محاولة في تفكيك الهويَّة والأنا

بقلم: خلدون النبواني

 

لا تسعف قواميس اللَّغة العربيَّة الصفراء بالتَّقصي الإيتمولوجي لكلمة الهويَّة فهي غائبة عنها كما لو أنَّ العربيَّة ترفض الاعتراف بالهويَّة. لكنَّنا نقول مع ذلك وبالعربيَّة الفصحى كلمة “هُويَّة” ويحمل كلٌّ منَّا في البلاد العربيَّة بطاقة شخصيَّة أو بطاقة وطنيَّة أو بطاقة هويَّة كما نسمّيها نحن المشارقة رسميًّا وكما عنون بها محمود درويش أحد أشهر قصائده “بطاقة هويَّة” بالفاتحة: “سجل أنا عربيّ”. فمن أين جاءت هذه الكلمة؟ بغياب الجذر القاموسيّ والتَّناسل الإيتمولوجيّ للكلمة يصعب التَّحقق من الأصل فنصبح كما لو أنَّنا أمام طفل لقيط غير معروف الأصل. لكنَّني أزعم، وهذه فرضيتي في هذا البحث، أنَّ أوَّل مدخل عربيّ إليها كان فلسفيًّا وعن طريق ترجمة الفلسفة الإغريقيَّة إلى العربيَّة وتحديدًا ترجمة كتاب الميتافيزيقا أو ما بعد الطبيعة لأرسطو. إنَّني افترض إذن أنَّ مفهوم، بل وحتَّى مفردة الهويَّة ليست أصيلة في اللُّغة العربيَّة على الأقلّ وإنَّما هي ترجمة لمبدأ “الهويَّة” عند أرسطو بغض النَّظر عن ملابسات، بل قل ولغز ترجمة هذا الكتاب إلى العربيَّة الجديرة برواية بوليسيَّة تاريخيَّة تماثل رواية “اسم الوردة” لأمبيرتو إيكو الَّتي كانت التَّرجمة العربيَّة لكتاب الشعر لأرسطو محور حبكتها. أقول هذا لتردُّد المصادر التَّاريخيَّة وعدم اتّفاقها على متى ومن قام بترجمة كتاب الميتافيزيقا لأرسطو (الَّذي لم يسمه هو بهذا الاسم وإنّما على الأرجح تلميذه أندرونيقوس الرودسي). وسواء أكان الكتاب قد تُرجم مباشرةً عن اليونانيَّة إلى لغة العرب على يد الرَّاهب اليعقوبيّ أسطات بطلب مباشر من الفارابي أو سواء تُرجم عن السّريانيَّة إلى العربيَّة على يد أبو بشر متى، فإنَّ هذا ليس موضوعنا هنا. رغم أهميَّة كلّ هذه التَّفاصيل في التَّحقيق التَّاريخيّ ودراسة التباسات التَّرجمة إلى أنَّ الأمر هنا ليس على الإطلاق اضطرابًا في التَّرجمة العربيَّة لمبدأ الهويَّة الأرسطي كما حصل مثلاً مع ترجمة مفردات أُخرى حين احتار كبار مترجمي أرسطو إلى العربيَّة وشرَّاحه بمن فيهم ابن رشد في تحقيقه لمفردات لم تكن حاضرة في الثَّقافة العربيَّة كالمسرح والتراجيديا والمأساة والملهاة الخ فترجمها غالبًا بالشّعر والنثر. الأمر هنا ليس انزياحًا نصيًّا أو تحريفًا من اللُّغة المنقول منها إلى اللُّغة المنقول إليها فرغم وفرة الشُّروحات على هذا الكتاب وخلط بعضها بمرجعيات بعض الشُّرَّاح المتأثرين بالأفلاطونيَّة الجديدة إلاَّ أنَّ مبدأ الهويَّة الأرسطي الَّذي يظهر في الكتاب الرَّابع غاما (المقالة جما) مبني منذ تركيبه الإغريقي على مفارقة لغويَّة تحيل الهويَّة إلى الآخر والَّتي ستتوالد في مختلف التَّرجمات إلى مختلف اللُّغات. لنتذكَّر إذن أنَّ مبدأ الهويَّة الأرسطيّ يقوم على تطابق الشَّيء مع نفسه أو ا هو ا. والَّذي يصبح في ترجمته إلى العربيَّة مثلاً الشَّيء هو ذاته أو ما هُو هُو. وأؤكّد من جديد أنَّ مفهوم الهويَّة ليس غريبًا فقط عن جينالوجيا اللُّغة العربيَّة فقط فالأمر متماثل في اللُّغات الهندوأوروبيَّة والأنجلوساكسونيَّة فبالفرنسيَّة تقول التَّرجمة لهذا المبدأ: ce qui est est أو A est A و est بالفرنسيَّة هي فعل الكون المتعلّق بالشَّخص الثَّالث المفرد هو أو هي أو المبني للمجهول on. بينما تتَّفق التَّرجمات الإنجليزيَّة لهذا المبدأ على أنَّ A is A و is هنا أيضًا هي فعل الكون المتعلّق بالآخر هو أو هي أو غير العاقل it. من أين جاءت هذه المفارقة الَّتي تربط هويَّة الشَّيء أو الكائن بالآخر؟ قادني التَّقصيّ لهذا المفهوم إلى أنَّه لم يكن موجودًا أو حتَّى مُفكّرا به في الإغريقيَّة قبل أرسطو مع أنه كان متضمّنًا بشكل غير مباشر عند بارمنيدس أو في المبادئ الخمسة للوجود عند أفلاطون. لكن أرسطو هو من قام بتركيب هذا المفهوم: “ο αυτος” والَّتي تعني أنَّ الشَّيء هو نفسه. هي إذن إحدى المرَّات الكثيرة الَّتي تدين بها اللُّغة للفلسفة بتخصيبها بمفهوم جديد ومفردة جديدة. ستنتقل هذه المفارقة اللُّغويَّة للمفهوم في عمليَّة الانتقال اللُّغوي من صياغة أرسطو الإغريقيَّة للهويَّة بوصفها “to autos” (“το αυτος”) إلى اللاَّتينيَّة identitas الَّتي سيُشتق منها لفظ identity بالإنجليزيَّة و identité بالفرنسيَّة وكذلك identidem الَّتي ستصبح لاحقتها idem اختصارًا للهويَّة بمعنى تكرار الشَّيء نفسه (والَّتي لا تزال تستخدم في الإنجليزيَّة والفرنسيَّة). لكن لننتبه أنَّ الجذر اللاَّتيني الَّذي اشتقت منه معاني الهويَّة هو ذو دلالة لغويَّة مهمَّة identidem والَّتي لا تعني هنا أنَّ الشَّيء هو ذاته فقط وإنَّما أنَّ الشَّيء يتكرر مرارًا وعلى مرَّات عدَّة بنسخ متشابهة. وبكلام آخر لم تعد الهويَّة جوهرًا مُطلقًا ثابتًا لا يتغيَّر بالمعاني البارمينيديَّة، وإنَّما صيرورة تشابه مستمر في الزَّمان بالمعاني الهرقليطيَّة. قلتُ تشابه؟ ربَّما ليست هي الكلمة المناسبة هنا وإنَّما من الأفضل القول: ازدواجيَّة للشَّيء الواحد أي تشظّي وكسر لوهم الأصل الماهويّ [الماهيَّة والماهويَّة في العربيَّة مشتقَّة من مفهوم الهويَّة الَّذي نرى أنَّه متشظٍ منذ أصله اللُّغوي] وهو ما يتَّضح بكلام شيشرون عن iidem أو eadem حين يتحدَّث عن الموسيقيين الَّذين هم شعراء في نفس الوقت فيصبح الشَّاعر موسيقيًّا وما هو هو ليست في النّهاية سوى ما هو ذاك. على هذا الشَّرخ والتَّصدُّع اللُّغوي الَّذي لم ينتبه له لا أرسطو ولا تاريخ الميتافيزيقا الَّذي قام عليه سيُبنى كلّ تاريخ ميتافيزيقا الجوهر والهويَّة والأنا الدّيكارتيَّة والموناد الليبنتزي والأجزاء الَّتي لا تتجزأ الخ... دون أن ينتبه تاريخ الميتافيزيقا هذا إلى أنَّه لا يوجد واحد، ولا هويَّة ولا أصل مُطلق وإنَّما أجزاء واختلافات وشظايا. وما أريد الخلاص إليه من هذا الاجتهاد اللُّغوي هو الإشارة إلى أن مفهوم الهويَّة متشظٍ منذ الأصل، منذ الجذر، منذ التَّكوين يحيل إلى آخر غير محدّد بدوره ولا جوهر واحد له ولا ماهيّة مطلقة وباختصار أقول: لا هُوية للهويّة.



من تفكيك الهويّة إلى تفكيك الأنا:
لا شكَّ أنَّ الهويَّة ليست الأنا بالضرورة، على الأقل بالمعنى الَّذي أراد أرسطو أن يمنحه لها فهو لم يكن معنيًّا بكتابه الميتافيزيقابالأنا (ربَّما يقترب أكثر ـ وإن بشكل ميتافيزيقيّ دومًا ـ من هذا المفهوم في مقالته في النّفس) بقدر ما كان يحاول أن يصوغ قضيّة صوريّة يصف فيها هويَّة الأشياء مثل أنَّ الشَّجرة هي الشَّجرة. لكن بالمقابل، تدّعي الأنا امتلاكها وحيازتها لهويَّة مَّا، وسواء أكانت ثابتة أم متغيّرة، إلاَّ أنَّها تشترك وتتحدَّد بقدرتها على قول أنا. إنَّنا هنا ننتقل من حيز تفكيك ميتافيزيقا اللَّفظ الفلسفيّ للهويَّة إلى ميدان التَّحليل النَّفسيّ أو ربَّما ما سأدعوه هنا ﺑ “التَّفكيك النَّفسيّ” لمفهوم الهويَّة.



يحيل الحديث عن الهويَّة في الفلسفة الوجوديَّة وفي علم النَّفس والتَّحليل النَّفسيّ إلى الأنا أو الذَّات أو الإيغو ego. ولكن إذا كانت الهويَّة تحيل إلى الآخر كما أبنت أعلاه وتتحدَّد بالهو: ما هو هو، فإنَّ النَّتيجة المترتبة عليه هو أو هويَّة الأنا هي الآخر. وبمعنى آخر ما هو هو تُصبح في حالة الأنا ما أنا هو. هكذا فإنَّ الأنا ـ وفق هذا الفخّ اللُّغوي الَّذي تأسَّست عليه ميتافيزيقا الهويَّة منذ أرسطو ـ تُحيل مباشرة إلى الآخر، بل وإلى آخر (لا على التعين وبدون أل التَّعريف)، أي إلى الغريب. وبمعنى ثانٍ، منذ أن قام أرسطو بالَّلعب على مفردة “tautotes” “ταυτοτης” ليصوغ مفهوم هويَّة الأشياء تكوّن مفهوم الهويَّة بوصفه الكلام عن آخر بما في ذلك الأنا. ونتيجة لذلك فإنَّ الأنا لن تغدو هي الآخر فقط وإنَّما سُتنقلب لواحقها ومخرجاتها لتصبح مولِّداتُها ومؤسِّساتُها (بكسر السّين) فما يظهر على أنَّه لاحق وتالي ليس في الأصل سوى سابق ومتقدّم. وبلغة المنطق يمكن لنا أن نقول: إنَّ هويَّة الأنا المؤسّسة وفق ميتافيزيقا اللُّغة أو ميتا اللُّغة على الآخر ستُحيل المحمول موضوعًا والعكس بالعكس. وبمفردات قواعد اللُّغة نقول أنَّ الصفة هنا ليست في الأصل سوى مكوِّن من مكوِّنات الموصوف. هي سابقة عليه ومؤسّسة له هي أمه لا ابنته. فإن تقول “سقراط إنسان” فهذا لا يعني أنَّ صفة إنسان ملحق من ملحقات هويَّة أو “أنا سقراط” وإنَّما سابقة عليه ومكوّنة له.



ودون الاستطراد في اقحام لغة الفلسفة على التَّحليل النَّفسي، فإنَّني سأسترشد برأي فرويد في مقاله المهمّ “الأنا والهو” « Le moi et le ҫa ». في هذا المقال الطويل ينتهي فرويد إلى ضرورة “تقسيم” ساحة الإدراك الفرديّ إلى ثلاثة مستويات: الشُّعور واللاَّشعور وماقبل الشُّعور. وهو إذ ينسب الشُّعور الواعي إلى الأنا، إلاَّ أنَّه ينتبه إلى أنَّ هذا الأخير “لا شعوريّ أيضًا”. بتقسيمه مساحة الإدراك الفرديّ إلى مستويات يحدس فرويد “ربَّما بشكلٍ لا واعٍ” بتشظي الأنا ولا جوهريتها المطلقة الثَّابتة. وهو بتمييزه مثلاً بين الأنا و الهو إلا أنَّه لا يفصل بينهما تمامًا بل يجعل من الهو أساس الأنا وجذره فهو يقول: “وليس الأنا منفصلاً عن الهو تمام الانفصال، وإنَّما يندمج جزؤه الأسفل في الهو” (ص 41).



لكن، وكما يوضِّح دريدا، فإنَّ فرويد ومنهجه في التَّحليل النَّفسيّ لم يستطيعا الاستقلال عن ميتافيزيقا الوعي والحضور الَّتي تجعل من الأنا الواعية هي صاحبة الهويَّة وتجعل الهو ملحقًا من ملحقاتها ومأوى مكبوتاتها ومهمّة التَّحليل النَّفسي هي كشف مكبوتات اللاَّوعي ووضعها أمام ضوء الوعيّ العقليّ لحلّ مشاكلها. تظلّ أنا فرويد إذن ممثلة لميتافيزيقا الحضور الهوياتيّة.



دون الدخول في هذا التَّحقيق شبه الجنائيّ الَّذي أحاول القيام به حول الأصل الأرسطي للهويَّة والأنا المتشظية منذ اللُّغة، نجح فرديناند دي سوسور في تقديم بديل آخر، لكنَّه يؤديّ إلى نفس النَّتيجة الَّتي تقول أنَّه: لا يوجد هويَّة ولا مبدأ أول وإنَّما علاقات للاختلاف والتَّشابه والتَّباين. فبعد أن تخلى عن فكرة الذَّات، صارت اللُّغة المؤسّسة للفكر والخطاب والنَّص قائمة على اختلافات تحيل أحدها إلى الأخرى في لعبة مرايا حيث لا أصل ولا بداية ولا هويَّة ولا أنا تتحدّد دون الآخر وبفضله، تحيل إليه ويتعين جزئيًّا وبشكلٍ طارئ بها.



الهويَّة إذن متشظية منذ الأصل الأرسطيّ والأنا هي الآخر وكلَّما قلتُ أنا تضمن ذلك أنت بالضَّرورة. وهذه الفكرة لا تعيد فكرة الحلول الصوفية أو وحدة الوجود حيث تتوحَّد الأنوات ويناجي الصوفيُّ ربَّه بالقول: “يا أنا” أو أن يقول: “أنا من أهوى ومن أهوى أنا” وإنَّما تشظية للأنا المتكثٍّفة حول ما تتوهَّم أنَّه نواتها، وتفكيك بخاصَّة ﻟ “للهويَّة السّياسيَّة” الَّتي تظنُّ أنَّ لها وجودًا انطولوجيًّا قائمًا على مقومات هوياتيَّة جوهريَّة بحيث تتوهَّم صفاءها وتتمركز على نواتها وتقضي على الآخر في حرب هويات قاتلة دون أن تدري أنَّها وبقتلها الآخر تقتل أناها هي في هذا الآخر...

المصدر: http://alawan.org/article14618.html

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك