بين الإيجابية والسلبية والنظرة الشرعية: المدرسة الداخلية

عزة الغامدي

كان تناقل أصول الشريعة والفقه الإسلامي اللبنة الأولى التي كانت السبب في ظهور المدارس النظامية، التي تطورت إلى أن أخذت الشكل الذي تبدو عليه اليوم. فتناقل الدين أولا كان سببا في ظهور دروس العلم والمعرفة، بحيث كان يجلس العالم وحوله تلاميذ يطمعون أن يتلقوا القرآن الكريم وأحاديث سيدنا محمد  " صلى الله عليه وسلم" . فالرغبة في الاستزادة والمعرفة الدينية كانت سببا أدى لاحقا إلى الاستزادة العلمية في شتى فروع المعرفة.

ومع تطور الزمن، ألزمت الدول الآباء بالتعليم الإجباري لأطفالهم، حيث صدر في الكويت قانون رقم 11 لسنة 1965م في شأن التعليم الإلزامي، حيث نص القانون على إحدى عشرة مادة، أولى مواده كانت التالي: «يكون التعليم إلزاميا مجانيا لجميع الأطفال الكويتيين من ذكور وإناث من بداية المرحلة الابتدائية حتى المرحلة المتوسطة، وتلتزم الدولة بتوفير المباني المدرسية والكتب والمعلمين وكل ما يضمن نجاح التعليم الإلزامي من قوى بشرية ومادية».

الحد الأدنى

وبذلك حملت الدولة على عاتقها مسؤولية النمو والتطور الذهني للفكر الخاص بمواطنيها، بحيث تضمن أن يكون الشعب الكويتي شعبا ملما بعلوم المعرفة، والحد الأدنى من هذه العلوم هو الإلمام بقواعد القراءة والكتابة؛ تنفيذا للأمر الإلهي الأول، الذي نقله سيدنا جبريل -عليه السلام- إلى نبينا محمد  " صلى الله عليه وسلم"  في قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق:1).

والآية تنص على أهمية القراءة ومدى تأثيرها الإيجابي والمثمر في حياة الفرد، ففي القراءة تتفتح آفاق الذهن، ويكتشف الإنسان ميوله ومواهبه، فيعرف أنه يحب هذا المجال من العلم ويكره الآخر. وبالتالي، متى ما توافرت بداخله العزيمة والإرادة، فإنه سيستزيد بالمعرفة بحقل العلم الذي يستهويه، وبذلك إما أن يكون مدركا وواعيا ويعمل في المجال الذي قام باختياره ويقوم بتطبيق توصيات علماء هذا المجال، وإما أن ينير الله عقله فيصبح عالما ويكمل ما توقف عنده العلماء السابقون.

لذا، فإن أقل إيجابيات القراءة هي إيجاد فرص عمل، والقدرة على الاتصال والتواصل مع العالم، وأهمها على الإطلاق أن تنير للفرد آفاق المعرفة ليتطور ويصبح عالما.

وهذا بالتالي ما يجعلنا نقف عند منعطف مهم وهو المدرسة، ما هي، هويتها، لغتها، أهدافها؟ فإذا ما كانت المدرسة هويتها عربية مسلمة فسنضمن بذلك أن يتم تخريج دفعات من المسلمين العرب، قادرين على أن يقرأوا القرآن الكريم ويتمكنوا من تفسيره بكل يسر وسهولة، ويستزيدوا من سنة حبيبنا الصادق الأمين محمد  " صلى الله عليه وسلم" ، وبالتالي يكون أول أهداف هذه المدرسة قد تحقق، وهو إكمال نشر تعاليم الدين الحنيف.

الأمر الآخر أن تكون لها أهداف أخرى تسعى إلى تحقيقها، فهي قد حققت الهوية واللغة والدين تبقى العلوم الكونية والحياتية بشقيها النظري والعملي، بحيث يتم الحصول على متخصصين في علوم مختلفة، بالإضافة إلى الجانب الشرعي، ذلك لأنه ليس من الممكن أن يكون المجتمع خاليا من أطباء أو صيادلة أو مهندسين أو محاسبين.. إلخ من المجالات العلمية، التي تعمل على إعمار أرض الله وتحقيق مراد الله في خلافتنا له على هذه الأرض التي أسكننا إياها.

