فلسفة القراءة .. والآثار الإيجابية الكفيلة بتغييرك إلى شخص مختلف كلياً

 

أسامة فاروسي

في عصر الانفتاح العلمي، والمعلومات المزدحمة التي تُكتشف كل يوم، أصبح من الواجب علينا أن نقرأ كل يوم مئات ومئات من الصفحات، فلا يمكنك مواكبة نهر المعلومات الجاري إلا بالقراءة، ستحتاج ذلك إن كنت موظفاً في شركة، أو مهندساً، أو طبيباً.. إلخ.

وذلك لكونها من أقرب السبل التي تغنيك بالمعرفة دون جهد كبير، مما يمكنك من البقاء على اتصال مع آخر المستجدات، فلطالما كانت القراءة نافذة واسعة إلى العالم الفسيح.

فضلاً عن السعة المعرفية التي ستحصل عليها من القراءة، عليك أن تضع بعين الاعتبار الفائدة العقلية، أي أنني اريدك أن تتساءل: ما الأثر الذي أحدثته القراءة في دماغي؟..

 هذا الأثر الذي سأتحدث عنه هو ما جعل منك شخصاً مختلفاً بعد أن تقرأ شيئاً ما، فكلما داومت على القراءة، أنت في مرحلة تطور من ساعة لأخرى، ولن تكون الشخص الذي كنت عليه بالأمس، وذلك كله انطلاقاً من دماغك الذي يعتبر المحدد الأول والأخير لشخصيتك.

تعتبر قراءة الروايات القصصية المشوقة من أكثر المواد المقروءة تحفيزاً للدماغ، وتنشيطاً للمناطق المختلفة فيه، وهذه الحالة العقلية أثارت فضول ناتالي فيليبس (مدرِّسة في جامعة ميشيغان الأمريكية) لفحص النشاط الدماغي عند قراءة رواية بشكل معمق..

حيث كانت تندمج في قراءة الروايات حتى تشعر وكأنها تعايش أحداث القصة بنفسها، فتنسى العالم الواقعي حولها.

تم تصوير النشاط الدماغي للقراء.. فما الذي حدث؟

أرادت ناتالي أن ترى الفرق بين نشاط الدماغ في حال القراءة السطحية العادية والقراءة المعمقة، وبمساعدة تقنيات تصوير الدماغ تم توضيح ذلك الفرق، فتبين وجود فرق بين الحالتين في مناطق الدماغ التي تتعلق بالانتباه كما كان متوقعاً، لكن الذي لفت انتباه الباحثة هو أن القراءة المعمقة أظهرت أثراً كبيراً ونشاطاً دماغياً شاملاً.

فبدأت مناطق كثيرة من الدماغ بالعمل، من ضمنها تلك المناطق التي تتعلق بالحركة واللمس، وكأن القارئ يتخيل الأحداث ويضع  نفسه مكان الشخصيات، وهذا يعني أن قراءة الروايات تجعلنا نعيش تفاصيل كثيرة وتجارب عديدة في الحياة دون أن نتحرك من مكاننا، مما يمكنك أن تستنتج فائدة القراءة في إنتاج خبرات حياتية عديدة.

جريت الدراسة نفسها في جامعة أتلانتا الأمريكية، وتمت بمنهجية مختلفة قليلاً حيث تم اختيار عينات عشوائية (21 طالباً) من طلاب الجامعة نفسها، وكُلفوا بقراءة رواية ذات سرد قصصي مشوق (رواية Pompeii لكاتبها روبرت هاريس).

مما جعل المشرفين على العمل يتأكدون من اندماج الطلاب مع أحداث القصة بينما يقرؤون، وتم بالتأكيد فحص أدمغة الطلاب قبل البدء بالبحث، لمعرفة الفرق في حال حصول تغيرات في البنية الدماغية.

كان على كل طالب أن يقرأ قسماً معيناً من القصة كل يوم مساءً، ويتم فحصه في الصباح التالي وهو بحالة راحة، أي أنه متوقف عن القراءة، وتم ذلك على مدى تسعة عشر يوماً، بعدها خضع الطلاب لفحص لاختبار فهمهم للقصة، ثم فُحصت أدمغتهم بعد ذلك بحالة راحة أيضاً.

تم ذلك الفحص بتقنية تصوير الرنين المغناطيسي للدماغ، وكان الباحثون يتابعون تطورات الدماغ يوماً بعد يوم، فلاحظوا النتائج التالية..

1- ارتفاع نسبة التواصل بين خلايا الدماغ في المنطقة الصدغية اليسرى (فوق الأذن)، وهي المنطقة الحساسة لغوياً من الدماغ، وتبين أن هذه التوصيلات الجديدة قد بقيت في الدماغ حتى لو أن الطلاب فُحصوا بحالة راحة، وهذا ما يُدعى بـ(shadow activity).

2- لوحظ ارتفاع في نسبة التواصل بين الخلايا العصبية في منطقة الشق المركزي من الدماغ، وهي المنطقة التي تحوي خلايا عصبية مسؤولة عن صنع أو تمثيل الحركة في خيالنا مما يجعلنا قادرين على تنفيذها فيما بعد، وهو ما تم تجريبه على الرياضيين كما تعلمون.

فكان تخيل القيام بالحركة الرياضية سبباً مساعداً على تنفيذها بالدقة والكفاءة المطلوبة، أما بالنسبة لقراءة القصص فهذا يعني أن مجرد قراءتك لجمل تدل على أن بطل القصة يجري من مكان لآخر سيحفز هذه الخلايا العصبية لتنتج صورة لإنسان يجري في دماغك، وهو ما سيمكنك من القيام بالحركة بشكل أفضل بعد أن أخذت تمثيلاً لها في ذهنك.

دامت هذه النتائج دون أي تغيير لفترة خمسة أيام بعد انتهاء الطلاب من قراءة قصتهم، وهو ما يؤكد أن هذه النتائج ليست مؤقتة أو بسيطة.

الذكاء العاطفي

كما لاحظ الباحثون أن قراءة الروايات ستزيد حتماً من ذكائك العاطفي، أي قدرتك على فهم مشاعر الأشخاص أمامك والتعامل مع الحالة العقلية التي يعيشونها، حيث أن قارئي هذه القصص سيمرون بخيالهم بالتأكيد على كم كبير من المشاعر التي تتنوع بين الخوف، الفخر، الإحباط، الغيرة، السعادة، الاكتئاب، إلى ما هنالك من مشاعر، وهذا ما سيزيد من خبرتهم بها، وقدرتهم على ملاحظتها أكثر من غيرهم.

قال عالم الأعصاب جريجوري بيرنز..

 

نعلم مسبقاً أن القصص الجميلة تجعلك في إحساس رمزي بحالة الشخص الذي تقرأ عنه، ونحن نرى الآن أن هناك شيئاً ما يحدث على المستوى الحيوي الخلوي

 

حسناً، قبل أن أقول لكم “ختاماً”، أردت أن أشارك رأياً خطر لي في قضية القراءة، جاء دوري الآن … 

لا أشكك بقدرة العلم على إثبات الحقائق بطريقة منهجية محكمة، ولا يصح زعمي بعدم فائدة القراءة بعد كل هذا الثناء عليها، لكنني أرى في المواد المقروءة الأخرى (أي المواد المقروءة غير القصصية) فجوة أوعجزاً عن جعلك تعيش الحالة العقلية التي يعيشها العلماء في مخابرهم وهم يجرون تجاربهم حتى ينقلوا لك خلاصة ما وصلوا إليه بشكل مادة مقروءة.

لا أشكك أيضاً بقدرة العلماء على إيصال الفكرة الصحيحة، لكنني أرى ضرورة في دخول كل منا في المجال العملي وخوض تجربته بنفسه حتى يستخلص نتائجه وينقلها للآخرين، هذا ما يمكن أن يؤدي إلى نتائج مختلفة وقد يؤدي للكثير من الحيرة والارتباك بين أطنان النتائج..

لكنه بالتأكيد سيشكل عاصفة علمية، وسيقود إلى الكثير من النتائج المهمة التي قد لا يصل لها العلماء، فلكل منا ذكاؤه وإبداعه، ومتى تضافرت الجهود ستؤدي إلى نتائج أفضل بكثير من مجرد قولبة جميع العقول بنتيجة واحدة وصل إليها العالم الفلاني.

في الحقيقة ما دفعني لكتابة هذا المقال هو هذه الفكرة بالتحديد، وأعلم أن للقراءة جمهورها الكبير، وأنا واحد منهم بالتأكيد، لكنني أعجز عن وصف حالة الاستخفاف والاستهزاء بعقلي وعقولكم عندما أكتفي بالوصول إلى نتيجة العالم الفلاني دون أن تكون لي الفرصة لخوض ما خاضه دون أن يكون لنتائجه أي تأثير على تفكيري مهما صغر.

سيقول الكثيرون أن هذه هي طريقة المنهج العلمي لديكارت وغيره من الفلاسفة، لكنني هنا لا أتحدث عن البحث وحده، بل أرى في الاكتفاء بقراءة الأبحاث قتلاً لفعاليتها..

 

المصدر

آراجيك تك

 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك