التواصل الحضاري والتفاهم بين الشعوب

لقد أسعدتني‮ ‬الدعوة التي‮ ‬وجهتها إليَّ‮ ‬الرابطة الإسلامية في‮ ‬الدانمارك،‮ ‬لأشارك في‮ ‬هذه الأمسية الرمضانية،‮ ‬بمحاضرة ألقيها حول موضوع‮ : "‬التواصل الحضاري‮ ‬وأثره في‮ ‬تدعيم التفاهم بين الشعوب‮". ‬وهو موضوع‮ ‬يعد أحدَ‮ ‬موضوعات الساعة في‮ ‬الساحة الدولية،‮ ‬له علاقة بالقضايا الثلاث التي‮ ‬ينشغل بها المجتمع الدولي‮ ‬في‮ ‬هذه المرحلة،‮ ‬وهي‮ :‬
ــ الحوار بين الثقافات‮.‬
ــ التقارب بين الثقافات‮.‬
ــ التحالف بين الحضارات‮.‬
إنَّ‮ (‬التواصل الحضاري‮)‬،‮ ‬هو ثمرة حوار الثقافات وتقاربها،‮ ‬وهو مفهوم‮ ‬يعزز المفاهيم الحديثة للتعايش بين الشعوب على أساس متين من القيم المشتركة المستوحاة من مبادئ الأديان السماوية،‮ ‬والشرعية الدولية‮.‬
كما أنه تعبير عن مستويات رفيعة من التعايش والتفاهم والاحترام المتبادل بين الشعوب‮. ‬لأن التواصل باعتباره تفاعلاً،‮ ‬هو تبادل الوصل‮ (‬لا القطع‮) ‬بين طرفين،‮ ‬بحيث‮ ‬يصل كل طرف إلى الطرف الذي‮ ‬يقابله أو‮ ‬يرغب في‮ ‬الاقتراب منه والتعاون معه‮.‬
والتواصل‮ ‬الحضاري‮ ‬بهذا الاعتبار،‮ ‬هو نتيجة للحوار والتقارب بين الثقافات‮ ‬يستند إلى الرصيد المشترك بين الثقافات والحضارات،‮ ‬والقيم والمبادئ المشتركة بين الأمم والشعوب،‮ ‬وينبثق من الإرادة الجماعية للأطراف المعنية به‮. ‬
ونحن من المؤمنين بفكرة التواصل الحضاري‮ ‬الناتج عن الحوار والتقارب بين الثقافات والمفضي‮ ‬إلى التحالف بين الحضارات الذي‮ ‬نولي‮ ‬له قدرا كبيرا من اهتمامنا‮. ‬كما أننا من الداعين إلى تدعيم التفاهم بين الشعوب من خلال استثمار الرصيد الثقافي‮ ‬الإنساني‮ ‬لتعزيز هذا التحالف‮. ‬وكما كنا خلال السنوات التسع الماضية من العاملين على الصعيدين الإقليمي‮ ‬والدولي،‮ ‬لتعزيز الحوار بين الثقافات،‮ ‬سنواصل،‮ ‬بمشيئة اللَّه،‮ ‬العمل في‮ ‬هذا المضمار،‮ ‬مع شركائنا في‮ ‬المنظمات الدولية والعربية الإسلامية،‮ ‬للتبشيـر بها في‮ ‬المحافل،‮ ‬ولإشاعة ثقافة التواصل الحضاري‮ ‬والتحالف الحضاري‮ ‬حتى تَتَكامَلَ‮ ‬مع ثقافة السلام،‮ ‬إيماناً‮ ‬منّا بأنَّ‮ ‬الإنسانية اليوم في‮ ‬أشدّ‮ ‬الحاجة إلى من‮ ‬يُزيل من أمامها ركام القرون الماضية التي‮ ‬ساد فيها‮ ‬سوء التفاهم،‮ ‬وعمَّت فيها الكراهية بين الأمم والشعوب،‮ ‬وقامت الحروب والنزاعات المدمرة التي‮ ‬كان الجميع ضحيةً‮ ‬لها‮.‬
ورأيُنا‮ ‬الذي‮ ‬استخلصناه من تجاربنا،‮ ‬أن التواصل الحضاري‮ ‬والتحالف بين الحضارات لن‮ ‬يكونا ذا مردودية تنفع الجميع،‮ ‬ما لم‮ ‬يقوما على أساس الاحترام المتبادل،‮ ‬ويتمّا تحت مظلّة ميثاق الأمم المتحدة،‮ ‬والإعلان العالمي‮ ‬لحقوق الإنسان،‮ ‬والمواثيق والأوفاق والإعلانات والعهود الأخرى التي‮ ‬هي‮ ‬القاعدة العريضة للقانون الدولي‮. ‬وهذا‮ ‬يقتضي‮ ‬أن‮ ‬يقف الجميع بقوّة أمام جميع أشكال العدوان على حقوق الشعوب في‮ ‬تقرير مصيرها،‮ ‬وأن تكف الجهات التي‮ ‬تمارس العدوان على حقوق الشعوب،‮ ‬عن ممارساتها،‮ ‬وتنتهي‮ ‬الاِنتهاكات المتكرّرة لحقوق الإنسان في‮ ‬أكثر من بلد،‮ ‬وأن‮ ‬يكون السعي‮ ‬من أجل استصدار قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة بتجريم ازدراء الأديان والمساس بالمقدسات الدينية،‮ ‬هدفاً‮ ‬مشتركاً‮ ‬تَتَضافَرُ‮ ‬جهود المجتمع الدولي‮ ‬من أجله‮.‬
إنني‮ ‬لستُ‮ ‬في‮ ‬حاجة إلى القول إنَّ‮ ‬الممارسات التي‮ ‬تَتَعارَضُ‮ ‬مع القوانين الدولية،‮ ‬تشكّل عائقاً‮ ‬أمام التواصل والتحالف بين الحضارات،‮ ‬ولذلك‮ ‬يتعيَّن أن‮ ‬يكون التنديد الجماعي‮ ‬بهذه الممارسات والسياسات التي‮ ‬تسير في‮ ‬هذا الاتجاه المضاد لأهداف التحالف،‮ ‬ممّا‮ ‬يهتمّ‮ ‬به العاملون في‮ ‬هذا المجال‮.‬
استثمار الرصيد الثقافي‮ ‬المشترك‮ :‬
لقد بدأ الاستعمار الأوروبي للعالم الإسلامي في القرن السادس عشر حينما احتلت هولندا الجزر الأندونيسية في سنة 1552، واستمر احتلالها لها لمدة ثلاثة قرون ونصف القرن، حيث استمر الاحتلال الهولندي لأندونيسيا إلى سنة 1945. ثم احتلت روسيا القيصرية قازان عاصمة تتارستان في سنة 1602. ثم وصلت الأساطيل البريطانية إلى شبه القارة الهندية في سنة 1757، فاحتلت إنجلترا الهند التي كانت عهدئذ تحت حكم دولة إسلامية، واستمر احتلالها لها مائة وتسعين سنة، إلى أن استقلت الهند في سنة 1947.