رئيس القسم

وبذلك فإن الدول تحتضن الأطفال منذ نعومة أظفارهم، وتدخلهم المدارس لتحقيق ذلك المراد.

وحينها يكون الطفل قد دخل أول مجتمع له، فيتعرف على معنى الزملاء، ثم بعدها يكون لديه أصدقاء، ويعرف ماذا تعني كلمة معلم، وما هو دوره، ومن هو رئيس القسم، ومن هو الوكيل، ومن هو مدير المدرسة، ومن هم الإخصائيون الاجتماعيون والنفسيون وما هو دورهم.

إنه عالم مصغر لبيئة المجتمع الذي يعيش فيه الفرد، فيدرس العلوم المختلفة، بحيث يدرس الدين ويدرس الرياضيات والفيزياء والأحياء والتاريخ.. وغيرها من باقي مواد المعرفة. والهدف، هو أن نرى انعكاسا لأهداف المجتمع تبدو على هذا الطفل في سلوكه وأفكاره وتوجهاته ليكون عضوا فاعلا في المجتمع الكبير الذي سيخرج له بعد أن يتخرج.

إلا أنه أحيانا يحدث تناقض بين ما تعلمه المدرسة لتلاميذها وما تقوم به الأسرة تجاه أطفالها، وهذا التناقض غالبا ما يحدث صراعا ذهنيا عنيفا للطفل، وتذبذبا في السلوك.

الأمر الآخر في أن الدولة قد تحرص، من خلال مؤسساتها التعليمية، على تربية الأطفال وتنشئتهم، وتأتي بعض الأسر فتمارس سلوكيات ويكون لها أفكار تهدم ما قامت المدرسة ببنائه من خلال كوادرها التربوية في نفوس هؤلاء الأطفال، فنجد المدرسة تحرص على أن يلتزم التلاميذ بالحضور في وقت معين، وأداء واجبات معينة بأنفسهم من دون أن يقوم الآباء بأدائها لأبنائهم، وبالتالي إفساد العملية التعليمية، وبالأخص ما يتعلق بأداء البحوث العلمية. هذا، فضلا عن التصرف بسلوك تربوي محدد، إلا أن البعض يفسد ما تقوم المدرسة بإصلاحه، وهنا تظهر الحاجة إلى ظهور «المدرسة الداخلية».

تعريف

ونأتي هنا للوقوف على تعريف افتراضي بسيط للمدرسة الداخلية: «فهي المكان الذي يتم فيه إيداع الأطفال منذ سن العاشرة وحتى سن السابعة عشرة لتلقي العلم والمعرفة في العلوم الدينية والمعرفية والحياتية، بعد أن عجز آباؤهم عن توفير التوافق بين ما ترمي إليه أهداف وسياسة التربية في الدولة، وما تقوم به الأسرة من دور يعمل بالتالي على هدم ما تقوم ببنائه الدولة في نفوس أبنائها؛ بإكسابهم عادات وسلوكيات دينية وتربوية ترمي إلى تنشئتهم التنشئة الصالحة».

وعند الوقوف لدى هذا التعريف الافتراضي للمدرسة الداخلية، فلننظر إلى ما هي الفئات التي يتم إيداعها في المدرسة الداخلية، قد يعتقد البعض أنهم المنحرفون أو المتمردون على عائلاتهم فقط، ولكننا في المدرسة الداخلية نهتم أولا بالمبدعين من الأطفال، الذين لا تتوافر لهم أجواء أسرية تشجعهم على العلم والمعرفة والنبوغ.

الهدف

إذن المدرسة الداخلية هدفها الأول استقطاب النخبة النابغة من التلاميذ، الذين متى ما قمنا بالاهتمام بهم ورعايتهم، نعمل بالتالي على وضع لبنات التقدم والازدهار لمجتمعاتنا.

إن كلمة دول العالم الثالث والدول النامية لابد أن يتم محوها من القاموس اللغوي لدينا، بحيث لا نبقى لسنوات سجناء لهذا المصطلح، ولنقل نحن دول متنامية تسعى إلى النمو والنهوض للوقوف بصفوف الدول المتقدمة.

لا نستطيع أن نفصل الأسرة عن الدولة؛ لأن الأسرة هي نواة المجتمع، وكل فرد متى ما تمت تنشئته التنشئة الصحيحة فسيكون ناجحا، إلا الفئة القليلة التي تكون إمكاناتها الذهنية محدودة، هذه الفئة نسأل الله العلي القدير أن ينير عقولها بالعلم الذي ينفعها ليكونوا -على الأقل- مواطنين صالحين.

وعند الوقوف لدى إيجابيات المدرسة الداخلية، فإن أهمها هو ضمان توفير المناخ المناسب للطفل ليكون مبدعا، فننقل له تجارب علمية تم تطبيقها عالميا وأثمرت نجاحا، وكان لها تأثير إيجابي في تعويد الأطفال على الإبداع في التفكير والتمكن من التحليل والوصول إلى النتائج المنطقية في شتى حقول المعرفة، فنعلمه منذ الطفولة: التصور، الابتكار، الملاحظة، الاستنتاج ثم البرهان.

إن مشكلة دولنا في التعليم تكمن في أنه يتم اتباع منهج التلقين العلمي وليس الاستنتاج والبرهان العلمي، فالتلقين يريح العقل: مجرد تناقل معلومات، ومتى ما تم الانتهاء من المرحلة العلمية والانتقال إلى المرحلة التي تليها يتم تناسيها ثم تندثر من المخزون العلمي لعقل الفرد.

وهنا قد يعيب البعض على الأفراد عدم وجود مخزون علمي في أذهانهم. والسؤال الذي يطرح نفسه باستمرار هو: ماذا تعلمتم في المرحلة الدراسية؟ أين مخزونكم العلمي؟

ولأن الطرق والأساليب المتبعة في التعليم تعتمد على التلقين المطلق، فهذا يحتاج من الفرد إلى أن يراجع باستمرار ما تم تلقينه إياه حتى لا ينمحي من ذاكرته.

وهنا لدى الوقوف عند هذه النقطة تحديدا نجد أن الأمر يصعب تحقيقه، فالذاكرة في حاجة إلى مراجعة وقراءة مستمرتين، ويصعب أن تتم قراءة ما تم تعليمه للفرد لمدة اثني عشر عاما إلى أن يتخصص في حقل معرفي معين في مرحلته الجامعية.

إذن الفرق بين تلاميذ العرب وتلاميذ الغرب هو «البرهان»، حيث يعودون أطفالهم منذ الصغر على أن يبرهنوا، يستنتجوا، يفكروا، وهذا أمر جميل ومحمود لديهم، وليس عيبا أن نكمل ما وقفوا عنده، لأن هذه الدول، التي نراها متقدمة اليوم، أكملت ما وقف علماؤنا سابقا عنده، أمثال ابن سيناء الذي ألف كتاب القانون في الطب، وابن خلدون الذي كان أول من تحدث عن علم العمران، بالإضافة إلى الخوارزمي الذي كان مؤسس علم الجبر وآخرين كثر نحتاج إلى وقت طويل للتحدث عنهم.

الملكية الفكرية

ونحن بذلك نستطيع أن نستورد علوم الدول المتقدمة من خلال ترجمة مؤلفاتهم بعد موافقة الدول على ذلك ضمن أطر قانونية لحفظ حقوق الملكية الفكرية، فالترجمة أول لبنة توضع للمعرفة، فيقرأ الفرد بلغته العلم فيستطيع أن يبدع بإكمال ما توصلوا إليه.

وهذا بالتأكيد يحتاج إلى متخصصين كثر في شتى مجالات المعرفة حتى نتمكن كدول متنامية من إضافة حقل جديد إلى علوم المعرفة يفيد البشرية.

وهذا قد لا تحققه المدارس التقليدية بشكلها الحالي؛ لإمكاناتها المحدودة، هذا فضلا عن التكلفة المادية العالية التي قد تكلفها مثل هذه المدارس الداخلية التي قد تشكل احد معوقات تنفيذ المشروع.

التركيز

وكما هو متعارف عليه، فإن أي مشروع تربوي لا يخلو من وجود سلبيات له، ولنستطرد قليلا بعض هذه السلبيات:

أولا: احتكاك الأطفال في سن العاشرة بعضهم ببعض قد يؤدي إلى تناقل سلوكيات خاطئة مع غياب رقابة الأم والأب، وبالتالي فنحن بحاجة -بالإضافة إلى معلمين- أيضا إلى تربويين يقومون بدور الأم البديلة والأب البديل في الفترة المسائية.

ثانيا: تعلق الطفل بوالديه قد يجعله لا يركز في دروسه، وقد يصعب عليه التركيز في ظل غياب والديه، وهنا قد تكون الوسيلة الوحيدة هي زيارات يومية للآباء والأمهات لأبنائهم قد تقلل من حدة الانفعال العاطفي الذي قد يحدث لهؤلاء الأطفال.

ويبقى مثل هذه المشاريع التربوية تحتاج إلى بعض التشريعات التي ترتكز في البداية إلى التعرف على النظرة الشرعية في موضوع المدرسة الداخلية، حيث ذكر الشيخ الدكتور محمد الحمود النجدي حول سكن الفتاة في سكن خاص للطالبات، أن الأصل للفتاة أن تسكن ببيت أهلها، وتترعرع بعين أبويها وبعنايتهما، يربيانها ويحسنان تربيتها، ويرشدانها إلى الخير ويحذرانها من الشر، وقد كان من هدي النبي  " صلى الله عليه وسلم"  تدريب الصغار –البنين والبنات– على الطاعات منذ الصغر، بل والحث على ذلك، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع» (أبوداود، 495) هذا مع كونهم غير مكلفين.

فتدريب البنت على الطاعة -طاعة الله ورسوله  " صلى الله عليه وسلم" - منذ الصغر، هو الكفيل باستقامتها عند الكبر، وقد قال الشاعر:

وينشأ ناشئ الفتيان منا

على ما كان عوده أبوه

فيجب أن تدرب البنت وتعود على الطاعات، وأعمال البر، واتقاء المنكرات منذ الصغر، وقد كان الصحابة يمرنون الصغار على الصيام، ويجعلون لهم اللعبة من العهن -الصوف- ويشغلونهم بها إذا جاعوا، وذلك حتى يدخل وقت المغرب.

وكانوا يصحبون الصغار إلى الحج بفتيا رسول الله  " صلى الله عليه وسلم"  لهم بذلك، وأن لهم بذلك أجرا.

سكن البنات

وأما مسألة سكن البنت خارج بيتها، فيجوز، وذلك بشرط أن تكون ملتزمة بالحجاب الشرعي وآدابه، في خروجها ودخولها، وأن يكون المكان الذي تسكن فيه مأمونا.

فتأمن فيه على نفسها من الشرور والفتن، وبعيدا عن مجالس السوء، ورفقاء الشر، فخطرهم كبير، كما وردت النصوص من القرآن الكريم والسنة بالتحذير منهم، ومثلها في عصرنا: وجود القنوات الفضائية الهابطة، التي تروج للفاحشة، وتدعو إلى الرذيلة والفسق، ولابد أن تأمن في السكن أيضا من الاختلاط بالرجال الأجانب، والحديث معهم، ومن أي أذى قد يلحقها في نفسها أو سمعتها.

وقد سئل الشيخ ابن باز رحمه الله في فتاوى «نور على الدرب» عن نحو ذلك فقال «هذا الذي فعلت لا بأس به، إقامة المرأة في البلد من دون محرم لا ضرر فيها، ولا حرج فيها، ولاسيما إذا كان ذلك لا خطر فيه، إذا كانت بين النساء، أو في عمل مفصول عن الرجال مما أباح الله، أو في قسم داخلي بين النساء، فكل هذا لا حرج فيه. الممنوع السفر، لا تسافري إلا بمحرم، ولا تقدمي إلا بمحرم، وأما إقامتك بين النساء في عمل مباح، فلا حرج فيها.

http://alwaei.gov.kw/Site/Pages/ChildDetails.aspx?PageId=869&Vol=607

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك