الحوارات التبادلية

 

سعد الحميدين

    تظهر أحياناً في الحوارات الثقافية التي يجريها بعض المحررين الثقافيين مع مفكرين، أو أدباء وفنانين وشعراء وكأنها خرجت من تحت خط مسطرة واحدة، حيث يكون هناك سؤال/ جواب بمعنى (سين/جيم)، بعضها وجها لوجه، ومعظمها تُكتب الأسئلة وتترك لدى المبدع/ المفكر ليجيب كتابة سواء على الورق أو عن طريق الإيميل، ثم تقدم للقارئين بالعناوين التي اختارها المجاوب، أو المحرر الذي سطر مقدمة تعريفية بالضيف ثم ألحقها بالإجابات، وهذا هو الغالب، ولكن في الذاكرة تبقت صور لأدباء اتخذوا من الحوارات الأدبية هواية من ضمن المهام التي يذهبون إليها عندما تتبلور فكرة ملحاحة لا تكفي إجابة الواحد منهم عما كان يجول في خاطره، فيكون التوجه عبر حوار إلى مبدعين وفنانين ونقاد يرى فيهم المحاور القدرة والكفاءة للإجابة عن تساؤلاته بعد أن اعتملت في نفسه ودرسها فبسطها أمام من اختار لكي تكون المشاركة ذات فاعلية بالنسبة للطرفين في طرح القضية، وبالنسبة للمتلقين يكون تقديم عمل الهدف منه الفائدة المشتركة، ومن الأدباء الذين كانت لهم حوارات قيمة مع مفكرين، وأدباء، ومبدعين في الفن، والرسم، والتصوير، والنحت، والشعر، كان القاص والروائي والرسام (فاروق البقيلي) رئيس القسم الثقافي في مجلة (الأسبوع العربي)، وقد كان شغوفاً بالحوارات مع الشخصيات المؤثرة في الحركة الأدبية، والفنية، ومن مميزاته أنه لا يختار الشخصية التي يرى توجه المحررين الثقافيين من الصحافيين والمحاورين الذين يمارسون هذه المهنة كحرفة لكسب العيش، ولا يخلون من الموهبة ومحبة لعملهم الصحفي، لكن (فاروق) يقتنص شخصيته بعد أن يعرف عنها الكثير، قراءة، ومعايشة، وسماع الآراء المختلفة، ومن ثم يضع المَحاور التي يريد مناقشتها أمام المحك مراجعاً ومدققاً دون إغفال أن يحمّل الأسئلة آراءه الموحية للمقابل بأن يسير معها مجيباً لما تحمله من مفاتيح أمامه، فهو يسهل أمر الضيف، وغالبا ما يكون توجهه إلى استفزازه وحشره في زاوية لابد أن يجيب حتى لو كان غير راغب، أو مراوغاً، فإنه يكون قد رسم خطته، وربما فاجأه بخطط أخرى تسحب الضيف لاشعوريا للإجابة، وكثيراً ما عَقَّدَ الأمور بين فنانين وأدباء، وأثار معارك أدبية تسبب فيها بواسطة الحوار، لأنه يذهب للمقابل الذي كان محل الحديث، ويطرح عليه أسئلة محشوة بما كان يريد أن يكون بين الاثنين، ولكن لا يبتعد عن الحوارات التي حضّر لها وهو يريد منها الإفادة.

حوارات كانت مع أعلام في النقد الأدبي منها على سبيل المثال الحوار التصادمي الذي أجراه مع الشاعرين أدونيس، ومحمد الفيتوري، وكان قد جمع الاثنين وفي جعبته أكثر من سؤال لكل منهما، وكان للحديث صداه المدوي عندما نُشر، حيث لم يغب المحاور كشخص ثالث يوجه البوصلة، مثيرا ومسكّناً، ثم الحوار مع الناقد غالي شكري الذي كان محط أنظار القراء لما قدمه من كتب تميزت بالشمول والدقة مثل (أزمة الجنس في القصة العربية، وشعرنا الحديث إلى أين، وثورة المعتزل / عن توفيق الحكيم ، والمنتمي / عن نجيب محفوظ، وشعر المقاومة، وغادة السمان بلا أجنحة، وغير ذلك من الكتب اللافتة).

وقد كان الطيب صالح من الضيوف، وربما هو - البقيلي - الثاني بعد رجاء النقاش الذي التفت إلى (موسم الهجرة إلى الشمال) حيث أجرى حواراً مطولا أشبه بالاعترافات والسيرة الذاتية، وقابل الناقد (جلال العشري) الذي سطع نجمه وعاجله الموت قبل أن يكمل مشروعه النقدي الذي بدأه بكتابه القيم (ثقافتنا بين نعم ولا).

وله قصة غريبة مع الشاعر العراقي الذي أعجب به كشاعر صعلوك رآه عندما زار العراق في السبعينيات، فقد لاحظ أن هناك شخصا بدينا يحمل معه حقيبة بالية يتجول في شارع الرشيد وخاصة عند المقاهي التي يرتادها الأدباء، وقد لاحظ وهو يجلس مع الشاعر عبدالوهاب البياتي أن هذا الشخص يقترب من الشاعر رافعاً صوته : بياتي إيدك على دينار، وبكل بساطة مَدَّ البياتي له ما طلب دون تردد، وتركهما البقيلى ولم يعلق، ثم كان في زيارة الشاعر سعدي يوسف من أجل عمل حوار معه في مكتبه، وفجأة دخل الشخص ذاته، فإذا سعدي يقوم من مكتبه مرحباً به : (هلا شاعرنا الكبير، وأضاف أُعَرِّفُك على الشاعر عبدالأمير الحصيري).. لم يجلس الحصيري وإنما أمر سعدي بدفع الدّينار بدون تلكؤ فصار.

بعد أن أكمل البقيلي مهمته في العراق وعاد إلى بيروت، وبعد مضي نصف شهر تذكر (الشاعر الحصيري)، فطلب العودة إلى العراق ليجري حواراً أدبياً معه، وكان ذلك بعد صعوبة العثور عليه وقد استعان ببعض الشعراء والأدباء والصعاليك الذين يحبون (أميرهم الحصيري)، وقد نُشر الحديث في مجلة (الديار) على حلقات مع الصور العجيبة للشاعر.. لقطات على الرصيف، مدخل المسكن، ونائم على كرسي الحديقة العامة، ثم نماذج من القصائد الرصينة والمتميزة، وقد صدر للشاعر بعد ذلك الحوار بأمر من وزارة الثقافة في العراق دواوين ضمت القصائد المتناثرة والمخزونة في الحقيبة المهترئة، فكانت (أنا الشريد، مذكرات عروة بن الورد، ديوان الحصيري/ شمس الربيع، معلقة بغداد، بيارق الاثنين، تموز يبتكر).

فاروق البقيلي ليس وحده من تفرد بالرغم من مزاجيته بالحوارات المطولة، فهناك حوارات جُمعت في كتب أجراها أدباء مع مفكرين ومبدعين مثل (أسئلة الشعر/ لمنير العكش، وحرقة الأسئلة مع الشاعر عبداللطيف اللعبي، وحوارات عبدو وازن مع أدونيس، ومحمود درويش، وما شابه ذلك من الحوارات التي تتشابه مع الكتب الحوارية في العالم، ففي الحوارات إفادة وخاصة إذا قام بها من يعي ويدرك ويحيط بما يريد الحديث حوله، وتكون التبادلية والمجادلة بين المُحاوِر، والمُحَاوَر لإدراك المعاني المراد الإلمام بها.

http://www.alriyadh.com/1123936

الأكثر مشاركة في الفيس بوك