من القرآن بدؤوا وبه نبدأ

 

د. إبراهيم المطرودي

    

ما كان للغة العربية أن تبقى، وما كان للناس، في المشارق والمغارب، أن يتنادوا إلى تعلمها والحرص عليها؛ لولا دعوة الله تعالى التي أنزلها على محمد بن عبدالله، عليه الصلاة والسلام، هذه الدعوة الإلهية هي التي حفظت لنا ذلكم النمط اللغوي العربي، وهي التي دعت اللغويين والنحويين إلى استقراء قواعد ذلكم النظام

من المتفق عليه بين العرب والمسلمين أنّ العلوم العربية والإسلامية ما كان لها أن تنشأ، وتزدهر، ويُشارك فيها غير العرب من الأمم المحيطة؛ لولا نزول القرآن الكريم؛ فهذا الكتاب الكريم يُعدّ العلة الأساسية وراء نشأة تلك العلوم كلها، فما كان للعرب لولاه أن يعتنوا بقواعد كلامهم، ولا قوانين بلاغتهم وفصاحتهم، ولا معاني ألفاظهم ودلالاتها، وما كان لغيرهم من الأمم الأخرى التي رأت الدخول في هذا الدين، لولا نزوله، أن ينصرفوا إلى العربية وتعلمها، وتكون لهم يدٌ، حسب رأي ابن خلدون، طولى في هذه العلوم كلها.

ما كان للغة العربية أن تبقى، وما كان للناس، في المشارق والمغارب، أن يتنادوا إلى تعلمها والحرص عليها؛ لولا دعوة الله تعالى التي أنزلها على محمد بن عبدالله، عليه الصلاة والسلام، هذه الدعوة الإلهية هي التي حفظت لنا ذلكم النمط اللغوي العربي، وهي التي دعت اللغويين والنحويين إلى استقراء قواعد ذلكم النظام، وتتبع مادته اللغوية، ولولا هذه الدعوة لنُسيت العربية، وطُمست قوانينها، وذهبت مادتها، وتوارت تلك النصوص البليغة التي كان حفظها موكولا إلى ذاكرة تنسى ما كان حين يتغيّر النمط اللغوي، وتتخطّفه يد الصيرورة التي نشاهدها في تأريخ اللغات.

كتب الله تعالى للعرب بنزول القرآن الكريم، ومبعث محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام به؛ أن يبقى ذكرهم، وتفشو لغتهم، وتُذاع آدابهم، ويتسامع بهم أهل المشرق والمغرب؛ فبقاء اللغة بقاء لأصحابها، وتذكير بهم، ولو لم تكن الرسالة الخاتمة بالعربية لمات كل شيء، وانتهى كل شيء تقريبا، في أمة تغلب عليها الأمية، وتنتشر فيها المشافهة، وبقاء الذكر امتنّ الله تعالى به على الرسول صلى الله عليه وسلم وقومه في قوله (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تُسألون).

(الزخرف 44).

وباب هذا الذكر كله بقاء اللغة التي كان العرب يتحدثون بها، ويصوغون من خلالها تجاربهم في الحكمة والأدب؛ لقد دفع القرآن الكريم اللغويين وغيرهم إلى العناية الشديدة، حتى بشعر حقبة ما قبل الإسلام، فصرنا نعرف امرأ القيس وعنترة وطرفة، ونحرص على أشعارهم؛ لأنها تعين على فهم الكتاب، وإدراك مراميه المنداحة، وأساليبه الراقية؛ إذًا كل شيء للعرب ما كان له أن يكون دون كتاب الله تعالى، وكل شيء جرى للعرب، بعد نزول القرآن الكريم، من اتصال بالثقافات، وتأثر بها وتأثير، ما كان له أن يكون لولا كتاب هذه الرسالة الإلهية، وثمرة هذا كله أن تكون العودة إليه، والاستمداد منه، والاحتكام إلى ما فيه؛ فهو نقطة البدء للعقل الإسلامي، باختلاف مشاربه، وهو نقطة البدء في كل حقبة تأريخية جديدة..

وإذا كان الأولون، وهم سلفنا في اختلافهم حوله، تقدمونا بالنظر فيه، والجدل حول قضاياه ومسائله، وحُفظ كل ما قالوه من هوامش حوله بسببه، فنحن اليوم لن يكون لنا بداية مستقلة دونه، ولن تُخلّد أقوالنا إلا إذا دارت حوله، وما يعوق المسلمين في كل عصر عن النهوض بدورهم في هذا إلا الاستبداد المعرفي الذي جعلهم يقصرون النظر في الكتاب على المتقدم، ويرونه الحقيق دون غيره في فهم معانيه، وإدراك مغازيه.

ومن الغريب أن يُساعد بعض المثقفين هذا الاستبداد، ويكونوا عونا في نشره بين المسلمين، فيذهبون إلى أنّ النص الديني، قرآنا كان أم حديثا، ينبغي أن يتجنّبه المرء، ويبتعد عن توظيفه في نصرة رأي يميل إليه، أو قول يرى صوابه، ولستُ أدري كيف ينظر هؤلاء وأمثالهم إلى ثقة الإنسان العمياء في سلفه الأولين، ولا كيف يُخففون من عنفوانها بغير مشاركة الأمة، في فهم النص، والنظر فيه؟

هذا الرأي في ظني بعيد عن الصواب أولا، ومخالف لتأريخ النص نفسه ثانيا؛ فهو بعيد عن الصواب؛ لأن التراث كله الذي يحتكم إليه المسلمون، وإن اختلفت مذاهبهم، ما كان له أن ينشأ دون أن يستنجد بالنص، ويلتحف به. وهو مخالف لتأريخ المسلمين مع النص؛ لأنهم كانوا، وما فتئوا، يُسوقون أفهامهم عبر التطابق معه، والمماثلة له.

والسبب الأكبر عندي في ضعف هذا القول، وبُعده عن الاعتدال؛ أن علاقة المسلمين بالنص الديني علاقة راسخة، ومبدأ ثابت، وأصل لا يمكن التنازل عنه، ومن ثمّ فكل ما يعاني منه المسلمون اليوم هو راجع إلى فهمهم لهذا النص، ولطريقة تعاملهم معه، وأي محاولة للإصلاح لا تبدأ بالنص وفهمه؛ فلن تصنع شيئا، ولن تعود، بعد الجهد الجهيد، لا بخفيّ حنين ولا بخفيّ غيره.

نحن أمام خيارين لا ثالث لهما؛ أن ندع النص، ونُوقف الاستنباط منه، ونجعله وَقفًا على السلف الأولين، ونفسح الميدان في كل حقبة تأريخية للعودة إلى تلك الأفهام وتداولها من جديد، ونصبح مرغمين عليها؛ لأننا لا نرى سواها، ويحتكم كثير منا إليها، ويسعون إلى إلزامنا بها، وفرضها علينا، نحن المسلمين عامة؛ لأن النص مع انقضاء الزمن وتعاقب السنين، لم يُتح ميدانا للقول غير ما كان، ولم يجد فيه المسلمون عبر هذه القرون الكثيرة شيئا آخر غير ما قيل في بدء الزمان، ودُوّن في مستأنف النظر، وهكذا يُصبح كل مسلم يتهرّب من الكتابة على هامش النص، خاصة القرآن الكريم، مشاركاً بصورة جلية في تكريس التقليد، والاحتماء بالأسلاف، والدعوة إلى الاستبداد المعرفي.

والثاني أن نُشارك في فهمه، وتأمل دلالاته، وتفحص خباياه، وهذا هو خيارنا، وليس لنا خيار سواه؛ وبه نحقق غايتين؛ الأولى غاية التدبر من إنزاله علينا، وهي غاية فقدناها منذ حقب طويلة، وهي مسؤولية الأمة، وليست إلى فرد ولا إلى جماعة، والثانية منع استغلاله بفاسد التأويل، وخاطئ الفهم، وغير وارد أبدا تحقيق هاتين الغايتين دون الدخول إلى رحابه، والخوض في رياضه.

وإذا كان الله تعالى تكفل بحفظ لفظه (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) فقد أوكل إلى الأمة كلها، وليس إلى الأولين فحسب، حفظ معانيه، وما من سبيل إلى هذا إلا ببذل الأمة كلها الجهد في فهمه، والتقصي وراء معانيه؛ فالإعجاز الذي ثبت الإجماع على وجوده، واختُلف في صفته، يقتضي أول ما يقتضي أن يتنادى المسلمون، عبر أزمانهم كلها، إلى هذا النص، ويتشاركوا في فهمه، والغوص خلف إعجازه، إن الأمة الإسلامية، بأجيالها المتعاقبة إلى يوم الدين، أوكل الله تعالى إليها فهم كتابه، ودعاها إلى الادّكار بما فيه، والدعوة إلى الكتاب تعني العودة للتفكير فيه من جديد؛ فالكتاب إلهي وليس بشرياً، ودعوة الله تعالى فيه للأولين والآخرين لا معنى لها إذا كان الأولون قد أتوا على ما فيه، واستوعبوا ما استبطنه، وما من فائدة تُرجى من الدعوة إذا كان المسلمون سيركنون إلى ما قيل، ويُعيدون إنتاجه، وهذه الحالة التي نعيشها معه، وأقصد توكيل السلف للقيام بالفهم دوننا، هي التي قادتنا اليوم إلى قراءته بلا تفهم له، ولا تدبر لما فيه، فما نشتكي منه، تجاه كتاب الله تعالى، ليس سوى نتيجة بدهية للاستبداد المعرفي الذي جعلنا، نحن المسلمين المتأخرين، مستقبلين فقط، ومستهلكين للمعرفة، جيدة كانت أم سيئة، وليس لنا بعد ذلك من شأن!.

http://www.alriyadh.com/1121152

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك