الدّولة العربيّة المعاصرة بين المدنيّة والحاكميّة: إشكاليّة الحقوق الأساسيّة للإنسان
(حرية الضّمير) في دستور تونس 2014 أنموذجاً
بقلم عبد الباقي الهنداوي
مقدّمة
الاعتراف بالآخر المغاير فكرياً وعقائدياً ودينياً أضحى ضرورة لا مجال لتجاهلها أو غضّ النظر عنها، فنحن نتحرك ونعيش في عالم مفتوح لا متناهٍ، يفرض علينا، شئنا أم أبينا، الإصغاء إلى الآخر[1]، وهو ما يعني أنّه لم يعد ينفع في شيء تجاهل الاختلاف سياسياً وفكرياً ودينياً باعتباره حقيقة وواقعاً.
وفي هذا السياق بدا المشرّع التونسي واعياً بأهمية تكريس مبادئ الدولة المدنية التي تراعي حقوق مواطنيها وتصونها، بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية ومعتقداتهم ومذاهبهم، إذ يعتبر الفصل السادس من الدستور الجديد الذي نصّ على "حرية الضمير" أكثر الفصول اهتماماً بهذا الجانب.
وليس ثمّة من ينكر - في تونس وخارجها - ما لدسترة حريّة الضمير في الفصل السّادس من دستور الجمهوريّة التونسيّة من أهميّة بالغة في اتّجاه قطع العالم العربيّ الإسلامي خطى حاسمة على درب توطين حقوق الإنسان، وتكريس ثقافة الحريّة والديمقراطيّة والمساواة، ونشر قيم الاختلاف والتعدّد، وتجذير مفهوم المواطنة باعتباره الرباط الوثيق الذي يربط الأفراد فيما بينهم، ويسوّي بينهم في الحقوق والواجبات أمام القانون العامّ. لهذا عدَدْنا تنصيص حريّة الضمير في دستور تونس الجديد مكسباً حقيقيّاً للشعب التونسيّ بدرجة أولى، وللشعوب العربيّة الإسلاميّة بدرجة ثانية، لأنّها ستغنم في وقت لاحق من هذا المكسب الدستوريّ، وهي عندنا مظهر من مظاهر انخراط بعض الدول العربيّة في المنظومة الكونيّة لحقوق الإنسان، وضرب من ضروب التّفاعل الإيجابيّ مع الثقافات الأخرى بصرف النظر عن الاختلافات الدينيّة والعقديّة والعرقيّة واللغويّة والفكريّة.
ورغم المزايا التي اكتسبها إدراج حريّة الضمير في دستور تونس الجديد، فإنّ الصياغة اللغويّة المشكّلة لمعنى الفصل السادس تجعلنا نبدي بعض التحفّظات إزاء هذه الحريّة التي لم ترد مطلقة وفق ما نستشفّه من تحليل خطاب الفصل السادس من الدستور[2].
وللإحاطة بأبعاد هذه المسألة نرى - قبل النظر في الحقل الدلالي وبنية الخطاب المشكّل للفصل السادس من الدستور المتصل بحريّة الضمير وما يحمله ذلك من أبعاد ودلالات- ضرورة تنزيل هذه القضيّة الشائكة في إطارها الإيديولوجيّ والجغرا سياسيّ بعد الثورة التونسيّة وانتخابات المجلس الوطني التّأسيسيّ في 23 أكتوبر 2011.
أ - في ظروف تأليف الدستور التونسي الجديد
مثّلت انتخابات أكتوبر 2011 أوّل انتخابات حرّة ونزيهة في تاريخ تونس، لذلك أفرزت نتائجها طبقات سياسيّة جديدة متنوّعة وغير متجانسة، من حيث الإيديولوجيّات والتصوّرات السياسيّة في بناء الدولة وتسيير المرفق العامّ.
وقد أثار فوز حزب حركة النهضة ذي المرجعيّة الإسلاميّة المعدود عند المهتمّين بميدان الإسلام السياسيّ من أبرز الحركات السياسيّة الأصوليّة إلى جانب حركة الإخوان المسلمين في مِصْرَ بأغلبيّة مريحة في هذه الانتخابات قُدّرت بنسبة 40% أثار مخاوف بعض الأحزاب السياسيّة التقدميّة الديمقراطيّة العلمانية ومنظمّات حقوقيّة في تونس، لا سيّما أنّ للكتلة الكبيرة في المجلس المنتخَب تأثيراً واضحاً في كتابة الدستور الجديد وصياغته وفي التصويت على فصوله، وكان الخوف من أنْ يسعى حزب "حركة النهضة" إلى الارتداد على مكاسب الدولة الحديثة في تونس[3]، وعلى ما أحرزه المجتمع المدنيّ من حقوق رائدة تترجمها بامتياز مجلّة الأحوال الشخصيّة المُعتبَرة من أهمّ إنجازات الحقبة البورقيبيّة (نسبة إلى الرئيس الأول للجمهورية التونسية الحبيب بورقيبة).
وفي هذا الصدد اعتمد المجلس التأسيسي نظام التصويت وفق الأغلبية المطلقة في أغلب الأحيان، وحرصت مختلف الكتل على الانفتاح على المختصين في القانون والحريات، ورغم هذا التمشي فإنّ الخلافات ما انفكت تتعاظم كلّما اقترب نوّاب الشعب التونسي من وضع المسودة الأولى للدستور، وقد لوّحت بعض الكتل بمقاطعة أشغال المجلس.
ولم يكن ثمّة خيار أمام المشرّع سوى الاستناد إلى التوافقات الحزبية التي انعكست على محتوى أغلب فصول الدستور. إنّ استلهام المشرّع التونسيّ مسألة حريّة الضمير من منظومة حقوق الإنسان في العالم ومن بعض الدساتير التقدميّة لا تخطئه عين الناظر في المرجعيّات المعتمَدَة في دسترة هذا الحقّ. هذه المرجعيّات القانونيّة والقيميّة ذات الطابع الكونيّ لم يكن لها حضور واضح في بعض فصول دستور تونس الجديد، لأنّ الرّغبة في إرضاء الحساسيّات الدينيّة وبعض الأحزاب السياسيّة ذات الثقل الانتخابيّ حال دون الإفادة التّامة من مكاسب منظومة حقوق الإنسان الكونيّة.
وهكذا قلّص المسعى إلى إحداث توازنات سياسيّة وإيديولوجيّة أثناء كتابة الدستور من قدرة المشرّع التونسيّ على الاستفادة من الحقوق الكونيّة وإدراجها بوضوح قانونيّ في الدستور الجديد، ممّا يعني أنّ ذهن المشرّع ما يزال يشتغل بالآليّات القديمة، وما يزال يقيم للروابط الروحيّة المؤسّسة على الدّين بالأساس وزناً كبيراً وهو يصوغ بعض فصول الدستور. فمفهوم الدولة والمؤسّسات والمواطن والمواطنة لم ترسخ في أدبيّاته السياسيّة بسبب هيمنة مفهوم الأمّة على تركيبته الذهنيّة منذ دستور1956.
ويظهر ذلك بكثير من الجلاء في المبادئ العامّة للدستور الجديد الذي ينصّ على أنّ الإسلام دين الدولة. وهذا الأمر فيه تناقض واضح مع ما نصّ عليه الدستور من اعتبار تونس دولة مدنيّة. فنحن نعلم علم اليقين أنّ الدولة بمفهوميها القانونيّ والفلسفيّ لا تقوم على أساس دينيّ، لأنّه يمكن أنْ يتعايش فوق رقعتها الجغرافيّة مواطنون من ديانات مختلفة ومن طوائف متباينة ومن أعراق كثيرة. فالذي يجمع بين جميع أبنائها رباط وثيق رئيس جوهريّ، ألا وهو رباط المواطنة الذي يجعل من جميع أفرادها متساوين في الحقوق والواجبات وخاضعين لقوانينها النافذة على الجميع بصرف النظر عن قناعاتهم الفكريّة ومعتقداتهم الدينيّة.
وملاك الأمر أنّ دستور تونس الجديد في معالجته قضايا حقوق الإنسان وحريّاته الأساسيّة وقف في منزلة بين المنزلتين، أيْ بين المنظومة الدينيّة والفقهيّة القديمة وبين الحداثة وحقوق الإنسان الكونيّة. ولم ينخرط بشكل كليّ في المنظومة الكونيّة لحقوق الإنسان وفي مسار الحريّة بوصفه المسار الأمثل الذي يقود الشعوب إلى التقدّم والرقيّ والازدهار.
ب - حرية الضمير بين سلطة الدين ومفهوم الدولة
نصّ الفصل السادس من الدستور على أنّ الدولة هي حامية الدين "الدولة راعية للدين ..... [وهي] تلتزم [...] بحماية المقدّسات ومنع النيل منها"[4]. ولنا أنْ نتساءل أنّى للمشرع التونسي أنْ يقول ذلك؟ هل الدين مؤسسة اجتماعية أم هيكل من هياكل الدولة حتى يتسنى للدولة وضع القوانين والمراسيم التي تحميه؟
أَلا ينطوي ذلك على مفارقة تجعل من الدولة الرقيب على الحريات الدينية من جهة، ومن جهة أخرى يقرّ بأنّ حرية الضمير حق مكفول للجميع بمقتضى القانون، فالدولة هي بمنزلة القاضي بين خصمين يدّعي أنّهما في حمايته.
وأغلب الظن عندنا أنّ هذا الاضطراب مأتاه عجز المشرّع التونسي عن تعريف الدولة تعريفاً دقيقاً، فنحن في الفصل الأول والفصل الثاني من الدستور أمام تعريفين ختمهما المشرّع بـ"لا يجوز تعديل هذا الفصل". وفيهما تأكيد على مدنية الدولة، وعلى خصائصها ومقوّمات وحدتها (الدين الإسلامي، اللغة العربية، ...)، "فهل نحن إزاء تعريف للدولة L’Etat أمْ نحن إزاء تعريف للأمّة Nation"[5]؟ فبين الأمرين اختلافات عديدة، فالدولة لا تعدو أنْ تكون جمعاً من الناس تحكمهم سلطة سياسية واحدة وتسيّرهم منظومة من الأحكام والقوانين والتشريعات التي تنهض بأعباء تحقيقها مؤسسات (المحاكم، البلديّات، الشرطة،...)، وفي المقابل فإنّ الأمّة مفهوم موصول بالأساس بالوعي الجمعيّ بالقواسم المشتركة التي تشدّهم إلى بعضهم بعضاً (الآمال، الأهداف، اللّغة، الثقافة، الروابط الروحية المنضوي إليها اعتناق ديانة بعينها،...). فمفهوم الأمّة يقوم على رابط يختلف عن مفهوم الدولة، وهو رابط روحيّ أساساً يمكن إدراج الدّين في نطاقه (الإسلام دين الدولة). فذهن المشّرع التونسيّ أثناء صياغة الدستور كان ممزّقاً بين ما يقتضيه مفهوم الدولة وما يتطلّبه مفهوم الأمّة. ولا غرابة في ذلك، فالفصل الأوّل من الدستور التونسي هو من الفصول القليلة التي ظلّت ثابتة في مستوى لفظها منذ دستور الجمهورية الأولى التي ما انفكّ الزعيم الحبيب بورقيبة يصفها في خطاباته (توجيهات الرئيس) بـ"الأمّة التونسية"[6].
إنّ هذا التقاطع بين مفهوميْ "الأمّة" و"الدولة" في ذهن المشرّع التونسي مأتاه سلطة الأصل (دستور 1956) من جهة، وتداخل مستويات هذين المفهومين من جهة أخرى، فالدولة في بُعد من أبعادها هي "الأثر الموضوعي الذي تتركه الأمّة في الواقع التاريخي والاجتماعي"[7].
فإذا ما سلّمنا بأنّ الإسلام هو دين الدولة فإنّنا نلغي بذلك رباط المواطنة الذي يشكّل العمود الفقريّ لقيام أيّ دولة. أَلا يعني هذا الإقرار الدستوريّ بأنّ حريّة الدّين والمعتقد والضمير في نهاية المطاف في خطر حقيقيّ طالما أنّ الدولة بوصفها مؤسّسات وقوانينَ وأجهزةَ تسيير المرفق العامّ الذي يتمتّع به جميع المواطنين على قدم المساواة تتحيّز بشكل صريح لدين دون آخر؟ والحال أنّ الدولة في أصلها تقوم على أسّ المواطنة باعتباره القاسم المشترك الجامع بين كلّ المواطنين أنّى كانت دياناتهم أو معتقداتهم.
فالقول إنّ الإسلام دين الدولة يلغي التعدّد الدينيّ الذي يُعدّ بعض أسس الدولة بمفهومها المدنيّ المرتكز على الحرّيات الأساسيّة الفرديّة والحقوق والواجبات. فجميع مواطنيها سواسية أمام القانون الذي يتواضع عليه أفرادها عبر المؤسّسات السياسيّة التي ينتخبون القائمين عليها عبر صناديق الاقتراع في كنف الحريّة التامّة.
في الحقيقة إنّ تعريف المشرّع التونسي للدولة التونسية يضعنا أمام معضلة تتمثل في أنّ الدولة بما هي المجتمع المنظّم الذي يحكم نفسه بكلّ حرية هي أيضاً السلطة التي تحدّد لأفراد المجتمع مجالات الحريّة، وتحدّد لهم ما يُباح وما لا يُباح على نحو ما رآه دي جوفنيلBertrand De Jouvenel[8]. وهكذا تبدو الدولة التي انطوى عليها الفصل الأول من الدستور الجديد، هي بمنزلة دولة المقبرة، دولة توأد فيها جميع تجلّيات الحياة الفردية.
أًلمْ يكن من المجدي التنصيص على الدين الإسلامي في تعريف الشعب التونسي باعتباره شعباً متآلف الأصول متعدّد الأديان رغم أنّ أغلبه من المسلمين بالنظر إلى أنّ التنصيص على كون الإسلام في الدستور دين أغلبيّة الشّعب أقلّ وطأة من التنصيص على أنّ الإسلام دين الدولة، بما يعني أنّها هي الرّاعية الأساسيّة له والضامنة لحريّة ممارسة شعائره دون غيره من الديانات، الأمر الذي يدعونا فعلاً إلى طرح بعض الأسئلة التي يمكن أنْ تتبادر إلى ذهن كلّ باحث يقرأ فحوى دستور تونس الجديد على هذا النّحو:
هل كان المشرّع يفكرّ في المواطن أم كان يفكّر في المؤمن؟ هل اهتمّ بالمواطن الإنسان الذي يؤسّس الدولة أم اعتنى بالمواطن الذي يمتثل للدولة؟[9]
ج - هل لحرية الضمير حدود؟
اجتمعت في المدوّنة الدستورية قوانين متضاربة أشدّ التضارب، ففي المستوى العام رام الدستور التونسي الجديد إقامة مبادئ عامة أساسها المساواة بين التونسيين بصرف النظر عن معتقداتهم وأديانهم ومذاهبهم وأصولهم (البربر، ...) في إطار "دولة مدنية".
وقد نصّ الفصل الأول من باب المبادئ العامة على أنّ "تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها"، وفي المقابل أقرّ الفصل السادس من الباب نفسه "الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، [وهي تلتزم ...] بنشر قيم الاعتدال والتسامح وبحماية المقدّسات ومنع النيل منها، كما تلتزم بمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف وبالتصدي لها"[10].
وفي الفصل الحادي والثلاثين من باب الحريات والحقوق نقرأ "حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة. لا يجوز ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات".
ثمّة تناقض واضح، إذن، في محتوى الفصول هو بالضرورة امتداد للتنوّع والاختلاف في المشهد السياسي وفي الرؤى الحزبية. فثمّة تناقض بين تأكيد أنّ أسّ الدولة المدنية الانتماء إلى تونس واعتبار الإسلام دينها الرّسميّ، فالأصل في الأشياء في الدولة المدنيّة أنْ تقوم الحقوق والواجبات على معيار دولة القانون والمؤسّسات ومبدأ المساواة التّامة بين مواطنيها على أساس قيم المواطنة. في حين ألفينا فصولاً عديدة تؤكد ضرورة التمييز بين التونسيين على أساس الدين، ففي الفصل الرابع والسبعين من الباب الرابع السلطة التنفيذية نقرأ: "الترشح لمنصب رئيس الجمهورية حقّ لكلّ ناخبة أو ناخب تونسيّ الجنسية منذ الولادة، دينه الإسلام"[11].
فالشرط الذي يخوّل للتونسيّ الترشّح لمنصب رئيس الجمهوريّة وفق ما جاء في نصّ هذا الفصل لا يتمثّل في اكتساب صفة المواطن التونسيّ فحسب، وإنّما في اعتناق الدّين الإسلاميّ أيضاً، ممّا يعني عدم تمتّع مواطن تونسيّ يدين بغير الإسلام بهذا الحقّ المدنيّ والاستحقاق السياسيّ منصب رئيس الجمهوريّة. وهذا الشرط القائم على أساس دينيّ ينسف في حقيقة الأمر مدنيّة الدولة المنصوص عليها في دستور تونس الجديد، ويتنافى ومبدأَ تساوي جميع المواطنين أمام القانون في الحقوق والواجبات ويتعارض مع الحرّيات الأساسيّة والمبادئ العامّة التي ينادي بها دستور الجمهوريّة الثانية في تونس.
ففي هذا الفصل المتعلّق بشروط الترشّح لمنصب رئاسة الجمهوريّة التونسيّة يجد القارئ المتأنّي تقابلاً بين الشّرط الأوّل الموصول بمبدأ الانتماء الوطنيّ، أيْ اكتساب صفة الجنسيّة التونسيّة منذ الولادة وبين الشرط الثّاني المرتبط بضرورة انتماء المترشّح لهذا المنصب إلى الدّين الإسلاميّ، ومن ثمّ يقوّض الشرط الثاني إذا لم يتوفّر في المواطن التونسيّ الشرط الأوّل، ومن هنا نتبيّن أنّ شرط الانتساب إلى الدين الإسلامي أهمّ من شرط المواطنة (حقّ لكلّ ناخبة أو ناخب تونسيّ). وما تقديم المرأة على الرّجل في البناء اللّغويّ للفصل المذكور سوى إيهام ومخاتلة من المشرّع التونسيّ بتبنّي قيم الحداثة والديمقراطيّة التي تناصر حقوق المرأة الكونيّة[12].
نحن إزاء مفارقة واضحة بين ما يدعو إليه الشرط الأوّل في مواصفات رئيس الجمهوريّة - وهو شرط مدنيّ أساساً يقوم على مبدأ الجنسيّة والمواطنة والانتخاب- وما يؤكّده الشرط الثاني من ضرورة اعتناق الدين الإسلاميّ بوصفه شرطاً دينيّاً لاهوتيّاً مبنيّاً على منطق التمييز بين المواطنين التونسيّين على أساس الدّين.
إنّ الفصل المحدّد لشروط الترشّح لمنصب رئيس الجمهوريّة ينطوي على تناقض داخلي وعدم انسجام بين ما ورد في قسمه الأوّل وما جاء في قسمه الثّاني. فكيف يجمع المشرّع في موطن واحد بين شرطين متناقضين أوّلهما يوحي بالمساواة بين التونسيّين على أساس المواطنة وقيم الحريّة والانتخاب والحداثة، وثانيهما يهدم الشرط الأوّل من أسسه لأنّه يميّز بين التونسيّين لا على اعتبار الوطنيّة والمواطنة والانتماء إلى تونس بل على مقياس دينيّ فيه الكثير من الحيف، وفيه دعوة مُضمَرة إلى تقسيم الشعب التونسيّ على خلفيّة دينيّة لأنّ المشرّع حرم بكلّ وضوح من الترشّح إلى رئاسة الجمهوريّة كلّ مواطن تونسيّ لا يعتنق الدّين الإسلاميّ؟
وعليه، فالمشّرع التونسيّ وهو يصوغ الفصل الرّابع والسبعين من الباب الرّابع من الدستور المتعلّق بالسلطة التنفيذيّة رفض من حيث يشعر أوْ لمْ يشعر قبول المواطن المختلف عنه دينيّاً وعقائديّاً، ممّا يعني أنّ الاعتراف بالآخر والقبول به لا يكون إلا بالاستناد إلى مقياس دينيّ تمييزيّ يَعتبر الإسلام صفوة الديانات.
ومثل هذا التمييز الدستوريّ بين المواطنين على أساس العقيدة أو الديانة من شأنه أنْ يهدّد مدنيّة الدولة، وأنْ يساهم في تأجيج مشاعر الكراهيّة والبغضاء تجاه التونسيين غير المسلمين (اليهود، ...). زدْ على ذلك أنّ هذا التمييز الدينيّ بين المواطنين في تونس عند الترشّح إلى منصب رئيس الجمهوريّة يخرق مبادئ الحريّة والمساواة وحقوق الإنسان التي ذكرها الدستور الجديد في بعض مبادئه العامّة، ويدير ظهره للقيم الكونيّة التي تشجّع على التعدّد والاختلاف والقبول بالآخر بغض النظر عن معتقده وديانته ولونه ولغته وعرقه. الأمر الذي يهدّد فعلاً - في تونس ما بعد الثورة- الحريّات الأساسيّة الفرديّة وحقوق الإنسان، بما أنّ بعض ما جاء في الدستور الجديد من فصول ونصوص يعيدنا إلى نقطة الصفر، أيْ إلى الاستبداد والانفراد بالسلطة تحت مظلّة الدّين. فنكون حينئذ أمام إمكانية إعادة إنتاج المنظومة الفكريّة المتسلّطة القديمة، وعينا بذلك أم لم نع.
وهكذا نقف مرّة أخرى على مواضع تناقض صارخة بين فصول الدستور التونسيّ الجديد، الأمر الذي يجعلنا نرجّح أنّ إدراج حريّة الضمير في النسخة النهائيّة للدستور ليس نابعاً من إيمان عميق بهذه الحريّة الإنسانيّة الأساسيّة وبوعي تامّ بمنظومة حقوق الإنسان الكونيّة[13]، بقدر ما هو رضوخ لتوازنات سياسيّة ولإملاءات إيديولوجيّة ولضغوط حزبيّة وحقوقيّة ولمطالب المجتمع المدنيّ في تونس، بدليل أنّ حريّة الضمير غابت تماماً في المسوّدتين الأولى والثانية من مشروع الدستور. لذلك تمّ فرضها فرضاً في المسودة النهائيّة. ومن ثمّ فهو حقّ مسقط على الدستور وصياغته المرتجلة دليل على ذلك.
عاش المشرّع التونسيّ حيرة حقيقيّة مع قضايا حقوق الإنسان والحريّات الأساسيّة أثناء صياغة بعض فصول الدستور الجديد. وتعزى هذه الحيرة الدستوريّة والقانونيّة ـ فيما نقدّر- إلى تذبذبه الواضح بين مفهوم الأمّة الذي يخضع للروابط الروحيّة والثقافيّة والحضاريّة، لذلك قدّم الاعتبار الدينيّ على سائر الاعتبارات الأخرى في التعامل مع قضايا الحريّات الأساسيّة وحقوق الإنسان، وبين مفهوم الدولة المدنيّة بما يقتضيه ذلك من مؤسّسات وقوانين وحقوق وواجبات يتساوى فيها جميع المواطنين كأسنان المشط، فضلاً عن مفهوم المواطنة الذي ينظمّ علاقة الفرد بالدولة وبغيره من أبناء وطنه. فكلّما قطع المشرّع التونسيّ خطوة إيجابيّة في دسترة حقوق الإنسان وحريّاته الأساسيّة كحريّة الضمير وحريّة المعتقد وحريّة التفكير وحريّة الدّين عاد به مفهوم الأمّة بما ينطوي عليه من احتفاء بالغ بالدّين الإسلاميّ وبالعروبة وبآليّات التفكير القديمة إلى الوراء، حيث يتمّ إنتاج منظومة فكريّة ودينيّة وسياسيّة تقليديّة تكرّس الاستبداد والانفراد بالرّأي وتهدّد بحقّ حقوق الإنسان وحريّاته الأساسيّة.
وعلى هذه السبيل واجه المشرّع التونسيّ إشكاليّة حقيقيّة مع مسألة حقوق الإنسان والحريّات الأساسيّة وهو يصوغ جملة من فصول الدستور الجديد. لهذا كان تمزّقه بين الدّين والأمّة من جهة والدولة المدنيّة من جهة أخرى سبباً حاسماً في كتابة دستور مشوّه وهجين. فلا هو يقدّم بصورة جليّة مفهوم الدولة المدنيّة بما تتضمنّه من هياكل وأجهزة ومؤسّسات وعلويّة قانون، ولا هو يبلور بوضوح الدولة التيوقراطيّة الدينيّة التي تحكم باسم اللّه وبأحكام الشريعة الإسلاميّة. ومن ثمّ تحشر حقوق الإنسان في حقوق اللّه، أو تقضي عليها باسم اللّه والدفاع عن المقدّسات. فـ"القمع [السياسي والفكري] استطاع أنْ يستعبد الدين من أجل استعباد الإنسان ليضفي الشرعية على أفعاله من لا مساواة بين المرأة والرجل، وخنق لحرية الفكر وتسليط العقوبات المذّلّة وزرع كراهية الآخر" [... وذلك] باسم الربّ الأعلى وتعاليمه وحقّه [... ولا مخرج من هذا القمع والتسلّط إلا] بالتصالح مع فكرة الحرية والعدل، أي فكرة دولة القانون [التي تؤدّي إلى] تآلف المؤمن مع المواطن والنّظام مع الحرية وفكر حقوق الإنسان مع ممارستها الفعلية"[14].
2 - في بناء فصول الدستور التونسي: الفصل السادس أنموذجاً
أدرج الدستور التونسي حريّة الضمير المنصوص عليها في الفصل السّادس في المرتبة الثانية بعد حريّة المعتقد ومتبوعة بحريّة ثالثة على صلة وثيقة بحرّيتيْ المعتقد والضمير[15]، وهي حريّة ممارسة الشعائر الدينيّة، الأمر الذي يعني أنّ ذهن المشرّع يربط بطريقة آليّة بين حريّة المعتقد وحريّة الضمير وحريّة ممارسة الشعائر الدينيّة. فكأنّه بهذا الشكل يدمج حريّة الضمير وحريّة المعتقد من حيث شعر أو لم يشعر في حريّة أشمل هي حريّة الدين. في حين أنّ حريّة الضمير تتجاوز الإيمان بديانة معيّنة لتشمل عدم الإيمان بأيّ ديانة، والتنصّل من كلّ انتساب عقديّ. وهذا المنحى في بناء الفصل السادس يتعارض مع مفهوم حريّة الضمير الذي يتخطّى على نحو ما بيّناه في موضع سابق من عملنا مجال الدّين والإيمان بالآلهة مهما يكن اسمها.
ونحن إذا ما فحصنا هذا الفصل ألفينا الدولة وحدها تمتلك منح هذا الحقّ للمواطنين من خلال توظيف عبارة "الدولة راعية للدين، كافلة لحريّة المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينيّة، حامية للمقدّسات، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبيّ ..."[16]. ففي الحقيقة لم نخرج على فكرة الرّاعي والرعيّة، إذ الدولة تبدو في صورة الرّاعي والكافل والضامن، ويبدو المواطن في صورة المرعيّ والمكفول من طرفها. لهذا تكرّس الصياغة اللّغويّة لهذا الفصل صورة الدولة الاستبداديّة الرّاعية التي تمنّ ببعض الحقوق على رعاياها. فبدلاً من ذكر مصطلح الدولة وإردافه بصفات تحمل في ذاتها مرجعيّة سلطويّة دينيّة من قبيل "راعية، كافلة، ضامنة"، كان يحسن بالمشرّع التونسيّ ترك مجال تمتيع المواطنين بهذا الحقّ الدستوريّ، أيْ حريّة الضمير للمجتمع المدنيّ، لأنّ الدولة بوصفها قوّة قاهرة يمكن أنْ تكفل للفرد حريّة الضمير، ولكنّها لا تستطيع السيطرة على أذهان أفرادها لحماية المؤمنين بحريّة الضمير من بطش ذوي العقول الرجعيّة الذين لا يؤمنون بالتعدّد والاختلاف وقيم الحريّة والمواطنة. لذلك كان من الأجدر لو قال المشرّع: "لكلّ مواطن الحقّ في حريّة الضمير والمعتقد والدّين..."، وبذلك يمتلك المواطن حريّة الضمير بوصفها حقّاً دستوريّاً يجب احترامه في مستوى التصوّر القانونيّ وعلى صعيد الممارسة العمليّة في المجتمع التونسيّ. فقوّة الدستور والقانون والحقوق هي الضامنة الوحيدة لهذا الحقّ الشخصيّ، لأنّ الدولة لا تستطيع أنْ تنفذ إلى العقل والوجدان، ومن ثمّ لا تستطيع عمليّاً أنْ تكفل لكلّ مواطنيها هذه الحريّة الأساسيّة، ناهيك أنّ الفصل السادس لم يُشر إلى كلمة مواطن، ولو بإشارة عابرة، ممّا يعني أنّ هذا الحقّ الدستوريّ يظل مِنّة وهِبة من الدولة تكفلهما لمن تشاء وترضى عنه وتحرم منهما من لا ترضى عنه. في حين أنّ هذا الحقّ لو أُسند إلى القانون أو تمتّع به المواطن مباشرة دون رعاية من الدولة وكفالة لَاكْتسب قيمة أكبر ممّا جاء عليه في الفصل المذكور.
وعليه نستنتج أنّ حريّة الضمير وفق الصياغة اللّغويّة التي وردت عليها في نصّ الفصل السّادس من الدستور لا تمكّن المواطن التونسيّ من هذا الحقّ تمام التّمكين، لذلك لا ترقى حريّة الضمير في الفصل مدار بحثنا إلى درجة الحريّة الأساسيّة المطلقة طالما لا يمتلك المواطن زمام هذا الحقّ بيده، بل تقدّمه له الدولة الرّاعية المانحة الواهبة التي لا تخرج عن صفات الآلهة التي تمنّ بالفضائل على عبادها وتسبغ عليهم نعمها.
إنّ الضمير هو ترجمان لما في الرّوح من صفاء وفطرة، لذلك لا يعدو أنْ يكون صوتها الحقّ الدّاخلي، وهو إلى ذلك مرتبط بالعقل والرّأي، لأنّ مجاله الاقتناع الشخصيّ وموصول أيضاً بنداء الواجب الأخلاقيّ في ضوء ما يكتسبه المرء من تربية وثقافة اجتماعيّة وإنسانيّة. وبما أنّ صفات الضمير على النّحو الذي ذكرنا فإنّ إسناد مهمّة كفالته لكلّ مواطن إلى الدولة وحدها بوصفها السلطة السياسيّة والتنفيذيّة التي تكون خصماً وحكماً في آن واحد لا يلبّي كلّ التلبية مبدأ ما يتّسم به الضمير من حريّة، لاسيّما أنّ إشراف الدولة مباشرة على كفالة حريّة الضمير للمواطنين هو إشراف مطلق وثابت بالنظر إلى صياغة النصّ في شكل جملة اسميّة تفيد إثبات صفات الدولة المذكورة، ممّا يكسبها سلطة دائمة أحاديّة مطلقة تتحّكم أنّى تشاء في مسألة حريّة الضمير. لذلك كان من الأفضل إسناد ضمان هذا الحقّ الإنسانيّ إلى سلطة الدستور والقوانين والمجتمع المدنيّ بوصفه الكافل الحقيقيّ في المستوى العمليّ لتكريس حريّة الضمير في الممارسة اليوميّة بين أفراد المجتمع التونسيّ.
ولمّا كانت حريّة الضمير مقترنة بالحريّات العموميّة الأساسيّة في فقه القانون الدولي ومنظومة حقوق الإنسان في العالم وأوسعَ من حريّة المعتقد والدّين وأكثرَ ذاتيّة منهما؛ وجب إناطة مهمّة كفالتها بسلطة أرفع من الدولة وأسمى منها وأقوى وهي سلطة الدستور. فمن هذا المنطلق كان بإمكان نصّ الفصل السادس من الدستور التونسي إسناد الكفالة مباشرة إلى عُلويّة الدستور، كأنْ يقول النصّ: "يكفل الدستور التونسي لكلّ مواطن حريّة الضمير". وبذلك تتضاعف هذه الحريّة إذا كانت مسنَدة من الدستور مباشرة، فيمتلك المواطن هذا الحقّ بنفسه، ويمارس حريّة الضمير في كنف الضمانات الدستوريّة.
ورغم ما يحمله الفصل السادس في دستور تونس الجديد من ثغرات قانونيّة ناجمة أساساً عن غياب الانتقاء الدقيق للمفردات اللغويّة التي تعبّر بشكل واضح عمّا طمح إليه المشرّع التونسيّ من غايات نبيلة أثناء كتابة هذه الحقوق الدستوريّة ذات المرجعيّة الكونيّة مثل الحقّ في حريّة الدين والمعتقد والضمير، فإنّه مع ذلك، يُعدّ مكسباً كبيراً في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة في تونس بصفة خاصّة وفي البلدان العربيّة بصفة عامّة. فإدراج حريّة الضمير في نصّ رسميّ أعلى - أيْ الدستور - واكتسابه من ثمّ حقّاً دستوريّاً يُعتبر فعلاً جريئاً شجاعاً، وقطيعةً حقيقيّة في مستوى الذهن والتصوّر عن أنساق التّفكير التقليديّ وعن منظومة الاستبداد التي ميّزت الدول العربيّة المسلمة. لذلك فهذا الاعتراف الدستوريّ بحريّة الضمير في تونس نحسبه انتصاراً لقيم الحداثة ولحقوق الإنسان الأساسيّة وللحريّات الخاصّة، مثلما نحسبه تفاعلاً عقلانيّاً مثمراً مع منظومة الحقوق الكونيّة التي يتمتّع بها الفرد في البلدان الديمقراطيّة المتقدّمة، التي تؤمن بقيمة الإنسان في الكون، وتسعى جاهدة إلى تمكينه من كلّ حقوقه وحريّاته الأساسيّة التي اتّسعت رقعتها اليوم في كنف القانون واحترام الغير وحفظ السلم الاجتماعيّ والأمن العام للدولة التي يعيش المواطن صاحب الحقوق المذكورة على ترابها.
أ - لا حرية للضمير دون الانفتاح على الآخر
حاجتنا واضحة اليوم إلى بناء منظومة أخلاقية كونية تحتوي اختلافاتنا بما يحفظ كرامة الإنسان بعيداً عن جميع أشكال التمييز العنصري والطائفي والديني.
إنّ الإنسان غير قادر على تحقيق ذلك بالانخراط في تلك المنظومة ما لم يشارك في صياغتها من جهة، ومن جهة أخرى نرى أنّ ذلك يقتضي الانفتاح والاستماع إلى الآخر باعتباره شريكاً لا عدوّاً، ولنا في التجارب التاريخية ما يؤكّد ذلك، ففي الهند أرسى الإمبراطور المغولي محمّد جلال الدين محمّد أكبر (1556م-1605م) دعائم العيش المشترك بين المسلمين ومختلف الأديان[17]، على أنّ الانحطاط الثقافي والفكري هو العامل الرئيس في الانغلاق والتقوقع، وهو ما نعيشه اليوم في عالمنا العربي، وطالما لم نؤمن بأنّ الحداثة ضرورة لا ترف فكري، فإنّنا سنظل خارج التاريخ وخارج المنظومة الإنسانية.
أَوَلم يؤكد الرسول محمّد للناس بأنّهم سواسية كأسنان المشط؟ هذه الحياة للبشر فيها يُمتحَنون ويمارسون حريّاتهم باعتبار أرقى مظاهر التكاليف الإلهية، وليس لأحد الحق في إلجام العباد عن التعبير عن رؤاهم ومواقفهم باسم الله، فالله ترك للإنسان حرية الاختيار (فمن شاء فليكفر، ومن شاء فليؤمن)، فالمشيئة مفتاح السرّ وحكمة الله في الخلق.
أو ليس في الدعوة إلى إكراه الآخر على اتباعنا واعتناق ما نؤمن به من معتقدات وأديان وأفكار ... تجديف على الله واعتراض على إرادته؟ وهل ثمّة قيمة اليوم للمناداة بإسلام الدولة، والحال أنّ جوهر الإسلام قد نُزع من قلوب جزء لا يستهان به من الذين ينتمون إليه (الإلحاد، ....)؟ وهل يحتاج الإسلام اليوم لمن يصدّ عنه الأعداء برفع شعارات الجهاد؟ الله أقوى وأعظم من أنْ يكون المحرّض على سفك دماء من خلق، فمتى نترك خلق الله أحراراً يفعلون ما يريدون كي يكونوا "الإنسان"؟ لعلّنا اليوم في حاجة واضحة إلى فتح صفحة جديدة مع تأويل جديد مداره على الإقرار بأنّ الله خلق البشر جميعا أحراراً.
ثمّ إنّ فكرة عدم الانفتاح على مكاسب الآخر المختلف عنك دينيّاً وفكريّاً ومذهبيّاً، والقبول به، فكرة ولّى زمانها وفقدت حجيّتها[18]، لأنّنا أصبحنا اليوم في قرية كونيّة صغيرة وفي عالم متحرك يقوم على تناقل المعلومات، وتعدّد وسائط الاتّصال عبر الأنترنيت والأقمار الصناعيّة وكلّ وسائل الاتّصال الحديثة. لذلك فأنت تشاهد بأمّ عينيك وتسمع بأذنيك ما يحدث في العدوة الأخرى من بلادك شئت أمْ أبيت. وكذلك الأمر بالنّسبة إلى الآخر، فهو يزورك في بيتك يوميّاً، ويؤثّر في حياتك ونمط عيشك وتفكيرك عبر هذه الوسائط الاتصاليّة التي تطرق بابك دون إذن منك، لذلك فالاعتراف بالآخر بات ضرورة تقتضيها سنّة التطوّر في عالمنا المعاصر. ومن هنا لا بدّ من الإيمان بالقيم الكونيّة التي نجدها عند الأمم الأخرى الرّاقية المتقدّمة، وبفكرة المثاقفة بين شعوب العالم أخذاً وعطاء. ومن هذا المنطلق فإنّ الإنيّة لا تتعارض في شيء مع مفهوم الغيريّة، طالما أنّ الآخر يتعايش معي في كنف السّلم والاحترام المتبادَل، وفي ظلّ قيم إنسانيّة مشتركة وحقوق أساسيّة وحريّات كونيّة فرضتها ثقافة الحداثة التي تكرّس على أرض الواقع فكرة الاختلاف والتعدّد والحريّة وحقوق الإنسان.
إنّ الاعتراف بالآخر في واقع الأمر من ثمار قيمة التّسامح التي شجّعت عليها الديانات السماويّة، بما في ذلك الإسلام ومن مكاسب القيم الكونيّة الحداثيّة. لهذا بدلاً من نشر قيم التمييز الدينيّ بين المواطنين في تونس لا بدّ من نشر قيم التسامح. ومن هذه الجهة يجعلنا التسامح نقبل بالآخر المختلف عنّا عقديّاً ودينيّاً وفكريّاً، ونتعايش معه في سلام، ونحترم قناعاته الذاتيّة، وحريّاته الشخصيّة كحريّة الضمير وحريّة المعتقد وحريّة التفكير. ومن ثمّة نتفهّم بمنطق التسامح ما بين البشر من اختلاف وتعدّد[19]، وهو تعدّد واختلاف وتنوّع ما انفكّ النصّ القرآنيّ يؤكّد حكمة اللّه من وجوده. فوراء الاختلاف بين البشر حكمة إلهيّة بالغة مدارها على التعارف والتواصل والتعاون وتعمير الكون ونشر أسباب الحياة الحسنة فيه. ولذلك جعلنا اللّه مختلفين كيْ نتفاعل مع بعضنا بعضاً، ونستفيد من هذا الاختلاف والتنوّع، ونحوّله إلى نقطة قوّة تساعدنا على تقدّم الإنسانيّة على جميع الأصعدة. والعجب العجاب أنّ اللّه يثني على الاختلاف ويبزر الحكمة من وجوده، بينما نجد أصحاب العقول الرجعيّة من أشباه علماء الدين ورجاله يبخسون النّاس حقّهم في الاختلاف ويعترضون على حقّهم في حريّة الضمير مثلاً أو المعتقد أو التفكير، على نحو ما بيّنّاه في موضع سابق من عملنا.
خاتمــــة
سعينا في هذا العمل إلى قراءة مسألة "دسترة" حريّة الضمير في دستور تونس الجديد (جانفي 2104) من خلال تفكيك الطبقات اللغويّة والدلاليّة التي تشكّل منها الفصل السّادس من الدستور الذي نصّ بصريح العبارة على حقّ حريّة الضمير في تونس، وقبل الاشتغال النقديّ بهذا النصّ التشريعيّ العامّ.
ولئن كانت تونس أوّل دولة عربيّة تنصّ بصريح العبارة على حقّ حريّة الضمير في دستورها الجديد، فإنّ الفصل الذي صِيغت فيه هذه الحريّة الدستوريّة يقتضي من الباحث قراءة نقديّة لطريقة بنائه، كيْ يبرز إلى أيّ مدى يتمتّع المواطن التونسيّ بهذه الحريّة. ولن تتسنّى هذه القراءة النقديّة لفحوى الفصل السّادس من الدستور الجديد ما لم نعمد إلى تفكيك الخطاب المكوّن لمادة هذا الفصل.
وقد قادنا تفكيك خطابه إلى استجلاء نسبيّة تمتّع المواطن التونسيّ بهذا الحقّ الدستوريّ. والوجه في ذلك أنّ النصّ لم يوكل مباشرة لقوّة القانون والدستور ضمان حريّة الضمير لكلّ فرد من الشعب، بل أوكلها إلى الدولة الراعية والمانحة والواهبة، حتّى لكأنّ حريّة الضمير مجرّد هبة يمكن أنْ تمنحها الدولة لمن تشاء وأنّى تشاء. وبذلك لم نخرج بعد من صورة السلطة المفارقة القاهرة الكافلة والرّاعية لرعاياها، تسوسهم بسياسة القطيع، وهذا الأمر يعزّزه في نصّ الفصل المنقود غياب كلمة المواطن.
وبيّنّا أنّ سوء اختيار المفردات اللغويّة المناسبة هو الذي يجرّ إلى تشكّل المعنى في النصّ الدستوريّ مدار عنايتنا على النحو الذي ذكرنا، لذلك لا بدّ لخبراء القانون الدستوريّ من خبراء في أسرار اللّغة ودقائقها حتّى يُنجز النصّ القانونيّ وفق ما يطمح إليه رجال السلطة التشريعيّة والقانون، فلا نجد حينئذ ثغرات في القوانين أو تبايناً بين المراد كتابتُه دستوريّاً والواقعِ القائم والمعنى المُستفاد من النصّ القائم فعليّاً.
إنّ ما أبدينا من بعض الملاحظات الأوليّة حول مسألة حريّة الضمير في دستور الجمهوريّة التونسيّة لا ينقص شيئاً من الطّابع الحداثيّ التقدمي لهذا الدستور، ولهذا الفصل بالذّات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون، العدد السابع، 2015، التي تصدر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.
[1] Idriss (Mohamed Youssef): constitution de la république tunisienne (2000-2014), ABC, N06, Genève, 2015
[2] الكشو (منير): حرية الضمير بين الاطلاق والتقييد، جريدة الحياة، السبت 2 نوفمبر 2013. الموقع الإلكتروني: http://alhayat.com/Details/567599
[3] راجع فيما يتعلّق بعلاقة التيارات الإسلامية وكتابة الدستور التونسي الجديد وأهم القضايا المرتبطة بمنزلة الدين في فصول الدستور سعيد (نوفل): الدستور وإشكالية تطبيق الشريعة والدولة المدنية بمرجعية إسلامية، (مقال منشور في 24/06/2013 على الموقع الإلكتروني لمؤسسة مؤمنون بلا حدود). والعلام (عبد الرحيم): كيف عالج الدستور التونسي الجديد المسألة الدينية-السياسية؟ (مقال منشور في 01/05/2014 على الموقع الإلكتروني لمؤسسة مؤمنون بلا حدود).
[4] الدستور التونسي، منشورات منظمة البوصلة، 2014 الموقع الإلكتروني www.Albawsala.com
[5] Idriss (Mohamed Youssef): constitution de la république tunisienne (2000-2014), (op cit), p78.
[6] احتوى الدستور التونسي المصادق عليه في غرّة جوان 1959 في الفصل الثاني من الباب الأول ـ أحكام عامّة على عبارة "مجلس الأمّة" للإحالة على مجلس الشعب، تعوض عبارة "مجلس الأمّة" بمجلس النوّاب" بمقتضى القانون الدستوري ع - 47 - د د سنة 1981. المؤرّخ في 09/06/1981
[7] سعيّد (جلال الدّين): معجم المصطلحات والشّواهد الفلسفية، دار الجنوب للنّشر، تونس 1994، ص 194
[8]. De Jouvenel (Bertrand) (1903 1987): Du pouvoir, Hachette Littérature, Collection Pluriel; Paris;1998, pp 35-36.
[9]Idriss (Mohamed Youssef): constitution de la république tunisienne (2000-2014), (op cit), p 83
[10] الدستور التونسي، (سبق ذكره)
[11] المصدر نفسه.
[12] يبدو المشّرع التونسيّ في قضيّة المساواة بين المرأة والرّجل خاضعاً للآليّة نفسها في معالجة قضيّة حريّة الدين والضمير والمعتقد. ففي الفصل السادس والأربعين من الباب الثاني من الدستور: الحقوق والحريّات نجد ما يلي: تلتزم الدولة بحماية الحقوق المُكتسَبة للمرأة وتعمل على دعمها وتطويرها. تضمن الدولة تكافؤ الفرص بين الرجل والمرأة فتتحمّل مختلف المستويات وفي جميع المجالات.
تسعى الدولة إلى تحقيق التّناصف بين المرأة والرّجل في المجالس المنتخبة.
تتخذّ الدولة التدابير الكفيلة بالقضاء على العنف ضدّ المرأة. (الدستور التونسي)
لاحظ في مستوى بنية النصّ كيف راوح المشرّع بين الإقرار بمسؤوليّة الدولة في تحقيق مبدأ المساواة بين المرأة والرجل من جهة، واعتبارها غير ملزمة بهذه المساواة من جهة أخرى، وهو ما نتبيّنه من خلال طبيعة الأفعال المنسوبة إلى الدولة (تلتزم، تعمل، تسعى إلى، تتّخذ). فثمة فرق كبير بين قول المشرّع: "تسعى الدولة إلى تحقيق التناصف بين المرأة والرّجل في المجالس المنتخَبَة" وبين النصّ المفترَض قولُه: "تحقّق الدولة التناصف بين المرأة والرجل في المجالس المنتخبة". فهناك بون بائن بين الطموح أو المحاولة وبين الفعل المنجَز على صعيد الواقع.
[13] الجمل (بسّام): حرّيّة المعتقد والضمير في الدستور التونسي الجديد: صراع المرجعيّات (مقال منشور في 14/03/2014 على الموقع الإلكتروني لمؤسسة مؤمنون بلا حدود).
[14] ابن عاشور (عياض): الفاتحة الأخرى الإسلام وفكر حقوق الإنسان، تعريب فتحي بن الحاج يحيى، دار الجنوب للنشر والتوزيع، ط 1، تونس، 2012، ص 74
[15] اعتبر المؤرّخ وعالم الاجتماع جون بوبيرو Jean Baubérot أنّ حرية الضمير تقع في منتصف الطريق بين حرية التفكير وحرية الدين. فحرية الضمير التي تومئ إلى الحياة المعيارية والقيمية الداخلية للفرد تتيح له أن يبلور قناعاته، بما فيها القناعات الدينية والإيمان من عدمه، بكل حرية واستقلال. Baubérot (Jean): La laïcité falsifiée,: La Découverte , Paris, 2014, pp12 -13
[16] الدستور التونسي، (سبق ذكره)
[17] ابن عاشور (عياض): الفاتحة الأخرى، الإسلام وفكر حقوق الإنسان، (سبق ذكره)، ص 32
[18] إنّ فكرة الخوف من الآخر والتحذير من الانفتاح عليه ليست بالفكرة الجديدة، إذ نجدها لدى الشعوب القديمة التي تخشى من بطش بعض الشعوب المغايرة التي تغزو غيرها من الشعوب، وتعلن ضدها حروب إبادة باسم الآلهة، وتحت غطاء الدّفاع عن المقدّسات الدينيّة. وهذه الرّهبة من التّعامل مع الآخر، وهذا الاحتراز من الاقتراب من ثقافته وتصوّراته للحياة والكون نجدهما مستبدّتين بأذهان الشعوب العربيّة المسلمة في فترة الانحطاط والاستعمار. خاصّة بعد حملة نابليون بونابرت على مصر، إذ برزت دعوات إلى رفض الآخر الذي يريد أنْ يقضي على الأصول الإسلاميّة للشعوب العربيّة، وأنْ يطمس هويّتها ولغتها وخصوصيّاتها الحضاريّة، وذلك بغزوها فكريّاً.
[19] إنّ الحديث عن "مفهوم التّسامح هو عبارة عن مكسب جديد لا يمكن فصله عن النّقد الفلسفي للحقيقة [...] فالمسلمون كالمسيحيين، قد شرّعوا وسنّوا القوانين باسم مزعم امتلاك حقيقة الوحي الفريدة والمطلقة" أركون (محمّد): الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، تعريب هاشم صالح، دار السّاقي، ط 1، لندن أنجلترا، 1990، ص 115. وهو إلى جانب ذلك مفهوم يتعارض مع مبدأ عام نادت به الأديان بشكل صريح أو مضمر، وهو التّعصب للعقيدة.
المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D...