وفي سنة 1798 غزت فرنسا مصر بقيادة نابليون بونابرت، واستمر الغزو الفرنسي لها ثلاث سنوات. وفي سنة 1830 احتلت فرنسا الجزائر، واستمر الاحتلال مائة واثنتين وثلاثين سنة إلى سنة 1962. وفي سنة 1882 احتلت بريطانيا مصر، واستمر الاحتلال إلى سنة 1923، وفي سنة 1881 احتلت فرنسا تونس. وفي السنة ذاتها احتلت بريطانيا قبرص. وفي سنة 1829 احتلت بريطانيا جنوب اليمن واستمر احتلالها لها إلى سنة 1967، وفي سنة 1857 احتلت فرنسا السنغال واستمر الاحتلال إلى سنة 1960، وفي سنة 1903 احتلت بريطانيا نيجيريا.
واحتلت إسبانيا في سنة 1884 الصحراء المغربية، في جنوب المغرب، وأطلقت عليها اسم (الصحراء الإسبانية)، واستمر احتلالها لها إلى سنة 1976. وفي سنة 1912 احتلت فرنسا ثم إسبانيا في آخر السنة نفسها، المغربَ تحت غطـــاء الحماية. وفي سنة 1911 غزت الجيوش الإيطالية ليبيا (بنغازي وطرابلس)، فاندلعت الحرب الإيطالية ــ العثمانية على مدى السنتين (1912 - 1911)، باعتبار أن ليبيا كانت في تلك الفتـرة، جزءاً من الإمبراطورية العثمانيـة. وفي أثنـاء الحرب العالميـة الثانيـة (1945 - 1939) احتلت فرنسا إقليم فزان الليبي، واحتلت إنجلترا بنغازي وطرابلس، واستمر هذا الاحتلال الفرنسي والبريطاني لليبيا إلى سنة 1952.
ومنذ منتصف القرن التاسع عشر، بدأت الأطماع الأوروبية تتجه نحو الإمبراطورية العثمانية التي عُرفت في تلك الفترة بالرجل المريض، فعمدت الدول الأوروبية إلى تحريض روسيا القيصرية ضد الأقاليم الإسلامية المجاورة لها، فقامت بغزو منطقة القرم، وقادت حروباً طويلة للاستيلاء على الأراضي شمالي القوقاز. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بسطت روسيا نفوذها على آسيا الوسطى، فاحتلت آذربيجان في سنة 1828.
وتفجّر الصراع بين العالم الإسلامي والغرب من جديد مع أواخر القرن التاسع عشر، في شكل الحرب الروسية العثمانية التي اندلعت في الفترة ما بين (1871 و 1878) بتواطؤ من الدول الأوروبية أيضاً. وأثناء فترة الحرب العالمية الأولى(1918 - 1914) انهزمت الإمبراطورية العثمانية، وتمّ تمزيقها إلى مجموعة أقاليم ما لبثت أن أصبحت دولاً قائمة الذات؛ فاستولت فرنسا وإنجلترا على الولايات العربية التي كانت تابعة للدولة العثمانية، والتي تشمل أقاليم الشام أو سورية الكبرى (سورية ولبنان وفلسطين والأردن اليوم)، والعراق. ثم امتد الاحتلال لهذه الأقاليم تحت غطاء الانتداب إلى سنة1943 ، بالنسبة لسورية ولبنان بموجب قرار عصبة الأمم. وتأسست إمارة شرق الأردن (نواة المملكة الأردنية الهاشمية اليوم) في سنة 1921.
واستمر الاحتلال البريطاني لفلسطين تحت مسمى الانتداب، وتحت غطاء دولي، إلى سنة 1948، عندما استغل اليهود الوضع فأعلنوا عن تأسيس دولة إسرائيل في 15 مايو من سنة 1948 في مخالفة واضحة للقانون الدولي، حيث أقيمت هذه الدولة في إقليم له سكانه الأصليون هم الشعب الفلسطيني الذي تم تهجيره والاستيلاء على وطنه. ولا يزال هذا الوضع المأساوي غير القانوني الذي نتج عن احتلال فلسطين وتهجير شعبها، هو السبب الرئيس في تدهور الأحوال وفي تهديد الأمن والسلم الدوليين، ليس في منطقة الشرق الأوسط، وإنما في العالم أجمع. وهو أخطر أزمة تتهدد العلاقات بين العالم الإسلامي والغرب في الحاضر والمستقبل، مما يضعنا أمام مفتاح الأزمة الدولية المتمثلة في انسداد الأبواب أمام تسوية عادلة لها في إطار الشرعية الدولية، تردّ الحقوق الوطنية المشروعة إلى الشعب الفلسطيني بقيام دولته المستقلة بعاصمتها القدس.
هكذا دخل العالم الإسلامي القرن العشرين وأقطاره محتلة، وأجزاؤه ممزقة، وأوضاع شعوبه متدنية اقتصادياً واجتماعياً بصورة بالغة السوء. ولقد امتدت تداعيات هذه الأوضاع وآثارها السلبية إلى مرحلة ما بعد تأسيس الدول العربية الحديثة في العالم العربي الإسلامي، مما تسبّب في اندلاع أزمات سياسية متلاحقة، وفي نشوء ظروف اقتصادية صعبة.
استثمار الرصيد الثقافي‮ ‬المشترك‮ :‬
ومن أجل ذلك،‮ ‬فإنَّنا نؤكّد على الاستثمار الجيّد والمدروس بروح إنسانية،‮ ‬للرصيد الثقافي‮ ‬المشترك بين الحضارات،‮ ‬تعميقاً‮ ‬للتواصل بينها‮. ‬ونرى أن من شأن هذا الاِستثمار أن‮ ‬يبدّد‮ ‬غيوم الشّك وسوء الفهم،‮ ‬وأن‮ ‬يمهد السبيل إلى التفاهم العميق،‮ ‬وإلى الإعلان عن الرغبة المشتركة في‮ ‬التعايش،‮ ‬لأنَّ‮ ‬التعايش السلمي‮ ‬ذا المنزع الثقافي‮ ‬والحضاري،‮ ‬هو المدخل إلى الحوار والتقارب،‮ ‬ثم إلى التحالف بين الحضارات‮. ‬ونعتقد أن الرصيد الثقافي‮ ‬المشترك بين العالم الإسلامي‮ ‬وأوروبا تحديداً،‮ ‬يشكّل بكلّ‮ ‬المقاييس وجميع الاِعتبارات،‮ ‬مصدراً‮ ‬للثراء الفكري‮ ‬الذي‮ ‬يُلهمنا الحكمةَ‮ ‬والسّداد،‮ ‬ويجنّبنا الوقوعَ‮ ‬في‮ ‬المزالق التي‮ ‬تعترض الطريق أمام المؤمنين بالتواصل والتحالف بين الحضارات والعاملين من أجل تعزيزه ونشر ثقافته في‮ ‬الآفاق‮.‬
وإذا كانت الأمم المتحدة قد تبنّت الفكرة التي‮ ‬طرحها قبل‮ ‬بضع سنوات رئيس الحكومة الإسبانية خوسي‮ ‬لويس ثباتيرو من فوق منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة حول التحالف بين الحضارات،‮ ‬فإنَّ‮ ‬هذه الفكرة لم تكن جديدة علينا،‮ ‬فقد تطرّق إليها مفكرون وكتاب من العالم الإسلامي،‮ ‬كما أنني‮ ‬تناولت هذه الفكرة في‮ ‬بعض كتاباتي‮ ‬من نواحٍ‮ ‬شتَّى،‮ ‬هذا فضلاً‮ ‬عن أن المشتغلين بالحوار بين الحضارات،‮ ‬لم تكن فكرة التحالف لتغيب عن أذهانهم،‮ ‬لأن الحوار ليس‮ ‬غاية في‮ ‬حدّ‮ ‬ذاته،‮ ‬وإنما هو وسيلة إلى صيغة للتعايش والتفاهم والتعاون الإنساني،‮ ‬وهذه الصيغة هي‮ (‬التحالف الحضاري‮)‬،‮ ‬الذي‮ ‬هو ثمرة‮ (‬التواصل الحضاري‮).‬
تعزيز ثقافة التحالف بين الحضارات‮ :‬
والحقّ‮ ‬أن كلّ‮ ‬فكرة تخدم المبادئ الإنسانية وتعزّز جهود المجتمع الدولي‮ ‬من أجل استتباب الأمن والسلم الدوليين وإشاعة ثقافة العدل والسلام،‮ ‬تصبُّ‮ ‬في‮ ‬قناة ثقافة التحالف بين الحضارات‮. ‬وكلّ‮ ‬مسعى‮ ‬يقوم به فرد أو جماعة،‮ ‬في‮ ‬سبيل التقارب والتواصل والتعاون والتعايش بين أمة وأخرى أو شعب وآخر،‮ ‬فإنه‮ ‬يُفضي‮ ‬لا محالة إلى تعزيز التحالف بين الحضارات،‮ ‬لأنه‮ ‬يلتقي‮ ‬مع أحد الأهداف المتوخّاة منه‮.‬
لقد عالجت في‮ ‬كتبي‮ ‬ودراساتي‮ ‬المنشورة،‮ ‬قضايا ذات أبعاد دينية وثقافية مختلفة،‮ ‬من خلال رؤية حضارية انفتحت بها على العصر،‮ ‬وتطلّعت إلى آفاق المستقبل‮. ‬ورغم تنوع مواضيع هذه الكتابات،‮ ‬فإن معظمها‮ ‬يصب في‮ ‬موضوع الحوار والتقارب والتواصل والتعايش بين الحضارات‮.‬
وإذا كان‮ ‬التواصل الحضاري‮ ‬مصدره التفاهم والاحترام المتبادل،‮ ‬فإنّ‮ ‬التحالف هو الاِتفاق بين طرفين على أن‮ ‬يتحالف كل طرف منهما مع قرينه،‮ ‬فمعنى ذلك أن‮ ‬يكون كل طرف حليفاً‮ ‬للآخر،‮ ‬ويترتَّب على ذلك أن‮ ‬ينشأ بينهما حلفٌ‮ ‬ناتج عن هذا التحالف‮. ‬ولذلك فإن اتفاق مجموعة من البشر‮ ‬ينتمون إلى حضارات مختلفة،‮ ‬على أن‮ ‬يتحالفوا حضارياً‮ ‬ويتفاهموا ثقافياً،‮ ‬ويقيموا فيما بين حضاراتهم الأصلية تحالفاً،‮ ‬يستتبع بطبيعة الحال،‮ ‬إنشاء حلف حضاري‮ ‬يجمع بينهم ـ ولا نقول‮ ‬يوحّدُ،‮ ‬لأن الاِختلاف طبيعة الحياة،‮ ‬والتنوّع الحضاري‮ ‬والثقافي‮ ‬سنة الكون ـ ويوفر لهم إطاراً‮ ‬للعمل الجماعي‮ ‬الذي‮ ‬يخدمون به الأهداف الإنسانية النبيلة،‮ ‬ويحقّقون طموحاً‮ ‬فطرياً‮ ‬يملأ نفوس البشر جميعاً،‮ ‬في‮ ‬الاِستقرار والسلام،‮ ‬وفي‮ ‬الرخاء والوئام،‮ ‬وفي‮ ‬صياغة حضارةٍ‮ ‬إنسانية جديدة‮.‬
ولربما رأى بعض المفكرين أن تحالف الحضارات في‮ ‬هذه المرحلة من تاريخ العالم،‮ ‬هو نظريةً‮ ‬أبعد ما تكون عن التطبيق‮. ‬ولكن الأفكار الإصلاحية الرائدة التي‮ ‬غيرت حياة الناس وانتقلت بهم من مرحلة الضعف والتأخر إلى مرحلة القوة والتقدم،‮ ‬ظهرت أول ما ظهرت،‮ ‬أفكاراً‮ ‬نظريةً‮ ‬مثاليةً‮ ‬لم‮ ‬يكن أحد‮ ‬يتوقّع لها أن تصبح حقائق تطبق في‮ ‬الأرض بإرادة الإنسان المؤمن بالتقدم،‮ ‬بما وهبه الخالق سبحانه من ملكات وقدرات،‮ ‬وبما جُبِلَ‮ ‬عليه من استعداد فطري‮ ‬للتطور والنموّ‮ ‬والتجدّد المستمر‮.‬
ومن هذا المنظور،‮ ‬فإنَّ‮ ‬التواصل الحضاري‮ ‬الذي‮ ‬هو أساس التحالف بين الحضارات من وجهة النظر العملية،‮ ‬هو من أقوى الوسائل المتاحة لإصلاح شؤون العالم،‮ ‬وللإسهام في‮ ‬إنقاذ الأسرة الإنسانية مما تتخبط فيه من مشكلات تَتَراكَمُ‮ ‬وأزمات تَتَفاقَمُ،‮ ‬فشلت السياسة الدولية حتى الآن،‮ ‬في‮ ‬إيجاد تسوية عادلة وحلول حاسمة لها،‮ ‬بالدبلوماسية التقليدية،‮ ‬وبالأساليب الاعتيادية التي‮ ‬تفتقر إلى الصدق والجدّية والإخلاص،‮ ‬وتفتقد الروحَ‮ ‬الإنسانية‮.‬
تجديد البناء الحضاري‮ ‬الإنساني‮ :‬
إنَّ‮ ‬تجديد البناء الحضاري‮ ‬للعالم أجمع،‮ ‬بالتواصل الحضاري،‮ ‬وبالتحالف بين الحضارات،‮ ‬لا بالحوار فقط،‮ ‬وبالتعاون المثمر بين الأمم والشعوب،‮ ‬على هدي‮ ‬تعاليم الديانات السماوية والمبادئ الإنسانية،‮ ‬وفي‮ ‬إطار ميثاق الأمم المتحدة،‮ ‬هو المهمة الرئيسَة لأولي‮ ‬العزم والحكمة وذوي‮ ‬الإرادات الخيّرة والعقول النيّرة من مختلف المشارب والاتجاهات،‮ ‬ومن جميع الحضارات والثقافات،‮ ‬لبناء مستقبل آمن ومزدهر،‮ ‬لا تُنتهك فيه كرامة الإنسان ولا تهدر حقوقه،‮ ‬ولا‮ ‬يطغى فيه القويّ‮ ‬على الضعيف،‮ ‬إنما‮ ‬يحتكم فيه الجميع إلى القانون،‮ ‬وتسوده قيم التعايش والتسامح والمواطنة الإنسانية‮.‬
إنَّ‮ ‬لتواصل الحضارات وتحالفها‮ ‬غاياتٍ‮ ‬نبيلةً‮ ‬تستحق أن‮ ‬يضحي‮ ‬من أجلها العاملون بإخلاص من أجل الخير العام لبني‮ ‬البشر،‮ ‬تشمل احترام التنوع الثقافي‮ ‬والديني‮ ‬والعمل على استتباب الأمن والسلام،‮ ‬ومحاربة الفقر والأمراض الفتاكة والجريمة المنظمة والإرهاب بكلّ‮ ‬أشكاله،‮ ‬واستغلال الإنسان وحرمانه من حقوقه،‮ ‬وقهر إرادة الشعوب ومنعها من التمتع بحريتها واستقلالها،‮ ‬وتجارة المخدرات،‮ ‬والاِتجار في‮ ‬الجنس،‮ ‬وإشاعة الكراهية والعنصرية والتفوّق العرقي،‮ ‬وصنع أسلحة الدمار الشامل،‮ ‬وسوء استغلال الهندسة الوراثية باستخدامها في‮ ‬الأغراض المنافية للفطرة الإنسانية وللقيم الأخلاقية‮. ‬
وهذه‮ ‬جميعها أهداف لا اختلاف عليها،‮ ‬وهي‮ ‬مما‮ ‬يهتم به المجتمع الدولي‮ ‬في‮ ‬هذه المرحلة‮. ‬ولكن الفرق بين أن تكون هذه الأهداف من صميم استراتيجية التواصل الحضاري،‮ ‬وبين أن تترك للحكومات وللمنظمات الدولية من دون سند حضاري‮ ‬ودعم ثقافي،‮ ‬يكمن في‮ ‬أن السعي‮ ‬من أجل تحقيق هذه الأهداف في‮ ‬إطار تحالف الحضارات،‮ ‬يوفر فرصاً‮ ‬أكثر للنجاح،‮ ‬ويتيح إطاراً‮ ‬أوسع للتحرك في‮ ‬الاِتجاهات التي‮ ‬تؤدّي‮ ‬إلى تحقيقها‮.‬
في‮ ‬المنتدى العالمي‮ ‬الأول لتحالف الحضارات‮ :‬
لقد شاركت في‮ ‬المنتدى العالمي‮ ‬الأول حول تحالف‮ ‬الحضارات الذي‮ ‬عقد في‮ ‬مدريد في‮ ‬شهر‮ ‬يناير من سنة‮ ‬2008، وقلت في‮ ‬كلمة ألقيتها أمام المنتدى‮: »‬إنَّ‮ ‬المبدأ الجوهري‮ ‬والأساس الذي‮ ‬ينطلق منه العالم الإسلامي‮ ‬في‮ ‬بناء جسور الحوار بين الثقافات والحضارات والأديان جميعاً،‮ ‬هو مبدأ أصيل،‮ ‬لأنه من صميم المبادئ الراسخة التي‮ ‬يؤمن بها أكثر من مليار وربع المليار من المؤمنين بالرسالة الإسلامية في‮ ‬هذا العالم،‮ ‬والتي‮ ‬هي‮ ‬رسالة تنوير،‮ ‬وتسامح،‮ ‬ورسالة إخاء‮ ‬تؤمن بوحدة الأصل الإنساني،‮ ‬وبالتساوي‮ ‬بين البشر في‮ ‬الكرامة وفي‮ ‬الحق في‮ ‬الحياة،‮ ‬في‮ ‬ظلّ‮ ‬الأمن والسلام والوئام والتفاهم والاحترام‮«.‬
وكان‮ ‬لابد‮ ‬أن أشير في‮ ‬تلك المناسبة،‮ ‬إلى أصل مبادرة التحالف بين الحضارات،‮ ‬فقلت في‮ ‬كلمتي‮ ‬تلك‮ : »‬إنَّ‮ ‬هذه المبادرة التي‮ ‬تطلقها الحكومة الإسبانية،‮ ‬والتي‮ ‬تعزّز مبادرتَها السابقة التي‮ ‬ينعقد هذا المنتدى في‮ ‬إطارها،‮ ‬تخوّل لها،‮ ‬بما‮ ‬يتوافر لديها من رصيدٍ‮ ‬تاريخيٍّ‮ ‬وإرثٍ‮ ‬حضاريّ،‮ ‬وبما لها من علاقات متينة متميّزة تربطها بين الشرق والغرب والشمال والجنوب ـ تخوّل لها أن تتقدّم الصفوفَ‮ ‬في‮ ‬اتجاه إقامة أسس قوية للتحالف بين الحضارات،‮ ‬من خلال مبادرات عملية ملموسة،‮ ‬يكون من شأنها حشدُ‮ ‬الطاقات الحيّة لإقامة تحالف حقيقي‮ ‬بين الحضارات،‮ ‬يضع حدّاً‮ ‬نهائياً‮ ‬لعصور متطاولة من الشك والنفور والصراع الذي‮ ‬لا مبرّر له،‮ ‬بين الكتل الحضارية التي‮ ‬تعرفها الإنسانية في‮ ‬هذه المرحلة من التاريخ‮«.‬
وحرصت في‮ ‬كلمتي‮ ‬أمام المنتدى العالمي‮ ‬الأول الذي‮ ‬حضره رئيسا الحكومتين الإسبانية والتركية والأمين العام للأمم المتحدة وحشدٌ‮ ‬من الوزراء وكبار المسؤولين وعدد من المديرين العامين للمنظمات الدولية والإقليمية،‮ ‬على أن أطرح الرؤية الإسلامية إلى تحالف الحضارات،‮ ‬في‮ ‬محاولة أولى لتأصيل مفهوم التحالف،‮ ‬فقلت‮ : »‬إنَّ‮ ‬تحالف الحضارات‮ ‬يتوقَّف على المصالحة مع الماضي،‮ ‬وعلى تجاوز العقد التاريخية،‮ ‬وعلى ردّ‮ ‬الاعتبار للثقافات والحضارات،‮ ‬بما‮ ‬يتطلّب ذلك من انفتاح حضاري‮ ‬واسع من منطلق احترام الخصوصيات الثقافية للأمم والشعوب التي‮ ‬هي‮ ‬شركاء في‮ ‬صنع الحضارة الإنسانية التي‮ ‬نعيش جميعاً‮ ‬في‮ ‬أجوائها‮. ‬وإذا كانت إسبانيا صاحبة فكرة التحالف بين الحضارات،‮ ‬ومنها انطلقت،‮ ‬فإنَّ‮ ‬من المؤمَّل أن تصدر عنها مبادرة تاريخية جديدة،‮ ‬لتعزيز المصالحة بين العالم الإسلامي‮ ‬والغرب،‮ ‬لإشاعة روح الثقة والاِطمئنان،‮ ‬الأمر الذي‮ ‬سيعزّز تقدير الأسرة الدولية لهذا البلد الرائد في‮ ‬المبادرات الحضارية والثقافية الخلاَّقة‮«.‬
في‮ ‬المنتدى العالمي‮ ‬الثاني‮ ‬لتحالف الحضارات‮ :‬
كما شاركت في‮ ‬المنتدى العالمي‮ ‬الثاني‮ ‬لتحالف الحضارات‮ ‬المنعقد في‮ ‬شهر أبريل سنة2009 ‮ ‬في‮ ‬استانبول،‮ ‬ودعوت فيه إلى مواصلة دعم العمل الإنساني‮ ‬المشترك من أجل تعزيز التواصل الحضاري‮ ‬والحوار بين الثقافات والتحالف بين الحضارات،‮ ‬وإلى الاستمرار في‮ ‬بذل المساعي‮ ‬الحميدة على شتى المستويات لنشر ثقافة السلام والحوار والتحالف،‮ ‬وترسيخ قيم التسامح والتعايش بين البشر أجمعين،‮ ‬في‮ ‬إطار من الالتزام بمبادئ حقوق الإنسان وبميثاق‮ ‬الأمم المتحدة،‮ ‬والتشبث بالقيم الدينية والأخلاقية السامية التي‮ ‬هي‮ ‬الرباط المتين الذي‮ ‬يجمع بين الحضارات الإنسانية المتعاقبة‮.‬
وقلت‮ ‬إن الإنسانية لم تكن في‮ ‬مرحلة من مراحل التاريخ أشدَّ‮ ‬حاجةٍ‮ ‬إلى تعزيز التواصل والتحالف بين الحضارات منها اليوم،‮ ‬بعد أن تصاعدت موجة السياسات المناهضة للتواصل الحضاري‮ ‬وللحوار بين الثقافات،‮ ‬والرافضة للتحالف بين الحضارات،‮ ‬والمتعارضة مع قيم التسامح والتفاهم والتعايش بين الأمم والشعوب والاحترام المتبادل بين الأفراد والجماعات الإنسانية،‮ ‬ومع أصول التعاون بين الدول،‮ ‬على الرغم من مضي‮ ‬أربع وستين سنة على إنشاء منظمة الأمم المتحدة،‮ ‬ومضي‮ ‬إحدى وستين سنة على صدور الإعلان العالمي‮ ‬لحقوق الإنسان‮.‬
وأوضحت في‮ ‬كلمتي‮ ‬أمام المنتدى العالمي،‮ ‬أن الأزمات التي‮ ‬يمرّ‮ ‬بها عالمنا اليوم،‮ ‬والتي‮ ‬تهدّد الأمن والسلم الدوليين،‮ ‬والتي‮ ‬تقلق الضمير الإنساني،‮ ‬منشؤها تنكر قلة من البشر من ذوي‮ ‬النفوذ والقوة والهيمنة،‮ ‬لقيم الحوار والتحالف،‮ ‬واستهتارها بالقوانين الدولية،‮ ‬واستخفافها بالمبادئ الإنسانية السامية،‮ ‬وتحديها للشرعية الدولية بشكل سافر‮.‬
وقلت‮ ‬إنَّ‮ ‬هذا الأمر هو الذي‮ ‬زجَّ‮ ‬بالعالم في‮ ‬متاهات سحيقة،‮ ‬وتسبب في‮ ‬نشوء أزمات ونزاعات وحروب تعاني‮ ‬من ويلاتها شعوبٌ‮ ‬مضطهدة محرومة من حقها في‮ ‬الحياة الحرة الكريمة المستقرة،‮ ‬في‮ ‬كل من فلسطين وأفغانستان والصومال،‮ ‬وفي‮ ‬مناطق أخرى من العالم‮. ‬وبينت أن العالم الإسلامي‮ ‬الذي‮ ‬كان رائداً‮ ‬في‮ ‬طرح فكرة الحوار بين الثقافات من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة‮ ‬1998،‮ ‬يتطلع إلى هذا المنتدى العالمي،‮ ‬مؤكداً‮ ‬إيمانه الراسخ بقيم التحالف بين الحضارات،‮ ‬من منطلق الإحساس بالمسؤولية التاريخية إزاء دعم الحضارة الإنسانية المعاصرة وإغنائها برصيد من الحضارة الإسلامية التي‮ ‬ساهمت عبر العصور في‮ ‬إغناء الفكر والعمل الحضاري،‮ ‬والتي‮ ‬من مبادئها التسامحُ‮ ‬واحترام الاختلاف في‮ ‬المعتقدات والمشارب الثقافية والخصوصيات الحضارية‮.‬
في‮ ‬المنتدى‮ ‬العالمي‮ ‬الثالث لتحالف الحضارات‮ :‬
كما شاركت في‮ ‬المنتدى العالمي‮ ‬الثالث لتحالف الحضارات الذي‮ ‬عقد في‮ ‬شهر مايو الماضي‮ ‬في‮ ‬ريو دي‮ ‬جانيرو بالبرازيل،‮ ‬وقلت في‮ ‬الجلسة العمومية،‮ ‬إن المرحلة الحالية التي‮ ‬يمرّ‮ ‬بها العالم،‮ ‬تؤكد الحاجة إلى نشر رسالة التحالف بين الحضارات وتعزيز الحوار بين الثقافات والأديان جميعاً،‮ ‬وأوضحت أن التجربة قد أثبتت أن فلسفة التحالف بين الحضارات التي‮ ‬خرجت من طور التنظير العقلي‮ ‬والتأصيل الفكري‮ ‬إلى طور التنفيذ العملي،‮ ‬تحمل رسالة سلام إلى العالم،‮ ‬وتحفز الإرادات الخيّرة للعمل من أجل التغيير نحو الأفضل في‮ ‬مجالات الحياة الإنسانية‮. ‬
وأكدت أن الرسالة الحضارية تحتاج إلى نشرها في‮ ‬أوساط الجماهير في‮ ‬العالم كله،‮ ‬من خلال وسائل الإعلام،‮ ‬ومؤسسات التعليم والثقافة،‮ ‬ومنابر الوعظ الديني،‮ ‬حتى تصبح ثقافة‮ ‬يومية راسخة في‮ ‬قلوب الناس ومطبّقة في‮ ‬سلوكهم وتعاملهم‮.‬
وخاطبت أعضاء المنتدى العالمي‮ ‬بقولي‮ : »‬انطلاقاً‮ ‬من اقتناعنا المشترك بأن الممارسات التنفيذية في‮ ‬الواقع المعيش لمبادئ التحالف ولقيمه المثلى،‮ ‬لابد أن تستند إلى قاعدة عريضة من ثقافة الحوار بمدلولاته العميقة،‮ ‬بحيث تكون تجسيداً‮ ‬لها في‮ ‬مشاريع تعبر عن رسالتها الحضارية الإنسانية،‮ ‬فإن المهام الكبيرة التي‮ ‬تنتظر المنتدى العالمي‮ ‬لتحالف الحضارات،‮ ‬تتطلب من المجتمع الدولي‮ ‬عموماً،‮ ‬مضاعفة الجهود لبلورة مفاهيم التحالف،‮ ‬ولترسيخ مبادئه،‮ ‬ولتفعيل رسالته من خلال دمجها ضمن السياسات الوطنية لدول العالم‮«. ‬وأشرت في‮ ‬كلمتي‮ ‬إلى أنه بذلك سيكون الهدف من القرار الذي‮ ‬أصدره الأمين العام السابق للأمم المتحدة بإنشاء مندوبية سامية لتحالف الحضارات،‮ ‬قد أخذ طريقه إلى التنفيذ‮.‬
تضمين‮ ‬مبادئ التحالف في‮ ‬ميثاق الأمم المتحدة‮ :‬
كما وجّهت من فوق منبر المنتدى العالمي‮ ‬لتحالف الحضارات‮ ‬في‮ ‬ريو دي‮ ‬جانيرو،‮ ‬الدعوة إلى المجتمع الدولي‮ ‬لأن تتوافق الإرادة الدولية من أجل تضمين مبادئ تحالف الحضارات في‮ ‬ميثاق الأمم المتحدة،‮ ‬أو أن‮ ‬يصدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة،‮ ‬إعلانٌ‮ ‬عالميَّ‮ ‬حول تحالف الحضارات،‮ ‬يكون بمثابة الغطاء القانونيّ‮ ‬الدوليّ‮ ‬للعمل الكبير الذي‮ ‬ينهض به هذا المنتدى العالمي‮. ‬وأكدت على ضرورة إشراك ممثلين لحضارات العالم في‮ ‬إدارة التحالف ورسم سياساته وبرامجه،‮ ‬وتوظيف قدرات المنظمات الدولية المتخصصة التي‮ ‬تعمل في‮ ‬إطار الأمم المتحدة،‮ ‬لتعزيز الجهود التي‮ ‬يبذلها هذا المنتدى العالمي،‮ ‬على شتى المستويات،‮ ‬من أجل الانخراط في‮ ‬تنفيذ هذه الخطة الدولية‮.‬
إننا نؤمن بالتواصل الحضاري،‮ ‬وبالتعايش الحضاري،‮ ‬وبتحالف الحضارات،‮ ‬ونحسب ذلك واجبا‮ ‬ً‮ ‬ورسالة‮ ‬ً‮ ‬ومسؤولية‮ ‬ً‮. ‬والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة‮ ‬ــ‮ ‬إيسيسكو ــ‮ ‬،‮ ‬تنفذ برامج وأنشطة ضمن خطط عملها المتعاقبة تدخل في‮ ‬هذا الإطار،‮ ‬سواء على صعيد العالم الإسلامي،‮ ‬أو على صعيد الجاليات والأقليات في‮ ‬غير الدول الأعضاء،‮ ‬عملا‮ ‬ً‮ ‬بالهدف الثاني‮ ‬من أهدافها المنصوص عليها في‮ ‬ميثاقها،‮ ‬وهو‮: (‬تدعيم التفاهم بين الشعوب في‮ ‬الدول الأعضاء وخارجها،‮ ‬والمساهمة في‮ ‬إقرار السلم والأمن في‮ ‬العالم بشتى الوسائل،‮ ‬ولاسيما عن طريق التربية والعلوم والثقافة والاِتصال‮). ‬
وليس هناك شك في‮ ‬أن التفاهم بين الشعوب مدخلـُه هو تعزيزُ‮ ‬التواصل الحضاري،‮ ‬وترسيخ الحوار بين الثقافات الذي‮ ‬يُفضي‮ ‬إلى تواصل وتحالف بناءين بين الحضارات‮.‬
إننا نؤمن بأن المضيّ‮ ‬في‮ ‬سبيل جعل الحوار والتواصل بين الحضارات والثقافات محوراً‮ ‬للعلاقات بين الشرق والغرب‮ ‬يوفر للأسرة الدولية فرصاً‮ ‬ثمينة للتغلب على المشاكل وإقامة أسس جديدة قوية وراسخة للتعاون الإنساني‮. ‬
ولكن مع اقتناعنا بأهمية تركيز الجهود على تعزيز الحوار والتواصل والتحالف بين الحضارات والثقافات،‮ ‬في‮ ‬هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ البشرية،‮ ‬نرى أن ضرورات استقرار العلاقات بين العالم الإسلامي‮ ‬والغرب تقتضي‮ ‬رفع الحيف عن الشعوب الإسلامية،‮ ‬والكف عن عرقلة جهودها التي‮ ‬تبذلها لاكتساب المعرفة العلمية والتقانية ولممارسة حقها في‮ ‬امتلاك شروط القوة العلمية والقدرات التقانية في‮ ‬المجالات كافة،‮ ‬وعدم الوقوف في‮ ‬وجهها لمنعها من إقامة أسس الحياة السياسية السليمة التي‮ ‬تكفل لها أن تعيش في‮ ‬أجواء السلام الاجتماعي،‮ ‬والوئام المدني،‮ ‬والانسجام الثقافي،‮ ‬والتعايش السياسي،‮ ‬والتعاون لما فيه الخير للمواطنين كافة،‮ ‬دون تفرقة بين هذا المواطن أو ذاك‮.‬
رؤية الإيسيسكو إلى حوار الحضارات‮ :‬
ونحن في‮ ‬المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ــ إيسيسكو ــ نؤمن بحوار الحضارات وتواصلها وتحالفها باعتباره اختيارا استراتيجيا‮. ‬فهو السبيل الذي‮ ‬يؤدي‮ ‬بالإنسانية إلى الاستقرار،‮ ‬ويرسخ قواعد الأمن والسلم الدوليين‮. ‬وفي‮ ‬هذا الاتجاه نعمل بالتعاون مع المنظمات الدولية والإقليمية ذات الاهتمام المشترك،‮ ‬من أجل نشر ثقافة العدل والسلام،‮ ‬وفي‮ ‬سبيل تعزيز احترام التنوّع الثقافي‮ ‬الخلاَّق،‮ ‬وتقوية التفاهم والتعايش بين الشعوب،‮ ‬من خلال تطوير مناهج التعليم والتربية على حقوق الإنسان وقيم المواطنة،‮ ‬وتربية الأجيال على قيم التسامح والاحترام المتبادل‮.‬
ولكن‮ ‬ثمة معضلة آخذة في‮ ‬التفاقم تحول دون المضي‮ ‬في‮ ‬هذا الاتجاه،‮ ‬وتتمثل في‮ ‬استمرار الاحتلال الإسرائيلي‮ ‬لفلسطين،‮ ‬وللجولان السوري،‮ ‬وعجز الأسرة الدولية عن ردع هذا العدوان وإنهاء هذا الاحتلال‮.‬
فوضى هدّامة‮ ‬،‮ ‬وليست فوضى خلاقة‮ :‬
إنَّ‮ ‬السعي‮ ‬لإغراق بلدان العالم الإسلامي‮ ‬في‮ ‬الفوضى بكل أشكالها،‮ ‬سواء أكانت‮ (‬فوضى خلاقة‮) ‬كما‮ ‬يزعمون أم‮ ‬غيرها،‮ ‬وهي‮ ‬بلا شك فوضى هدّامة،‮ ‬هو عمل‮ ‬يتعارض مع تواصل الحضارات وتحالفها،‮ ‬لأنه ضد إرادة الشعوب،‮ ‬وهو شكل من أشكال الإفساد في‮ ‬الأرض،‮ ‬وضرب من ضروب إثارة الفتنة التي‮ ‬تدمر المجتمعات،‮ ‬وتدفعها إلى التخلف،‮ ‬وتشجع على تفاقم ظاهرة التطرف والغلوّ‮ ‬والانحراف والانجرار إلى مهاوي‮ ‬الإرهاب الذي‮ ‬يجد مرتعاً‮ ‬خصباً‮ ‬في‮ ‬البيئات المضطربة والأجواء الملبدة بغيوم الفتنة‮. ‬
وهكذا تكون‮ (‬الفوضى الخلاقة‮) ‬ـ كما‮ ‬يزعمون ـ وهي‮ ‬كما قلنا فوضى هدّامة،‮ ‬وقوداً‮ ‬للإرهاب من حيث أرادوها أن تكون سبيلاً‮ ‬إلى إقامة نظام جديد تسود فيه الديمقراطية،‮ ‬ويعمّ‮ ‬الأمن والسّلام‮.‬
إنَّ‮ ‬ممّا لاشك فيه أن العالم الإسلامي،‮ ‬ممثلا بمنظمة‮ ‬المؤتمر الإسلامي،‮ ‬يعد كتلة حضارية للحوار والتواصل بين الحضارات،‮ ‬تتطلع إلى المستقبل وتستند إلى قيم بانية للإنسان وللحضارة‮. ‬وهي‮ ‬بذلك قوة لبناء السلام،‮ ‬وللتعايش والتواصل بين الحضارات والثقافات‮. ‬والغرب،‮ ‬في‮ ‬نظرنا،‮ ‬ليس خصما؛ فالحضارة الغربية حضارة إنسانية هادفة وبانية‮. ‬والذين‮ ‬يسعون إلى أن تكون هذه الحضارة في‮ ‬مواجهة صدامية مع الحضارة الإسلامية،‮ ‬يحرفون التاريخ،‮ ‬ويزيفون الحقائق،‮ ‬ويسيرون في‮ ‬الاتجاه المعاكس لإرادة الأسرة الدولية‮. ‬وقد تبيّن انتماؤهم العقائدي،‮ ‬وانكشفت حقيقتهم التي‮ ‬طالما أخفوها بجدار من الشعارات الخادعة والوعود الكاذبة‮.‬
تحسين العلاقات بين العالم الإسلامي‮ ‬والغرب‮ :‬
إنَّ‮ ‬ازدهار مستقبل العالم‮ ‬يتوقف على مدى تحسّن العلاقات‮ ‬بين العالم الإسلامي‮ ‬والغرب من النواحي‮ ‬كافة‮. ‬ولذلك فإن الحرص على سلامة هذه العلاقات وضمان حمايتها من الهزات،‮ ‬ومن مخاطر الاندفاع الأهوج،‮ ‬ومن تقلبات السياسة الارتجالية،‮ ‬مسؤولية مشتركة بين جميع الأطراف،‮ ‬بل هي‮ ‬مسؤولية إنسانية دولية‮. ‬والعالم الإسلامي‮ ‬حريص أشدّ‮ ‬الحرص،‮ ‬على تنمية هذه العلاقات وتطويرها والدفع بها إلى الأمام،‮ ‬حرصَه على الاضطلاع بمسؤوليته كاملة في‮ ‬هذا المجال،‮ ‬لإيمانه بالمبادئ والقيم السامية،‮ ‬ولتشبثه بالقانون الدولي،‮ ‬ولوفائه بالتزاماته تجاه الأسرة الدولية،‮ ‬ولانتهاجه سياسة الاعتدال والوسطية والواقعية في‮ ‬علاقاته الدولية‮.‬
والأمر الذي‮ ‬أريد أن أؤكد عليه في‮ ‬هذا المقام،‮ ‬هو أن حماية العلاقات بين العالم الإسلامي‮ ‬والغرب من الاهتزاز،‮ ‬تخدم مصالح شعوب العالم،‮ ‬ولا تخدم مصالح الشعوب الإسلامية وشعوب الدول الغربية فحسب‮. ‬ولذلك فمن مصلحة المجتمع الدولي‮ ‬بصورة عامة،‮ ‬أن تتضافر جهوده لإبعاد المخاطر التي‮ ‬تهدد هذه العلاقات بالأزمات‮. ‬وهنا تبرز مسؤولية الأمم المتحدة في‮ ‬المقام الأول‮. ‬وتبرز أيضاً‮ ‬مسؤولية الدول الخمس دائمة العضوية في‮ ‬مجلس الأمن،‮ ‬والاتحاد الأوروبي،‮ ‬لأن اضطراب هذه العلاقات،‮ ‬بأي‮ ‬شكل من الأشكال،‮ ‬يزعزع استقرار الأسرة الدولية،‮ ‬ويتسبّب في‮ ‬اضطراب الأوضاع العالمية بصورة واضحة‮.‬
في‮ ‬ضوء هذه الرؤية،‮ ‬نقول إن العالم الإسلامي‮ ‬والغرب محكوم عليهما بالحوار،‮ ‬وبالتقارب،‮ ‬وبالتواصل،‮ ‬وبالتعايش،‮ ‬وبحماية المصالح المتبادلة،‮ ‬وبالسعي‮ ‬المشترك لإقرار الأمن والسلم في‮ ‬العالم،‮ ‬وبإقامة الجسور لا بهدمها،‮ ‬وبنشر قيم العدل والحق والوئام،‮ ‬وبمحاربة التطرف لدى الطرفين،‮ ‬بالبناء المشترك للسلام العالمي‮. ‬وتلك هي‮ ‬الطريق إلى المستقبل الذي‮ ‬تتحالف فيه الحضارات ولا تتصارع،‮ ‬وبتحقيق الأمن الشامل المبني‮ ‬على الاحترام المتبادل لا الغطرسة وغمط الحقوق،‮ ‬والانسياق وراء دعاة الكراهية وتجار الحروب وصناع الفوضى الهدامة‮.‬
لقد‮ ‬عرف العالم منذ انطلاق حركة التحالف بين الحضارات‮ ‬أزمات عديدة وتحديات كثيرة،‮ ‬وتعرض الشعب الفلسطيني‮ ‬لعدوان همجي‮ ‬في‮ ‬قطاع‮ ‬غزة،‮ ‬وللقمع في‮ ‬الضفة الغربية،‮ ‬وتم انتخاب حكومة متطرفة في‮ ‬إسرائيل ترفض فكرة إقامة دولة فلسطينية وتواصل مصادرة الأراضي‮ ‬وإقامة المستوطنات‮. ‬وتفاقمت الأوضاع بشكل خطير،‮ ‬في‮ ‬كل من أفغانستان والعراق والصومال،‮ ‬وفي‮ ‬مناطق أخرى من العالم‮.‬
القضية الفلسطنية حجر الزاوية‮ :‬‬
إنَّ‮ ‬استمرار الاحتلال الإسرائيلي‮ ‬لفلسطين وللجولان السوري،‮ ‬وما‮ ‬يعيشه الشعب الفلسطيني‮ ‬من اضطهاد ومعاناة وعدوان على حقوقه،‮ ‬وحرمانه من إقامة دولته المستقلة،‮ ‬كلّ‮ ‬ذلك‮ ‬يؤثّر تأثيراً‮ ‬كبيراً‮ ‬على العلاقات بين العالم الإسلامي‮ ‬والغرب،‮ ‬فالدعم‮ ‬غير المحدود من دول الغرب،‮ ‬وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية،‮ ‬لإسرائيل،‮ ‬وتغاضيها عن ممارساتها الإجرامية ومخالفاتها للقانون الدولي،‮ ‬شكلاً،‮ ‬ولا‮ ‬يزالان‮ ‬يشكلان،‮ ‬سبباً‮ ‬رئيساً‮ ‬في‮ ‬توتّر هذه العلاقات،‮ ‬وفي‮ ‬تأجيج مشاعر الغضب والكراهية لدى قطاع واسع من أبناء العالم الإسلامي‮.‬
ولقد‮ ‬وقفت‮ ‬شخصياً،‮ ‬خلال زيارتي‮ ‬للأراضي‮ ‬الفلسطينية المحتلة في‮ ‬الضفة الغربية قبل عدة أعوام‮(‬1‮)‬،‮ ‬على بشاعة القمع الذي‮ ‬تمارسه سلطات الاحتلال الإسرائيلي‮ ‬على الشعب الفسطيني،‮ ‬وما تتعرض له المقدسات الإسلامية والمسيحية هناك من اعتداءات وتدنيس‮. ‬وقد زادت حدّة هذا القمع وهذه الممارسات العدوانية سنة بعد أخرى بشكل متصاعد وشنيع‮. ‬وإذا لم‮ ‬يبادر الجتمع الدولي‮ ‬إلى إنهاء هذا الاحتلال وحماية الشعب الفسطيني‮ ‬من البطش الإسرائيلي‮ ‬وإقامة دولته المستقلة،‮ ‬فإن علاقات العالم الإسلامي‮ ‬بالغرب ستبقى دائماً‮ ‬في‮ ‬وضع‮ ‬غير سليم،‮ ‬وقد‮ ‬يؤدّي‮ ‬ذلك إلى مشاكل لا حاجة للطرفين في‮ ‬حدوثها‮. ‬وما نطالب به هو تطبيق قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة بهذه القضية بشكل عادل وحازم‮.‬
ولعلّ‮ ‬من المناسب أن أشير هنا إلى أن خادم الحرمين الشريفين الملك عبد اللَّه بن عبد العزيز،‮ ‬حفظه اللَّه،‮ ‬كان معبراً‮ ‬بعمق عن هذه المعاني‮ ‬في‮ ‬مقال له نشرته مجلة‮ "‬فيرست‮" ‬ــ‮ ‬First‮ ‬ــ المتخصصة البريطانية بمناسبة قمة العشرين ما قبل الأخيرة‮(‬2‮)‬،‮ ‬مع مقالات لزعماء الدول الأخرى،‮ ‬قال فيه‮ : »‬دون سلام شامل وعادل في‮ ‬المنطقة،‮ ‬فإنه لا معنى للكلام عن استقرار المنطقة ونموها الاقتصادي،‮ ‬ولكي‮ ‬يتم تحقيق التنمية كذلك‮. ‬وللوصول إلى السلام ــ ذلك الهدف السامي‮ ‬ــ قدمت الدول العربية مبادرة شاملة متوازنة،‮ ‬هي‮ ‬مبادرة السلام العربية،‮ ‬منذ عام‮ ‬2002‮. ‬وقد أضاع رفضُ‮ ‬إسرائيل للمبادرة،‮ ‬فرصةً‮ ‬كبرى لتحقيق سلام شامل وعادل في‮ ‬المنطقة‮. ‬كما أننا نحث المجتمع الدولي‮ ‬على الاضطلاع بمسؤولياته إزاء تحقيق السلام الشامل والعادل الذي‮ ‬طال انتظاره‮. ‬والاستفادة من المبادرة المفتوحة التي‮ ‬لن تظل مطروحة على الطاولة إلى الأبد‮«.‬
ذلك هو جماع الحكمة التي‮ ‬عبر عنها،‮ ‬أقوى ما‮ ‬يكون التعبير،‮ ‬خادم الحرمين الشريفين،‮ ‬رعاه اللَّه‮.‬ من‮ ‬أجل ذلك،‮ ‬فإن حوار الثقافات وتواصل الحضارات وتحالفها لن‮ ‬يكون ذا موضوع،‮ ‬ما لم‮ ‬يتحرك المجتمع الدولي‮ ‬ليتحمل مسؤوليته إزاء الوضع المتردي‮ ‬في‮ ‬الأراضي‮ ‬الفلسطينية‮. ‬وكذلك لن‮ ‬يكون للكلام الذي‮ ‬نطق به الرئيس الأمريكي‮ ‬أمام البرلمان التركي‮ ‬وفي‮ ‬جامعة القاهرة بخصوص علاقة الولايات المتحدة الأمريكية بالعالم الإسلامي،‮ ‬أي‮ ‬مدلول واقعي،‮ ‬ما لم تقم الإدارة الأمريكية في‮ ‬عهدها الجديد،‮ ‬بما‮ ‬يفرضه عليها الدستور الأمريكي‮ ‬وميثاق الأمم المتحدة ومبادئ حقوق الإنسان والقانون الدولي،‮ ‬من واجبات تجاه إحلال الأمن الكامل والسلام العادل في‮ ‬الشرق الأوسط،‮ ‬وحتى‮ ‬يتحرر الشعب الفلسطيني‮ ‬من الاِحتلال الإسرائيلي‮.‬

________________________________________
ــ‮ ‬14‮ ‬رمضان،‮ ‬1431‮ ‬هـ‮ (‬24‮ ‬أغسطس‮ ‬2010‮ ‬م‮)‬،‮ ‬محاضرة ألقيت بالإنجليزية في‮ ‬كوبنهاجن بدعوة‮ ‬من الرابطة الإسلامية في‮ ‬الدانمارك‮.‬
‮(‬1‮) ‬أبريل‮ ‬1999‮ ‬م‮.‬ ‮
(‬2‮) ‬عقد في‮ ‬تورنتو بكندا،‮ ‬يومَيْ‮ ‬26‮ ‬و27‮ ‬يونيو‮ ‬2010‮ ‬م‮.‬
المصدر:
http://www.isesco.org.ma/arabe/publications/la%20communication%20civilis...

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك