الإبداع والاتّباع والنهوض الحضاري

عبد الرحمن السالمي

 

لم يكن هناك اتِّفاقٌ حول الْمَعْنيّ بالاتّباع والإبداع خارج المجال الأدبي؛ إذ الواقعُ أنّ المصطلحين استُخدما بعد النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، في الصراع بين المجدِّدين والتقليديين من الشعراء. فالاتّباعيُّون هم أصحاب نظرية "عمود الشعر"؛ أي الأصالة الشعرية العربية في الوزن والقافية، كما في الصُوَر الشعرية. والمبدعون أو أهل البديع هم الذين كانوا يقولون بالتجديد في الصورة الشعرية، والتجديد في الموضوعات الشعرية، وهجْر التقليد الخاصّ بالنسيب والوقوف على الأطلال. أما في الصراع الذي دار بين متكلِّمي المعتزلة، وخصومهم -الذين سَمَّوهُم "الحشويَّة"- فقد وقفت الحشويَّة مع الاتّباع في الدين، وقالت المعتزلة بالاجتهاد حتّى في المسائل العَقَدية، واتّهموا أهل الاتّباع بأنهم هم أهلُ التقليد والعداء للعقل لصالح فهمٍ جامدٍ وحرفيٍّ للنقل.

أمّا ربطُ النهوض الحضاري بالإبداع فظهر في أواخر القرن التاسع عشر, حين سادت نظريةٌ تذهبُ إلى أنّ الفكر الإسلاميَّ دخل منذ القرن السابع الهجري في حقبة انحطاطٍ طويلةٍ في سائر المجالات، وامتدّت تلك الحقبةُ إلى مشارف الأزمنة الحديثة، حيث قيل: إنّ التاريخ الفكريَّ الإسلامي عرف انحطاطاً دام حوالَي الألف عام. وقد قاد هذه الفَرَضيةَ المستشرقون الذين حملوا على التوجهات التقليدية في المذاهب الفقهية وفي علم الكلام. ولم يوافقهم الإصلاحيون المسلمون في البداية في الربط بين القُدْرة على النهوض الحضاري، والقيام بإصلاحٍ ديني؛ فقد رأى الإصلاحيون بدايةً- كما سبق القول- أنّ المطلوبَ إصلاحُهُ إنما هو الشأن الدنيوي بجوانبه: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، أمّا المسائل الدينية والفقهية فما اعتقد هؤلاء أنّ هناك حاجةً للإصلاح فيها. بيد أنّ الإصلاحيون سارعوا للقول بفتح باب الاجتهاد في الفقه، وبالإصلاح في المجال الديني والكلامي على وجه الخصوص, وحجة هؤلاء أنّ فتح باب الاجتهاد كفيلٌ بتجديد وتفعيل القاعدة الفقهية القائلة بتغير الأحكام بتغيُّر الزمان. أما التجديد الكلامي فيؤدي إلى تنحية مباحث البدعة، وربْط ذلك بمباحث السُنّة؛ لأنّ الخروج من الجمود يعني الخروج من الانحطاط الحضاري إلى الإبداع الذي يُفيدُ في النهوض الحضاري بدلاً من التواكُل والدروشة الصوفية، وبقاء القديم على قِدَمِه. لقد حرَّر الإصلاحيون أو حاولوا عمليات النهوض من التقليد الأعمى للنموذج الأوروبي، ومن الأوضاع التي كانت اعتباراتُ التقليد قد أدّت إليها.

إنّ الإشكالية تبقى في مسألتين اثنتين: ربْط ضرورات الإصلاح من أجل النهوض الديني والدنيوي بالخروج من الانحطاط الذي ساد على مدى حوالَي الألف عام, وتطلُّبُ الإصلاح الديني تشبُّهاً بما حصل في أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر حين تمرد مَنْ عُرفوا بالبروتستانت على سلطان الكنيسة الكاثوليكي، وقالوا بالحرية الدينية أولاً، ثم بفصل الدين عن الدولة، من أجل تحرير كلٍّ منهما من الآخَر. في المسألة الأولى يسلِّم الجميع أنّ الاجتهاد الفقهيَّ ضروريٌّ لتجديد نظر المسلمين إلى قضايا حياتهم، وإلى المسائل المستجدة والتي تتطلب رؤًى جديدةً لم يعرفها القدماء ولم يفكَّروا فيها, والتقليد الفقهيُّ لا يفيدُ فيها؛ بل إنه يقف عقبةً أمام القدرة على حلّ المشكلات، والتجديد الكلاميُّ ضروريٌّ أيضاً، فالمسائل التي أُثير حولها الجدالُ -مثل القضاء والقَدَر وخَلْق القرآن، ومثل الجدال في تكون العالم من جواهر وأعراض...إلخ- لم تعد واردةً ولا يصحُّ أن تبقى الفيزياء الأرسطية بل والمنطق الأرسطي هي الأساس في المقولات الكلامية والعقَدية. لكنّ ذلك لا يعني أنه كان هناك انحطاطٌ حضاريٌّ متطاولٌ علتُهُ الجمودُ الكلاميُّ أو الانسدادُ الكلامي والفقهي, فحتّى القرن الثامن عشر شهدَ حركةً تجديديةً زاخرةً في شتّى المجالات، إلى أن كانت الغزوةُ النابليونية التي أَنْهت التجديد الإسلاميَّ الذاتيَّ لصالح حداثةٍ أُخرى هي الحداثةُ الأوروبية. 

والحداثةُ الأوروبيةُ هي التي جلبت معها إشكالياتٍ أوروبيةً تتعلَّقُ بعلاقة الدين بالدولة, ففي التجربة الإسلامية الوسيطة لم يكن هناك صراعٌ بين الدين والدولة؛ لأنّ مجال عمل الفقهاء كان مختلفاً عن مجال العمل السياسي والتدبير السياسي. أمّا في أوروبا الوسيطة فقد نشب الصراع؛ لأنّ كلاًّ من الطرفين أراد إلغاء الآخر أو الحلول محلَّه.

بيد أن النهضويين دأَبوا على اعتبار أنّ الإتّباع في مسائل الاعتقاد لا يستلزمُ اتّباعاً أو تقليداً في المجال الفقهي، ولا في الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية, كما أنّ هذا الاتباع لا يعني التوقُّف عن الإبداع في المجالات الأدبية والفنية وشتّى مناحي علوم الإنسان. لقد وقع التغيير والتجديد، وما عادت هناك حاجةٌ لنسْبة أيِّ فشلٍ في الحاضر إلى انسدادٍ في الماضي, فلنمض باتجاه المستقبل القوي والحضاري والمتقدم، مستلهمين أخلاقيات التجديد العربي والنهوض العربي الإسلامي. إنّ المشكلة ليست في الموروث أو معه، بل هي في العمل على صنع الحداثة الفكرية والقيمية، من طريق تجديد الوعي، والتواصل مع الجمهور.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/2/32

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك