الله وقيصر في أميركا كيف أساء الخلط بين الدين والسياسة إلى المسألتين

ديفيد كامبل، وروبرت بوتنام

 

منذ الأيام الأولى لوصول المهاجرين إلى أمريكا، بدأ الدين يلعب دوراً مهماً في الحياة العامة في القارة الجديدة؛ فالمؤمنون كانوا مشاركين متحمسين في كل الحركات الاجتماعية المهمة في تاريخ الولايات المتحدة، ولدى التقدميين كما لدى المحافظين. إنما على الرغم من ذلك؛ فإنّ الأربعين عاماً الأخيرة من الحياة السياسية بالولايات المتحدة شهدت تسييساً للدين غير مسبوق؛ فالواقع أنّ الدين مارس تأثيراً كبيراً على السياسات العامة بالبلاد؛ وبخاصة لدى اليمين السياسي. وفي الوقت نفسِه؛ فإنّ هناك شواهد على تراجع الدين في الحياة الخاصة للأميركيين؛ إذ عندما لاحظتْ كثرةٌ من الأميركيين -وبخاصةٍ بين الشباب- أنّ الارتباط بين الدين والسياسة صار قوياً؛ فإنها انسحبت من الحياة الدينية، وقد تبيَّن أنّ هذا الانسحاب مقصودٌ، ولا يتعلق بالمصادفة أو المرحلة العابرة.

 

 ليس من المفاجئ أن يكون هناك نوعٌ من التشابك والتداخل بين الدين والعمل السياسي في الأمم الكبرى ذات الموروث الديمقراطي. لقد شهد القرن التاسع عشر انقسام الأحزاب السياسية في توجهات دينية؛ مثل التقويين والشعائريين، والكنائس الشعبية والأخرى العليا، والبروتستانت في مواجهة الكاثوليك. إنما إذا كان الماضي قد شهد تحزبات لاتجاهات دينية مختلفة (على أساس إثني غالباً)، تتجلى في الساحة السياسية؛ فإنّ الانقسامات الحالية لا تظهر منخلال الكنَسيات المختلفة؛ بل تتجلى في اتجاهين كبيرين: المحافظين المتشددين دينياً، في مواجهة العلمانيين التقدميين. وهذا الأمر وصل إلى درجةٍ غير مسبوقة منذ أواسط القرن التاسع عشر (بل وما كان هذا معـروفاً إلـى هذه الدرجة آنذاك)؛ فالتحشيد الديني اليـوم يرتبط بسياسات الأحزاب السياسية. لقد شهـد العقدان الأخيران ظاهرةً لافتةً وهـي ارتبـاط ممارسـة العبادة بالأحزاب السياسية، أو بالحزبين الكبيرين: الجمهوري والديمقراطي. ولا ينطبق هذا الانقسام على المسيحيين السود؛ فهؤلاء شديدو التدين والممارسة، وهم يقترعون في غالبيتهم العظمى للديمقراطيين، فقد انقسم الأمريكيون في التسعينات من القرن الماضي ومطالع هذا القرن إلى قسمين كبيرين: ديمقراطيون لا يحضرون إلى الكنيسة أو الكنائس كثيراً، وجمهوريين يعلنون عن التزامهم الديني والسياسي بالحضور الكثيف إلى دُور العبادة، وفي انتخابات عام 2008 كانت هناك مجموعة من المستشارين لدى الحزب الديمقراطي، مهمتها إرشاد الناخبين للحزب إلى كيفية التوجُّه إلى الكنيسة؛ لحرمان الحزب الجمهوري من بعض أصوات المتدينين. ومع ذلك؛ فإنّه من بين الناخبين "البيض" صوَّت 76% من المتدينين للسناتور ماكين؛ في حين اقتصر التصويت له منجانب غير المتدينين على 26% ممن لم يذهب إلى الكنيسة مرةً واحدةً في حياته.

 

 لقد صار الارتباط بين التديُّن والمحافظة السياسية بارزاً للعيان في الثقافة الأميركية المعاصرة إلى حدودٍ بعيدةٍ؛ بحيث صار سهلاً التدليل على حداثة وجِدَّة هذه المتغيرات. فخلال الستينات كان من المتوقَّع أن يكونَ الذاهبون إلى الكنيسة ممن يصوتون للديمقراطيين أكثر من أولئك الذين يصوتون لهم من دون أن يكونوا متدينين. أمّا التغير الذي حصل منذ ذلك الحين؛ فإنه حريٌّ أن تكون له آثارٌ قصيرة المدى وأُخرى بعيدة المدى على السياسة والدين معاً. سيكون على الجمهوريين التفكير دائماً بطرق لإرضاء قاعدتهم من المتدينين المتشددين، دون أن يزعجوا جمهور الناخبين الذين بدأوا ينظرون إلى هذا المزج بين الدين والسياسة باعتباره أمراً مزعجاً. وعلى المدى البعيد فإنّ هذا الامتزاج أو التداخُل يمكن أن يضرب الدور التاريخي للدين في الولايات المتحدة، وبخاصةٍ أنّ الجمهور الأميركي الشاب صار يميل إلى رفض الدين المنظَّم أو دين الموسَّسة ذاته. لقد وصلت الحالة بالبلاد إلى هذا الترابط الوثيق بين الدين والحزبية خلال العقدين الماضيين. وعلينا أن نفهم كيف حدث ذلك، وكيف تغيَّر دور الدين في البلاد خلال الحِقَب الحديثة؛ لكي نستطيع التوقُّع بما يمكن حدوثه في المستقبل.

 

 في البدايات: لكي ندرك بوضوح كم هو المشهد السياسي/ الديني في الولايات المتحدة جديداً؛ علينا العودة للخمسينات من القرن الماضي؛ فقد كانت تلك الحقبةُ دينية المنزع والطابع؛ بل إنّ بعض المؤرخين يعدونها الأكثر دينيةً وتديُّناً خلال التاريخ الأميركي كُلِّه. وبالطبع فقد كانت هناك عدة أساليب لاختبار تأثير الدين أو انتشاره في الحياة الأميركية. وإلى اختبارٍ مثل هذا أشار استطلاعٌ لغالوب سنتر طُرح فيه السؤال: هل تأثير الدين في الحياة الأميركية يتزايد أم يتراجع؟ وقد أشارت الإجابات إلى زلزالٍ هائلٍ يحدث في أميركا لهذه الناحية. فقد أعلن في استطلاع عام 1957 69% عن اعتقادهم أنّ تأثير الدين يتزايد؛ في حين أجاب 14% أنه يتناقص أو يتراجع. وبكل المقاييس الموضوعية؛ فإنّ أكثرية المجيبين بالإيجاب كانت محقة؛ فقد كان الذاهبون إلى الكنائس من الأميركيين في تلك الفترة أكثر من أيّ وقتٍ مضى، وكان المزيد من الكنائس يُبنى ليستجيب لحاجات المؤمنين، وكانت الكتب الدينية الطابع أو ذات الموضوعات الدينية تزداد ظهوراً وانتشاراً وبيعاً وقراءة. أما في أميركا التي كان رئيسها دوايت أيزنهاور؛ فإنّ الدين ما كان بارزاً في الشأن العام أو الحياة السياسية الحزبية العامة؛ إذ كانت شعبية أيزنهاور لدى المتدينين لا تقلُّ عنها لدى غير المتدينين، وسواء أكانوا بروتستانت أو كاثوليك أو يهوداً... الخ.

 

 ثم جاءت الستينات، وحدث فيها ومعها انعطافٌ حادٌّ في الموقف من السلطة، وبخاصةٍ ما تعلَّق منها بالأخلاق الجنسية التقليدية، وهو موضوعٌ له علاقةٌ بالإيمان الديني، ففي خلال أربعة أعوام فقط -أي بين العامين 1969 و1973- ازداد عدد الممارسين للجنس قبل الزواج من رُبع الراشدين إلى نصفهم. وهذه الزيادة في "التحرر" من الأخلاق التقليدية حدثت- كما سبق- في فئات فتيان وفتيات سنوات الكثرة الإنجابية، والذين كانوا يُراهقون ويبلغون سنّ الرشد في النصف الثاني من الستينات. وفي العام 1970 أشارت الاستطلاعات إلى أنّ الانتشار الديني يتراجع وينخفض، ويدلُّ على ذلك التراجُع الشديد في عدد حاضري القداديس بالكنائس؛ لكنْ حتَّى في تلك الفترة؛ فإنّ التدين أو عدمه ما كان له دخْلٌ بالميول السياسية نحو اليمين أو اليسار، وهذا ينطبق على حقبة الازدهار الديني في الخمسينات، وعلى مرحلة التراجُع في السبعينات، فحتى ذلك الحين ما كان للظواهر الدينية علاقةٌ أو تأثير بارز في الحياة الحزبية.

 

 على أنّ متغيرات الستينات من القرن الماضي ما وضعت الولايات المتحدة على طريقٍ لا رجعة فيه باتجاه العلمانية (الفاصلة بين الدين والدولة)؛ بل على العكس من ذلك؛ ففي أوساط المحافظين الأميركيين يشير الزلزال الأخلاقي إلى عودةٍ للدين، أو على الأقلّ العودة إلى نوعٍ معيَّنٍ من التديُّن. فمنذ أواسط السبعينات، وبعد صدمة الستينات، انتشرت أشكالٌ معينةً من التدين المحافظ، وبخاصةٍ الإنجيلية البروتستانتية؛ ففي الوقت الذي كانت فيه البروتستانتية الليبرالية، والكاثوليكية الممارسة (=الذهاب إلى الكنيسة) تتراجعان؛ فإنّ أميركيين كثيرين ممن كانوا يبحثون عن تأكيدٍ للقيم التقليدية -وبخاصةٍ ما تعلَّق منها بالجنس والقيم العائلية- وجدوا ضالتهم في البروتستانتية الإنجيلية. وقد عمد الإنجيليون الجدد إلى الخروج من العزلة التي فرضها أسلافهم الأصوليون، وما عاد ديدنُهُم لَعْنَ العالم الشرير؛ بل صار الهدفُ تغييره؛ بما في ذلك الشأن السياسيّ فيه. وقد جاءت الإشارة الأُولى إلى الدور السياسي الجديد للإنجيلية في الحملة الانتخابية لجيمي كارتر عام 1976 والذي عدّ نفسه من بين "المولودين ثانيةً"، وهي نسبةٌ ما كان يمكن التفكير بها ضمن الاتجاه الرئيس في السياسات بالولايات المتحدة. وفي الطرف الآخَر من المجال السياسي، تجمع المحافظون الأخلاقيون وتحالفوا من أجل مكافحة التعديل الدستوري لصالح الحقوق المتساوية للمواطنين، وحقوق المثليين، والإجهاض. وهكذا بدأت الإنجيلية تتطور من حركةٍ دينيةٍ بحتةٍ إلى حركةٍ سياسيةٍ يتضامن فيها المتدينون الأميركيون من مختلف الطوائف والكنائس بما في ذلك الكاثوليك والمورمون. ومرةً أُخرى لاحظ مؤشّر غالوب أنّ الدين ترتفع منزلته في أوساط الجمهور الأميركي؛ ففي العام 1976 ذكر استطلاعٌ لغالوب أنّ 44 % من الأميركيين يعتقدون أنّ التدين يزداد؛ في حين ذهب 45% إلى أنّ الدين يضعُفُ تأثيره! ثم جاء عام 1980، وخلاله استطاع رونالد ريغان في حملته الرئاسية الناجحة أن يحصل على تأييد المتدينين الجدد. وبخلاف أيزنهاور في الخمسينات، وحتى نيكسون وفورد في السبعينات؛ فإنّ ريغان والمرشحين الجمهوريين للرئاسة صاروا يحصلون على دعم الإنجيليين الديمقراطيين بالجنوب، والكاثوليك الملتزمين بالشمال.

 

 لقد أدت ردود الفعل على صدمة الستينات إلى تبلور ظاهرتين: واحدة دينية (صعود الإنجيليين)، والأخرى سياسية (صعود اليمين الديني)، وقد استمر هذا الحراك السياسي؛ بينما انتهى الأُفق الديني في مطلع التسعينات. وباعتبارهم جزءًا من الجمهور (أو بالأحرى جزءًا ممن أعمارهم تحت الثلاثين)، ظلّت أعداد الإنجيليين الجدد هؤلاء تتراجع على مدى عشرين عاماً، ووصلت إلى النسبة التي كانت عليه مطلع السبعينات.

 

 إنّ صعود اليمين الديني وتداعياته يكاد يكون بُعْداً مألوفاً في تاريخ الولايات المتحدة، فمعظم الحركات الاجتماعية -التقدمية والمحافظة- كانت تتضمن موضوعاتٍ دينيةً مهمة: الحق في الحياة، وقيم الأُسرة، والإجهاض ومنعه بالأمس. إنما اليوم وبشكلٍ غير عادي، ظهرت ارتباطاتٌ بين الدين المنظَّم أو المؤسّسي من جهة، وحزب سياسي معيَّن من جهةٍ ثانية، وقد أدى هذا الترابط إلى نتائج غير مقصودة للسياسة والدين معاً.

 

 الحقُّ الْمُعطى من الله: مع صعود اليمين الديني ظهرت هذه" الهوة الإلهية" التي كثُر النقاش حولها بين الديمقراطيين والجمهوريين، فعلى مدى السنوات الأخيرة، قلّ عدد الجمهوريين العلمانيين، كما قلّ عددُ المتدينين من الديمقراطيين. إنما ماذا حدث لأولئك الذين كانوا ليبراليين من الجمهوريين أو متدينين من الديمقراطيين؟ هل حاولوا ملاءمة اتجاهاتهم السياسية لكي تناسب اعتقادهم الديني، أو حاولوا العكس؟ إنّ المفاجئ أنّ المسائل السياسية هي التي حسمت في الموقف من الدين؛ فالديمقراطيون المتدينون سابقاً (باستثناء الأميركيين السود) تركوا الكنيسة، والجمهوريون الذين ما كانوا متدينين من قبل سُرعان ما وجدوا الدين وسارعوا إليه. ولنأخذ على سبيل المثال مجموعة "حفل الشاي"؛ فهؤلاء -الناس ذوو التوجه المدني والعلماني- لديهم ميولٌ دينيةٌ خفيةٌ وقوية؛ ففي استطلاعٍ واسعٍ على المستوى الوطني عام 2006 (قبل تشكُّل مجموعة "حفل الشاي")، وأعدْنا إجراءه عام 2011 مع الأشخاص أنفسهم، ظهرت لدينا شكوك حول أصول حركة "حفل الشاي" السالف الذكر. ففي الأيام الأولى للمجموعة كانت توصف بأنها مكوَّنةٌ من أُناسٍ غير حزبيين، وجُدُد في عالم الممارسة السياسية، والذين ضرب التراجع الاقتصادي الكبير مصالحهم وثرواتهم، فاندفعوا باتجاه الفعل السياسي مدفوعين بالانزعاج من زيادة الإنفاق الحكومي. لقد تبين أنّ هذا التعليل أُسطوري؛ فالحقيقة أنّ الأميركيين الذين يدعمون مجموعة "حفل الشاي" كانوا وما يزالون في غالبيتهم العظمى من الجمهوريين الحزبيين. وقد كانوا عاملين في السياسة قبل تكوين مجموعتهم، وهم ما عانوا من الأزمة الاقتصادية أكثر مما عاناه غيرهم! وقد تبين لنا -كما سبق أن ألمحْنا في استطلاع العام 2006- أنّ الفارق ضمن الحزب الجمهوري بين مجموعة "حفل الشاي" وغيرهم أنّ الأخيرين يميلون أكثر إلى مزج الدين بالسياسة. وهذه الرغبة لا تعني بالضرورة أنّ هؤلاء هم أكثر تديناً من غيرهم. فأتباع مجموعة "حفل الشاي" هم في الغالب من المتدينين الممارسين؛ لكنهم ليسوا أكثر تديناً من الجمهوريين الآخرين. إنما هم أكثر راحةً من الآخرين في المزج بين الدين والسياسة؛ فوجهة نظرهم أنّ القوانين والسياسات ستكون أفضل إذا كانت البلاد "أعمق تدينا" من طريق انتخاب مسؤولين متدينين. ولذا يكون من الملائم للقادة الدينيين أن يشاركوا في التحشيد السياسي، كما أنه من الملائم أن يوضَعَ الدين في النقاش بشأن موضوعات سياسية. ويستطيع قادة مجموعة "حفل الشاي" الزعم أنّ همَّهم الوصول إلى "حكومة صغيرة"؛ بيد أنّ الطرائق والأهداف تشير إلى أنّ مساعيهم تنصبُّ على إقامة حكمٍ إلهي! وبهذا المعنى فإنّ هؤلاء كلما تقدموا في دعواهم ودعوتهم يبتعدون عن توجهات معظم الأميركيين. وبحسب مقياس غالوب للعام 1984- عندما كان التحالُف بين المحافظين الدينيين والسياسيين يتبلور-؛ فإنَّ معظم الأميركيين كانوا يعارضون الفكرة القائلة بتدخل الجماعات الدينية ضد بعض المرشحين. وأكثر من ذلك، فإنه بحسب مؤسّسات المراقبة الوطنية عندما كانت جماعات الحقوق الدينية تزداد ظهوراً -بين عامي 1991 و2008- فإنّ الغالبية الأميركية كانت ترى أنه ليس منحق القادة الدينيين التدخُّل للتأثير في التصويت، أو التأثير على القرارات الحكومية؛ ففي عام 1991 كانت نسبة 22% من المواطنين تُعارضُ تدخل القادة الدينيين في الشأن العام، وفي عام 2008 تضاعفت هذه النسبة لتصل تقريباً (38%). وفي الاستطلاع الذي أجريناه عام 2011 قالت نسبة 80% من المستطلّعين: إنه ليس من الملائم أن يختار القادة الدينيون للناخبين مَنْ ينتخبون، كما قالت نسبة 70%: إنّ الدين ينبغي أن يبقى خارج النقاش في مجالات الشأنين الاجتماعي والسياسي.

 

 ولذا ليس من المفاجئ أن يكون هناك أميركيون كثيرون، ذوو موقفٍ سلبيٍّ من مجموعة "حفل الشاي"؛ ففي استطلاع العام 2011 السالف الذكر، جاءت مجموعة "حفل الشاي" في أسفل الجدول المكوَّن من عشرين مجموعة دينية وسياسية وإثنية، من حيث الموافقة أو الاستحباب. بل إنّ مجموعة "حفل الشاي" جاءت بعد المسلمين والملحدين، وهما مجموعتان كانتا تُقابَلان بجفاءٍ من التيارات الرئيسة في الجمهور الأميركي! وهناك مجموعةٌ أُخرى ممن تتقارب مع مجموعة "حفل الشاي" في ضآلة الشعبية، وهي مجموعة اليمين الديني. فهاتان المجموعتان (اللتان تتشابكان كثيراً أو تتداخلان) إن كانتا قد كسبتا الدعم المتحمس من جانب قلةٍ من الأميركيين؛ فإنهما كسبتا "عداوة" فئاتٍ أكبر وأوسع بكثير. وهذا الانقسام خلق أزمة للمرشحين الجمهوريين الذين يسعون لكسْب دعم وتأييد مجموعة "حفل الشاي". فالناخبون الجمهوريون الذين يربطون دعمهم لأي مرشح بالأجندة المحافظة في الشؤون المالية، والهجرة، والأمن الوطني؛ يريد منهم أتباع "حفل الشاي" أن يضيفوا لذلك التوحيد بين الدين والسياسات المحافظة تلك. وهؤلاء الأتباع -الذين يشكّلون بالكاد رُبع الناخبين الأميركيين-يشكِّلون حوالي نصف ناخبي الحزب الجمهوري. فمشكلة الحزب الجمهوري أنّ مزج الديني بالسياسي هذا هو أمرٌ لا تريده ولا تقبله الغالبية الأميركية، وخصوم هذا المزج يزدادون عدداً كلَّ يوم. وهكذا فإنّ المجاهدين الثقافيين هؤلاء كلما زادوا جمهور الجمهوريين حماساً وتشدداً؛ تركوا غالبية الجمهور وراءهم باردةً وغير معنية. بل على العكس من ذلك؛ فإنّ الكثيرين من مرشحي الوسط ذوي الجاذبية بالنسبة للناخبين العاديين لا يحصلون على شيء من الدعم من الحركيين الذين يريدون حضور الدين أكثر في الحكومة والعمل الحكومي.

 

فقد الدين وإضاعته: لقد كانت لهذا المزج بين الدين والسياسات نتائج تخطت مسائل الانتخابات وصراعاتها، فهؤلاء الجدد من شتى الاتجاهات أعادوا تشكيل الخريطة الدينية للولايات المتحدة، فكما أنّ الستينات أوقفت موجة الإحياء الديني، والعودة إلى التدين التقليدي؛ فإنّ العقود الأخيرة قادت مباشرةً إلى الإعراض عن الديانة المنظمة؛ وبخاصةٍ بين الأميركيين الشباب. وهنا ينبغي التنبُّه إلى تصاعد عدد الذين يسميهم علماء الاجتماع "غير المنتمين"، وهم أولئك الذين لا يشيرون لعضويتهم في كنيسةٍ معينة. وتاريخياً فإنّ هذه الفئة تراوح عددها دائماً بين 5و7% من الأميركيين حتَّى في عقد الستينات، حين كانت الممارسة الدينية قد تراجعت. إنما في مطالع التسعينات، وعندما اتسعت الهوة بين المتدينين وغيرهم بسبب تسييس الدين؛ فإنّ "اللامنتمين" هؤلاء وصلوا إلى نسْبة 12%. ولكي نضع هذه الأرقام في سياقٍ معيَّن؛ نذكر أنه في العقدين بين مطلع السبعينات ومطلع التسعينات -وعندما كان الإنجيليون الجدد في ذروة قوتهم وصعودهم- فإنّ نسبة زيادة عددهم ما فاقت الـ5% مقارنةً بالسابق. بينما زاد عدد اللامنتمين إلى ضعفَين، وهو ما يزال يتصاعد، والأبلغ من ذلك؛ فإنّ هذا التصاعد أكثره بين مَنْهم تحت الثلاثين من العُمُر؛ أي مَنْ يُعرفون باسم جيل الألفية. وهذا يعني أنّ الشباب كانوا أقلّ تديناً من كبار السن، فالناس يميلون للتدين عندما يتزوجون، ويصير عندهم أطفال، ويحاولون التجذر في جماعةٍ معينة (والديموغرافيون يسمُّون ذلك آثار المسيرة العُمرية). وهكذا فإنّ 20% عام 2012 صاروا يرفضون كلَّ انتماء ديني، مقارنةً بآبائهم وأجدادهم عندما كانوا في العُمُر ذاته - وبذلك تبلغ النسبة 33% اليوم، مقارنةً بـ12% في السبعينات. إنّ الحركة الألفية المبتعدة عن الدين المنظَّم أو الكَنَسي تصاعدت في المدة الأخيرة. فبين عامي 2006 و2012 ارتفعت نسبة اللامنتمين ارتفاعاً ضئيلاً من 17% إلى 19%، أما بين الأميركيين الشباب فإنّ الانفصال ازداد خمسة أضعاف. ويشبه ذلك أنه خلال السنوات الخمس المذكورة؛ فإنّ تراجُع نسبة الذين يترددون على الكنائس ممن يزيد عمرهم على الستين، لم تقلّ إلا بمقدار 2%، أمّا نسبة الذين لم يذهبوا إلى الكنيسة أبداً ممن أعمارهم بين 18و29 فقد تضاعفوا ثلاثة أضعافٍ خلال السنوات ذاتها. ثم إنّ الألفيين الشباب يبدون أكثر علمانيةً من زملائهما لأكبر منهم بقليل. ففي استطلاعنا عام 2011 بدا أنّ نحو ثلث الأميركيين ممن هم في العشرينات من أعمارهم هم دون دين؛ بينما كانوا رُبع الشباب في استطلاعنا للعام 2006.

 

 ثم إنّ مؤشر غالوب للدين والتأثير الديني يشير إلى تراجع تأثير الدين في الحياة الأميركية أيضاً. وفي استطلاعنا؛ فإنّ الأميركيين من كلّ الفئات والأعمار - متدينين وغير متدينين، بيض وغير بيض، أغنياء وفقراء، مدينيين وريفيين، ليبراليين ومحافظين، كبار أو فتيان، مثقفين وغير مثقفين- هؤلاء جميعاً يذهبون إلى أنّ تأثير الدين بتراجع. ولأننا استفتينا الفئات أو العينة نفسها عام 2006 و2011؛ فإننا نلاحظ -أنهم في غالبيتهم العظمى، يذهبون إلى المزيد من خفض التوقعات بشأن الدين- في الحياة الأميركية. إنّ أفضل الشواهد تشير إلى أنّ هذا التحول العنيف عن الدين يعود بشكلٍ رئيس إلى ردة الفعل على اليمين الديني. فمن الناحية السياسية يشير المعتدلون الأميركيون والتقدميون إلى أنهم لا يرغبون في المزج بين الدين والسياسات الحزبية. والألفيون أكثر حساسيةً تجاه هذا الأمر بالذات، إمّا لأنّ بعضهم ليبرالي التوجُّه (وبالذات فيما يتعلق بحقوق المثليين)، أو لأنهم نشأوا في محيطٍ يرتبط فيه الدين باليمين السياسي. فبالنسبة لهم يعني الدين أنك جمهوري، ومتعصب، وذكوري. ولأنّ هذه الأمور لا تتوافق وتوجهاتهم؛ فإنهم لا يرغبون في أن يروا أنفسهم أو يراهم زملاؤهم باعتبارهم متدينين!

 

 إنّ الإحصائيات التي نملكها تدعم هذه الفرضية، فمن خلال متابعتنا لأفرادٍ معيَّنين بين عامي 2006 و2011، نجد أنّ الديمقراطيين والتقدميين هم الأكثر ميلاً لأن يصبحوا غير منتمين، أكثر من الجمهوريين. وهذا الإعراض عن الدين يتركز في أوساط الأميركيين الذين يُظهرون انزعاجاً شديداً من تأثيرات الدين في السياسة، بغضّ النظر عن توجهاتهم السياسية الخاصة. وفي الواقع. فإنه الأمر الأمريكيين (وبخاصةٍ الشباب) الذين كان يمكن أن يحضروا إلى الكنائس يقولون: "إذا كان الدين خاصاً بالسياسات اليمينية لمجموعاتٍ معينة، فإنّ الأفضل لنا البقاء خارج الكنيسة". وهذه الإحصائيات تشير إلى نوعٍ من السخرية السوداء بشأن ظهور ومصائر اليمين الديني؛ فقد كان المقصود من جانب المؤسّسين تأكيد مكانة الدين في المجال العام. وبمعنىً ما، فإنهم نجحوا في ذلك؛ إنما في الوقت ذاته -وفي إثباتٍ كلاسيكي لأخطار التبايُن بين المقدمات والنتائج- فإنّ حركة اليمين الديني هذه دفعت قسماً متنامياً من الأميركيين الشبان لمغادرة الدين كله!

 

في سبيل الله: تبدو الجماعات الدينية الأميركية تاريخياً قادرةً على التلاؤم، وعلى تصحيح المسار الذاتي. ويشير استطلاعنا الوطني العام لسنة 2011 أنّ القادة الدينيين ما أحسُّوا بالسخونة -كما يقال- نتيجة اعتبارهم أنّ الدين يتضاءل في أوساط الجمهور؛ بل ربما أحسُّوا بذلك من تقارير وانطباعات مساعديهم الأقربين، الذين أنذروهم بالتأثيرات السيئة للاستناد إلى الدين في التحزب السياسي، ولذلك بدأوا بالانسحاب. وبالفعل، فمن الفروق التي وجدْناها بين استطلاعي عامي 2006و2011 أنّ عدداً من الكنائس بدأت تنسحب من الملفات والموضوعات والحزبيات السياسية. وفي استطلاع عام 2006 قال 32% من الذين سألناهم: إنهم سمعوا في الكنائس التي يترددون عليها خطباً ومواعظ ذات مضمون سياسي "مرةً أو مرتين في الشهر"؛ أو "عدة مراتٍ خلال شهر". أمّا في استطلاع عام 2011 فقد ذكر 19% فقط هذا الأمر عن أنفُسهم. وهذا الميل الانكماشي ظهر في كل الفئات والجهات في الولايات المتحدة، بين المحافظين والليبراليين، وبين الصغار والكبار، وبين الريفيين والمدنيين. فالغالب أنّ الكهنة والدعاة عبر البلاد لاحظوا انزعاج الجمهور من إسقاط الحدود بين الديني والسياسي، بين الله وقيصر؛ ولذا فقد آثروا الرجوع إلى الله.

 

 إنّ التراجع في درجة التسييس من منابر ومذابح الكنائس لن تكون له على الأغلب تأثيراتٌ مباشرةٌ على التراجع العام للدين؛ فهذا الانقسام صار جزءًا من النظام الحزبي الأميركي، وسيحول في المدى القصير دون إعادة تغيير الاتجاه أو تبديل التحالفات. إنما على أيّ حال، إذا ظلَّ القادة الدينيون على إصرارهم على الانسحاب من المجال السياسي؛ فإنّ مرشحي اليمين المحافظ لن تكون لديهم دوافع قويةٌ وفرص في قَصْد واستهداف الجماعات الدينية المرتبطة بالكنائس، من أجل الدعم السياسي أو الانتخابي. وإذا ظلَّ الجمهوريون على ارتباطهم بالكنائس المنظَّمة؛ فإنهم سيخسرون أكثر الأجيال الأصغر، التي تدخل إلى الحياة السياسية الآن، وستستمر فيها لمددٍ طويلة.

 

 أما المؤرخون، فإنهم سينظرون في الغالب إلى الثلث الأخير من القرن العشرين، باعتباره شذوذاً وظاهرةً غير عادية؛ من حيث تأثير الدين في المجال العام أو الدين في خدمة السياسة والسياسيين. وهي عقودٌ ما كانت لصالح الدين ولا لصالح السياسيين. سيواجه الجمهوريون خسارة الوسط المعتدل من الناخبين، كما سيواجه القادة الدينيون خسارة رعاياهم. وبذلك يدفع الطرفان ثمناً متأخراً لدخول اليمين الديني في السياسة. ثم إنه يكون على كل الأطراف -محافظة أو ليبرالية، ومتدينة أو غير متدينة- أنّ تدرك أنّ دفع القادة الدينيين باتجاه الحزبية السياسية سوف يحرمهم ويحرم الدين من الحجية الأخلاقية في القضايا الكبرى التي تتجاوز اليمين واليسار.

 

 لقد كان نجاح مارتن لوثر كينغ عائداً إلى أنه في خطاباته الرسالية الداعية للعدالة والمساواة إنما ضرب على وتر الرمزية الأخلاقية الدينية، التي يبلغ من قوتها أنها تتجاوز الصفوف الحزبية. حقاً، لقد كان الدين تاريخياً من عوامل التغيير على مدى الأفق السياسي الأميركي. إنّ الخطاب الأميركي العام -وفي البلاد بشكلٍ عام- سوف يصبح فقيراً وينكمش إلى حدودٍ بعيدةٍ، إن اقتصر على أن يكونَ قوةً في خدمة التحشيد الحزبي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ترجمة لمقالة عن:   Foreign Affairs. March/ April, 2012. PP. 34-43.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/5/116

الأكثر مشاركة في الفيس بوك