أثر الحرب العالمية الأولى على الوطن العربي

عبد الكريم العريض

 

قبل انتهاء القرن التاسع عشر أخذت شمس دولة أوروبية جديدة تبزغ على الأفق العثماني، هي ألمانيا وكان القيصر (وليم) قد رسم لها سياسة التوسع نحو (الشرق) فأتاحت لها هذه السياسة نفوذاً سريعاً في الشؤون التركية وذلك في عهد السلطان عبد الحميد الثاني (1876 - 1909) وهو من أعنف الحكام الذين احتلوا العرش العثماني في نزعته الرجعية، وقد آنس السلطان من القيصر صديقاً جديداً يستحق الترحيب به فقام الإمبراطور وزوجته الإمبراطورة سنة 1898 بزيارة إلى القسطنطينية واستأنفا السير منها إلى بيت المقدس فدمشق، حيث وضعا إكليلاً من الزهور على قبر صلاح الدين، وفي خطبة مثيرة أكد الإمبراطور للسلطان ومعه ثلاث مئة مليون مسلم يجلونه بوصفه خليفة عليهم (أن إمبراطور ألمانيا كان وسيظل أبداً صديقهم الحميم) وعلى إثر ذلك منحت شركة ألمانية امتياز خط بغداد الحديدي عبر سوريا، وكان الخط الحديدي أحد الأسباب التي أدت إلى نشوب الحرب العالمية الأولى وقد أخذ في الوقت نفسه ضباط ألمانيون يأتون إلى تركيا ليعيدوا تنظيم الجيش التركي.

بعد حكم استبدادي استمر لثلاثين سنة نهض السلطان عبد الحميد يوماً من أيام تموز سنة 1908 ليجد نفسه قليل الحيلة، أمام ثورة أضرمها القادة في جيشه وكانت هذه الثورة من صنع (جمعية الاتحاد والترقي) وكان الهدف من الثورة العودة إلى دستور عام 1876 الذي علقه السلطان عبد الحميد، وقد أعلن عبد الحميد مرغماً إعادة الدستور وألغى نظام الرقابة. وكانت موجة من التفاؤل والحماس قد غمرت الأمة بكاملها، فقد استقبل الخبر في بيروت ودمشق وحلب والقدس بإيقاد المشاعل وإلقاء الخطب وإطلاق الألعاب النارية فرحاً وابتهاجاً وذلك اعتقاداً منهم أن الكابوس قد زال وأن يوماً جديداً في حياتهم قد بزغ فكأن تركيا قد انقلبت بين ليلة وضحاها.

جمعية الاتحاد والترقي

كان رجال العهد الجديد أوفر حظاً في نطاق الحمية الوطنية منهم في مجال الاختبار والدهاء السياسي، فسياستهم العثمانية التي استهدفت تحويل النزعات العنصرية والنعرات الدينية في الدولة إلى صعيد عثماني مشترك آلت إلى الفشل التام. إذ فسر العرب هذه (الحرية) الجديدة على أنها حرية تحقيق أمانيهم القومية الخاصة وتعزيز ذاتهم الثقافية ولغتهم الفصحى فنشأت على الأثر حركات انفصالية تشبثت كل منها بمطالبها الخاصة، وقد أخفقت سياسة الرابطة العثمانية على هذا النحو.

ارتد رجال تركيا الفُتاة إلى السياسة الحميدية الفاشلة والتي أدت إلى نشوب الحرب بين تركيا وإيطاليا (1911 - 1914) وفقدت منها تركيا طرابلس الغرب والقيروان وإلى حروب أخرى (1912 - 1913) بينها وبين دول البلقان التي جردتها من جميع ما كانت تملك في تلك الأنحاء. ثم انضمت تركيا في الحرب العالمية الأولى التي نشبت في أوروبا إلى جانب ألمانيا والدول الوسطى، في حين انضم العرب إلى جانب الحلفاء الغربيين.

انتهت الحرب العالمية الأولى بهدنة في ألمانيا في 11 نوفمبر عام 1918 تغيرت بعدها السياسة والثقافة والمجتمع تغيراً جذرياً في أوروبا وآسيا وإفريقيا وحتى خارج المناطق التي لم تكن معنية بالحرب تعد إلى تكوين دول جديدة وألغيت دول قديمة وتبلورت منظمات دولية أهمها عصبة الأمم وبرزت أيديولوجيات عديدة في أنظمة الحكم كالشيوعية والاشتراكية وغيرها من الأفكار التي كانت في السابق مجرد أدبيات لم تكن معروفة لدى الإنسان العادي في أوروبا والتي أخذت موقفاً ثابتاً في أذهان الناس بعد الحرب وأنهضت الشعور القومي- نتيجة لتفكك الامبراطوريات القديمة.

الانتدابات الفرنسية الإنجليزية

أخذ التدخل السياسي الأجنبي في الهلال العربي بعد الحرب العالمية الأولى شكل انتدابات تركز البريطانيون في فلسطين والعراق والفرنسيون في سوريا ولبنان، وكانت مصالح فرنسا تقوم على اعتبارات اقتصادية وعلى سياسة المحافظة على اسمها وسمعتها مقابل هذه الانتدابات التي جعلت من نوع (أ) قد قصرت عن بلوغ المثل الأعلى الذي وضعه ميثاق جمعية الأمم وهو أن مصلحة الشعوب المنتدب عليها أمانة مدنية مقدسة وأن واجب الدولة المنتدبة هو مد البلاد بالنصح والمساعدة اللازمين لتصل إلى الاستقلال التام، ولقد وصل تذمر السوريين واستياؤهم فقد اتهموا الموظفين الفرنسيين بأنهم استعملوا الطرق الاستعمارية نفسها التي استعملوها في شمال أفريقيا، متذرعين بحكومة وطنية فوضعوا العراقيل أمام اللغة العربية وخفضوا قيمة نقد البلاد بربطه بالفرنك وقسموا البلاد إلى دول متعددة لأغراض إدارية.

وفرقوا البلاد أحزاباً وشيعاً. من أسباب التذمر والشكوى أن الفرنسيين قسموا البلاد إلى دول متعددة، غير أن الأمر الإيجابي هو أن البلاد استفادت شيئاً من حفظ النظام والأمن. وتحسين المواصلات وتوسيع الأراضي الزراعية ونشر وسائل التهذيب ووضع نظام لحكومة عصرية.

المشهد المتغير: تأثير الغرب الثقافي

لقد كان نزول نابليون أرض مصر فاتحة عصر جديد من نواح عديدة؛ فهو يؤرخ أول العهد الذي وقعت القطيعة فيه مع الماضي، وقد استجلب القائد الفرنسي معه إلى القاهرة معدات كثيرة منها مطبعة عربية كان قد نهبها من الفاتيكان، وكانت هذه الأولى من نوعها في وادي النيل وأصبحت فيما بعد معروفة بمطبعة بولاق التي لا تزال مطبعة الحكومة الرسمية، وقد استعان بها الفاتح الفرنسي لإصدار نشرة للدعاية باللغة العربية، وإنشاء شبه مجمع علمي أو أدبي ومكتبة للمطالعة. وكان الناس في العالم العربي حتى ذلك العهد يحيون حياة انعزالية تقليدية قوامها المحافظة على القديم والتمسك به، لا يعرفون التقدم ولا يلتفتون إلى ما حققه العالم الخارجي منه ولا يشعرون برغبة في التغيير فكان هذا التماس المفاجئ بالغرب بمثابة أول قرعة ساعدت على إيقاضهم من سباتهم العميق وقدحت الشرارة الفكرية الأولى التي قدر لها أن تشعل زاوية في العالم الإسلامي.

القومية والنضال من أجل الاستقلال

بدأت هذه اليقظة القومية العربية حركة فكرية خالصة مركزة على درس لغة العرب وتاريخيهم وأدبهم وكان روادها في الغالب من المفكرين السوريين، وبنوع خاص من نصارى لبنان، الذين تثقفوا في الجامعة الأمريكية في بيروت. فهؤلاء هم الذين شرعوا في تطويع العربية الفصحى لتغدو أداة جديدة صالحة للتعبير عن الفكر الحديث، على أن الفكرة القومية، وما اتسعته من تشديد على الشؤون المدنية والقيم المادية، جرت في اتجاه معاكس لأرفع المُثل وأعز التقاليد الإسلامية التي لا تقر ولو مبدئياً بأية رابطة غير رابطة الدين، ثم إن اختيار الشعوب الناطقة بالعربية من رعايا الدولة العثمانية وثورة الشريف حسين في مكة سنة 1916 على الأتراك صدع الباقية من الأمل بقيام وحدة إسلامية شاملة وأقام في مكانها وحدة عربية جامعة أساسها اللغة والثقافة العلمانية.

وقد وجد المفكرون السوريون وأركان القومية العربية في مصر جوانب لنشاطهم السياسي، وإذ كانت لهذه الحركة حوافزها من منهج التفكير الأمريكي، فقد استلهمت وحيها من الأمجاد الماضية التي خلفتها الشعوب الناطقة بالعربية ومن مآ ثرها الثقافية، واتجهت بأنظارها نحو عالم عربي وثيق الأركان، ثم شرعت في عملها على نطاق واسع هو العروبة المطلقة، دون الالتفات إلى أي اعتبار إقليمي، لكن الحركة لم تلبث أن تصدعت، لأن الناحية السياسية أخذت مع نموها واتساعها تتشعب وتتأثر بالسياسة الإقليمية وعلى ذلك أخذت قضية القوميين المصريين في الانحراف عن الجامعة العربية، وذلك عندما غدت مقاومتهم للاحتلال البريطاني أهم قضاياهم المباشرة. وهكذا اتسمت القومية العربية في مصر بسمة إقليمية، حيث أخذت القومية قواها في سوريا ضد السيطرة العثمانية وسياسة التتريك، وكذلك بعد إقامة الانتداب الفرنسي عام 1919 ضد الحكم الفرنسي، وهكذا فقد تجزأت القومية العربية الناشئة تبعاً للتجزئة الإقليمية وكانت البلاد العربية تؤلف وحدة جغرافية تخضع للحكم العثماني، وفي غضون الفترة الفاصلة بين الحربين العالميتين تحولت المنطقة العربية إلى دول متعددة وكأنها شعوب مختلفة، ولكن الاشتراك في اعتبارات اللغة والدين والمصلحة الاقتصادية بقيت تعمل على الجمع بين أشتاتهم ثم عاد الاتجاه نحو الجامعة العربية، ومازال يقوى حتى انتهى إلى قيام جامعة الدول العربية عام 1945.

النزعة إلى الاتحاد

وإذا كانت الحرب العالمية الأولى قد فصلت بين أجزاء العالم العربي في الإمبراطورية العثمانية ودفعتها إلى سلوك طريق قوميات أو شبه قوميات خاصة فإن الحرب الثانية وخطر الصهيونية السياسية التي يعتبرها العرب حركة عدائية دخيلة قد قربا بين هذه الأجزاء، وكان من نتيجة المصالحة العامة بين الشعوب العربية والشعور المتزايد بالاتحاد وضعت اتفاقية الجامعة العربية والتي أمضيت في القاهرة في آذار سنة 1945 فقد أكدت الاتفاقية على عزم الدول العربية على التضامن فيما بينها في أمور التربية والتجارة والمواصلات، وقد نصت الاتفاقية على التشاور ومبادلة الرأي في حالة وقوع عمل عدائي ضد أي من الدول الأعضاء وحظرت استعمال القوة في حسم أي نزاع ينشب بينهما ودول الجامعة العربية هي: مصر، المملكة العربية السعودية، سوريا، العراق، لبنان، اليمن، البحرين، عمان، الكويت، الجزائر، تونس، ليبيا، المغرب، السودان، الصومال، جزر القمر، الأردن وقطر.

المصدر: http://www.arabicmagazine.com/Arabic/ArticleDetails.aspx?Id=3660

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك