الإيمانُ والعملُ الصالح: رؤيةٌ مفتوحةٌ لعالمٍ جديد
عبدالله بن محمَّد السالمي
أ. يُحدّد القرآن الكريم العلاقات بين المسلمين وأهل الكتاب في نداءٍ أو دعوةٍ للكتابيين من جهة، وفي خطابٍ إلى المسلمين من جهةٍ أُخرى. ففي النداء أو الدعوة يقول -عزَّ وجلَّ-: ﴿قل يا أهل الكتاب تعالَوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نُشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضُنا بعضاً أرباباً من دون الله فإنْ تولَّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مُسلمون﴾(آل عمران: 64). أمّا في الخطاب الـموجَّه إلى المسلمين فيقول -عزَّ وجلَّ-: ﴿ولا تُجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أَحسَن إلاّ الذين ظَلموا منهم وقولوا آمنّا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهُنا وإلهُكُمْ واحد ونحن له مسلمون﴾(العنكبوت: 46). فإذا تأمَّلْنا الدعوةَ والخطابَ في سياقٍ واحدٍ نجدُ أنهما يقومان على مبدأين اثنين: أحدُهُما عَقَدي, وهو مبدأُ التشارُك في الدين الواحد أو القولُ بوحدانية الإله، والآخَرُ مترتِّبٌ عليه، وهو نَظَرُ أحدنا إلى الآخَر على قدم المُساواة من كلِّ وجه: في الإنسانية والكرامة والاستقامة في التعامُل، وعدم اعتقاد الأفضلية أو التقدم: ﴿ولا يتخذ بعضُنا بعضاً أرباباً من دون الله﴾. ولنلاحظْ أنّ مطلبَ الابتعاد عن الشِرْك يوصَفُ في الخطاب بأنه إنْ وقَع فالذين وقعوا فيه وقعوا في الظُلم: ﴿إلاّ الذين ظلموا منهم﴾؛ لأنه سبحانه وتعالى يقول في آيةٍ أُخرى في سورة لقمان: 13 ﴿إنّ الشِرك لظلمٌ عظيم﴾. وهكذا يكونُ هذا الظُلْم واقعاً لجهتين: جهة الإخلال بمبدأ وحدانية الخالق، وجهة الخطأ تُجاه وحدة بني البشر وتَساويهم أمام الله وفيما بينهم. ثم إنه في الآيتين، أو النداء والخطاب كلٌّ منهما ينتهي بأنه مهما كانت ردّةُ فعل المخاطبين من أهل الكتاب؛ فإنّ المسلمين يظلُّون على التزامهم بالنداء والخطاب ومقتضياتهما. ففي الآية الأُولى: ﴿فإن تولَّوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون﴾. وفي الآية الثانية: ﴿ونحن له مسلمون﴾، أي نحن ملتزمون بوحدانية الأُلوهية والربوبية، ونحن ملتزمون بالكلمة السواء العادلة والضامنة في أن تُعامِلَ الآخَرَ في هذه الدنيا كما تُعامل نفسَكَ على قدم المساواة، دونما تَعالٍ ولا إسْرافٍ أو إجحاف.
ويجدُ هذا المسار المبدئيُّ تصديقاً له في العَرْض المُنصِف لتاريخ الجماعة أو الجماعات المسيحية في العقيدة والتاريخ، إرشاداً لأتباع الدعوة المحمدية إلى كيفيات التعامُل مع أقرانهم وشركائهم من المسيحيين في الزمان الجديد. فقد ورثوا الكتابَ فكان منهم مَنْ أحسَن وسبق: ﴿ثم أورثْنا الكتابَ الذين اصطفينا من عبادِنا فمنهم ظالمٌ لنفسه ومنهم مقتصِدٌ ومنهم سابقٌ بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضْلُ الكبير﴾(فاطر: 32). وحتّى عندما كان أتباعُ عيسى ابن مريم يخطئون، فإنما كان ذلك بقصْدٍ حَسَنٍ، ودون أن تُفارقَهم أخلاقُهُمْ السمْحة: ﴿ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوةَ والكتاب فمنهم مُهتدٍ وكثيرٌ منهم فاسقون. ثم قفَّينا على آثارهم برُسُلِنا وقفَّينا بعيسى ابن مريم وآتيناهُ الإنجيل وجعلْنا في قلوب الذين اتّبعوهُ رأفةً ورحمةً ورهبانيةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلاّ ابتغاءَ رضوان الله فما رعَوها حقَّ رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أَجْرَهُم وكثيرٌ منهم فاسقون﴾ (الحديد: 25-27). وإذا وصل الأمر إلى عصر النبي، ومستقبل الأَدهار؛ فإنّ المسيحيين في نظر القرآن هم أهلُ الشراكة الأفضَل للمسلمين: ﴿ولتجدنَّ أقربَهم مودَّةً للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورُهْباناً وأنهم لا يستكبرون. وإذا سمعوا ما أُنزل إلى الرسول ترى أعينَهُمْ تفيضُ من الدمع مما عرفوا من الحقّ يقولون ربَّنا آمنّا فاكتُبنا مع الشاهدين﴾ (المائدة: 82-83). وهكذا ومرةً أُخرى هناك الاعتقاد الواحدُ، والمتمثّل بالشراكة في الإيمان وقيمه والعمل الصالح، ووحدة النظرة إلى إنسانية الإنسان بين المسيحيين والمسلمين، وهما الضمانُ والضمانةُ لسواد أخلاق المودة والرحمة في العلاقة بين الجماعتين، وفي علائقهما معاً بسائر بني البشر، انطلاقاً من الإلزام الإلهي بالكلمة السواء، والالتزام الأخلاقي برعاية ذلك فيما بينهم، ومع الناس أجمعين.
إنَّ هذه "الكلمةَ السواء" المؤسَّسة على الوحدانية، والمسدَّدة في الحياة الإنسانية بالْمُساواة وعدم التربُّب تحكُمُها وتحرسُها قيمٌ وأخلاقٌ هي " الوصايا العشر" لدى أهل الكتاب، وهي ذاتُها قيمُ الكرامة والرحمة والعدل والتعارُف والخير العامّ، التي تتكرر عشرات بل مئات المرات في القرآن الكريم. وهي تَرِدُ بثلاثة أشكالٍ وسياقات. فهي تَرِدُ أولاً والمخاطَبون بها المسلمون, إمّا للأمر بها أو باعتبارها سِماتٍ لهم. وهي تَرِدُ ثانياً باعتبارها من قيم التماثُل والشراكة بينهم وبين المسيحيين. وهي ترِدُ ثالثاً بوصْفها استباقاً أو تسابُقاً أو تنافُساً حميداً بين المسلمين والمسيحيين في التعامُل بين الجماعتين، وفي تعامُلِهِما معاً مع البشر الآخرين، سواء على سبيل الدعوة، أو على سبيل طرائق التعامُل. فالمسيحيةُ والإسلامُ لا يتشاركان في الوحدانية فقط؛ بل يتشاركان أيضاً باعتبارهما دينَين تبشيريَّين أو دَعَويَّين، بلُغة المسلمين. فالإسلامُ يرى نبيَّه مُرسَلاً رحمةً للعالمين، والمسيحيةُ ترى دعوتَها بُشرى بالخلاص. وهكذا فإنّ الدعوةَ أو التبشير أو الشهادة على بني البشر أو أمام الله تعني أصلاً الحرصَ بالمعنى الإيجابي على إشراك الآخَر العالَمي في هذه الخيرات الإلهية(وهي خيراتٌ قيميةٌ وأخلاقية في الأساس), والتي حصل عليها المسيحيُّ كما حصل عليها المسلم.
ب. صراعاتُ الهيمنة واختلالات العلائق: إذا كان هذا التوحُّد والتآزُرُ قائماً على مستوى الاعتقاد وعلى مستوى المنظومة الأخلاقية، فكيف حدث الاختلال إذن؟ وهو بالفعل اختلالٌ عظيم. فمنذ كانت المسيحية، ثم كان الإسلام، ظهرت وانتشرت نزاعاتٌ هائلةٌ في المجالات المتجاورة والمتباعدة، وعلى المستويات المحلية والعالمية. وقد اتخذت تلك النزاعات والصراعات أسماءً وعناوينَ مختلفة، مثل العرب والبيزنطيين، والمسيحية والإسلام، والحروب الصليبية، والعثمانيين والأوروبيين، والشرق والغرب. وقد أراد بعضُ المؤرّخين نسبة ذلك إلى الاختلافات في الاعتقاد. وقد يمكن النَظَرُ في ذلك، لولا أننا نعرفُ أنه حتى الحروب ذات الصبغة الدينية كانت لها أُصولٌ وخَلْفياتٌ لا علاقة لها بأديان المتحاربين. ثم إننا نحن جميعاً نعلم أنّ حروبَ أهل الدين الواحد أو الاعتقاد الواحد كانت أفظعَ وأعظمَ من مثيلاتها مع الآخرين الذين لا يقولون بالعقيدة ذاتها، ولا ينتمون إلى الحضارة ذاتها. ولذلك لا بُدَّ من البحث عن أسبابٍ أُخرى للنزاعات بين المسيحيين والمسلمين، وبين هؤلاء وأولئك من جهة، وأرباب الديانات والعقائد الأُخرى من أُمَم العالم. ودعوني أستبق الأُمور بعض الشيء فأُذكِّر بـما قاله الدالاي لاما عام 1999 عندما كانت حركة طالبان تقصِفُ بالمدفعية تماثيل بوذا بالباميان، وهي مقاطعةٌ بأفغانستان دخلت إليها البوذيةُ في القرن الخامس أو السادس للميلاد. قال الدالاي لاما: لقد مضت علينا قرونٌ وقرونٌ في جنوب آسيا وشرقها، ونحن نشهدُ ونعاني من صراع المسيحيين والمسلمين فيما بينهم، وعلى ديارِنا وإنساننا. إنهم يحبون السطوة والسيطرة، ولا يستطيعون قَبولَ الآخَر على قَدَمِ المساواة (انتهى الاقتباس). فالتشخيص والتوصيف الصحيح للنزاعات بين بني البشر حتّى لو كانوا من أهل الدين الواحد أنّ سببَها هو الذي ينهانا القرآن الكريم عنه في آية الكلمة السواء: ﴿ولا يتّخذَ بعضُنا بعضاً أرباباً من دون الله﴾، أي إرادة التربُّب والاستكبار في مصطلح القرآن، وإرادة الهيمنة في التعبير الحديث والمُعاصر. لا شكَّ إذن في الاختلال الحاصل قديماً وحديثاً في العلائق بين الأُمَم والأديان والثقافات، والذي مردُّهُ كما سبق القولُ إلى سواد إرادة الهيمنة من هذا الجانب أو ذاك. وقد ترتبَّت عليها نزاعاتٌ وحروبٌ عالميةٌ عسكريةٌ واقتصاديةٌ وثقافية. ومع أنه لا يمكنُ بالفعل نسبةُ ذلك كُلِّه على المستوى العالمي إلى المسيحيين والمسلمين وحدهم؛ لكنّ الطرفين يتحملان على العموم أقداراً كبيرةً من المسؤولية عن الاخـتلالات والنـزاعات؛ وذلك لأسبابٍ ثلاثة - السبب الأوَّل: امتلاك المنهج الشامل للخلاص من طريق الاعتقاد، ومن طريق التبشير والدعوة، ومن طريق الشهادة وتحمُّل أعباء الأمانة. فالمسيحيةُ ديانةٌ عالميةٌ في منهجها ودعواها، والإسلامُ دينٌ عالميٌّ في نهجه ودعواه، وكلا الدينَين الإبراهيميَّين يضعان على عاتق أتباعهما مسؤوليات الخلاص والسعادة والنجاة، والشهادة أمام الله على البشرية، كما الشهادة للبشرية، من منطلق الإيمان والفداء لدى المسيحيين، والرحمـة والأمر بالمـعروف والنهي عن المنكر لدى المسلمين. والسبب الثاني: ضخامة الأحجام والأدوار لأتباع هاتين الديانتين, واللتين أدّتا وتؤديان هذه المهامّ على المستوى العالمي، منذ القرون الوسطى وحتى اليوم. فمنذ القرن التاسع الميلادي حقَّقت الديانتان انتشاراً شاسعاً في سائر قارات العالم القديمة. والأهمُّ من ذلك أنه كان لهما وما يزال إشعاعٌ ثقافيٌّ ضخمٌ، وتأثيرٌ غلاّبٌ في الأفكار ومنظومات القيم ومناهج العيش والتصرف. وكما كان الإسلامُ تأسيسيَّ التأثير العَقَدي والثقافي والسياسي في عوالم العصور الوسطى؛ كان للمسيحية أو المسيحيات وما يزال تأثيرٌ عظيمٌ في عوالم الأزمنة الحديثة على مستوى العالم. وهذا كلُّهُ إضافةً لضخامة أعداد المؤمنين بالديانتين مقارنة بأي دينٍ آخر، لا من حيث العدد فقط، بل من حيث التأثير في تاريخ العالَم وثقافاته أيضا. والسبب الثالث: الدورُ الكبيرُ الذي لعبه الدينان في النُقلة الكونية التي شهدها العالَم ويشهدُها بين الرُبع الأخير من القرن العشرين والرُبع الأول من القرن الحادي والعشرين. فقد كان هناك اصطفافٌ بروتستانتيٌّ كاثوليكيٌّ إسلاميٌّ في مواجهة النظام العالمي الثُنائيّ القُطبية الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية في الجانب الجيوسياسي والاستراتيجي، كما في الجوانب الدينية والثقافية. وكما في كلّ مرحلةٍ تاريخيةٍ فاصلة؛ فإنّ إرادات الهيمنة أدَّت إلى تفكُّك هذا الاصطفاف وتراجُع ثِماره في مجال إقامة نظامٍ عالميٍّ جديد؛ لكنّ النُقلة كانت قد تحقّقت، وأفادت منها أُمَمٌ كثيرةٌ في إعادة ترتيب حياتها ومصائرها وسط الظروف والشروط الجديدة.
مَرَّ اختلالُ العلائق بين الدينين والجماعتين البشريتين الكبيرتين إذن بمرحلتين تاريخيتين مديدتَين: الأولى منذ القرن السابع الميلادي وحتى القرن السادس عشر الميلادي. والثانية منذ القرن السادس عشر وإلى أواخر القرن العشرين. في المرحلة الأولى -وعلى مدى تسعة قرونٍ على وجه التقريب- ظهر الإسلام وانتشر، وحقّق لصالحه تغييراً استراتيجياً لجهة السيطرة من جانب إمبراطورياته على أجزاء واسعة من آسيا وإفريقيا وأوروبا، كما السيطرة على المحيط الهندي والبحر المتوسط. وقد انتصر على الإمبراطورية البيزنطية المسيحية على المستوى الجيوسياسي في النهاية؛ إذ بعد مقاومةٍ استمرت حوالَي الثمانمائة عام استطاع العثمانيون فتح القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية؛ لكنّ المسلمين ما استطاعوا تحقيق تقدمٍ بالقدْر نفسِه في المجالات الدينية والثقافية، على الأقلّ بحسب ما كانوا يرغبون؛ إذ كانت رغبتُهُم -أو لنقُل طموحُهُم-أن يعترف بهم اللاهوتيون المسيحيون باعتبار دينهم ديناً إبراهيمياً مثل المسيحية واليهودية. فقد تبيَّن من العرْض السابق أنّ النبيَّ محمداً والقرآن كانا يتوقان إلى اعترافٍ مُتبادَلٍ على أساس الاشتراك في الدين الواحد أو الوحدانية والمنظومة القيمية. أمّا مسيحيو الديار التي فتحها المسلمون في القرنين السابع والثامن فقد نظروا إلى الإسلام بوصفه سَوطاً إلهياً لمعاقبة سادتهم من البيزنطيين، ومعاقبة المسيحيين أنفُسِهِمْ؛ لأنهم أهملوا القيامَ بواجباتهم الدينية. في حين نظر اللاهوتيون البيزنطيون إلى الإسلام باعتباره تحريفاً وتشويهاً للمسيحية الحقَّة. ولذلك فقد رجا الطرفان: -السريان المتعرّبون، والبيزنطيون- أن تتضاءل قوة أولئك الذين يرونهم بدوًا غزاة ثم يزولون، كما زالت موجاتٌ بدويةٌ جَزَريةٌ من قبل. هذان النزوعان نجدُهُما في كتابات مؤرّخي السُريان ولاهوتييهم، ومؤرخي الأرثوذكس والبيزنطيين ولاهوتييهم فيما بين القرنين السابع والتاسع للميلاد. لكنْ أين نجدُ رغبة وطموحَ المسلمين لاعتراف المسيحيين بدينهم؟ نجد تلك الرغبة وذاك الطموح في الأعمال الكثيرة في النوع الأدبي المعروف باسم" الردّ على النصارى", فهناك أبوابٌ طويلةٌ عريضةٌ في تلك الردود في إثبات صحة نبوة النبي محمد، وأنّ ذلك واضحٌ في التوراة والإنجيل. ويُضاف لذلك حديثٌ طويلٌ أيضاً في أهمية فكرة الوحدانية للإسلام، وفي صحة الوحْي القرآني، وأنه أَوضحُ لهذه الناحية وأدقّ من العهدين القديم والجديد. وقد أدرك ابن كمُّونة المفكّر اليهودي أهمية هذا الاعتراف وحساسيتَهُ بالنسبة للمسلمين، فكتب كتابه: الإنصاف للديانات الثلاث"، ذاهباً إلى التوحُّد في الأصل الإبراهيمي، والتكامُل في الفضائل فيما بينها؛ بيد أنّ المسيحيين ردُّوا عليه أكثر من المسلمين. وقد أدّى ذلك الإنكار المتمادي إلى ظهور اتجاهاتٍ راديكاليةٍ لدى مفكّري المسلمين، فكان هناك مَنْ قال: ما دمتم لا تعترفون بديننا، فنحن لا نعترفُ بدينكم؛ مع أن ذلك يخالف صريحَ القرآن! ثم كان هناك مَنْ قال: إنّ الدليلَ على صحة الإسلام أنه حقّق نجاحاتٍ كبرى في الامتداد وعدد الأتباع، وهذه بالطبع حُجّةٌ فيها ما فيها! وعلى أي حال، وعلى مشارف القرن السادس عشر، كانت المسيحيةُ قد استجابت للتحدي بأشكالٍ مختلفة، من مثل الحروب الصليبية لغزو واحتلال قبر المسيح، ومن مثل استعادة الأندلس وجزر البحر المتوسط من السيطرة الإسلامية، والاستيلاء على شواطئ الجزيرة العربية، وشواطئ المغرب. وعندما كان البرتغاليون يتجولون في المحيط الهندي في القرن السادس عشر، كان الوضْع من الناحية الاستراتيجية قد بدأ يميل لصالح أوروبا المسيحية. أمّا من الناحية اللاهوتية والثقافية في العلاقة مع الإسلام؛ فإنّ أيَّ تغيُّرٍ باتجاه الاعتراف بالإسلام أو الحوار معه ما كان قد حصل منذ ظهوره في الربع الأول من القرن السابع الميلادي.
بدأت المرحلة الثانية إذن في القرن السادس عشر الميلادي، وتميّزت بهجومٍ برتغاليٍّ في المحيط الهندي. وبعد البرتغاليين جاء الأسبان والهولنديون والفرنسيون والبريطانيون والإيطاليون. واقترن هذا الهجوم المتعدد الرؤوس خلال القرون الثلاثة اللاحقة بأربعة ظواهر: حركة الكشوف الجغرافية والاستيلاء على العالم الجديد من جانب القوى الأوروبية الناهضة، وحدوث الانشقاق الكبير بداخل المسيحية، بحيث أدّى ذلك إلى فِصاماتٍ في رؤية العالَم، وعلائق الدين بالدولة، وتعدُّد مشروعات السيطرة على العالم باسم المسيحية تارةً وباسم الغرب تارةً أُخرى. والظاهرة الثالثة سيطرة فكرة الرسالة في سائر مشروعات الهيمنة والاستيلاء على العالم، وهي رسالةٌ مسيحيةٌ تارةً، ورسالةٌ حضاريةٌ تارةً أُخرى. والظاهرة الرابعة سواد ذهنيات التراجُع والانكفاء لدى المسلمين، والتي قابلتْها لدى الطرف الآخَر رغباتٌ غلاّبةٌ بالامتلاك المعرفي والتبشيري والعسكري. وهكذا، وإنْ بدا كأنما تلك الاندفاعةُ الهائلةُ بحراً وبراً المقصودُ بها امتلاك العالَم الإسلامي فيما يُشبهُ الحروب الصليبيةَ الجديدة؛ فإنّ الأمْرَ كان أشمل من ذلك، ورمى -وبجَهدٍ واعٍ ومتصلٍ ومنظَّمٍ- إلى السيطرة على العالم بالقوة العسكرية، وبالتفوق التقني والثقافي، ثم التصارُع على اقتسامه بالتنافُس وبالغَلَبة وبالتشارك في الوقتِ نفسِه. ولذلك، ففي الوقت الذي كان يعادُ فيه صُنْعُ العالَم الجديد المكتشف على صورة الغرب المرغوبة، كانت الحضاراتُ الآسيويةُ الكبرى: الإسلامية والهندية والصينية تتعرضُ إلى جانب الاستيلاء لإعادة تشكيل وتركيبٍ لذاتِها ووجودها وأولوياتها. وقد أوشكت هذه العمليةُ أن تُنجَز في أواسط القرن التاسع عشر, حين سيطرت على العوالم الآسيوية الكبرى فكرتا التقدم والتلاؤم الأوروبيتين أو الغربيتين، وصار محكوماً على الرافضين للفكرتين أو المُمارستين بالانقضاء أو الفناء باسم التخلُّف عن ركْب الحضارة والنهوض التاريخي. لقد سادت بين المغلوبين الآسيويين على الخصوص فكرةُ الانحطاط أو الاضمحلال الحضاري، وأنّ البقاء للأقوى والأصلَح، وأنّ هذا الأمر كما يسري على الأُمَم، يسري على الأديان والثقافات. ووقْتَها راجت لدى النُخَب الإسلامية الجديدة الفكرةُ التي روَّجَها الاستشراق عن الانحطاط الإسلامي الطويل، على مدى حوالي الألف عام، وأنّ الخروج من التخلُّف إنما يكونُ بالانضمام إلى الركْب الذي يقودُهُ الغربُ المهيمنُ على المستوى العالمي.
خلال القرون الأربعة الماضية تعرض المشروع الغربيُّ للهيمنة على العالم لثلاثة تحدياتٍ داخلية: تحدّي الانقسام بداخل المسيحية، وتحدّي الصراع على اقتسام العالَم، وتحدي القومية الألمانية والرسالية الشيوعية. في الحالة الأولى -أي الانقسام داخل المسيحية- أمكن بعد حروبٍ ضارية التوافُق على إبعاد الدين عن إدارة الشأن العامّ، وإحلال الرابطة القومية والوطنية محلّ الرابطة الدينية. وفي الحالة الثانية -أي الصراع على اقتسام العالَم- أمكن -بعد قرنين من التجاذُب والحروب- التوصُّل إلى إقامة نظامٍ دوليٍّ لتنظيم العلائق بين الوحدات القومية ذات السيادة في أوروبا، وفي مستعمراتها على مدى العالَم. وفي الحالة الثالثة -أي التحدي الألماني والسوفياتي- جرت الاستعانةُ بالولايات المتحدة الأميركية التي تعاونت في ضرب ألمانيا واستيعابها، ومشاركة روسيا في نظامٍ ثُنائيّ القُطبية، إلى أن تمكّنت الولاياتُ المتحدةُ وحلفاؤها قبل رُبع قرنٍ من تفكيك الاتحاد السوفياتي ومنظومته. بيد أنّ محاولتَها لتسويد الأوحدية القُطبية من جديد لقيت وتلقى تحدياتٍ كبرى، مما يفرضُ بالفعل تطوير نظامٍ عالميٍّ جديدٍ، ما تزال تحولُ دون بلْورتِهِ تجارب القرون الثلاثة الأخيرة من الهيمنة الاستراتيجية والثقافية على العالم.
لقد كان موضوعُ هذه المحاضرة وما يزال منظومة القيم والعلاقات بين المسيحية والإسلام. وما كانت الصفحاتُ الأخيرة استطراداً؛ بل إنها كانت عرضاً موجزاً للمرحلة الثانية من مرحلتي العلاقة بعد حقبة التأسيس. أما المرحلةُ الأُولى فيما بين القرنين السابع والسادس عشر، فقد تميزت بظهور الإسلام، وسواد ثقافته وكياناته السياسية. وفي حين رأى الإسلام نفسَه منذ التأسيس القرآني ديناً إبراهيمياً, واستهدف السعْيَ لتأسيس شراكةٍ مع الديانتين الإبراهيميتين الأُخريين، وحقّق بعض التجارب الناجحة مثل التجربة الأندلسية التي تزامل فيها المسلمون واليهود والمسيحيون، ما قَبِل اللاهوتيون المسيحيون منذ البداية الاعتراف بالإسلام، رغم التشابُه إلى درجة التوحُّد أحياناً في الاعتقاد ومنظومة القيم. ويعتقد المؤرّخ توبي هاف أنه فيما بين القرنين التاسع والسادس عشر؛ ظهر تعاوُنٌ وصل إلى حدود الشراكة بين ثلاث حضاراتٍ كبرى هي: الحضارة الإسلامية، والحضارة الصينية، والحضارة الأوروبية المسيحية. بيد أنّ السطوة الأوروبية بعد القرن السادس عشر تنكَّرت للتجربة السابقة، ونسبت نفسَها وانتماءَها إلى الأزمنة الإغريقية والرومانية الكلاسيكية، وطوَّرت مشروعاً للغَلَبة والهيمنة اتّخذ مَدَياتٍ كَونية، وكان من ضمن مجالات سطوته وسيطرته عالَمُ الإسلام أيضاً.
إنّ الأهمَّ في تجربة السيطرة الأوروبية فالغربية أنها لم تكن عسكريةً واستراتيجيةً واقتصاديةً فقط؛ بل هي سيطرةٌ قيميةٌ وثقافيةٌ أيضاً؛ أي في الأفكار ومناهج وأساليب الحياة والعيش. ولذلك، فكما أنها وُوجهت بمقاومةٍ ومحاولاتٍ للتملُّص على مدى العالم وثقافاته ودياناته؛ فإنها تركت أيضاً آثاراً باقيةً لن تزول في إعادة تشكيل العالم وجغرافيته وثقافاته بحسب نموذجها الخاصّ أو على مثالها. ومع أنّ أحد علماء المسلمين قال: ما تنصَّر الروم (أي الأوروبيون)؛ بل إنّ النصرانية تَرَوَّمَتْ؛ فلا شكَّ أنّ العالم القيمي المسيحي ظلَّ ذا تأثيرٍ كبيرٍ على الأوروبيين والأميركيين في مواطنهم الأصلية، كما في مستعمراتهم، ومواطن امتداد هيمنتهم. ومن هناك تأتي تلك الازدواجية في مقاربات ووجوه فهم وإدراك أوروبا وأميركا لديانات العالَم وثقافاته وأُمَمِه وتاريخه ومصائره. ثم إنه في الوقت الذي تراجع فيه تدخُّلُ المؤسسات الدينية بالدواخل الأوروبية في القرن التاسع عشر ومطالع العشرين، كان هناك اندفاعٌ ملحوظٌ في حركات التبشير باتجاه سائر أنحاء العالَم التي نشر الغربُ نفوذَه فيها، ومن ضمن تلك الأنحاء قارتا آسيا وإفريقيا وبلدان العالم الإسلامي في القارتين القديمتين.
جـ. الحوارُ المسيحي/الإسلامي وصراع الحضارات والأديان: على أثَر الانتصار في الحرب العالمية الثانية، وبدء الثُنائية القُطبية والحرب الباردة، بادرت الكنائسُ البروتستانتيةُ الكبرى إلى التواصُل مع بعض الجهات الإسلامية بالقارة الهندية والشرق الأوسط، من أجل الدعوة لشراكة الإيمان في وجه الشيوعية المُلْحِدة، كما قالوا. وقد كان واضحاً أنّ تلك المبادرة إنما حدثت في سياق الحرب الباردة والحرب الثقافية بين الجبَّارين. وقد رحَّب بعضُ المسلمين بهذه البادرة باعتبارها الأُولى منذ آمادٍ سحيقةٍ وبخاصةٍ أنها لا تجري في سياقات الردود والجدالات. لكنهم طالبوا باعترافٍ متبادَلٍ على المستوى الديني، كما طالبوا بالتضامُن الديني والقيمي في وجه الهيمنة، والتعاوُن في إزالة آثار الاستعمار وتقسيماته، ومن ضمن ذلك قضيتا فلسطين وكشمير. وقد تفاوتت ردود الفعل لدى الكنائس على هذه التردُّدات. فقد كان هناك مَنْ قال: إنه لا تأثير للكنائس على سياسات الدول، كما كان هناك مَنْ قال: إنّ تحقيق الشراكة في مسألة الإيمان يمكن أن يكونَ مقدِّمةً لبحث القضايا التفصيلية. وتحقّقت خطوةٌ متقدمةٌ فَتَحَتْ منافذَ كثيرةً في مجمع الفاتيكان الثاني(1962-1965) الذي طُرحت فيه للمرة الأولى مسألةُ النَسَب الإبراهيمي، والاعترافُ بانتماء الدين الإسلامي إلى هذا النَسَب. ومع أنّ الإسلامَ لا يملكُ مؤسَّسةً مركزيةً تُتَّخذُ فيها القراراتُ الاستراتيجية، فالمفهومُ أنّ العلاقات الإسلامية/المسيحية اتجهت للتحسُّن عندما طُرح الملفُّ القيمي في الستينات والسبعينات من القرن الماضي. إنما ما تحقَّق تقدمٌ كبيرٌ رغم المؤتمرات الكثيرة للفهم المُتفاوت للنسب الإبراهيمي، وللأبعاد الدينية والسياسية للقضية الفلسطينية. وأخطأ الروسُ خطأً كبيراً بالتدخُّل العسكري في أفغانستان، فبدا كأنما هناك حِلْفٌ غير معلَنٍ قد قام بين البروتستانت والكاثوليك والمسلمين بقيادة الولايات المتحدة لمكافحة الشيوعية. ثم ما لبث كلُّ شيء أن تعطَّل أو انقلب عندما ظهرت فكرةُ صراع الحضارات، وتوجُّهات الهيمنة بعد انقضاء الحرب الباردة، وعندما كان الجميع -بـمن فيهم المسلمون- ينتظرون التَلاقي على المنظومة القيمية الإبراهيمية، والتلاقي على نظامٍ عالميٍّ جديد.
لقد شهد العقدان الأخيران من السنين إحيائياتٍ كبرى في سائر الأديان، وبخاصةٍ البروتستانتية والإسلام واليهودية. ومن خلال شعارات الخطر الأخضر وصراع الحضارات ومُجازفات التشدد والأُصوليات، استقرّ في أخلاد مسلمين كثيرين أنّ هناك توجُّهاً عالمياً كبيراً وغلاَّباً لمواجهة الإسلام باعتباره الخطرَ الجديدَ على العالم بعد انقضاء الشيوعية والثنائية القطبية. وقد اقترن ذلك بمقولات الهيمنة والأوحدية القطبية باعتبارهما الضمانَ للحرية والسلام في العالم في وجه " الإرهاب الإسلامي"، والاستثناء العربي، والاستثناء الإسلامي؛في مواجهة قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والسلام. وجاءت هجماتُ القاعدة في 11 سبتمبر عام 2001 كأنما لتُدلِّلَ على الأخطار التي يشكّلُها الإسلام على العالم. وحتى الحروب التي دارت ضدَّ الإرهاب، جرت تغطيتُها ليس بمكافحة العنف باسم الإسلام فقط؛ بل وبضرورة فرض قيم التسامُح والانفتاح والديمقراطية التي لا تنتشر ثقافتُها بين المسلمين. وحتّى أولئك الذين ما كانوا يقولون بالمواجهة ولا يرون جدْواها، أقبلوا على دعوة المسلمين إلى التلاقي على قيمٍ مشتركةٍ أو أخلاقٍ عالمية، كان واضحاً لديهم أنّ الديانات الأُخرى الإبراهيمية وغير الإبراهيمية تملكُها وهي حاضرةٌ فيها، أمّا المسلمون فينبغي أن تتطور لديهم تلك القيم والأخلاق من خلال إصلاحٍ دينيٍّ راديكالي! ثم انطلقت حركاتُ التغيير العربي الداعية لقيم وشعارات الكرامة والحرية والعدالة والديمقراطية، فَتَهاوت دُفعةً واحدةً أدبياتُ الصراع على مدى العشرين سنةً الماضية. وبدا أنّ إرادات الهيمنة واستراتيجيات الصراع والاستنزاف هي التي كانت تصنعُ التوتُّرات أو تدفعُ إليها. وربما كانت تلك السياسات الصراعية هي التي أخَّرت حدوثَ التغيير والتحول السلمي هذا على مدى العشرين سنةً الماضية!
د. رؤيةٌ مفتوحةٌ لعالمٍ جديد: يقولُ أبو الحسن العامري(381هـ) وهو مفكّر مسلم عاش في مطلع القرن الحادي عشر الميلادي، في كتابه: "الإعلام بمناقب الإسلام" مُعلِّلاً إقبال الناس على الإسلام وتركهم لدياناتهم القديمة: إنّ تلك الأديان كانت تقسمُ الناس إلى مراتب وطبقات، وهو أمرٌ لا تقبلُهُ النفوسُ الأبية. وهذا معنى دعوة القرآن للمسلمين والمسيحيين واليهود ألا يتخذ بعضُهم بعضاً أرباباً من دون الله. لقد أفسدت إراداتُ الهيمنة وممارساتُها العلاقات ليس بين أهل الديانات الإبراهيمية فقط؛ بل بين سائر البشر وعبر عصورٍ مُتطاولة. وقد راجعْتُ في هذه الكلمة مسؤوليات المسلمين والمسيحيين وتبِعاتهم في عمليات الفساد والإفساد، وبخاصةٍ أنّ كثيرين من رجالاتهم يستحضرون الدين والخُلُق لتعليل هذا التصرُّف أو ذاك. وهذا أمرٌ يستحقُّ الاهتمام والاحترام إذا أُخِذَ مأخذ الجِدّ وليس للتغطية أو الاستغلال. ففي القرآن الكريم يرد وبصيغٍ مختلفةٍ ومئات المرات قولُهُ تعالى: "الذين آمنوا وعملوا الصالحات" فالإيمان ينبغي أن يكونَ دافعاً للعمل الصالح؛ لأنه يستتبعُ منظومةً من القيم تتمثّل في المساواة والحرية والكرامة والرحمة والعدالة والتعارُف والخير العامّ. ومن طريق هذه المنظومة تُصانُ الضروراتُ الخمسُ التي تحدَّث عنها الفقهاء في المسألة الإنسانية، وهي: حقُّ النفس أو الحياة، وحقّ العقل، وحق الدين، وحقّ النسْل، وحقّ المِلْك. وقد يقولُ قائلٌ: إنه لا ضمانات لتطبيقها، وتجاربُ الأُمَم الداخلية ومع الأُمم الأُخرى تُثبتُ أنّ هذه الحقوق ما رُوعيت في أغلب الأحيان، إمّا من جانب الناس بعضِهم مع بعض، وإمّا من جانب السُلُطات تُجاه الناس. وهذا هو الفرقُ بين المسؤولية الدينية والأخلاقية، والمسؤوليات الأُخرى المدنية والسياسية. ففي المسؤولية الدينية والأخلاقية هناك الدوافعُ الداخلية، والالتزام الذي يصنعُ العمل الصالح من ضمن القصْد والحرية والاختيار ووعي الدوافع والأهداف. والواقع أنه كانت هناك دائماً ضغوطٌ على الأفراد المتديّنين بهذا الاتجاه أو ذاك، فلا يبقى من خلال التجربة غير "الباب الضيّق"، أو كما جاء في الحديث إنه يأتي على الناس زمانٌ يكونُ فيه القابضُ على دينه كالقابض على الجَمْر. لكنّ شأنَ المؤسسة الدينية أو السلطة مختلفٌ عن شؤون الأفراد, وهذه الجهات تميلُ في الغالب إلى السهولة، والتمظْهُر. واختيار التسلط والهيمنة أسهل بكثير من اختيار قيم وسلوكات الأخلاق والمسؤولية والرحمة للناس والعمل من أجلهم. فماكس فيبر على سبيل المثال يرى أنّ أخلاق المسؤولية لدى السياسي شاقّة الاتّباع، لكنّ هذا هو الفرْقُ بين رجل الدولة الكبير والسياسي العادي.
إن التجربة التاريخية في العلاقة بين الدينين الكبيرين المسيحية والإسلام، بل وتجربة السنوات العشرين الماضية في المجال الديني والسياسي، تشيران إلى ضرورة تجاوُز الهيمنة والإلغاء من الناحية الدينية من طريق التعارُف والاعتراف بالتعددية الدينية والثقافية، كما تؤكدان على الاعتراف بتعدديةٍ قُطبيةٍ في المجال السياسي من طريق الاعتراف المتبادَل بالحقوق والمصالح. ففي المجال الديني كانت المشكلةُ دائماً الإيمان بإطلاقية الحقيقة التي يقولُ بها، والميل الجارف لإلغاء الآخر الديني، واعتبار دينه مزيَّفاً. والكلمةُ السواء في القرآن الكريم تعني الاعتراف بالآخر ديناً ووجوداً إنسانياً وعدم الاتجاه لإلغائه. والهيمنةُ السياسية كانت تعني وما تزال عدم احترام حقوق أو مصالح الآخرين اعتماداً على ضعفهم أو عدم استحقاقهم. وها هي ذي حركات التغيير العربية الجارية تُثْبت كم تولَّد على هذا الإقصاء من مرارةٍ، وإرادةٍ للذهاب في الاحتجاج إلى حدود الاستشهاد من أجل الكرامة المهضومة؛ بيد أنّ ما نذكره لا يعتمد على الاقتناع الذاتي فحسْب؛ بل يعتمد أيضاً على التوازُن والعدل، وعدم إمكان الاستمرار والتمادي على المستوى المحلي أو الدولي بسبب تزايُد الوعْي، وتداخُل العوامل غير المحسوبة سلفاً. ولننظر في تجربة المسيحية مع الإسلام في الأزمنة المُعاصرة، نجد أنّ المسيحية يكونُ عليها أن تؤدّي دوراً مهماً في التعارُف والاعتراف، وفي قضية فلسطين، وفي رعاية وحفظ العيش المشترك، ولا يرجع ذلك إلى تبادُل المنافع؛ بل إلى المسؤولية والشهادة، رغم أنّ المصالح يمكن أخذُها بالاعتبار حتى في الدِّين. ثم إنّ صرخة الدالاي لاما -التي ذكرناها في مطلع الكلمة- تشير إلى ضرورات تأمُّلٍ نقديٍّ للذات، ما عاد يمكن تجاوُزُهُ أو الاستغناءُ عنه. ولا شكّ أنه لا مَنْجى للخروج من الهيمنة الطغيانية إلا بالتعددية القطبية، وهي الأُولى في حفظ الاستقرار والتوازُن. لقد ظهر الآسيويون الكبار، وما عاد يمكن تجاوُز الصين أو الهند أو اليابان أو إندونيسيا أو تركيا أو البرازيل. وهذه" الفلسفة" ليست مصلحية، فقد علمتنا التجارب القديمة والمعاصرة أنّ الوحدانية في القطبية تصنع الحروب والفوضى، ولا بد من عالمٍ جديدٍ متعدد الأقطاب.
في عام 1972 -وعندما كانت حرب فيتنام ما تزال مشتعلة- أصدر جون رولز كتابه: "نظرية العدالة"، فتقدم -وهو الفيلسوف المدني- على رجال الأديان في هذا الموضوع القيمي. وبعد الهيمنة والاستئثار والاستنزاف وصراع الحضارات، يكون علينا -نحن المسلمين- وعلى المسيحيين، ومن أجل الإيمان والعمل الصالح الاتجاهُ للموضوع القيمي؛ لتجاوز الإنكار والهيمنة والإلغاء من جهة، وللنظر من جديد في القيام بعمل مشتركٍ بين الدينين الكبيرين ما استطعنا القيام به معاً ولا بالتعاون مع العالم، رغم ضرورة ذلك لحاضر العالَم ومستقبله. وذلك من خلال النقاط الأربع التالية:
أولاً: إنّ دراسةً متأنيةً لأسباب الافتراق بين المسيحيين والمسلمين في التاريخ والحاضر -رغم الاتفاق في الاعتقاد وفي منظومة القيم- تشير إلى أنّ إرادة الهيمنة كانت دائماً وراء ذلك. ولذا فإنّ الإصلاح للعلائق على المستوى الديني وعلى المستوى الاستراتيجي يقتضي العودة للتمسك بالمنظومة القيمية ليس بين المسلمين والمسيحيين فقط؛ بل وفي العالم أجمع, وهي تقوم على المساواة والكرامة والحرية والرحمة والعدالة والتعارف والخير العام. وقد جاء في القرآن الكريم: ﴿فإن تولَّوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون﴾، وهذا يعني الإصرار على الالتزام بالمنظومة وقيمها وإن لم يستجب أهل الكتاب لذلك؛ بيد أنّ الالتزام برفض التربُّب والاستكبار والهيمنة إن لم يحصل على دعم وموافقة المهيمنين؛ فلا شكَّ أنه سيحصل على استجابةٍ من الجهات التي عانت ما يُعانيه المسلمون أو غيرهم من الهيمنة والاستئثار. ويعني ذلك في المدى المتوسط الدخول في تحالُفٍ بين الحضارات، حريٌّ أن يحصل على الإجماع في مدىً منظور عندما يرى المهيمنون استحالة الاستمرار منفردين.
إنّ هذا الإصرار على مغادرة معسكرات وترتيبات الهيمنة عِلَّتُهُ النظر فيما كان زمنَ الحرب الباردة، وفي العقدين الأخيرين. فالنظام أو اللانظام الأول كان فيه توافُقٌ على المنع من الحرية، والنظام الثاني كان فيه تشبُّثٌ بالأوحدية القطبية المدمِّرة. لقد فشلت الهيمنة كما فشل نظام الحرب الباردة من قبل، ودخل المسلمون -شأنهم في ذلك شأن العالم كلّه-في زمنٍ جديدٍ لرفض الهيمنة، ولتسويد قيم التعارُف والاعتراف والحرية والكرامة. وهذه القيم التي تنبعُ في الأصل من الدين الإبراهيمي، يمكن بالإخلاص والالتزام والشهادة والدعوة أن تكونَ مناطَ اهتمامٍ عالمي. لقد تعذّر -رغم الجهود الكبيرة- إقامة العلاقات بين أهل الدين الإبراهيمي على أساسٍ من هذه القيم. وينبغي قراءةُ هذه الحقيقة قراءةً نقديةً، وعدم فقد الأمل في التلاقي على قدم المساواة، إذا وطَّن كُلّ فريقٍ نفسَه على مفارقة الهيمنة والاستكبار واعتقاد التفرد بالحقيقة والسيطرة باسمها.
ثانياً: إنّ الإصرار على الاختلاف والاعتراف والمسالمة والتسابُق في الخيرات في المجال الديني والأخلاقي، رفضاً للهيمنة والاستضعاف والسطوة، يعني أيضاً ومن الناحية القيمية تعدديةً في المجال الاستراتيجي العالمي. فالعالم كما عانى من سلبيات الهيمنة باسم الدين، عانى أكثر من سلبيات الهيمنة باسم الحرية أو الاستقامة السياسية أو حفظ الأمن والاستقرار. لقد كان طموح البشرية إقامة أنظمةٍ للحرية الإنسانية والدينية والسياسية، وإقامة نظامٍ عالميٍّ يتساوى أطرافُهُ ويتعاونون ويتضامنون من دون هيمنةٍ ولا استضعاف، بل بالندّية وقيم التعددية الدينية والثقافية والسياسية. وقد كان هذا طموح البشرية عشية الانتصار في الحرب العالمية الثانية على الفاشية. لكنّ النظام الموعود- كما سبق القول- لم يَقُمْ بسبب الثُنائية القُطبية، ثم الهيمنة الأوحدية بعدها. وإننا إذ ندعو إلى تعدديةٍ على المستوى الديني يطلبها منا دينُنا الإبراهيمي؛ فإننا في العالم الإسلامي لا نرى أملاً في السلام والعدل والاستقرار إلاّ بالتعددية في المجال الاستراتيجي العالمي أيضاً. إننا نشهد منذ عقدين ونيِّف ظهور آسيويين كبار، من أُمَمٍ عانت قروناً من الهيمنة والاستضعاف والاستعمار. ولذا فالأملُ والعملُ أن تقوم تعدديةٌ قطبيةٌ تشارك فيها أطرافٌ من سائر القارات وتُنهي الثُنائيات والأوحديات. إنّ الاستبداد مدمِّرٌ في الدين، ومدمِّرٌ في الأنظمة السياسية، ومُدِّمرٌ على المستوى العالمي. وهذا أمرٌ خبرناهُ وعانينا منه، وينبغي العملُ باسم الخُلُق والدين لعدم العودة إليه.
ثالثاً: إننا نحتاج نحن المسلمين إلى مُراجعةٍ نقديةٍ لعمل جهاتنا الدينية وعلمائنا في المرحلة الماضية. فقد كان الانقسام وكان الاستكبار سائديْن في كلّ مكان. وقد أدّى ذلك إلى خطأٍ في الفهم والتشخيص أحياناً، وإلى راديكالياتٍ سلبيةٍ أحياناً أُخرى. ونحن محتاجون في المجال الإسلامي/الإسلامي، وفي مجال العلاقة مع أهل الدين الإبراهيمي إلى مراجعاتٍ كبيرةٍ حتى لا نظلَّ نعمل بالمعطيات القديمة والوقائع القديمة, علينا التفكير في كيفية إعادة بناء المشهد الإسلامي والعالمي، والعلائق بأهل الدين الإبراهيمي، وإعادة تشكيل العلاقة بين الدين والدولة دونما غلبةٍ ولا إقصاء. وكما سبق القول فإنّ هذه المسائل جميعاً كان يسودها الانقسام أو التطرف أو الهيمنة والاستكبار. والمقاربة الإيجابيةُ اليوم تقتضي رؤيةً إيجابيةً لا يمكن تصورها من دون الرؤية الجديدة.
رابعاً: المسلمون أمَّةٌ كبرى، ذات موروثٍ عريق، وعلائق في سائر الأنحاء؛ لكننا في المائتي عام الأخيرة انكفأنا وانكمشنا بحيث ما تمكنّا من إدارة العلاقة مع أهل الدين الإبراهيمي، ولا مع مُجاورينا الأوروبيين. فلا بُدَّ من الاتجاه من جانبنا -نحن رجالات الفكر الإسلامي- إلى نهوضٍ جديدٍ، ورؤيةٍ جديدةٍ للعالم؛ لكي نتمكن من الإسهام إسهاماً بارزاً في صُنْع ما نُطالبُ به من نديّةٍ وإنصاف وتعدديةً في الزمن الجديد. لا بد من الاتجاه -على سبيل المثال- إلى الأُمم الآسيوية وأديانها وثقافاتها وأخلاقياتها، وإلى المسيحيات والإنسانويات الجديدة في أميركا اللاتينية. صحيحٌ أنّ هناك تاريخاً، لكنْ هناك أيضاً متغيراتٌ هائلةٌ حتى لدى أقراننا من المسيحيين. ولا بد من الفهم لكي نصل للتقدير الصحيح والتعامل الصحيح وبناء الشراكات الصحيحة الجديدة أو القديمة إنما بالشروط الجديدة، وعلى مدى العالم.
إننا نخرج من الهيمنة ومن راديكاليات الانقسام. ولا بد من استقبال المستجدات برؤى جديدةٍ وبمناهج جديدة، سواء في العلائق فيما بيننا نحن المسلمين والمسيحيين، أو في العلائق بالعالم. فهذه البشرية الجديدة تملك الأشواقَ نفسَها، وتسعى سعياً حثيثاً لتثبيت إنسانيتها وحريتها وكرامتها، وينبغي أن نكونَ مستعدّين -نحن المسلمين والمسيحيين- لاستقبال هذا الجديد وللشهادة له وعليه، أَوَ لم يقل الله سبحانه وتعالى: ﴿يا أيها الناس إنّا خلقْناكم من ذكرٍ وأُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم﴾. فبالتعارُف والاعتراف بالاختلاف، والتزام جانب النزاهة والتقوى نضع الأُسُسَ الجديدة لعالمٍ جديد.
لقد جربت الإنسانية في فترةٍ قصيرةٍ كلَّ أشكال النظم الأَيديولوجية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية, كما جربنا -نحن أهلَ الأديان- مسائل الحوار والتشاوُر والتقارُب، ولعدة أجيال. والذي نراه أنّ المعاناة الإنسانية ما تزال مستمرةً إلى تزايُد، ولا يتفاءلُ بذلك الكثير من الناس، فالمطلوب منا ومن المسيحيين على الخصوص إعادةُ النظر والإصلاح والتوجه بعيونٍ وعقولٍ جديدة نحو قيم الوحدانية والإله الواحد، ونحو نظامٍ للتبادل الاقتصادي غير المستغلّ، والتعددية القطبية، والمسؤولية الأخلاقية عن إنسانية الإنسان وكرامته: ﴿فأما الزبد فيذهب جفاءً وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض﴾ صدق الله العظيم.