الجماعة والتقليد والإصلاح

الدكتور رضوان السيد

 

عندما نتحدث عن الدين أو الإسلام هذه الأيام، تختلط في أذهاننا وأقوالنا ثلاثة عناصر أوعوالم أو مستويات هي: الاعتقادات والعبادات، والتجربة التاريخية الزاخرة، والتجربة الحديثة والمعاصرة في القرن العشرين وإلى الزمن الحاضر. ولا بد أن نعترف بأنّ المشهد الحاليَّ للاسلام  مُقْبِضٌ  وللجهتين: لجهة الاختلاف حولَهُ بالداخل، ولجهة رؤية العالم له. أما الاختلاف من حوله بالداخل فيدور بالأساس حول ظاهرتين: الجهاديات العنيفة التي انفجرت بداخله، والظاهرة الأُخرى ما صار يُعرفُ بالإسلام السياسي، الذي صار يحظى بجمهورٍ معتبرٍ يعتقد أنّ دينه يمتلك مذهباً سياسياً كاملاً، والمسلمون جميعاً مكلَّفون بتطبيقه تحقيقاً للشرعية في الدولة والمجتمع. أما رؤية العالم للإسلام فهي شديدة السلبية، وبخاصةٍ بعد إغارة أُسامة بن لادن على الولايات المتحدة عام 2001. وبعد أن انشغلت الدول الكبرى الغربية والشرقية لأكثر من عشر سنواتٍ بدفع الهجمات عنها التي يمكن أن يشنَّها الجهاديون الآتون من إحدى الدول العربية والإسلامية؛ فإنها اليوم مشغولةٌ ومشغولةٌ جداً بكفّ عادية مئاتٍ من الشبان الفرنسيين أو البريطانيين أو الألمان الذين يمضون للقتال بالعراق أو سورية أو ليبيا..الخ، ثم قد يعودون ليمارسوا عنفاً بالدواخل الأوروبية. وهذا الهاجس بشأن الإسلام لا يسيطر على الأجهزة الأمنية وحسب؛ بل وعلى معظم النُخَب السياسية التي لا يفترق فيها لهذه الناحية اليمين عن اليسار. لقد قرأتُ قبل أيامٍ نصَّ خطابٍ ألقاه رئيس الوزراء البريطاني الأسبق طوني بلير بوكالة أنباء بلومبرغ، عنوانه: "أهمية الشرق الأوسط". يفتقد بلير (كما يقول) لدى الأوروبيين والأميركيين الحسَّ النضاليّ الذي يدفعهم للمصارعة لاستعادة الشرق الأوسط. ولضرورات تلك الاستعادة أربعة أسباب: النفط، والقُرب من أوروبا، وأمن إسرائيل، ومستقبل الإسلام. إنما مَنْ الذي أضاع الشرق الأوسط بحيث يحتاج إلى الاستعادة الآن؟ إنه بحسب بلير: الإسلام الراديكالي العنيف، الذي يُعتبر اليوم "أكبر تهديدٍ للأمن العالمي"! ولستُ بالطبع في معرض الردّ على مقولات بلير وانطباعاته، إذ من المعروف أنه نظَّر لحربي أفغانستان والعـراق، وهمـا أهـم أسباب الاضطراب والخراب الباقية، لأنه - كما قال- كان وما --------------

أولاً: الدين والجماعة والتجربة التاريخية: يمتلك كلُّ "دينٍ" يستحق هذا الاسم اعتقاداتٍ وشعائر أو عبادات، وسردية كونية تتضمن رؤيةً للعالم، ومن ضمنها نظامٌ أخلاقي- ومؤسسة دينية أو ما يشبه ذلك للبلاغ والإبلاغ وإدارة الشأن الديني أو صون المقدَّس أو مشروع الخلاص. وإذا كانت هذه الأركان أو المسائل ظاهرة في معظم الأديان أو جميعها؛ فالصحيح أيضاً أن التجربة التاريخية لكلّ دينٍ تصنع خصوصياتٍ وأفهاماً وتصورات مختلفة ومتمايزة. ولا أُريد المبالغة هنا بشأن التجربة التاريخية وتأثيراتها في الدين. لكنها بالفعل – وفي نظر علماء الدين- يمكن أن تصبح جزءًا من الدين ذاتِه. وفي ديانات التوحيد، والتي تملك طبيعةً طهوريةً؛ فإنه يمكن أن ينشأ صراعٌ أو صراعاتٌ بين ذوي التوجهات البيوريتانية من جهة، ومُخرجات التجربة التاريخية، التي يُرادُ تطهيرُ الدين أو النصّ من أَوضارها. وسأعود لذلك فيما بعد. أمّا الآن فأُريد استعراض التصورات الاعتقادية الرئيسية في الدين الإسلامي خلال تجربته التاريخية، ومن جهةٍ ثانيةٍ اتجاهات التنظيم السياسي التي انطلقت من فهمٍ معينٍ للدين خلال الحِقَب الوسيطة. فكما في كل ديانات التوحيد، ظهر في الإسلام- إذا صحَّ التعبير- ومنذ وقتٍ مبكِّرٍ لاهوتان: لاهوت التوحيد والتنزيه والعدل، ولاهوت الإثبات والرحمة والفضل. وعندما أقول: "لاهوت" فإنني أعني به تصوراً أو تصورات للعلاقة بين الله والإنسان. وليس معنى ما ذكرتُه أنّ هذه التايبولوجيا مطلقة، أي عدلٌ أو رحمة. فكما في كل مقولة غالبةٍ أو قاعدة ناجمة عن استقراء، تظلُّ هناك خصوصياتٌ واستثناءات، بل وإمكانيات للتوسط ومحاولات التوفيق. لكننا – كما سبق القول- نستكشف الطابع الغالب في اللاهوت أو علم الكلام عند المعتزلة وهم الذين سمَّوا أنفسهم أهل التوحيد والعدل- والآخرين من أهل السنة وهم الذين اعتنقوا مقولات إثبات الصفات لله، وتقديم صفة العناية والرحمة بين صفات المعاني التي نسبوها له عزَّ وجلّ. وبين هذين التيارين الرئيسيين تكأكأت تياراتٌ فرعيةٌ كثيرةٌ في هذه المسألة أو تلك إنما ذلك كلُّهُ لا ينفي وجود تيارين متمايزين بالفعل في فهم الدين وفلسفته، وفي علائق العقل بالنقل، وقضايا القيم الأخلاقية والتحسين والتقبيح.

إنّ الطريف والغريب بعض الشيئ أنه عندما ننتقل من المجال اللاهوتي أو الكلامي إلى المجال السياسي؛ فإننا نجد تيارين رئيسيَّين أيضاً، لكنّ الاصطفاف مختلف. فالمعتزلة وأهل السنة يقولون بالاختيار من الأمة في الإمامة، بينما تذهب معظم الاتجاهات الشيعية إلى التعيين بالوصية أو بالنصّ. فالجماعة هي صاحبة السلطة والعصمة عند المعتزلة والأشعرية. بينما ينفرد الإمام بالعصمة عند التيار الآخَر.

ثانياً: الدين والجماعة والتقليد: لا يقبل المتكلم حديثاً عن التقليد Tradition  في الاعتقاد. إذ أول أبواب كتب علم الكلام هو بابُ النظر. فالمتكلم يفترض أنّ المؤمن لا يقلِّد في الاعتقاد، كما أنه لا يتّبع فيه ما كان عليه آباؤه وحسْب. بل إنه إنما يؤمن بهذه الاعتقاد أو ذاك بناءً على اقتناع. أمّا إذا قلّد فذلك جائزٌ فقط في حقِّه إذا كان صغيراً أو غير قادرٍ لعذْرٍ على  تأسيس اعتقاداته على بُرهانٍ أو نورٍ يقذفه الله في الصدر بحسب الغزالي.

على أنّ التقليد بمعنى السير على نهجٍ معينٍ أو الأعراف المتنامية والمستمرة فإنها واردةٌ حتماً في المجالات الاجتماعية والسياسية والفقهية. وهي المجالات التي تمارسُ فيها الجماعة سلطتها مكوِّنةً سُنَناً وأعرافاً وتقاليد تستند إلى توافُقاتٍ واتفاقاتٍ واصطلاحاتٍ وإجماعات. وهذا الذي عناه الشافعي (-204هـ) في الرسالة عندما تحدث عن اتفاق المسلمين على أن يكون القاضي واحداً والإمام واحداً. ثم اعتبر الإجماع مصدراً تشريعياً أو دليلاً شرعياً. كما اعتبر القياس، والذي يعني التأسيس على أصلٍ سابقٍ أو القياس عليه دليلاً رابعاً للاستنباط بعد الكتاب والسنة والإجماع. وقد ظنّ خصوم الإجماع قديماً وحديثاً أن المقصود به فرض الرأي الواحد والاعتقاد الواحد. والإجماع لا مدخَلَ له في الاعتقاد. بينما يتنامى عبر العصور نهجٌ يتضمن أعرافاً وسُنَناً وسِيَراً وعاداتٍ في الاجتماع والسياسة والفقه وطرائق مقاربة المشكلات، وممارسة المشاركة في القرار. ولا يتناقضُ ذلك مع الاختلاف الناجم عن الاجتهاد الفردي، والذي عقد له الشافعيُّ فصولاً بعد الحديث عن الإجماع. إذ اعتبره عملاً من أعمال الإسهام في صنع إجماعاتٍ مستقبلية أو جَعْل ذلك ممكناً على الأقلُّ باعتبار أنّ الأحكام تتغير بتغير الزمان.

ليس بالوسع في غالب الأحيان تحدي الآراء الشائعة. وقد كنتُ ممن خضع للمقولة الشائعة منذ أكثر من مائة عامٍ، والتي تعتبر أهل السنة والجماعة أهلَ جمودٍ وتقليد أي اتباع لما كان عليه الآباء. والتقليد هنا معنيٌّ به الاتّباع الأعمى، والذي ظهر بحسب التوجه السائد ليس في الفقه فقط؛ بل وفي الخضوع السياسي، وفي المحافظة الاجتماعية ورفض الجديد. بيد أنّ البحوث والقراءات المتفحصة والنقدية على مدى الأربعين عاماً الماضية، ومن جانبي وجانب غيري، أظهرتنا جميعاً على ضرورات مراجعة مقولة التقليد والانحطاط على مدى ألف عامٍ من تاريخ أمتنا وثقافتنا الدينية والعامة. لقد نبَّهْتُ في دراستي التي تعود للعام 1981 وعنوانها: "من الشعوب والقبائل إلى الأمة" إلى أنّ الفقهاء والمتكلمين يقولون بأنّ العقل غريزةٌ، وأنّ الناسَ متساوون فيه. وإذا كان العقل يسيطر ويضبط في المجال الفردي؛ فإنّ هذه السلطة تصبح شائعةً في الجماعة المكوَّنة من أفرادٍ سواسيةٍ كأسنان المشط. فعقلُ الجماعة هذا أو الجماعة العاقلة تُكوِّن السنة والتقليد والعُرف والإجماعات أو التوافقات الصامتة أو المتعارَف عليها أو المنطوق بها حسب الحاجة. وهذا معنى إضافة مفرد "الجماعة" إلى مصطلح" أهل السنة" في أواسط القرن الثاني الهجري أو بعد ذلك بقليل.

إن رؤية الإمامة هي رؤيةُ القداسة النخبوية المعصومة استناداً للنَسَب السُلالي والنبوي. أما رؤية ُ الجماعة فهي رؤيةُ السنة والتقليد العريق السائد على نهجٍ مُتنامٍ في الاجتماع والسياسة والفقه، وحتى في المظلة الاعتقادية التي تقول بلاهوت العناية والرحمة والفضل.

ولكي نتصوَّر كيف كانت المنظومةُ أو فلسفة الاجتماع هذه تعمل لنتأمَّلْ ظهورَ المدارس الفقهية وتعددها. يظهر فقيه في مصرٍ من الأمصار، ويمارس الفتوى والاجتهاد، ويربّي تلامذةً ما يلبثون في البلد نفسه أو بلدانٍ أُخرى أن ينشروا اجتهادات معلِّمهم، فيتكون بالتدريج سقفٌ مشتركٌ يتخذ اسم الشيخ الأول، فيظهر المذهب أو المدرسة خلال جليين أو ثلاثة. ولننظر في المذهبين الأولين الحنفي والمالكي كيف تجوَّلا وتنقّلا عبر ديار شاسعةٍ ومتباعدة وبيئاتٍ مختلفة، وبقي لهما تماسكهما بسبب الرحابة والتعدد، وليس بسبب الضيق والتضييق. وهذا المذهب الشافعي نشأ بين بغداد ومصر، ثم ها هو منذ قرونٍ ينتشر في شرق آسيا دون أن يشعر أحدٌ بالحرج في الاختلاف، أو يشعر بالاضطرار للخروج من المذهب بسبب الاختلاف بالذات.

بيد أنّ الجماعة المعصومة أو المعتصمة بإجماعاتها وتقاليدها الاجتماعية والأخلاقية والسياسية، ما استطاعت دائماً مكافحة الاستبداد السلطاني، ولا نجت من التشدُّد الديني. لقد تغيرت ظروف الدولة في العصر العباسي لقيام الشرعية السياسية على النسب الهاشمي من جهة، ولانتقال عاصمة الدولة من الشام إلى العراق. والدين الإسلامي مؤسَّسٌ على نصٍ معصوم، بيد أنّ الجماعة تحتضنه وتفسِّره وتعيش به ومعه. وتصنع بالاجتهاد والتشارك والتوافقات والإجماعات المؤسسات الاجتماعية، والأخرى ذات الوظائف الإدارية والخيرية والدينية. وقد كان هناك بين أهل السنة من لم يَرَ للجماعة دوراً في الدين، ولذلك كان يلجأ للنصّ ليطهّر الدين من أعراف واجتهادات وتأويلات وتكييفات التجربة التاريخية، وما يعتبره بِدَعاً أو تقاليد شعبية غير شرعية. وهذه الهبَّات الأُصولية والإحيائية والبيوريتانية معروفةٌ في ديانات التوحيد جميعاً. وقد كانت ضروريةً أحياناً للتسديد والتصحيح. وما كانت مفيدةً أحياناً اُخرى. بيد أنّ الأضرار جرى تلافيها بسبب حيوية التقليد وتجدده وانفتاحه على الصالح وما فيه مصلحة. والدليل على قدرة هذا التقليد وكفاءته، أنّ الحنابلة وأهل الحديث ما انفصلوا، رغم تشددهم وطهوريتهم. وأنه لم تحدث انشقاقاتٌ ولا تكونت فِرَقٌ جديدةٌ بعد زمن الغزالي. وعندما ظهرت الوهّابية في القرن الثامن عشر وشكّلت تحدياً للتقليد الكلامي والفقهي، ظهرت في مقابلها عدة تجديداتٍ في الطرق الصوفية، لتشير إلى القدرات الباقية للتقليد السني على مناضلة التشدد، والتجدد والاستيعاب.

ثالثا: تأزم التقليد وانهياره: قبل ثلاثين عاماً وأكثر أصدر بيتر غران كتابه الذي صار شهيراً بعنوان: الجذور الإسلامية للرأسمالية. ووقتَها كان الجدلُ مستعِراً حول بدايات ما صار يُعرفُ بالنهضة أو اليقظة العربية والإسلامية: وهل كان ذلك على وقع احتلال الفرنسيين لمصر أم حدث النهوض قبل ذلك، بينما جاء الغزو ليصطنع بدايةً أُخرى مأساوية تتمثل في إلحاق ديار المسلمين بالسوق الرأسمالية العالمية. وعلى أي حال، وسواء أكان ألبرت حوراني محقاً أم بيترغران، فالذي حدث أنّ الصرخة تصاعدت في النصف الأول من القرن التاسع عشر من التقليد والجمود. ومع أنّ الشكوى الظاهرة جاءت أولاً من رجالات السياسة والدولة في اسطنبول والقاهرة وتونس والهند وآسيا الوسطى؛ فإنّ حسن العطّار شيخ الأزهر وأستاذ رفاعة رافع الطهطاوي، شكى أيضاً من الحالة المُزْرية للتعليم الإسلامي في الأزهر في ثلاثينات القرن التاسع عشر. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر انتشرت الدعوات المتنمِّرة على التقليد، والداعية لفتح باب الاجتهاد. وقد كان الداعون لضرب التقليد بالمعنيين (أي الأعراف العريقة، والتبعية المذهبية) تيارين اثنين: تيار الإصلاحيين الذين أرادوا إزاحة التقليد من الواجهة للانفتاح على الغرب  ومواجهة ذلك السيل الذي لا يمكن دْفعُهُ إلاّ بالتعلم منه ومكافحته بأدواته. وتيار السلفيين الذين اعتبروا التقاليد الشعبية، والمذهبية الفقهية، كلا الأمرين ابتداعاً وخروجاً على صحيح الدين، ولا بُدَّ من الخروج عليها والعودة للاجتهاد بالاستناد المباشر للكتاب والسنة، وليس استناداً إلى الفقهاء الأوائل أو المتأخرين.

أما فقهاء المذاهب، والسائدون في المؤسسات الدينية والتعليمية ومؤسسات الفتوى والقضاء؛ فإنهم انزعجوا أشدَّ الانزعاج من الدعوات الجديدة، وانقسموا إزاءها إلى قسمين: القسم الذين يقول بكمال المذاهب، وضرورة التقليد، وتحريم الخروج عليه. والقسم الذي يرى أنّ الاجتهاد ممكنٌ من داخل المذهب أو المذاهب ولا ضرورة لاجتراح جديدٍ خارجها. أمّا أولئك الذين يدعون لذلك فقد رأَوا فيهم مبتدِعةً أو خوارجَ على الدين ومنه! لقد كان التقليد الفقهي متأزماً بالفعل. فقد شهد عالم الإسلام في القرن التاسع عشر متغيراتٍ ما عرف مثلها منذ الغزو المغولي قبل ستة قرون. وواجهها فقهاء التقليد وأعداؤه على حدٍ سواء بفتاوى مفزعة: الجهاد أو الهجرة من الديار، لأنه بالاستعمار في الهند والجزائر والبوسنة والسودان.. وأخيراً ليبيا ما عادت الدارُ دار إسلام، وينبغي تركُها بدون ترددٍ أو يفِقدَ المسلمُ إيمانَه!

هل كان الفقهاء التقليديون وخصومهم السلفيون، يدركون ما يواجهونه؟ لا يبدو أنّ الطرفين عرفا حجم المشكلة. بدليل أنّ فقهاء التقليد تشبثوا بما هم عليه إلى حدّ الشكوى لوالي دمشق العثماني أنّ زملاءَ لهم يجتمعون في منزل أحدهم لقراءة كتب الحديث النبوي، وهذا يشكل بدعةً في الدين! أمّا السلفيون فظلُّوا منصرفين لتخريب مقامات الصوفية ومزاراتهم، ومنصرفين لإصدار الفتاوى بحرمة البقاء في الديار، بعد أن لم تَعُدْ بسبب الاستعمار دارَ إسلام!

وخلال خمسين عاماً من الهجمات والهجمات المضادّة، أمكن للإصلاحيين والسلفيين تحطيم التقليد بالفعل. وقد نال ذلك من فقه المذاهب، كما نال من علم الكلام أو علم التوحيد. إلاّ أنه في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين، انتهى ذلك التحالُف الذي كان قائماً بين الإصلاحيين والسلفيين. فالإصلاحيون انصرفوا لدعم الدولة الوطنية التي قامت بين الحربين. بينما انصرف السلفيون للاستقرار في ظلّ دولة الكتاب والسنة التي أقامها الملك عبد العزيز آل سعود. وما خلا الأمر من فقهٍ إصلاحيٍّ ما تنكَّر للتقليد، بيد أنّ الأبرز ظهور" جماعات الهوية" التي أخذت عن السلفيين الكراهية للتقليد، وتنكرت للإصلاحيين الذين رأت أنّ نموذجهم غربي، واشتبكت مع المؤسسات الدينية التقليدية، لأنها اعتبرتها مقصِّرةً في أداء واجباتها، وأنّها ممالئةٌ للسلطة القائمة.

إنّ الذي حدث في نهاية الحرب العالمية الأُولى، أنّ الإمبراطوريات الثلاث الباقية: العثمانية، والنمساوية والروسية، سقطت. وعمد مصطفى كمال إلى إلغاء الخلافة رسمياً. وفي الوقت الذي كان فيه بعض فقهاء الإصلاح، قد بدأوا يُصْغون ومن داخل المؤسسات الدينية التعليمية، إلى إمكان التفكير في فقهٍ جديد؛ فإنّ جماعات الصحوة والإحياء عمدت لمناصبة التقليد والغرب العداء على حدٍ سواء، والتأسيس لمفهومٍ لشرعيةٍ جديدةٍ أو مُستعادةٍ بعد إلغاء الخلافة. وما لقيت جماعات الهوية الإحيائية هذه شعبيةً كبيرةً في الثلاثينات من القرن الماضي، لأنّ الأحزاب الوطنية الكبرى كانت داخلةً في المشروع السياسي الجديد الذي يرمي لاصطناع شرعيةٍ جديدةٍ تُنسي الناس حقائق وأَوهامَ الخلافة والتجربة التاريخية المنقضية.  بيد أنّ أحزاب وجمعيات وجماعات الهوية هذه استطاعت بمصر والهند (وباكستان فيما بعد) إنشاء تنظيماتٍ قوية مستفيدةً من التوترات والراديكاليات أثناء الحرب العالمية الثانية. ثم أفادت مرةً أُخرى من أمرين اثنين: الانتكاسات التي نزلت بالدولة الوطنية نتيجة استيلاء العسكريين على قيادتها في العالمين العربي والإسلامي- واشتعال الحرب الباردة بين الجبارين، والاصطفافات التي حدثت من جرائها في العالمين العربي والإسلامي. في التطور الأول، وجد الصحويون الإسلاميون أنفسهم في صدام مع العسكريين، وقد حوَّلهم ذلك بسرعةٍ إلى فريقٍ سياسيٍّ بادر إلى تطوير أطروحاته العقائدية باتجاه النظام الكامل الذي يقتضيه الدين بحسب منظِّري الأربعينات والخمسينات، وباتجاه الحاكمية الإلهية بحسب المودودي وسيد قطب.

رابعاً: صعود الصحويات وصراع الأُصوليات: حَفَلَ النصف الثاني من القرن العشرين إذن بالنسبة للإسلام وثقافته ومصائره بعدة ظواهر. وأول تلك الظواهر صعود إحياء أصولي إسلامي على أنقاض التقليد، وفي مواجهة الدولة الوطنية التي ظهرت في حقبة ما بين الحربين، وهو ذو ثلاث شُعَب: الشعبة السلفية، والشعبة الإخوانية، والشعبة الشيعية. وقد استكانت السلفية لبعض الوقت في ظل دولة الملك عبد العزيز آل سعود، ثم عادت للانفجار في جهاديات منذ السبعينات وخارج المملكة ثم بداخلها أيضاً. واتجهت الشعبة الإخوانية إلى التنظيم وادعاء تركز الشرعية فيه وفيها. وانتشرت انتشاراً شاسعاً في سائر الأنحاء العربية. في حين انتشر تنظيم مشابه تحت اسم "الجماعة الإسلامية" بزعامة المودودي في شبه القارة الهندية. واصطدم التنظيمان بالدولة الوطنية في مرحلتها العسكرية، فطوَّرا عقائديةً سياسية تقول بضرورة إقامة "الدولة الإسلامية" التي تطبق الشريعة لاستعادة الشرعية. وأما الشعبة الثالثة: فتمثلت في الإحياء الشيعي الذي استطاع إسقاط الدولة الوطنية الإيرانية عام 1979 في ثورةٍ شعبيةٍ زاخرة. حيث أقام نظام ولاية الفقيه ذا الطبيعة الثيوقراطية. أما الظاهرة الثانية فتمثلت في قيام الأنظمة العسكرية والأمنية في المرحلة الثانية من حياة الدولة الوطنية العربية والإسلامية. وقد أدّى فشل تلك الأنظمة  في صون المصالح الوطنية والقومية، وسواد الطغيان والفساد في تصرفاتها، إلى صعود الأصوليات الجهادية والتنظيمية في مواجهتها. وقد توازت تلك المواجهة بل وتداخلت مع انقسامات الحرب الباردة، حيث صارت للإسلاميين الجهاديين والتنظيميين توظيفاتٌ، مقابلة لتوظيفات العسكريين باعتبارهم قوميين أو يساريين أو الأمرين معاً. وأما الظاهرة الثالثة فتمثلت في اندلاع الحرب الباردة الثقافية في العالم العربي. حيث أقبل المثقفون اليساريون العرب على قراءة الموروث الديني والثقافي الإسلامي قراءات أيديولوجية تحررية وتحريرية كما قالوا. فوقفوا عملياً مع أنظمة الضباط ضد الإسلاميين، باعتبارهم يساندون الأنظمة التقدمية ضد الحزبيات الرجعية. وأمّا الظاهرة الرابعة فتمثلت في استمرار المؤسسات الدينية السنية (التي تمثّل التقليد الذي داخلته أمشاجٌ من الإصلاح) في التراجع اعتباراً وقوةً وحجيةً، وفي مواجهة الأصوليين الإسلاميين، كما في مواجهة الأنظمة. فالأنظمة اعتبرتها رجعية وتحول دون التقدم، والإسلاميون اعتبروا رجالاتها تقليديين ومن فقهاء السلطان، ومقصريين في أداء واجبهم في مكافحة الطغيان، ونُصرة الإسلام! 

هل نستطيع أن نعتبر مخاضات زمن الثورات هذا الظاهرة الخامسة، في السياقات التي نتحدث عنها؟ لا أظنُّ ذلك. فالظواهر السالفة الذكر تنتمي إلى زمنٍ آخر امتدّ من خمسينات القرن العشرين، وإلى العام 2010. وهو الزمن الذي سمّاه الباحث السياسي المصري الراحل نزيه الأيوبي في كتابه الصادر عام 1994 بعنوان: تضخيم الدولة العربية: زمن الانسداد الكامل! قال الأيوبي: إنّ الدولة العربية تعطلت كل وظائفها، ولا سبب لبقاء أنظمتها العسكرية والأمنية الموروثة من الحرب البادرة إلاّ رضا الهيمنة الأميركية عنها، وتوظيفاتها لها. كل المشكلات – كما قال الأيوبي- تتكاثر وتتجمع وتتخثر على مدى ستين عاماً وأكثر منذ نكبة فلسطين! فالثورات إذن ليست جزءًا من ظواهر التأزم بل هي ناجمةٌ عنه، ولأول مرةٍ  لا يقوم بها الإسلاميون، لكنهم ما لبثوا أن رفعوا راياتهم في ساحاتها، وبدأوا يحتلون الواجهة إمّا بالجهاديات والعنف، أو بالانتخابات.

خامساً: كيف نصون الدين في أزمنة التغيير؟ لدينا في الملف الديني أربعة أمور:

1.         هناك ثورانٌ هائلٌ وانشقاقات في الإسلام السني يتنازعه تياران كبيران: التيار الجهادي أوالقتالي المثير للرعب في موجته الثانية بعد زمن أُسامة بن لادن. وما يزال قسمٌ منه مصطدماً بالسلطات القائمة،  بينما اصطدم قسمٌ آخر بالإحياء الشيعي المنطلق من إيران لإحباط حركات التغيير العربية. والتيار الثاني هو التيار التنظيمي أو الحزبي، وله جمهورٌ أَوسع، ويميل الآن للعنف أكثر، بسبب الحيلولة عربياً ودولياً دون وصوله للسلطة أو استقراره فيها.

2.         لقد كان هناك خوفٌ من الأنظمة الأمنية والعسكرية، وهو اليوم وبعد أكثر من ثلاث سنوات على الثورات، خوفٌ على الدولة، أو أنه خوفٌ من عدم التمكن في إقامة سلطة الحكم الصالح أو الرشيد.

3.         لقد كان هناك خوفٌ على الدين، إنما بعد المظهر الذي ظهر به الإسلاميون بشتى فئاتهم؛ فإنّ الخوف يوشك أن يصبح خُوافاً من الدين.

4.         وهناك همٌّ شديدٌ يتعلق بأمرين: كيف يمكن استيعاب التناحر الشيعي/السني، والإيراني/العربي؟ وكيف يمكن استيعاب الثوران الديني السني في أزمنة التغيير؟

لقد عرضْتُ لهذه الموضوعات جميعاً في كتبي الثلاثة الأخيرة: الدين والدولة والإسلام السياسي، والتراث العربي في الحاضر، والعرب والإيرانيون. لكنني في هذه العجالة، وتبعاً للعنوان الفرعي لهذه المحاضرة، سأُحاول الإجابة بإيجاز عن سؤال الثوران الديني، وإمكانيات التسكين والاستيعاب.

أظن أنّ أكثركم قرأ كتاب الأستاذ عبد الله العروي: "السنة والإصلاح" الصادر عام 2008. لقد كان همُّ المفكرين العرب والمستشرقين في المائة عامٍ الأخيرة من إصلاحيين وسلفيين وتنويريين وعقلانيين: كيف يمكن الخروج على السنة، وعلى التقليد، وعلى التجربة الإسلامية التاريخية، وعلى فكرة وممارسات الجماعة التاريخية، إمّا باتجاه الكتاب والسنة أو الزمن قبل التاريخي كما يريد السلفيون، أو لاصطناع قطيعة تدفعنا باتجاه الغرب والحداثة، كما يريد سائر الآخرين! محمد عبده ضاق ذرعاً بالتقليد المسدود للمذاهب الفقهية، وبالطرق الصوفية الشعبوانية والخرافية. وأستاذنا عبد الله العروي عندما ذكر الفقيه الإصلاحي في "الأيديولوجيا العربية المعاصرة"، وكان يعني به محمدعبده أخذ عليه أنه ما يزال تقليدياً ويفكر بعقلية الفقيه وقال له: هذا زمنٌ فات، وتفكيرٌ يعاني من الفوات. ما ترك أحدٌ ممن ذكرناهم على الهيكل العظمي لأهل السنة: الأشعرية والمالكية والشافعية والحنفية  في الكلام والفقه شحماً ولا لحماً. ولقد تحطم التقليد في النهاية وما حلَّ محلَّه الإصلاحيون ولا التنويريون ولا العقلانيون أو المعتزلة الجدد أو برهانيو الجابري أو انسانويو أركون؛ بل ظهر على أنقاض الأشعرية ومذاهبها الفقهية المغلوبة على أمرها السلفيون الجدد والجهاديون والإخوان ودعاة ولاية الفقيه ومناصرو أهل البيت المهدويون والمستبشرون بعصر الظهور، مع بعض الإحياء الصوفي العجيب الغريب الذي تصادق معه صنفٍ منه أردوغان الإخواني ثم تشاءم به واعتبره تشيعاً باطنياً!

بعد أربعين عاماً ونيفاً يعود الأستاذ العروي ليسأل عن إمكان فتح التقليد أو الدخول على خط الإصلاح فيه. وهذا استبصارٌ هائلٌ ما جرؤ عليه غيره وسط  البراديغمات الحاكمة! لستُ أدري إن كان ذلك ممكناً الآن. إذ لا ينبغي أن نخلط هنا بين الحيوية الفقهية  وأحياناً الفكرية البادية في أعمال أبناء الجيل الرابع من الإصلاحيين، والإطار الذي توضَعُ فيه تلك الأعمال الإبداعية بالفعل: أين توضع من جانب الحاسبين والمحسوبين؟ ليس في خانة المالكية أو الشافعية أو الأحناف أو حتى تجديد محمد عبده، بل في خانة الإخوان وتطبيق الشريعة، والدولة الإسلامية الميمونة! إنما ماذا نقول نحن المؤمنين بحدودٍ لجمهورنا، للناس العاديين، ممن يصلون ويصومون، ويريدون العيش فيما بينهم ومع العالم مرفوعي الرأس بدينهم وبأوطانهم؟ هل نقول لهم إنّ التقليد أو فقه العيش التاريخي شرٌّ كلُّه وينبغي التخلص منه؟ ثم نقول لهم إنّ إسلامكم المعاصر كارثةٌ كبرى وإلاّ فما هي داعش ومَنْ هم الجهاديون والطالبانيون  وكلُّ رافعي الرايات السود من سوريا وإلى طهران والصومال؟! ماذا لدينا للجمهور أو لأنفسنا؟ ومن أين نبدأ أو نُكمل وسط المخاضات الدموية الهائلة والمهولة؟

قلتُ إنّ لكل دينٍ أو اتجاهٍ رئيسيٍّ فيه Main Stream تجربته التاريخية التي تضع رؤيته للعالم في مواطن الإنشاء والإعمال والفعالية والتحاور والتدافُع وفقه العيش ووشائع ووشائج التواد والتجاذُب والاغتراب والتقاطُع. وقد سمَّى فقهاؤنا الأوائل ومحدِّثونا تجربتهم مع دينهم وأمتهم وسريان ذلك الروح العام في اجتماعهم التاريخي سُنّةً وجماعة. وقال أبو حنيفة: بل هو اعتقاد السواد الأعظم، أو هو التقليد الزاخرُ المتجدد كما حدَّده مؤسِّس مدرسة الرأي. هذه هي فلسفة دين الجماعة أو الدين العام، التي وضعت في متناوَل تلك التجربة الهائلة مئات بل آلاف الإمكانات والخيارات. وهذه هي جداليةُ علائق الجمعي بالفردي وليس بالذاتي. والظاهر بالباطن. والإمكان بالوجوب. والاختلاف بالإجماع. والدين بالجماعة، والجماعة بالدين. ليس لدينا لاهوتٌ بالمعنى المسيحي لذلك، ولا قانون إيمان. والجماعة لا تحدّد الإيمان، لكنها تحدد الدين. والجهاديون والإخوان والطالبانيون وأهل ولاية الفقيه صاروا انشقاقات ليس لأنهم تركوا الإيمان أو الوحدانية إذ هم في الحقيقة مؤمنون بلا حدود! بل لأنهم فارقوا الجماعة، فارقوا التقليد، فتقطّعت بهم السُبُل: {الذين ضلَّ سعيُهُم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم بحسنون صنعا}. كلُّ الانشقاقات لها أحد سببين: إمّا اعتقاد قصور الأمة في الشأن الإيماني، أو اعتقاد قصور الدين عن تلبية متطلبات الأمة في هذا العصر. وضرورات البقاء تقتضينا إعادة السكينة إلى ديننا ومجتمعاتنا، بإعادة المرجعية في الدين والدولة إلى الجماعة. وهذه عمليةٌ عسيرةٌ بعد قرن القطيعة الهائل. لكن لنبدأ أو نكمل وبتواضع.

لدينا أولاً المؤسسات الدينية التي اعتنقت التفكير الإصلاحي، بعد أن كان أحفاد محمد عبده قد غادروه إمّا باتجاه التنوير أو باتجاه السلفية. وأعرف اثنين على الأقلّ من مفكرينا مرا بالمراحل الثلاث: الإصلاحية فالتنوير فالسلفية! المؤسسات الدينية جرى استتباعُها أو إضعافُها. بيد أنّ الجمهور ما يزال في أكثره يريد أن يتلقى أولاده تعليمهم الديني في مدارس المؤسسات ومعاهدها. وكذلك الأمر بشأن الفتوى، والعبادات وصلوات الجمعة والجماعة، والشعائر الدينية الأُخرى. وكذلك الأمر فيما يتصل بالإرشاد العام. ولا يعني هذا أنّ المؤسَّسات الدينية جاهزةٌ الآن لأداء هذه المهام على الوجه المطلوب. لكنّ الإصلاح أو إعادة البناء صارا في حيّز الإمكان؛ وبخاصةٍ أنه في بعض البلدان مثل المغرب ومصر فإنّ بنية المؤسسة ما تزال سليمة. وكذلك الأمر بالنسبة لمؤسسات التقليد الشيعي في النجف.

