العرب والدَّرس اليونانيُّ

بقلم: حسن أوزين

 

عندما كانت اليونان تعيش أزمتها العامَّة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والماليَّة...وكان النّقاش بمختلف أشكاله من الاقتصاديّ إلى الاجتماعيّ، بالإضافة إلى السّياسيّ والماليّ داخل البلد أو داخل الاتّحاد الأوروبي، أو على مستوى القوى العظمى الفاعلة والمؤثّرة، وأيضا وسط الخبراء والمحلّلين والمثقَّفين المهتمّين والمتخصّصين في دراسة مثل هذه الأزمات، سواء في الإطارات والهيئات والمنظَّمات الرَّسميَّة أو المستقلة، لم تكن تلك الأزمة و لا ذلك النّقاش ليتخطَّى أحد الاحتمالين، إمَّا إنقاذ اليونان بضخ مساعدات ماليَّة جديدة بما يضمن استمرارها في الوحدة الاقتصاديَّة والنَّقديَّة لمنطقة اليورو، أو التَّخلي عنها نهائيًّا، وكلا الخيارين له تداعيات وانعكاسات سلبيَّة خطيرة على صيرورة الأفق الاستراتيجي للاتّحاد الأوربي. إلاَّ أنَّ خيار الإنقاذ الأوروبيّ بهذا المعنى الشَّامل للأبعاد الجيو سياسي والاقتصادي والمالي فرض نفسه كشر لابد منه في نظر الرَّأسماليَّة الماليَّة المهيمنة داخل منطقة اليورو، بنوع من الحساسيَّة الأوروبيَّة خوفا من جعل اليونان أرضا خصبة للاَّعب الرُّوسيّ أو الصينيّ.



وفي سياق هذه الحمى الملتهبة للأزمة اليونانيَّة لم يكن أحد يتحدَّث عن الفوضى الأقرب إلى الحرب الأهليَّة، بل عرف الصّراع السّياسيّ أرقى أشكاله من خلال التَّجسيد الحيّ لسيادة الشَّعب في إطار دولة الحقّ والقانون، وفي ظلّ الفعل السّياسيّ لشعب يشارك بحريَّة وعقلانيَّة ومسؤوليَّة في تقرير مستقبله ومصيره. وذلك تفعيلا للمواطنة الحقة عبر المؤسَّسات الدّيمقراطيَّة الَّتي توفّر شروط وجودها وممارستها الدَّولة الوطنيَّة والدّيمقراطيَّة الحديثة. لقد قدَّمت لنا اليونان درسا رائعا حول ضرورة وأهميَّة العيش في ظل الدَّولة الحديثة حيث استطاعت تدبير وتصريف الأزمة بكل مستوياتها المعقَّدة والمتمفصلة بين ما هو وطني وأوروبي وعالمي، من خلال ديمقراطيَّة الصّراع السّياسيّ الَّذي احترمت فيه إرادة الشَّعب في أن يقول لا للاستمرار في الخضوع لسياسة التَّقشف، ولإملاءات صندوق النَّقد الدُّولي والبنك المركزي الأوربي. كانت اليونان على حافة الإنهيار إقتصاديًّا واجتماعيًّا وماليًّا، لكنَّها كانت قويَّة كدولة حداثيَّة، أي دولة الحق والقانون والمؤسّسات الدّيمقراطيَّة.



هكذا يتبيّن لنا مدى قصور الفكر السّياسيّ الَّذي يريد تفكيك وهدم الدَّولة باعتبارها أداة سياسيَّة طبقيَّة في خدمة العنف الطبقي الرَّأسماليّ، أو اختزالها في مجرَّد جهاز قمعي في حقيقتها السّياسيَّة والاجتماعيَّة، كما يتبيَّن عدم صلاحيَّة الفكر اللاَّسياسي الَّذي يحلم بتحطيم الدَّولة لتأسيس طوبى الخلافة. فمهما كانت السُّلطة السّياسيَّة فاسدة ومتعفنة إجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا وأخلاقيًّا مثل السُّلطة السّياسيَّة اليونانيَّة الَّتي ورَّطت الشَّعب في أزمة خانقة على كلّ المستويات سواء على مستوى المديونيَّة واستفحال السُّلوكيات الفاسدة من الارتشاء إلى التَّهرُّب الضَّريبي والتَّلاعب في السياسة الماليَّة بما يسمح بهدر الأموال المقروضة، من خلال إعادة الهيكلة المزيفة في أسسها وبياناتها وإحصاءاتها الماليَّة، الشَّيء الَّذي وضع البلاد على حافة الانهيار. إلاَّ أنَّه رغم كل هذا الانسداد الَّذي يشبه النَّفق المظلم كانت الدَّولة في شخص مؤسَّساتها الدّيمقراطيَّة الإطار المتين الَّذي في إطاره ومن خلال مؤسّساته تمت ممارسة الصّراع السّياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ، وبفضل الدَّولة الحداثيَّة أيضا تمَّ تدبير التَّناقضات والاختلافات وضمان حريَّة الشَّعب في المشاركة السّياسيَّة الحرَّة والفاعلة وفق ما يراه مناسبا ومخرجا للانسداد الَّذي تورَّطت فيه البلاد بفعل الطَّبقة السّياسيَّة الحاكمة الَّتي رهنت مستقبل البلاد بمصالحها الضَّيقة المنسجمة في مصالحها مع هيمنة الرَّأسمال الماليّ.



صحيح أنَّني كنت مهتمًّا بكل هذه الأشياء، ومع ذلك لم تكن الحمى الإعلاميَّة حول انفصال أو استمرار اليونان في الوحدة النَّقديَّة الأوروبيَّة، لتشغلني بشكل أكبر عن إعجابي بأهميَّة وضرورة الدَّولة الحداثيَّة، لأنَّها إلى اليوم في حدود شرط التَّطوُّر الحضاريّ البشريّ هي وحدها القادرة على تدبير مختلف الصّراعات والأزمات المجتمعيَّة السّياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، دون الخوف من انفجار العنف الأعمى للحروب الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والإيديولوجيَّة والأهليَّة والطَّائفيَّة، كما يحدث في البلدان العربيَّة لتسوية الاختلافات والخلافات والصّراعات البسيطة والمعقَّدة. أعتقد أن الأزمة اليونانيَّة قدَّمت لنا درسا في هذا الشَّأن بضرورة العمل على تأسيس الدَّولة الحداثيَّة، لأنَّها الأرضيَّة الموضوعيَّة لبناء وممارسة وإنتاج السياسة، وبفضل هذه الأخيرة يتم تذليل الصُّعوبات وكل الاختناقات الَّتي تفرزها بشكل طبيعي الاختلافات والتَّناقضات المجتمعيَّة إقتصاديًّا وسياسيًّا وإيديولوجيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا. كما أنَّها الأرضيَّة الواضحة لفك الاشتباك والخلط والالتباس الحاصل مثلا عندنا بين مفهوم الدَّولة، ومفهوم السُّلطة السّياسيَّة.



 والفعل السّياسيُّ الحرُّ، العقلانيُّ، المسؤول، القانوني، كمواطنة حقيقيَّة في حضن الدَّولة الحديثة، هو الإجابة السّياسيَّة الموضوعيَّة تجاه كلّ الأزمات والمخاطر الَّتي تهدّد المجتمعات والأوطان. فهل نستطيع أن ندرك قيمة الكتابات والأصوات الَّتي كانت بالأمس واليوم تطالب بالدَّولة الحداثيَّة القابلة لولادة السّياسة في المجتمع، وذلك لبناء الإنسان المواطن، وتجاوز حمام الدَّم الَّذي تغرقنا فيه القبيلة والعقيدة والإثنيَّة والطَّائفيَّة...؟ وهل يمكن القول بأن التَّجربة التُّونسيَّة قطعت شوطا مهمًّا في السَّيرورة التَّاريخيَّة لتكون الدَّولة الوطنيَّة الدّيمقراطيَّة الحديثة، ممَّا يعزّز ويدعم مفهوم وواقع الاستثناء الَّذي يمكن أن يميّز الدَّولة التُّونسيَّة عن محيطها العربي، وجعلها قويَّة في وجه مختلف أنماط التَّفكير القطعي والأحادي، وصعبة تجاه مختلف أشكال التَّطرُّف؟ وهل في نجاح تجربة الحوار السّياسيّ أكبر مؤشّر على ذلك خاصَّة وأن المرأة التُّونسيَّة ساهمت فيه بشكل فعَّال؟

المصدر: http://www.alawan.org/article14751.html

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك