الحرية وفضاء الجدل الليبرالي

 

محمد علي المحمود

    

إذا كانت الليبرالية - كإيديولوجيا واضحة المعالم إلى حد ما - قد تبلورت في منتصف القرن التاسع عشر؛ كما يرى كثير من الباحثين في تاريخ الأفكار، فإن بذورها تمتد لأكثر من خمسة قرون؛ عندما أدى الإصلاح الديني/البروتستانتي إلى تحرر نسبي للفرد بإزاء الكنيسة الجامعة.

منذ قرنين أو أكثر، ورغم كل المنعطفات الحادة التي اعترضت مسيرة التطور الفكري والواقعي للإنسان، يتأكد للجميع أن العالم المشدود – بحكم ضروريات الواقع العملي – إلى مبدأ التقدم الإنساني، أصبح يتجه صوب مزيد من الإيمان بمبادئ الليبرالية التي تأسست عليها العصور الحديثة في الغرب. ويزيد في تأكيد هذا، أن كل يوم يمر، وبقدر ما يتحقق فيه من (خير عام) على يدي رواد التقدم الإنساني في الغرب؛ تكتسب الليبرالية مزيدا من الإيمان بها كفضاء للتحرر/التقدم الإنساني.

وفي الوقت نفسه الذي تُتحقّق فيها كل هذه الانتصارات، تتسع دائرة مفاهيمها باتساع التجارب المنخرطة تحت عباءتها تباعا؛ لتستوعب قدرا أكبر من الأفكار والتجارب التي تتفاعل معها - إضافة واستضافة -؛ لتكون – من بعدقادرة على استيعاب اختلاف المُتحررّين.

عندما نقول: الليبرالية، فمن المؤكد أننا لا نُحيل إلى طرح ليبرالي محدد، ولا إلى تجربة مُعيّنة/مُتعيّنة، وإنما نحيل إلى التراث الليبرالي/التقليد الليبرالي الثري الزاخر بالتنوع، والمتوهج بالانفتاح على التنوع اللامحدود. يقول ياسر قنصوة: "محتوى التقليد الليبرالي برمته هو جماع الأفكار الليبرالية المتعددة المتباينة، المتناقضة أيضا. غير أن ثمة فكرتين أساسيتين تدور حولهما الأفكار: الفردية والحرية" (الليبرالية، إشكالية مفهوم، د. ياسر قنصوة، ص195و196).

لا ريب أن هذا الانفتاح هو ما يمنح الليبرالية إمكانية للتفاعل المتنوع، إمكانية لا توجد في غيرها، من المذاهب الفكرية والتيارات الإيديولوجية التي تتضمن عناصر تأطيرية صارمة، تنفي أكثر مما تستوعب، وتضيق مساحات الجدل فيها حول مبادئها ذات الطابع الجمودي المحصن بمستوى عالٍ من الإطلاقية اليقينية التي لا تقبل الحد المعقول من التبادلات النسبية، وبالتالي، تضيق عن قبول كل صور الاختلاف.

إن الحرية الليبرالية هي حرية متحررة!، حرية عميقة وشاملة، حرية في اتجاه الداخل الليبرالي؛ كما هي حرية في اتجاه الخارج أيضا. لهذا، فالليبرالية بقدر ما تتجادل وتتفاعل مع المذاهب والتيارات والمؤسسات التي تقع خارج فضاء الرؤية الليبرالية والفعل الليبرالي؛ بقدر ما تتجادل وتتفاعل مع مكونات وعناصر رؤيتها والمؤسسات المتضامنة معها، بل وتتجادل مع حدود هذا الفضاء الليبرالي المفترض. ما يعني أن الحرية لديها هي مبدأ عقلي متنامٍ، وتطلّع روحي متسامٍ، بحيث لا ينتهي جدل الحرية مع ذاتها ومع محيطها إلا إلى مزيد من الرقي بالحرية، فَهْما وتَفهّما وممارسة؛ لتتواصل مسيرة التحقق الحُريّاتي في المتغير النوعي للحرية، وليس – بالضرورة – في المتغير الكمي، إذ الحرية الليبرالية لا تكون بإزاحة مزيد من القيود الشكلية على الحرية، وإنما تكون أساسا في بلورة مزيد من الشمول التحرري؛ وصولا إلى أسمى تحرر ممكن، بناء على شروط الواقع وضرورات السياق.

لا شك أن الحرية في الليبرالية تبقى إشكالية؛ بقدر ما الليبرالية في ذاتها إشكالية. وسبب هذا الإشكال المزدوج أن رؤية الليبرالية لمفرداتها الأساسية، كالفردية والحرية والعدالة لا تصدر عن سياق مفاهيمي خالص، وإنما تصدر - إضافة إلى ذلك – عن تمرحل التحقق العملي لليبرالية، وهو التحقق الذي كان في كثير من الأحيان انعكاسا لتحولات السياسة في العموم، ولتحولات اقتصاد السوق الرأسمالي في الخصوص.

وهذا ما يجعل من الليبرالية فضاء مفتوحا لكل التطلعات التي تريد تحرير الإنسان من خلال وجوده العيني/الفردي (حتى ولو كانت هذه التطلعات متعارضة في بعض أوجهها أو معظم أوجهها)، بصرف النظر عن المداخل النظرية، والأدوات الإجرائية المستخدمة في ذلك؛ ما دام أنها تلمّ شَعَثها على الخط العام لشرط (الحرية الفردية) في نهاية المطاف.

إذا كانت الليبرالية - كإيديولوجيا واضحة المعالم إلى حد ما - قد تبلورت في منتصف القرن التاسع عشر؛ كما يرى كثير من الباحثين في تاريخ الأفكار، فإن بذورها تمتد لأكثر من خمسة قرون؛ عندما أدى الإصلاح الديني/البروتستانتي إلى تحرر نسبي للفرد بإزاء الكنيسة الجامعة، وما تبعه ورافقه من تحرر اجتماعي، ثم ظهور الطبقة البرجوازية...إلخ. أما الجذور المُؤسِّسة فتمد لأكثر من ثلاثة قرون، خاصة عند توماس هوبز وجون لوك (على اختلاف رؤيتهما للفرد وحاجاته الأساسية، وحول توصيف: حالة الطبيعة)، ثم آدم سميث في الليبرالية الاقتصادية الداعمة لحرية التجارة/اقتصاد السوق، صولا إلى أحدث النسخ: النيوليبرالية، ومرورا بالليبرالية الاجتماعية التي أرادت التخفف من حدة النَّفَس الرأس مالي؛ لصالح مزيد من العدالة الاجتماعية، التي ظهرت أواخر القرن التاسع عشر؛ كنتيجة لتأثر واعٍ – وغير واعٍ أيضا - بتنامي الأصوات الاشتراكية التي كانت رد فعل على كل ما أنتجته الثورة الصناعية من انتهاك لإنسانية ملايين العمال الكادحين.

كل هذا، جعل كثيرين يرون أن الليبرالية مَدِينةٌ للمتغيرات السياسية/الاجتماعية/الاقتصادية التي حدثت في الغرب تحديدا؛ أكثر مما هي مَدِينةٌ للجهود الفكرية التنظيرية التي قام بها كبار مفكري التنوير الأوروبي. وربما يرى بعضهم أن دور هؤلاء المفكرين لم يكن أكثر من شرعنة إيديولوجية لتحولات كانت تجري على أرض الواقع، تحولات كانت تجري بقوة دفع ذاتية، مشروطة بالواقع العملي، وليست مشروطة – إلا بمستوى محدود من التفاعل الجدلي – بمقولات هؤلاء المفكرين.

لكن، ومهما كانت زاوية الرؤية لقوة الدفع التقدمية التي أنتجت العصر الحديث، فلا شك أن التطورات التي تضع الغرب اليوم على قمة الهرم الحضاري للعالم، إنما كانت تجسيدا للرؤى الليبرالية المتطورة/المتحولة على امتداد القرون الخمسة الماضية، سواء أكانت الوقائع والتحقّقات الليبرالية المُتعيّنة تجري بقوة دفع الأفكار التي طرحها منظّرو الفكر الليبرالي، أم كانت وقائع وتحقّقات ليبرالية بالأصالة، أي سابقة للفكرة، ولم تكن الفكرة إلا توصيفا لها، وتعبيرا – يتضمن التأييد - عنها، ففي النهاية كتبت الليبرالية ملحمتها الاستثنائية في التاريخ الإنساني، كتبتها على مستوى الوعي، كما كتبتها على مستوى الواقع، ولا يهم أيهما – القول أو الفعل - كان الأسبق في التمظهر خارج نطاق الوعي.

إن كل ما سبق يؤكد أن الليبرالية ليست (موضة عابرة)، بل هي حركة تاريخ؛ بقدرما هي متجذرة في التاريخ، في تاريخ طويل، إلى درجة أصبحت فيه ليبراليات متنوعة، متساوقة مع تاريخ مشحون بملايين الأحداث والوقائع.

وهذا يعني - بالضرورة - تعدد وتنوع الحريات التي تطرحها الليبرالية تعددا وتنوعا يتسع باتساع هذا التاريخ، بحيث يستحيل القبض على تصور محدد للحرية الليبرالية، أي يستحيل القبض على ما يشكل جوهر الليبرالية، فكيف بالمفردات الثانوية الداعمة لهذا الجوهر الأساس؟!

إذا كانت الحرية ذاتها تخضع لاختلاف التصورات داخل السياق الليبرالي، فمن الطبيعي أن يختلف الليبراليون بعد ذلك على كل شيء. ولعل من الواضح أن اختلاف التصورات نابع من اختلاف زوايا الرؤية؛ رغم أن الحرية التي تجسد جوهر الوجود الإنساني هي المقصد النهائي لكل الليبراليين. بل إن المداخل المقترحة للحرية كانت مداخل ظرفية، تعكس تحديات الواقع الذي تعمل عليه مقولات المنظرين لها، فهناك من منظري الليبرالية من اهتم بالحقوق أكثر من الحريات، كما يوجد العكس بطبيعة الحال، ولكُلٍّ مسوغاته التي تبرر مساره التنظيري. فمثلا، هوبز ولوك، اهتما بالحقوق (كانت الحرية هي حرية/حق الفرد في التملك) أكثر من اهتمامهما بالحريات (كان المدخل إلى الحرية آنذاك يتمركز حول حق الفرد في التملك)، على اعتبار أن ضمان الحقوق شرط لضمان الحريات. بينما في الفكر المعاصر، نجد أن فريدريك هايك وجون راولز، اهتمّا بالحريات أكثر من الحقوق؛ بدافع أن الخوض في الحقوق تأتي معه الحقوق غير الفردية، ما يؤدي إلى شبهة اشتراكية، أي إلى جمعانية تعارض الفردية الليبرالية التي تحكم عالم الغرب اليوم. (لمزيد من التفصيل حول هذه النقطة تحديدا؛ راجع كتاب أشرف منصور: (الليبرالية الجديدة) ص44 وما بعدها).

لقد احتضنت الليبرالية عبر تاريخها الطويل كثيرا من الجدل الاختلافي الذي يجعل منها فضاء للتحرر، فضاء واسعا يستعصي على التأطير، ويموج بالتنوع والاختلاف. وهذا ما جعل ياسر قنصوة يقارب الليبرالية من حيث كون إشكاليتها تحديدا هي: "إشكالية مفهوم"، وهو العنوان الفرعي لكتابه عن الليبرالية، ذلك أنه إذ يقاربها من زاوية "إشكالية المفهوم"، فإنما يقاربها من كل زواياها بحكم طبيعتها. بل إنه يؤكد مركزية هذا الإشكال في المقدمة، وتحديدا عندما ينفي إمكانية تبلور الليبرالية في مذهب فلسفي. يقول: "الأفكار الليبرالية المتباينة، المختلفة عبر التقليد الليبرالي، لا يمكن أن تشكل مذهبا فلسفيا، ومتكاملا في منهجية محددة"، ويقول: "إننا أمام ليبراليات متعددة".

وهذا لا يدل على اتساع الفضاء الليبرالي للاختلاف والتنوع فحسب، وإنما يدل أيضا على عبث أولئك الذين يختارون وجها واحدا من أوجه الليبرالية؛ ليقدموا – على ضوئه – نقدهم العام لليبرالية؛ بغية إدانتها وإقصائها، وبالتالي، إحلال البدائل الشمولية التي تستجيب لإرادة الهيمنة المتعطشة للتحكم في كل سلوكيات البشر، الخاص منها والعام.

لا بد أن يمتلك الناقد لليبرالية قبل الإقدام على نقدها وعيا باتساع فضائها وتنوعها أولا. وطبعا، أقصد في كل كلامي هنا: الناقد العلمي/المنهجي، المشتغل حقيقة على هموم الفكر والثقافة. أما أولئك العقائديون المنغلقون الذين لا يتوفرون على أبجديات النشاط المعرفي؛ فيكفي – كمؤشر فاضح لجهلهم العضال – أنهم يفسرون الحرية الليبرالية بالفوضى، مع أن الحرية – في كل قواميس اللغات الكبرى – شيء، والفوضى شيء آخر. هؤلاء الجهال تلتبِس عليهم أبسط وأوضح الأشياء، كما في التفريق بين مفردتي: حرية وفوضى، فكيف يستطيعون تتبع واستيعاب التحولات التي رافقت مفهوم الحرية عبر تاريخ الليبرالية الطويل؟!

الليبراليون يعرفون ما يريدون، ويتحدثون عنه بالتفصيل، ولو أنهم أرادوا (الفوضى) لعبّروا عنها بها، ولكنهم يقصدون (الحرية) تحديدا، مخاطبين جماهير يفترض أنها تفرق بين المفردتين بداهة، وتنطلق من هذا التفريق لارتياد عوالم هذا المفهوم.

http://www.alriyadh.com/1117106

الأكثر مشاركة في الفيس بوك