديار الإسلام.

أمّا الحقبةُ التاريخية الثانيةُ في الصراع فقد بدأت في القرن الثامن الهجري. وكانت الخلافةُ العباسيةُ قد سقطت على يد المغول، وقامت الدولةُ الإيلخانيةُ/ المغولية شرق الفرات وعبر الهضبة الإيرانية، وصولاً لآسيا الصغرى  من الناحية الثانية ، كما قامت الدولة المملوكية  في غرب الفرات بالشام ومصر ؛ وعملت كلاهما على ملء الفراغ الجيوسياسي (والإيديولوجي) الذي أحدثته الغزوات والحروبُ الصليبيةُ والمغوليةُ، والانحسارات والمتغيرات السالفة الذكر من الحقبة السابقة والتي انتهت في القرن السابع الهجري بسقوط الخلافة العباسية ببغداد.

بادر المماليكُ على أثر سقوط خلافة بغداد عام 656هـ/1258م إلى استجلاب أحد أبناء الأُسرة العباسية إلى القاهرة حيث أعلنوه أميراً للمؤمنين، وأكملوا زعامتَهم للإسلام السني بالاعتراف بالمذاهب السنية الأربعة مع تقديمٍ للمذهب الحنفي؛ لأنّ المماليك ( الأتراك) كانوا من الأحناف. أما الإيلخانيون الذين بدأ الإسلام يتسلل إلى صفوف أُمرائهم ( وعلى المذهب السني) فقد وقعوا في حيص بيص. إذ إنهم كانوا بين أحد خيارين: إمّا أن يُزيلوا الدولة المملوكية ويحتضنوا العباسيين من أجل المشروعية، وإمّا أن يعترفوا بالخليفة العباسي بالقاهرة، فيصبحون في المنزلة الثانية بعد المماليك في مسألة حماية الإسلام السني وخلافته. ولأنهم عجزوا عن إسقاط الدولة المملوكية بعد عدة حملات ؛ فقد آثروا خياراً آخَرَ تماماً وهو اعتناقُ المذهب الإمامي الإثني عشري، فأبدعوا بذلك تقليداً  جديداً لاءَمَ عدة سياقات: أظهروا إمكان إقامة دولة شيعية رغم استمرار غياب الإمام، وتوافق ذلك مع مصلحتهم إذ لن يخضعوا لمرجعيةٍ حاضرة ، وتوافقَ ذلك مع مطامح الإداريين والمثقفين الإيرانيين شبه القومية (عاد اسم إيران زمين – أي بلاد إيران- إلى التداول في سجلاّت الدولة) ؛ وبخاصةٍ أنّ المذهب الإثني عشري كان قد كسب وقتها نصف السكّان بإيران والعراق. ثم إنّ الفقهاء الشيعة الذين كانت سلطتُهم أو ولايتُهم قد شملت إدارة الشأنين الديني  والاجتماعي للجماعات الشيعية في غياب الإمام، رأَوا إمكانَ الإسهام في المهمة الأُخرى دون الانغماس فيها بأنفُسهم وهي إقامةُ دولة التمهيد (انتظاراً لعودة الإمام أو ظهوره). ومع أنّ سلاطين الإيلخانيين لم يثبتوا جميعاً على المذهب  لأنّ عدداً منهم عادوا إلى التسنُّن ( تحت وطأة إقبال أقربائهم بآسيا الوسطى وأفغانستان وشبه القارة الهندية على التأسلُم والتسنُّن) ؛ فإنهم  فتّحوا الإمكانيات السالفة الذكر، فصار المسرحُ مهيئاً لأول مرةٍ لصراعٍ على مستويين: المستوى الجيوسياسي والجيواستراتيجي من جهة، والمستوى الديني والاعتقادي من جهةٍ ثانية. في الحقبة الأولى التي استعرضْناها ما كان الدينُ أو المذهبُ عنصراً أساسياً؛ إذ إنّ الفاطميين والزيدية إنما ظهروا على أرضٍ عباسية. وكانت الدولة العباسية تُصارعُ لاستعادة أراضيها من الدويلات التي تكاثرت، مستعينةً  في الصراع بالأُمم الإسلامية الأُخرى التي أقبلت على الإسهام، إلى جانب العرب والفُرس والديلم. وكان أبرز تلك الأُمم: الشعوب التركية التي اعتنقت بالإجمال المذهبَ السُنيَّ واتّخذتْ من الخلافة العباسية(التي صارت سنّيةً فعلاً بالمصلحة ثم بالانتماء) غطاءً في صراعها على السلطة في دار الإسلام، مع الآخرين، وفيما بينها. وهكذا فقد جاء العاملُ الديني في الحقبة الأُولى لاحقاً على العامل السلطوي والسياسي، وما كتب أبو حامد الغزالي كتابه: " المستظهري في الرد على الباطنية" ( الإسماعيلية) إلاّ  أواخر القرن الخامس الهجري. أمّا في الصراع الإيلخاني / المملوكي؛ فإنّ العاملين الجيوسياسي والديني تَسَاوقا وتَوازَيا، وإنْ ظلَّ العامل الأولُ أَظهَر؛ لأنّ الصراع بدأ في الواقع بين الإيلخانيين والمماليك قبل اكتشاف إمكانيات العامل الديني، ولأنّ الفريقين  السني والشيعي، كانا ما يزالان على امتزاجٍ شديدٍ في الشام وإيران والعراق، وأخيراً لأنّ الشيعة أنفُسَهم، ما كانوا قد اعتادوا على فكرة " دولة التمهيد" ( السابقة على ظهور الإمام)، بعد أن أخلدوا لشيئٍ من الهدوء على أثر عواصف الفاطميين والقرامطة والحشاشين، وإيثار المسالمة والتقية في التعامل مع الجمهور، ومع السلطات.

وعلى أيّ حال ، فقد كتب العلاّمةُ الحلّي (في مطالع القرن الثامن الهجري) كتابه المشهور: منهاج الكرامة في معرفة الإمامة، فردَّ عليه ابن تيمية من الشام ومصر بكتاب: منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقَدَرية ( والمقصود بالقَدَرية في العنوان: المعتزلة). يهتمُّ الحلّيُّ بالتدليل بالعقل والنقل على الأصل النبوي للإمامة، وتسلسُل الأئمة بالنص وليس بالتوريث، وعلى الغيبة باعتبارها حَدَثاً هائلاً يؤسِّس لخلاص الأمة والعالم أو أنّ مصيرهما يرتبط بذلك. ومع أنّ الحلّيّ لا يقول شيئاً عن كيفية السلوك في عصر الغيبة؛ لكنّ المفهوم أنه يترك ذلك للفقيه، صاحب السلطة في دراسة كل حالةٍ على حِدَة. وكان الشريف المرتضى (في القرن الخامس الهجري) قد رأى إمكانَ العمل مع السلطان العادل، واعتُبر ذلك وقتَها إذناً بالمُسالمة والصبر على الجور واللاشرعية في عصر الغيبة والتقية. ومعروفةٌ الطُرفة المنسوبة إلى ابن طاووس أمام هولاكو حين آثر الكافرَ العادلَ على المؤمن أو المسلم الجائر. أمّا في السياق الذي كان الحلّيُّ يكتب فيه؛ فإنّ السلطان الشيعيَّ ، يبقى طبعاً سلطاناً غير مكتمل الشرعية؛ لكنّ شرعيته أو نُصرته وليس طاعته فقط؛ لا تستندُ إلى عدله وحسْب ؛ بل إلى إيمانه بحقّ أهل البيت، وانتظاره مثل الجماعة الشيعية تماماً صاحبَ الزمان لكي يسلّمه مقاليد الأمور، مكتسباً من الفقيه بهذا الاستعداد، شـرعيةً إضافيةً باعتباره وكيلاً مؤتمناً على "دولة التمهيد". أمّا ابنُ تيمية، والذي كان عارفاً بعقيدة الغيبة، لكنه لم يكن واعياً لآثارها المحتملة على المستوى السياسي؛ فإنه آثر الردَّ والنقضَ على أمرين: عقيدة الإمامة أُصولاً وفروعاً، وعقيدة الغيبة لدى الشيعة، والأمر الآخر: العقائد المعتزلية في التنزيه والصفات وخَلْق أفعال الإنسان مع أنّ المعتزلة ( الذين من ضمن أُصولهم نفي القَدَر) كانوا قد انقرضوا تقريباً (وانتهى القدرية الأوائل في القرن الثاني) ؛ لإيمانه بأن الشيعة يعتنقون الآراء المعتزلية أو يستندون إليها في التدليل على أجزاءَ من مذهبهم في وجه أهل السُنة. أمّا الإيلخانيون أنفسُهم فقد اختار لهم ابن تيمية مصيراً آخَر، عندما اعتبر أنهم ما يزالون على كفرهم (كانوا شامانيين، أي بوذيين في الأصل)، مستدلاً على ذلك باستحلالهم للكثير من المحرَّمات، وبمحاربتهم الدائمة للمسلمين (المماليك وشعوب مصر والشام)؛ وهذا ما صرَّح به الرجل في رسالته "إلى السلطان الملك الناصـر في شأن التتار".  

وما اعتبرتُ خمودَ الصراع بين الإيلخانيين والمماليك نهايةً لهذه الحقبة؛ لأنّ الانزياحات الشعبية والجغرافية/ السكانية بين الطرفين استمرت بإيران وبالعراق وبخراسان وأذربيجان ومناطق آسيا الوسطى الأخرى وشبه القارة الهندية. وكان يمكن للأمر أن ينحسم لصالح الشيعة في شرق العالم الإسلامي على الأقلّ، لولا ظهورُ العثمانيين، قبل ظهور الصفويين بإيران. والصفويون هم الدولةُ الشيعيةُ الخالصةُ الأولى، التي خاضت حروباً دفاعيةً في مواجهة العثمانيين على مدى أكثر من قرن، وغُلبت مراراً، كما غُلبَ القاجاريون من بعدهم(*)، وما خمد الصراع وهدأ على دَخَن إلاّ في مطلع القرن الثاني عشر الهجري/ السابع عشر الميلادي. وخلال ذلك الصراع العسكري والاستراتيجي على المجالات والموارد والمنافذ، والبشر، والذي استمرّ زُهاء القرنين ونصف القرن، وخلف خراباً وانزياحاتٍ سكّانية لا تقلُّ هولاً عن الحروب المغولية وحروب تيمورلنك، اكتملت الأدبياتُ المذهبية الجدالية النابذةُ والناقضةُ بين الطرفين، والتي لم يُضف عليها السلفيون، من مريدي طهورية ابن تيمية وتلامذة ابن عبد الوهاب، كثيراً في الأزمنة الحديثة والمُعاصرة. وقد بلغ من هول الصدام وتأثيراته العقائدية والاجتماعية أنّ نادر شاه الأفغاني الذي حكم إيران لمدةٍ قصيرة، لم ير حلاًّ  للنزاع المستشري إلا بالتوحيد بين السنة والشيعة، ولذلك جمع- وهو السني بالوراثة – فقهاء الطرفين وناقشهم وضغط عليهم، دون أن يتوصل لشيئ!

إن هذه الحقبة الطويلة من الصراع والمعارك العسكرية ( بين القرنين الثامن والحادي عشر الهجري ،والرابع عشر والسابع عشر الميلادي) حدَّدتْ في الحقيقة الخطوط الاستراتيجية للإسلام الشيعي، وليس للإسلام السني. فقد انحصر  الإسلام الإثنا عشري بإيران وجوارها، مع صمود جيوبٍ شيعيةٍ في أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي باستثناء جنوب شرق آسيا. وما تغيَّر المشهدُ كثيراً في عصر الاستعمار، ولا فيما تلاه، حتى كانت الثورةُ الإسلاميةُ في إيران، على أثر اندلاع

-------

(*) لابن تيمية فتوى دعم فيها غزو الجيش المملوكي لمنطقة كسروان بجبل لبنان، والتي كان سكّانها من الشيعة، بحجة تآمُرهم مع بقايا الصليبيين(بقبرص). لكنني أُرجّح أنّ أولئك كانوا من الإسماعيلية، وفِرَق أُخرى، وليس من الإمامية الإثني عشرية؛ لأنه يعتبرهم من الباطنية، وأنه ليس في مناطقهم مساجد. وهاتان سِمتان لا تنطبقان على الإمامية.

إحياءٍ  ديني شيعيٍ وسنيٍّ متوازيين ومتقاربين في البداية، طوال نصف القرن الماضي.

 

II

لا يصحُّ تجاهُلُ التاريخيات والمذهبيات في التوتُّر الحاصل خلال العقدين الأخيرين بين السنة والشيعة. لكنْ من المؤكَّد أنه لا علاقةَ لما يجري اليوم بما كان عليه الأمر بين العثمانيين والصفويين، أو بين الحنابلة والشيعة ببغداد في القرن الخامس الهجري. بل إنّ هذين الأمرين ( التاريخي والمذهبي) لا يمكن حسابُهُما في مجال الذاكرة، وإن أمكن احتسابُهُما في مجال الوعي، أي بعد حصول التوتُّر. وهذا ما انتقدْتُهُ على إدوارد سعيد (وعلى سائر القوميين والإسلاميين) الذين أعادوا أصولَ الصراع الحالي بين المسلمين والغرب إلى الحروب الصليبية في القرن الثاني عشر الميلادي. وقد دلَّلوا على ذلك بأنّ الرئيس بوش ذكر " الحرب الصليبية" في مجال دفاعه عن تكتيكاته ضدّ "الإرهاب الإسلامي"، كما احتجُّوا بإشاراتٍ كثيرةٍ في الإعلام العالمي. ثم إن إدوارد سعيد ( في كتابه: تغطية الإسلام) ما قال بالتواصُل التاريخي أو بالذاكرة في ذلك؛ كما فعل القوميون والإسلاميون؛ بل قال به في مجال الوعي. أي أنّ الأميركيين العاديين أو بعضهم يعُون الصراع الدائر باعتباره صراعاً بين الحق والباطل ، وبين المسيحية والإسلام. والذي أراه أنّ هذا الوعي ( إنْ كان) فهو مصطنَعٌ أو مستجدٌّ بعد اندلاع الصراع ، وهو الذي يستدعي الذاكرة والتاريخ صُوَراً وأوهاماً.. وحقائق. والشأنُ كذلك في التوتُّر بين السنة والشيعة؛ فهناك مَنْ يُعيدُهُ إلى حياة النبي(ص)، والحساسية بين أمّ المؤمنين عائشة والإمام علي. وهناك مَنْ يعيدُهُ إلى " يوم السقيفة" حين اختير أبو بكر ولم يُختر عليٌّ لرئاسة الدولة الجديدة، أو لخلافة النبي(ص). وأنا أسمع منذ أعوام الشاعر العربي المعروف أدونيس (= علي أحمد سعيد) يُعيدُ الخلَلَ في إدارة الشأن العام لدى العرب والمسلمين إلى " يوم السقيفة" ذاك بالذات! بينما يذهبُ باحثون عربٌ كثيرون إلى أنّ النمط الاستبداديَّ في القيادة إنما يعودُ إلى فكرة الخلافة ومؤسَّساتِها بالذات! وكلُّ ذلك ليس أكثر من جَلْدٍ للذات، وتجنٍ على التاريخ، وسوء فهمٍ للواقع.

أطلّت الأزمنة الحديثةُ على المسلمين السنة والشيعة، وقد خمدت الحروب بين العثمانيين وإيران، والنُخَب السنية والشيعية على تواصُلٍ وتوادٍّ كبيرين، وكثيرٌ منهم ثُنائيُّ اللغة أو ثُلاثيُّها ، أي أنه يُتقنُ الفارسية والتركية والعربية. ونعرفُ اليومَ أنّ إيرانيين كثيرين متلهفين للتواصُل مع التقدم الأوروبي في القرن التاسع عشر ومطالع العشرين، اعتمدوا في معارفهم عن الغرب على الترجمات من اللغات الأوروبية إلى التركية والعربية، وعلى ما كانت تنشره المجلات العربية الجديدة. ومعروفٌ التأثير الكبير الذي تركه جمال الدين الأفغاني الإيراني الأصل في سائر أنحاء العالم الإسلامي، دونما فرقٍ بين الأوساط السنية والأُخرى الشيعية. وقد صدرت أبحاثٌ كثيرةٌ وما تزال عن العلاقة بين طبائع الاستبداد للكواكبي، وتنبيه الأمة للنائيني. وما نزال نقرأُ عرباً وإيرانيين وأتراكاً كتب المسلمين الهنود الصادرة في القرنين التاسع عشر والعشرين، في الدفاع عن الإسلام، وفي التجديد، دون أن نستطيع التمييز بين السني والشيعي من المؤلّفين، وما عرفتُ إلاّ قبل سنواتٍ قليلةٍ أنّ رحمة الله الهندي صاحب كتاب "إظهار الحقّ"، وسيد أمير علي صاحب" روح الإسلام" و"حياة محمد" شيعيان. أمّا شبلي النُعماني ومحمد إقبال، فهما رائدان تجديديان لدى السنة والشيعة على حدٍ سواء. ولو قرأنا اليومَ تعليقات الأمير شكيب أرسلان على كتاب لوثروب ستودارد "حاضر العالم الإسلامي" الصادر بالعربية عام 1929، لوجدْنا أنه يذكر المجدّدين من الفقهاء والمفكرين لدى الشيعة والسنة في آسيا الوسطى وإيران والهند، دونما تمييزٍ لمذاهبهم أو أصولهم الدينية والعِرْقية. وكانت هناك فكرةٌ عند الشيخ محمد عبده مؤدَّاها أنه ينبغي الإفادة من تقاليد "الاجتهاد" عند الشيعة، لفتح "باب الاجتهاد" المُغْلَق عند السنة. وفي ثورة العشرين على البريطانيين بالعراق، تعاون العلماء الشيعة والسنة، كما تعاونت العشائرُ السنية والشيعية لمواجهة المستعمرين. وعندما ذهبتُ للدراسة بالأزهر عام 1965م وجدْتُ أنّ بين المقررات الفقهية والمنطقية في دروسنا بكلية أصول الدين ثلاثة كتب اثنان منها لزيديَّين، والثالث لإثْني عشري.          

ولا يعني ذلك أنّ الأمور كانت كلّها على ما يُرام بين السنة والشيعة من الناحية الثقافية وحتى الاجتماعية. ففي مطالع الأزمنة الحديثة، كان هناك نهوضٌ سلفيٌّ  بنجد وباليمن وبالهند. وحدثت إغاراتٌ وهّابيةٌ كما هو معروفٌ على بعض المزارات الشيعية بالعراق، وظهرت أدبياتٌ  سجاليةٌ متبادلةٌ وردودٌ ونقائض. بيد أنّ ردود أهل السنة من أتباع المذاهب الفقهية على الوهّابية الأولى لا تقلُّ عنفاً عن الردود الشيعية عليها. وما وصلت تلك المجادلات إلى السلفية الهندية إلاّ في وقتٍ لاحق،؛ لكنها لعبت دوراً صغيراً لدى السلفيين المصريين في مطالع القرن العشرين. بيد أنَّ أولئك كانوا يهاجمون الشيعة في المسائل نفسها التي يهاجمون فيها تقليديي السنة من أتباع المذاهب الفقهية الثلاثة: الشافعية والأحناف والمالكية، أي زيارة القبور والتصوف والاحتفالات والموالد التي لم تَرِدْ بها النصوص. وقد بادر الشيعةُ والسنة، والشيعة قبل السنة، إلى تلافي تلك التبايُنات الطارئة بإنشاء جمعية التقريب بالقاهرة، والتي كان فيها علماء من الشيعة والسنة ، عملوا لأكثر من ثلاثين عاماً في شتى المجالات، من أجل فهمٍ متبادَلٍ، واعتبار التبايُنات اختلافاتٍ فروعية، وليس خلافاً يتسبَّبُ في التفرقة بين المسلمين. وكان أُستاذُنا بالأزهر الشيخ محمد أبو زهرة يحدّثنا عام 1968/1969 في دروس أصول الفقه عن اجتهادات المجتهدين الكبار بإيران والعراق، والتي استمع إليها، وعرف الكثير منها في جلساته معهم بالقاهرة إلى جانب الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر أواخرَ الخمسينات من القرن الماضي. وقد اشتهر عن الشيخ شلتوت إقدامه عام 1959 لأسبابٍ دينيةٍ وسياسيةٍ على اعتبار المذهب الجعفريّ مذهباً فقهياً خامساً إلى جانب المذاهب السنّية الأربعة يمكن تدريسُهُ بالأزهر. وكان من ضمن زملائنا بالمعهد الديني ببيروت(1960-1966) عددٌ من الشبان الشيعة، وذهب بعضهم معنا إلى الأزهر بمصر حيث اختاروا كلية اللغة العربية للتخصُّص العالي. وتزاملتُ بالأزهر (1966-1970) مع طلابٍ من الشيعةِ الإمامية من العراق وباكستان، وزيدية من اليمن، وعلويين من سورية وتركيا. وكانوا ينافسوننا على الولاء لمصر ولعبد الناصر. وكان واحدٌ منهم يحرص على التصريح بالانتماء للأشاعرة، في مواجهة السلفيين الذين بدأوا يظهرون بين الأساتذة والطلاب هناك في تلك الفترة.

إنّ هذا التواصل والامتزاج ما عاد ممكنَ الحدوث الآن. وقد رأيتُ في تسعينات القرن الماضي بضعة طلابٍ من أصولٍ زيديةٍ  وإماميةٍ في معاهد دينية سنية، لكنهم كانوا قد اعتنقوا السلفية، كما رأيت عشرات الطلاب من أصولٍ سنيةٍ في معاهد وكليات بإيران، لكنهم كانوا قد تحولوا إلى التشيع الإمامي. ويدرس بالحوزات الشيعية في لبنان وسورية طلبةٌ من أصول سنية من لبنان وسورية ومصر وفلسطين والمغرب، لكنهم الآن شيعةٌ ملتزمون.

أمّا العوامل الأساسية للتأثير وللتغيير، ولدى الطرفين، في القرن العشرين فتمثلت في ثلاثة أُمور: ظهور الدولة الوطنية أو القومية الحديثة، واندلاع حركة الإحياء الديني لدى الطرفين، والحرب الباردة والسياسات الدولية خلالها وبعدها. وقد ظهر الإحياء القومي قبل الديني، ثم ما لبثا أنْ تداخلا مع غلبةٍ للثاني على الأول. لقد أكَّدت حركتا الإحياء على الهوية الخاصّة والطبيعة الأصلية لكلٍ من المذهبين. وللوهلة الأولى ما بدا أنّ الإحيائية الإسلامية الجديدة سوف تفرِّقُ بين السنة والشيعة. فنواب صفوي زعيم فدائيان إسلام ، كان صديقاً كبيراً للإخوان المسلمين المصريين. وحزب الدعوة الذي أُنشئ بالعراق في أواخر الخمسينات أفاد من أفكار وتنظيمات الإخوان المسلمين المصريين(*). بل إنّ أبا الأعلى المودودي الذي أنشأ "الجماعة الإسلامية" بالهند عام 1941، حرص على أن يكونَ بين كوادرها سنةٌ وشيعةٌ؛ لكنه ما لبث أن تخلَّى عن ذلك بالتدريج بعد قيام دولة باكستان وانتقاله إليها. كانت الإحيائيات الإسلامية الطهورية الطابع لدى الطرفين تتجه ضدَّ الغريب والأجنبي، ثم ضدّ الأنظمة المحلية في الدولة الوطنية. ولذلك ما أحسَّ أحـدٌ بالتوجُّس من الآخر في البداية. لكـنّ الذاتيات الخاصة بدأت بالظهور

------

(*)  علمتُ من الرئيس هاشمي رفسنجاني والسيد الخامنئي أنهما انشغلا في ستينات القرن العشرين بترجمة بعض أدبيات الثورة الفلسطينية، وكتب سيد قطب صاحب مقولة "الحاكمية" إلى الفارسية. وقد اختار المرشد الأعلى للثورة الإسلامية بإيران السيد علي الخامنئي لكتابه ذي الأجزاء الثلاثة والمنشور بلبنان عام 2006 عنوان: حاكمية الإسلام بين النظرية والتطبيق.

والتبلور. وقد تبيّن لي في بحثٍ كتبتُهُ قبل عشر سنوات أنّ التطورات في القرن العشرين ( وقبل بروز الإحياء الديني لدى الطرفين)، في كلٍ من مصر وإيران، متوازية بل ومتشابهة(*).

سبق الإحياءُ القوميُّ لدى الإيرانيين والأتراك الإحياءَ القوميَّ عند العرب (لأن الهياكل القومية كانت قائمةً في دولةٍ لدى الطرفين). وعندما بدأ ذلك الإحياء لدى العرب، برز بين أعلامه المسيحيون من لبنان وسورية وفلسطين.. والعراق، والقوميون المتطرفون في إيران وتركيا. وقد اعتقد بعض هؤلاء ( وساندتْهم في اعتقادهم الدولةُ التي أقامها مصطفى كمال بتركيا) أنّ الدولة القومية العلمانية تؤمّن

المساواة والعدالة والتقدم، شأن ما حصل في أوروبا فـي القرنين الثامـن عشر والتاسع عشر. وقد أثار صعود العصرانيين لدى الإيرانيين ( أمثال حسن تقي زاده وكسروي) قلق الإحيائيين الإسلاميين الشيعة هناك. كما أثار ظهورهم لدى العرب (من أمثال فرح أنطون وشبلي شميّل وإسماعيل مظهر، وتيار واسع صريح ومضمر) قلق الإحيائيين السنة. بيد أنّ التوتُّر تبلور وتزايد وتمايَزَ ليس بسبب ظهور المتغرِّبين وقوة أُطروحاتهم في بنية الدول الوطنية الجديدة، بل لأمرين آخرين تسببت بهما تنظيمات الدولة القومية البازغة، والسياسات الدولية بالمنطقة. فمن جهة ظهرت خلافاتٌ على الحدود غيَّرتْ ما استقرت عليه الأمور تاريخياً منذ القرن السابع عشر. فقد تكوَّنت دولةٌ وطنيةٌ في عراقٍ جرى تركيبُهُ من ولاياتٍ عثمانيةٍ ثلاث، لم تحظ برضا الأتراك والإيرانيين على حدٍ سواء. وقد شكا العرب من استيلاء تركيا على اسكندرون العربية، واستيلاء إيران على الأهواز العربية، واستيلاء اليهود على فلسطين. وشكا الأكراد مـن أنه ما حُسب لهم حسابٌ في دولـةٍ رغم أعدادهم الكبـيرة في مناطـق متقاربة بتـركيا والعراق وسورية.. وإيران. وهناك مشكلات البنغاليين والبنجابيين والمهاجـرين الظاهرة بباكستـان بعـد الحرب الثانيـة، ومشكلات البلـوش بيـن باكستان وإيـران وأفغـانستان،

-------

  (*) رضوان السيد: العرب وإيران، الدولة والإسلام والمجتمع المدني؛ في كتابي: سياسيات الإسلام المعاصر، بيروت 1997، ص ص 112-156.

 

ومشكلات الهزارة والطاجيك والأوزبك بأفغانستان.. الخ. والأمر الآخَرُ الذي أحدثه ظهور الدولة الوطنية كان تسلُّل الإحساس إلى فئات وأقليات ( منها المسيحيون والشيعة، ومنها الأكراد والبربر)، ورغم التغطية "القومية" أو بسببها، بالغُبن والانظلام ؛ وشأنهم في ذلك شأن السنة في الدول التي وجدوا أنفسهم أقلياتٍ فيها مثل الهند والفيلبين وتايلاند وبورما(ميانمار)... وحتى إيران. وصحيحٌ أن "الحرب الباردة" بين الجبارين ضمن النظام العالمي بعد الحرب الثانية، تشبّثتْ بالحدود الجديدة، وحاولت تجميد التوتُّرات، وتثبيت الولاءات الوطنية الطالعة بحسب الانضواء في أحد المعسكرين؛ لكنّ الفئات ذات البُعد الأقلّوي ظلّت تلتمسُ تحسيناً لأوضاعِها، إمّا من طريق المشاركة في التغييرات الداخلية، أو من طريق التماس العون ( ولو المعنوي) من  الدول والمرجعيات التي تعتبرها الأقرب إليها. ولذلك فقد كان هناك تطلُّعٌ من الأتراك بقبرص مثلاً إلى تركيا، ومن جانب الشيعة بباكستان والبحرين ولبنان والعراق وأفغانستان إلى إيران.. الخ. وإذا عُدْنا إلى المسألة بين السنة والشيعة بعد هذا الاستطراد الطويل؛ نجد أنَّ هناك "ذاتيةً" شيعية ظهرت في الدول الجديدة ، وغالباً من أجل المساواة والمشاركة، وليس من أجل الانفصال ، وفي مناطق مثل العراق ولبنان  والبحرين وباكستان وأفغانستان وتنزانيا ونيجيريا.. الخ. وقد شكّل هذا الوعي مزيجاً من الإحيائيات القومية واليسارية والدينية يقوم على "استعادة الهوية" الخاصة، وتطلُّب تبلورها سياسياً. وبالإجمال فقد غلبت القضايا الإثنية في حقبة الدول الوطنية الأولى، والتوترات الأيديولوجية اليسارية في زمن الحرب الباردة، والمشكلات الدينية في حقبة الإحياء الإسلامي، دون أن يخمد البعد الإثني والقومي الأول كلياً.

إن قيام الثورة الإسلامية في إيران لا تنحصر أسبابه بذلك طبعاً. بيد أنّ الإحياءَ الإسلاميَّ ، وقد تعددت أسبابُهُ واجتياحاتُه، يحاولُ منذ عقودٍ وعند السُنّة والشيعة جَرْفَ الدولة الوطنـية التي قامت بالمشرق قـبل قُرابة القرن؛ وقد تمكّن من ذلك فـي إيران عام 1979 حيـن سقطت تلك الدولةُ في خضمِّ ثَوَرانٍ هائل،

 

ولصـالح المؤسسة الدينية التقليدية(*). ولأنه إحيـاءٌ إسلاميٌّ شيعيٌّ بالدرجة الأُولى – وليس إحياءً قومياًَ إيرانياً- فقد ترك آثاراً هائلةً على سائر الأقليات (والأكثريات) الشيعية في العالمين العربي والإسلامي والتي كانت تتطلع إلى إيران، على نحوٍ ما، حتى أيام الشاه كما سبق ذكره.

 

III

في الإسلام، كما في الديانتين الإبراهيميتين الأُخريين، اتجاهان كلاميان(لاهوتيان): اتجاه التنزيه والعدل، واتجاه الرحمة والعناية والفضل. والمعتزلةُ هم قـادةُ الاتجاه الأول (والذي يقال إنّ المؤسِّس واصل بن عطاء تأثر

فيه بالإمام زيـد بن علي بن الحسين)، وقـد تبعهم في ذلك الزيدية والإمامية الإثنا عشرية. أما الاتجاهُ الآخَرُ، أعني اتجاه الرحمة والعناية ( الإلهية) فهو اتجاهُ أهل السنة والجماعة. ويذكر مؤرّخو علم الكلام لزوال المعتزلة أسباباً بينها ضغوطُ الأشعرية السنية؛ لكنني أحسبُ أنّ علّةَ ذلك افتقار المعتزلة للجاذبية بين العامة، بسبب انشغالهم بمسألة العدل الإلهي، في تأكيدٍ على ما يشبهُ الصراعَ بين الله والإنسان، ثم عدم متابعتهم لأُصـولهم الأولى، وبينها أصلُهُمُ الخامس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أما في التشيُّع فإنّ العدل اتخذ منحىً إنسانياً وسياسياً بالدفاع عن حقّ أهل البيت، إضافةً للبُعد الديني العميق في مبدأ أو أصل الحقّ الذي يُواجهُ الباطل، ثم العقيدة الخلاصية المتمثلةُ في "الغيبة". والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً مرةً أُخرى بالحقّ الذي لا بد أن ينتصر على الباطل في النزوع المهدوي، مهما طال الزمان - وبالعدل المطلَق الذي تُنجزُهُ عودةُ الإمام: " الذي يملاُّ الأرضَ عدلاً كمـا مُلئت ظُلْماً وجَوراً ". وكما لا يمـكن تفسيـر التاريخ أو

------

(*) قمت قبل أعوام بترجمة كتاب روي متحدة: بردة النبي، الدين والسياسة في إيران، ونشر للمرة الأولى بالمجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة(2004)، وللمرة الثانية ببيروت عام 2007. وهو مفيدٌ جداً في فهم تركيبة الشخصية الإيرانية،  وأسباب تمكُّن رجل الدين الإيراني من الوصول إلى السلطة.

 

التجربة التاريخية للجماعات والأُمَم بالعقائد وحدَها أو بالتبلورات القومية وحدها؛ فكذلك لا يصحُّ اعتبارُ  التجربة التاريخية أو العقيدة الشيعية لدى الإمامية مفتاحاً وحيداً لفهم السايكولوجيا الجماعية للشيعة (هل توجد سايكولوجيا جماعية؟!)، وإن لم يمكن تجاهُلُها. فالمظلوميةُ الناجمةُ عن مقتل الأئمة، وعدم قدرة أوائلهم (باستثناء الإمام علي) على الوصول إلى السلطة، ثم الاضطهاد الذي لاحق الجماعات الشيعية في حقبة نشوئها الأولى؛ كلُّ ذلك استقرَّ في الذاكرة والوعي، وتمثّل شعائرياً في طقوس التعزية الحسينية لدى الإمامية، ، التي هدفُها إيقاظُ ذاكرة المآسي، من طريق الوعي الواعي، حتى في إيران التي أنجز الشيعةُ دولتَهم فيها قبل أكثر من أربعة قرون. وهكذا فقد أصبحت شعائر التعزية وطقوسها- بغضّ النظر عن وقائع الحياة السياسية والاجتماعية- ولدى العامة وسيلةً رئيسيةً (واعية أحياناً وغير واعيةٍ أحياناً أُخرى ، لكنها عميقة المغزى في كل الحالات) للحفاظ على خصوصية الجماعة وتمايُزها ووحدتها الشعورية واللاشعورية. ولأنّ ذلك يقترن بيقينية عقيدة الحقّ( الذي يعلو على العدل أحياناً ويوازيه أحايين)، وعقيدة الغيبة المرتبطة به؛ فإنّ ذلك يُصيِّر الشيعة الإمامية والفرَقَ الدينية في سائر الأديان ذات الصبغة الخلاصية، وفي أزمنة التحولات الروحية الكبرى (والإحياء الإسلامي، والآخر البروتستانتي، هما الأكثر دلالةً وثوراناً في العالم اليوم)، إلى ما يشبه الأحزاب الصلبةَ، وبخاصةٍ إذا توافرتْ لها قيادةٌ كارزماتيةٌ قوية، وأحاطت  بها حواجزُ وعوائقُ وموانعُ وعداواتٌ وتوجُّساتٌ ، كما حصل مع الثورة الإسلامية في إيران. فالذاكرة الموقَظة الملتاعةُ والغاضبة لا تُحاسِبُ نفسها بل الآخر، وهي لا تعتمدُ في ذلك على الأحداث التاريخية التي تُستعادُ أبداً فقط؛ بل وتبحثُ عن الخصوم الحاضرين  والظالمين القائمين، تثبيتاً ليقينها، ولكي يظلَّ الشرُّ متجسداً أو قريباً من التجسد في الواقع كما هو في الوعي. والمأساوي أنه في لحظة الذروة لهذه التطورات بإيران(1978-1980)، والوعي الخصوصي والخلاصي الشيعي في أقصى درجات توتره، وقد صارت الولاياتُ المتحدةُ الشيطان الأكبر، شنّ صدَّام حسين حربَهُ الصاعقةَ عليها، فأيقظ ذلك تحليلاتٍ حديثة الطابع ( التآمُر مع الولايات المتحدة)، وأحاسيسَ ووعياً عميقاً في الذاكرتين القومية (الفتح العربي لإيران، وكراهية الشعوبيين القُدامى للعرب والإسلام) والدينية (السنة ضد الشيعة). وكأنّ ذلك كلَّه ما كان كافياً، إذ انصرفت الدعايةُ العراقيةُ وغير العراقية، والقومية والسلفية للتنديد بالفرس (المجوس)، وبالشيعة (العقائد السرية الباطنية، والقول بتحريف القرآن، وشتم الصحابة). وليس المهمّ كم صدَّق الجمهور العربيُّ (السني) ذلك ؛ بل المهمُّ الأَثَرُ الذي خلّفتْهُ في نفوس الإيرانيين (وبين مثقفيهم كثيرون يعرفون العربية)، وفي نفوس الشيعة العرب، ومنهم الكثرةُ العراقيةُ التي استقرَّ في وعيها أنّ النظام يمارسُ في حقّ عامِتها تمييزاً مزدوجاً: باعتبارهم شيعة، وباعتبارهم عراقيين.

وما وقفت القيادةُ الثورية الإيرانية مكتوفةَ اليدين، أمام هذا التحدي الملحمي بينها وبين العرب، وبينها وبين الولايات المتحدة. ففي الوقت الذي هاجم فيه صدَّام حسين دولةَ الثورة الإسلامية، صدر الدستور الإيراني الجديد، الذي يقيمُ نظام "ولاية الفقيه"؛ أي يُسبغ على الدولة البازغة طابعاً ثيوقراطياً مهدوياً، وظهرت تنظيمات الباسيج والباسدران والحرس الثوري للدفاع عن"دولة التمهيد" الحقّ، واحتجز طلبة "خطّ الإمام" الدبلوماسيين الأميركيين في السفارة الأميركية (وكر الجواسيس) بطهران، وأقبل مئاتُ ألوف المتطوعين إلى الجبهة المستعرة مع العراق، وبينهم ألوف سيقضون أثناء اندفاعهم لاقتحام حقول الألغام العراقية، ليبلغ ضحايا الحرب من الطرفين حوالي المليون، أكثرهم من الشيعة-  دون أن ينسى الإمامُ الخميني اشتراعَ يومٍ للقدس، حطاً على العرب الذين تركوا القدس وفلسطين لمصيرهما، ومضوا لمقاتلة إيران!

بيد أنّ الأبرزَ والأكثر لفْتاً للانتباه (وهو أمرٌ ما جرى التنبُّهُ إليه إلاّ بعد سنواتٍ طوال) طرائق إيران  في عصر ولاية الفقيه( بل طريقتها لأنها واحدة) في التعامُل مع الشيعة خارجَها، في ديار العرب والإسلام، وفي العالم الأَوسع. فهي ما اكتفت بكسْب تأييد هؤلاء وحماسِهِمْ (ومعهم كثيرون من شبّان السنّة) ، باعتبارها مرجعيةً شيعيةً وثورية. بل اقتضت دعوى القيادة الأَوحد للشيعة في العالم من خلال ولايـة الفقيه (وليس باعتبار نظامها نظاماً شيعياً وحسب كما في أيام الشاه)، إقامةَ تنظيماتٍ داخلَ كلّ الجماعات الشيعية في العالم، تتبع الوليَّ الفقيه في

 

المسائل الدينية والحياة الشخصية والعامة. وقد تحولت تلك التنظيمات في البلدان التي تنتشر فيها الفوضى مثل لبنان وأفغانستان إلى تنظيماتٍ مسلَّحةٍ؛ في حين بقيت سريةً في أكثر البلاد الإسلامية، مع التمايُز في أُسلوب الحياة، وانتشار التذمُّر في صفوفها، والمناكفات مع الأنظمة القائمة؛ وبخاصةٍ تلك التي ما كانت علاقتُها بالنظام الجديد في إيران جيدة بسبب علاقتها بالولايات المتحدة، أو دعمها للعراق في الحرب عليها. كما أنّ النظام الثوريَّ الإيرانيَّ أنشأ واستقبل أو دعم تنظيماتٍ معارضة( ما كانت شيعيةً كلَّها) من البلدان العربية والإسلامية استخدمها فيما بعد في الجهات الأكثر إزعاجاً لخصومه ومناوئيه( من مثل المجلس الأعلى للثورة الإسلامية  وحزب الدعوة بالعراق، والجهاد الإسلامي في فلسطين، وحزب الوحدة في أفغانستان، وفي العقد الأخير: حركة حماس).

وعندما انتهت الحرب العراقية-الإيرانية عام 1988 وتوفّي الإمامُ الخميني بعدها بقليل، بدا أنّ الأمورَ بين السنة والشيعة، وبين العرب والإيرانيين هدأتْ بعض الشيئ. فالعراق تلقّى ضربةً قاسيةً جداً على أثر مهاجمته للكويت. والسيد الخامنئي( الذي خَلَفَ الخميني في منصب المرشد الأعلى للثورة، الولي الفقيه) والرئيسان رفسنجاني(8 سنوات)، وخاتمي(8 سنوات) اتجهوا جميعاً للعضّ على الجُرح، وإعادة البناء، والانفتاح على دول الجوار، وعلى العالم. وبُذلت جهودٌ كبيرةٌ من جانب العرب والمسلمين الآخرين، ومن إيران، لتجاوُز آثار وعقابيل النزاع الذي اتّخذ وجوهاً عدَّة. وباستثناء مصر؛ فإنّ العلاقات العربية- الإيرانية الرسمية، والعلاقات الإيرانية- الإسلامية الرسمية تحسنت واستمرت في التحسُّن بالفعل. لكنْ إلى جانب العلاقات الرسمية استمرت التنظيماتُ الشيعية والأخرى المدعومة من إيران في العمل والفعالية. وقد نبّهت إلى استمرار التنازُع والتوجُّس بعضُ الأحداث هنـا وهناك وفي العالمين العربي والإسلامي. وتمثّلت في التنافُس

 

بين إيران والسلفيين(*) في المجال الجديد بجمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز، وهواجس وشائعات "تشييع" العوام السنة في بعض النواحي والمناطق أخيراً(**)، وفي دورات العنف بين المتشددين السنة والشيعة في باكستان، وفي عودة التوتر بين السنة والشيعة على أثر صعود طالبان في أفغانستان، وحوادث متفرقة أُخرى بين الجاليات الإسلامية ببلدان المهاجر، إذ انقسم هؤلاء إلى سنةٍ وشيعة تصارعوا على المساجد، وعلى العلاقة بدول المهاجر. فالذاتيةُ الشيعيةُ التي بدأت قبل الثورة الإسلامية الإيرانية ، وخارج إيران، بصورة تطلُّب هويةٍ خاصّة، تبلورت بعدها في انفصالٍ وانقسامٍ عاموديٍ ما اقتصر على الفئات المتدينة على النمط الجديد من الفريقين، بفعل التشدد السلفي لدى بعض أهل السنة، والعلاقة الولائية بإيران لدى كثرةٍ من الشيعة.

وكانت الإحيائية الإسلاميةُ الأُخرى، أعني السنية( المطعّمة بالسلفية)، وفي الوعي وليس في الواقع، بين أسباب عودة التوتُّر إلى الاندلاع بين السنة والشيعة؛ وإنْ بشكلٍ غير مباشر ، بعد أن تهيأت أرضيتُه وأسبابُه. فالإسلامُ السياسيُّ السني الذي تبلورت إليه تلك الإحيائية، وبخلاف الإحياء الشيـعي، ما استطاع الوصولَ إلى السلطة في دولةٍ سنيةٍ رئيسية. بيد أنَّ تَوْقَهُ لذلك ما توقَّف أو خبا. ويكونُ علينا أن لا ننسى أنّ الرئيس المصري أنور السادات سقط برصاص جهاديي الإحيائيين السنة عام 1981، أي بعد عامين على وصول الإحيائيين الشيعة للسلطة بإيران. ولخالد الإسلامبولي شارعٌ باسمه في طهران حتى اليوم؛ لأنّ الإسلاميين الإيرانيين ما نسُوا إيواءَ الرئيس السادات للشاه محمد رضا بهلوي بعد مغادرته لإيران، وعدم إلْجائه بالولايات المتحدة! وفيما عدا الاشتراك في الرؤية ( ولاية الفقيه لدى

------

(*) يذكر ولي نصر في كتابه(2006): Shia Revival ( صحوة الشيعة) أن السلفية في شبه القارة الهندية، وخارجها، هي السبب الرئيس للتوتر مع الشيعة، وبالتالي لثورانهم هناك ثم في كل مكان. وهذا لا دليل عليه لا في الوطن العربي، ولا في باكستان حيث فاز عام 2007 في الانتخابات حزب الشعب، الذي تدعمه الأقلية الشيعية هناك دعماً قوياً.

(**) ظهر كلامٌ كثيرٌ في الإعلام عن " التشييع" في السودان وسورية ولبنان ومصر والمغرب وآسيا الوسطى وإندونيسيا ونيجيريا وتنزانيا.

 

الشيعة منهم والحاكمية لدى السنة)، والأهداف ( ضرب الدولة الوطنية المتغرّبة، والاستيلاء على السلطة)؛ ما تشابهت مصائر الأصوليتين . فبالإضافة إلى عدم وصول الأصوليين السنة للسلطة في دولةٍ رئيسيةٍ من خلال حركةٍ شعبية زاخرة (وصلوا إلى السلطة بالسودان من طريق الانقلاب العسكري!)؛ اختلفوا عن نظرائهم الشيعة في الانقسام إلى تيارٍ رئيس، ما عاد يقول بالعنف، ويريد المشاركة في الشأن العامّ سِلْماً ومن خلال المؤسَّسات القائمة – وتيار أقلوي متشدّد سلك سبيل " الجهاد العالمي" أو الشامل، أي ضدّ القوى العظمى والغرب، وضدّ الأنظمة القائمة في البلدان العربية والإسلامية. وما اصطدم الإحياءُ السني بالآخر الشيعي حتى الآن بشكلٍ ظاهر رغم الحساسيات العالية بينهما؛ إذ إنّ كلاً منهما ما يزال يناضل ضد خصومه الرئيسيين؛ ويجد كلٌّ منهما نفسَه محتاجاً للآخر أحياناً. لكنّ  بعض المتشددين السنة، والذين يمثّلون لقاءً بين الجهاديين والسلفيين (ومن هنا تسميةُ القاعدة والتنظيمات المشابهة: السلفية الجهادية)، ورثوا سلبيةً أعلى تُجاه الشيعة بشكلٍ عامٍ هي من مواريث السلفية (وقد ظهرت في السنوات القليلة الماضية بالعراق). والأمر الأخير الذي يستحق الذكر في اختلاف التطور بين الاتجاهين، أنّ الإحياء الشيعي استطاعت المؤسسة الدينية الشيعية استيعابه وقيادته من خلال تقليد ولاية الفقيه، وتمركز في إيران جامعاً المواريث الدينية والمؤسسية والقومية للبلاد؛ بينما اصطدم الإحياء الديني السني بالمؤسسة الدينية السنية التقليدية، كما اصطدم بالدولة، وبالمجتمع الدولي والعالَم.

وما أعنيه بذلك أنه بعد أن صادم الجهاديون السنّة الاتحاد السوفياتي ثم روسيا الاتحادية في أفغانستان وفي آسيا الوسطى والقوقاز، والشيشان، شنُّوا حرباً على الولايات المتحدة والغرب بلغت ذروتَها في 11 أيلول (سبتمبر عام 2001) بـ "غزوة" نيويورك ( برج التجارة العالمي) ووشنطن (وزارة الحرب الأميركية، ومقر المخابرات المركزية). وردَّت الولايات المتحدةُ ومعها الغرب والشرق بإعلان الحرب عالمياً على "الإرهاب الإسلامي"، السني بالتحديد. ومن ضمن وقائع تلك الحرب المستعرة حتى اليوم احتلال أفغانستان أواخر عام 2001، واحتلال العراق عام 2003. وقد أفادت إيران من تلك الحروب (التي تشاورتْ الولايات المتحدة معها بشأنها، والتمست تعاونها أو حيادها) بزوال نظامين كريهين بالنسبة لها هما نظام طالبان بأفغانستان، ونظام صدَّام حسين بالعراق. ويسودُ اليومَ في المناطق الشيعية بأفغانستان تنظيمٌ شيعيٌّ مُوالٍ لها، كما يحكم بالعراق اليوم (2005-2010) أيضاً تنظيمات شيعية كانت في المنفى بإيران، وعادت منها إلى العراق مع الغُزاة الأميركيين أو بعدهم. والأَمْرُ كذلك مع حزب الله بلبنان، والذي أنشأه الحرسُ الثوريُّ الإيراني أواخرَ العام 1982، ودرّبه وسلَّحه لمقاتلة الاحتلال الإسرائيلي بجنوب لبنان، وهو يدينُ بالولاء لمرشد الثورة الإسلامية بإيران، كسائر التنظيمات الشيعية التي نثرتْها إيران في البلدان العربية والإسلامية والمهاجر. وقد هدأت الجبهةُ بين حزب الله وإسرائيل بعضَ الشيئ بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000، وعلى أثر المهادنة  العملية الحاصلة بين إيران والولايات المتحدة. لكنّ الصعوبات الأميركيية بالعراق، وزيادة نفوذ إيران في ذلك البلد، وبروز الاهتمامات النووية الإيرانية، وتغيُّر السياسات الأميركية بالمنطقة، ووصول المتشدّد محمود أحمدي نجاد إلى رئاسة الجمهورية بإيران، وحملاته الشعواء على السياسة الأميركية، وعلى إسرائيل؛ كلُّ ذلك أعاد التوتُّر بين الدولتين. ولذلك فقد شنَّ حزب الله غارةً شعواء على إسرائيل في 12 تموز(يوليو) عام 2006، أجابت عليها إسرائيل بحربٍ مدمِّرة على لبنان أبعدت خلالها الحزب عن الحدود مع فلسطين المحتلّة، لكنها ما استطاعت القضاءَ عليه. وقد أدَّت حرب تموز(يوليو) إلى توتُّرٍ كبيرٍ وانقسامٍ في لبنان، وبخاصةٍ بعد تصريح السيد الخامنئي بأنّ إيران ستُنزل هزيمةً بالولايات المتحدة في لبنان. وبالفعل فقد ارتدَّ الحزبُ إلى بيروت، وحاول إسقاط رئيس الحكومة( السنّي) وترافق ذلك مع خطاباتٍ ناريةٍ لزعيم الحزب السيد حسن نصر الله اعتبر فيها رئيس الحكومة اللبنانية ومُشايعيه عملاء للولايات المتحدة وإسرائيل، وقال إنهم  دفعوا إسرائيل لضرب حزب الله، وخطّطوا لتهجير الشيعة من طريق منعهم من العودة للجنوب! وقد اعتصم حزبيون من حزب الله، وبعض الفُرقاء الموالين لسورية، أمام السراي الحكومي لأكثر من عامٍ ونصف. وهكذا فبعد العراق وحروبه ( التي تحولت في وجهٍ ضمن وجوهها المتعددة إلى مذابح بين السنة والشيعة فيه)، كاد التوتر السياسي والاجتماعي والطائفي أن  يتحولَ إلى نزاعٍ مفتوح بين السنة والشيعة بلبنان أيضاً. وقد حدثت جرائم طائفيةٌ بين الطرفين بالفعل؛ أمكن تجاوُزُها بتدخلٍ سعوديٍ وإيراني، ولأن الطرفين السني والشيعي بلبنان، لا يملكان ذاكرةً نزاعية شأن نواحٍ أخرى في العالمين العربي والإسلامي. وما يزالُ حزب الله (ومن ورائه جمهورٌ شيعيٌّ زاخر) قائماً بسلاحـه وأجهزته و"أُمّته"، فيما يُشْبهُ الكيان الذاتي المنفصل والمُواجه للدولة اللبنانية (حسبما قاله كاتبٌ لبنانيٌّ من أصل شيعي: دولة حزب الله، 1994). والمعروف أنّ حزب الله عندما عجز بعد "انتصاره" في حرب العام 2006 ضد إسرائيل، ومحاصرة حكومة الرئيس السنيورة على مدى أكثر من عامٍ ونصف عن إسقاط تلك الحكومة؛ فإنه لم يتردد في حسْم الأمر لصالحه بالدخول مع حلفائه إلى بيروت بالسلاح (7 أيار، 2008)، وإرغام الرئيس السنيورة(*) ومن بعده الرئيس سعد الحريري، في اتفاق الدوحة وبعد الانتخابات النيابية(حزيران/ يونيو2009)، على إقامة حكومة فيها ثلثٌ معطِّل، أو حكومة "وحدة وطنية"  كانت له الغلبةُ فيهما وما تزال. ومنذ تموز (يوليو) عام 2010، ورغم انشلال حكومة الوحدة بدون سبب ظاهر؛ انفجرت أزمةٌ جديدةٌ ناجمة عن مطالبة حزب الله والسوريين الحريري بالإعراض عن المحكمة الدولية، للخشية من أن تتهم المحكمة العتيدة في قرارها الظني أفراداً من الحزب أو من السوريين بالمشاركة في اغتيال والده الرئيس رفيق الحريري(14 شباط / فبراير2005).

                

IV

وفي الخلاصة: بين السنة والشيعة تمايُزاتٌ في الاعتقاد والفقه ورؤية العالم. وقد أحدثت تلك التمايُزات التاريخية، والتي تبلورت اجتماعياً وسياسياً، احتكاكاتٍ ذات طابع مذهبي أحياناً. لكنها في التاريخين القديم والحديث ما تحولت ---------

(*) سمَّى الرئيس فؤاد االسنيورة في كتابه عن أعمال حكومته الثانية المتشكلة بعد اتفاق الدوحة تلك الحكومة: الحكومة المقيّدة (صدر الكتاب عام 2010).

إلى فتَنٍ وحروبٍ إلاّ على مستوى الدول، أو بالأحرى: إنّ تلك العلاقات ما توتّرت حقاً إلاّ عندما كانت الحربُ تنشب بين إيران (الشيعية) وإحدى الدول السنية أو المدعية لذلك ( العثمانيون قديماً وصدام حسين حديثاً)، ولأسبابٍ غير دينية أو مذهبية في الأصل، أو عندما تفرض ذلك السياسات الدولية (كما في حالة العراق وأفغانستان اليوم).  بيد أنّ التوتُّر الكبير الحاصل بين الطرفين في الزمن المعاصر هو نتاج ثلاثة عوامل: الإحياء القومي، والإحياء الديني، والسياسات الدولية الفاعلة أو المؤثّرة في حقبتي الإحياءين. ظهر الإحياء القومي في العالم الإسلامي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وفي ظلِّه تكونت الدولةُ الوطنيةُ / القوميةُ لدى العرب، وتطورت بحسبه لدى الأتراك والإيرانيين. وفي حقبة "الإحياء" الأول هذا تبلورت ذاتياتٌ، وانتعشت حساسياتٌ، بفعل متغيرات الحدود، وظهور مشكلات الأكثرية والأقلية الإثنية والدينية والطائفية، والصراعات على السلطة، وفشل نظام الدولة الوطنية/ القومية في إرضاء تطلُّعات سائر الفئات؛ وبخاصةٍ أهل الخصوصيات الإثنية والدينية والمذهبية الذين شعروا بالاختناق للنزوع الطاغي للدمج القسْري المُلْغي للتمايُزات، من جانب رعاة الدولة القومية والوطنية. ومع اندلاع الإحياء الديني لدى السنة والشيعة بعد الحرب العالمية الثانية، تصاعدت تلك الذاتيات وتبلورت دون أن يصطدم الإحيائيون الشيعةُ والسنةُ أحدهما بالآخر لانهماك كلٍ منهما في استعادة "الهوية الذاتية" والخاصة، واتجاه كلٍ منهما لجرف الدولة الوطنية / القومية. وفي  مجال الإحياء السني بالوطن العربي ما يزالُ التصارعُ والتحدي قائماً وجارياً بين الدولة الوطنية والإسلام السياسي. أمّا الإحياء الإسلامي الشيعي فقد تمكَّن من الاستيلاء على السلطة في الدولة القومية الإيرانية، ومن طريق المرجعية الدينية التقليدية. وهناك أقام نظاماً ثيوقراطياً اعتبر نفسه القيادة الأكثر مشروعيةً للشعب الإيراني منذ خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، والزعامة الأوحديةَ للشيعة في كلّ العالم. وفي ذروة الثوران الكبير للإحياء الشيعي بإيران وفي العالمين العربي والإسلامي، قام نظام صدَّام حسين بالعراق، وباسم العروبة تارةً، وباسم الإسلام (السني) تارة أُخرى؛ بشن حربٍ شعواء على الجمهورية الجديدة، استمرت ثماني سنوات. وقد أحدث الإحياء الديني الشيعي، والحرب العراقية، والسياسات الدولية (الولايات المتحدة)؛ كلُّ ذلك شرخاً عميقاً بين العرب وإيران، وشرخاً بين الشيعة والسنة. وأقبلت إيران من جهتها على إقامة تنظيماتٍ حزبية شيعية موالية لها دينياً، وأُخرى غير شيعية موالية لها سياسياً، في البلاد العربية والإسلامية. وقد هدأت الأمور بين العرب وإيران بعض الشيء بعد توقف الحرب العراقية- الإيرانية عام 1988. لكنّ النشاط الديني والسياسيَّ الإيرانيَّ في العالمين العربي والإسلامي لم يتوقف في التسعينات. وتطوَّرت المُهادنة بين إيران والولايات المتحدة بعد العام 2000 بسبب التصادُم بين أميركا والإحياء الإسلامي السني(متمثّلاً بالقاعدة أو السلفية الجهادية)؛ في الوقت الذي اشتدّ فيه التوجُّسُ الأميركي ( في إدارة بوش الأولى التي سيطرت فيها رؤى وسياسات المحافظين الجدد) من الإسلام السني، ومن العرب، في الوقت نفسه. وهكذا أفادت إيران من الحرب الأميركية على الإرهاب، وعلى الأنظمة الفاشلة،  بالتخلُّص بواسطة الغزو الأميركي من نظام طالبان بأفغانستان، ومن نظام صدَّام حسين بالعراق. ويتبلور بعد العام 2005 بالعراق نظامٌ تسيطر فيه الكثرة الشيعية، وقد يتحول إلى منطقة نفوذٍ إيراني بموافقة الولايات المتحدة. وقد أسهم الاضطراب الذي أحدثته السطوة الأميركية، والغلبة الشيعية في زيادة التوتر بين السنة والشيعة وحدوث مذابح متبادَلة وهائلة نُسبت كلها إلى الزرقاوي والقاعدة(!)، وتهجَّر بنتيجتها مليونا سُنّي من البلاد، مضت كثرتهم الساحقة إلى الأردن وسورية. لكنْ بسبب التجاذُب مع الأميركيين بعد العام 2005 على العراق، وعلى النووي، وعلى سياسات العزل والحصار، أيقظت إيران خلاياها وحلفاءَها المتنبِّهين والنائمين في العالمين العربي والإسلامي، لصون مصالحها الوطنية من جهة، ولمشاركة الولايات المتحدة في "الشرق الأوسط الجديد" من جهةٍ ثانية. فازداد الاضطرابُ الطائفيُّ في العراق، - والذي أحدثه الغزو الأميركيُّ- تفاقُماً واستعاراً، واصطدم حزب الله في لبنان  بإسرائيل ثم بالحكومة اللبنانية، وتفاقم الاصطفاف في البحرين، وكاد الشيعةُُ ينفصلون في أفغانستان.. وهذا فضلاً عن التوتر المتصاعد  بين الطرفين باليمن والكويت.

        وفي المحصِّلة: هناك شرخٌ اليومَ بين الشيعة والسنة، وبين العرب وإيران، ولأنّ إيرانَ تستخدم تنظيماتِها وحلفاءَها في الوطن العربي، في تجاذُباتها مع الولايات المتحدة، ومنافراتِها مع هذا النظام العربي أو ذاك؛ فلا سبيل لتهدئة التوتُّر في المدى القريب إلاّ إذا حدثت تحولاتٌ في السياسات الدولية باتجاه تخفيف التوتر مع إيران. إنما وفي كل الأحوال لا بد من  استمرار التواصُل الرسمي العربي مع الدولة الإيرانية. أمّا في المدى المتوسِّط، فقد يكونُ من المفيد متابعةُ وتقويةُ التواصُل الديني والتواصُل الثقافي مع الجهات الدينية والثقافية بجمهورية إيران الإسلامية؛ وكذلك إجراء مُحاورة استراتيجية؛ بحيث نخرج من الاشتباك باتجاه التشابك، كما يوشك أن يحصل مع دولة الجوار العربي الكبرى الأخرى: تركيا. أما مع الشيعة العرب، وفي ديار العالم الإسلامي الأخرى، فلا بُدّ من علاقاتٍ ووجوه تواصل أكثر حميميةً وتفهماً واستيعاباً ضمن المجتمعات الوطنية، وضمن المؤسسات الإسلامية الشاملة.

وتبقى المسألةُ الأساسُ والتي تفجرت وما عاد تجاهُلُها ممكناً، وهي الفِصاماتُ والتشقُّقاتُ في المجتمعات الوطنية على مدى الوطن العربي، والعالم الإسلامي، تارةً بسبب الأقليات والإثنيات، والأحاسيس والمشروعات المتناقضة، وتارةً بسبب الإحياء الديني الأُصولي أو المذهبي. فكما لم تحمنا الوحدةُ الإثنيةُ واللُّغوية من بروز نوافر وراديكاليات ضمن الأقليات العِرقية والثقافية؛ فإنّ الكثرة السنية الهائلة في المدى العربي والإسلامي لا تُلغي الإدراكات الأخرى المذهبية أو السياسية؛ وبخاصةٍ في عصر الإحياء الإسلامي (الشيعي والسني)، والذي يؤكّد على التمايُزات، وعلى "العودة للذات"، بل ويعملُ ويفعلُ من خلالها، كما من خلال الإدراكات الوطنية والقومية.

إن الاجتماع التقليدي الإسلامي بترتيباته وتركيباته وتعدديته وآليات حركته، ما خلخلتْهُ السياسات الدوليةُ التدخليةُ وحسْب؛ بل المتغيران الآخران اللذان أنتجتهما الحداثةُ ذاتُها: الإحياء القومي(الدولة الوطنية)، والإحياءُ الديني (الأصوليةُ الإسلامية)؛ وفي حين تلاقى الإحياءان بإيران فتجاورا وتحاورا وتجاذبا دون أن يعني ذلك استكانةً مطلقةً من أحدهما للآخر؛ من خلال قيام نظام ولاية الفقيه  في تلك الدولة القومية الكبرى والعريقة- ما يزال الإحياء الديني السنّي، يتصارعُ مع الدولة الوطنية في أكثر الكيانات ذات الأكثرية السنية. وفي كلّ الأحوال ؛ فإن المخاض العميق ما يزالُ جارياً وشاسعاً ليس لدى الطرفين العربي والإيراني، والسني والشيعي فقط؛ بل ولدى الأطراف  الصغرى الأخرى في العالم الإسلامي: {واللهُ غالبٌ على أمره، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون}.

المصدر: http://www.ridwanalsayyid.com/ContentPage.aspx?id=80#.VzwX17grLIU

الأكثر مشاركة في الفيس بوك