بيد أنّ المهمة الأُخرى الاستراتيجية؛ فإنها تتمثل في النهوض الفكري الذي يعمل على نقد تحويلات المفاهيم. لقد قام الإخوان والتيار الأوسع لتطبيق الشريعة والنظام الكامل، بعملياتٍ ضخمةٍ لتحويل المفاهيم على مدى ستة عقودٍ وأكثر. وبدلاً من ملاحقة الشافعي والغزالي والقرطبي إلى أجداثهم البالية رحمهم الله، تعالوا نشتغل على نقد أطروحات الدولة الإسلامية، وتطبيق الشريعة، والإسلام هو الحل، والاقتصاد الإسلامي، والتي استحدثتها  الحزبيات الإسلامية قبل أربعة عقودٍ لا أكثر، ويريدون إيهامَنا بأنها صارت ركناً من أركان الدين. أنا من جهتي أعتبر هذه المهمة صَوناً للدين، قبل أن تكون صَوناً للدولة أو النظام السياسي أو الاستنارة الفكرية! الشريعة هي الدين، وهو لا يحتاج لتطبيق لأنه مطبَّقٌ كما لم يحصل منذ أيام الراشدين! فلا بد من إخراج ديننا من قبضة الحزبيات والتأويلات الخرقاء التي تسيء للدين في الوقت الذين تحاول فيه التعظيم من شأنه، من أجل الإفادة من سلطته.

ثم إنه إذا كان المراد أن تعود السوية إلى تديننا وإلى مجتمعاتنا، فلنتوقف عن جَلْد هذا التقليد، أو هذه السنة. وليس لأنني آمُلُ أن يعود جمهورنا إليه وإليها، ونقد التنويريين والعقلانيين يمنع الجمهور من ذلك. فلستُ أدري في الواقع إذا كانت العودة ممكنة. لكنّ الفكرة ذاتها، فكرة إنتاج الجماعة، إنتاج المجتمع، للتقاليد والأعراف والأنظمة حتى الديني منها، هي فكرةٌ عزيزةٌ على الناس، وفيها الكثير من الاحترام للنفس وللآخر. إنّ تطلب التقليد والإجماع هو تطلبٌ لمشاركة الجميع. وتقديسٌ من جانب الجماعة لذاتها، وإلاّ فما معنى العصمة؟ لقد صار كلُّ شيئٍ محرَّماً في زمن الأُصوليات، وما كان شيئٌ من ذلك مستحيل النقد أو النقض حتى في زمن محمد عبده، زمن التقليد المستحكم، هل تعرفون أكبر تهمة وُجّهت للإمام عبده لأنه كان في دروسه بالأزهر ينقد التقليد المذهبي؟ قال له زميله الفقيه الشافعي البارز: يا شيخ، والله إنك متكبّر! أنظروا الفرق بين التقليدي والأصولي. محمد عبده عند التقليدي متكبر لأنه يعتبر نفسه أكبر من التقليد. أما عند الأصولي فمحمد عبده خارج دائرة الإيمان لأنه أراد العمل على الأصول بطرائق لا يُحبها الإحيائيون الإسلاميون.        

وإلى جانب إعادة الاستقلالية والانتظام لعمل المؤسسات الدينية ومهامِّها، ونقد المفاهيم التي تطاولت واستشرت من الطرفين الإسلامي والتنويري، تأتي المهمة البديهية الثالثة التي أحسبُها أُولى واجباتنا نحو دولنا ومجتمعاتنا وديننا نحن المثقفين: العمل أو السعي لإقامة أنظمة الحكم الصالح أو الرشيد، وهي التي افتقدتها شعوبنا في الزمن الماضي، زمن العسكريين والأمنيين، فاندفعت وراء دولة الرشاد الديني مثل دولة عمرالبشير والترابي أو دولة طالبان أو دولة الحرس الثوري! دولة الحكم الصالح كفيلةٌ  إذا استقرت، وتوازت مع إصلاح ديني مفهومي، بأن تطمئن الناسَ وتصرفَهم عن تطلب الدولة المستحيلة.

لقد أردتُ الحديث عن الثوران الديني المُخيف، وعن إمكانيات  الإدارة والترشيد، وعن إمكانيات صون الدين في أزمنة التغيير.  وما أظنني شفيتُ غليلكم لأنّ ضخامة الأحداث، وأنهار الدماء، تستعصي على التشخيص وعلى الاستيعاب. لكنني سُررتُ بالفعل بالتحدث إلى جمهورٍ مهتمٍ بسلامة الأمة والدولة والدين. واعذروني على تقليديتي. فإذا لم تكن استعادة التقليد ممكنةً، فلنخترع تقليداً. ولو لم أكن سنياً لوددْتُ أن أكون سنياً جماعياً. ولو لم أكن عربياً لوددتُ أن أكونَ عربياً:

نحن كنا سكانَها من نزارٍ              وبنا سُميت قُريشٌ قُريشا 

المصدر: http://www.ridwanalsayyid.com/ContentPage.aspx?id=2504#.VxfWrHErLIU

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك