الدور التربوي للصورة
تكتسي الصورة أهمية خاصة في وقتنا الحالي، بعد التطورات التي عرفتها وسائل الاتصال السمعية البصرية والتحولات التي برزت في معالجة المعلومة مع الثورة الرقمية بالخصوص. وهو ما حدا بمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، إلى الدعوة منذ ثمانينات القرن الماضي، إلى إدراج التربية على الوسائط وعلى تكنولوجيا الإعلام والتواصل في البرامج التعليمية، بهدف تنمية وعي نقدي لدى المتعلمين وتعزيز أنشطة التكوين والبحث[1].
فالتحولات التي عرفتها هذه التكنولوجيا، سمحت بتكوين خزان لا ينضب من الصور التي يمكن استثمارها من طرف المدرسين والمتعلمين، من أجل بناء المعارف واكتساب الكفايات داخل المؤسسات التعليمية. فنحن نتحدث في إطار البيداغوجيا الحديثة عن استقلالية المتعلم واشتغاله على مشروعه الشخصي وتقويم أنشطته ومواجهة الوضعيات المشكلات، بوصفها بيداغوجيا نشيطة يكون الهدف منها هو القيام بعمليات ذهنية لمواجهة ما يعرف بالمشكل العائق. مع الإشارة إلى أنّ العائق هنا سيكون محفزًا على البحث عن الحلول الممكنة وإيجاد الوسائل التي تسمح بتجاوزه في إطار مشروع شخصي تستثمر فيه الموارد المتوفرة (المعارف والكفايات).
ونتساءل في هذا الإطار، كيف يتحدد الدور التربوي للصورة؟ وبأي معنى يمكنها أن تحفز المدرس والمتعلم على ابتكار المشاريع الشخصية؟ وما هو مستقبل التعليم والتعلم في زمن سيادة الصورة؟
لمعالجة هذه الأسئلة نقترح الوقوف على القضايا التالية:
- مفهوم الصورة وعلاقتها بالواقع؛
- الصورة وثيقةً تربويةً؛
- الصورة الرقمية ومدرسة الغد.
1) علاقة الصورة بالواقع
من المعلوم أنّ الصورة ابتكرت في مختلف المجتمعات لأجل غايات محددة (إخبارية، ترفيهية، تعليمية، دعائية، الخ..) وبشكل عام، فإنّها تنتمي إلى عالم الرموز وتتوسط بفعل ذلك، بين المشاهد والواقع. في هذا الإطار، يمكن تحديد ثلاثة مستويات للصورة في علاقتها بالواقع، وهي كما يلي:
- مستوى التمثيل représentation، حيث تجسد الصورة الأشياء المحسوسة.
- مستوى الرمز symbole، حيث تحيل على معطيات مجردة (صورة الميزان رمزًا للعدالة). وبطبيعة الحال، فإنّ هذه القيمة تقتضي اتفاق أفراد المجتمع على الرموز المعروضة وفهمها.
- مستوى العلامة signe، بحيث لا تجسد الصورة المضمون الذي تعبر عنه ولا تظهر خصائصه (مثل علامات المرور)، على اعتبار الدال المرئي يرتبط بشكل اعتباطي بمدلوله.
(وعلى الرغم من هذا التمييز، فإنّ أغلب الصور يمكنها أن تشمل هذه المستويات الثلاثة مجتمعة).
وتنبثق عن هذه المستويات ثلاثة أنماط من الوظائف تتحدد من خلالها علاقة الصورة بالواقع وهي كالتالي:
- النمط المعرفي الذي يسمح بتقديم معلومات بصرية حول العالم الخارجي بغرض معرفته.
- النمط الرمزي الذي تتجلى من خلاله قيم عديدة مثل العدالة، الحرية، السلام، الحب، الصداقة إلخ.. انعكاسًا للتفاعلات الحاصلة في الواقع بين مختلف الأطراف وعلى جميع المستويات.
- النمط الجمالي الهادف إلى تحقيق المتعة لدى المشاهد وخلق الإحساس والتفاعل الوجداني مع الأحداث والوقائع، وهذه خاصية الصورة السينمائية بالأساس.
وعلى العموم، تظل الصورة مقترنة بالرمز على مستوى علاقتها بالواقع، وهي علاقة بصرية تسمح لمنتج الصورة ولمتلقيها بإعطاء معاني متعددة لها. لذلك يرتبط الحدث المعروض من طرف الصورة، بمدى إحساسنا وإدراكنا وتأويلنا له، ويصبح الواقع المرئي réalité visible قابلاً لمختلف القراءات.
هكذا تشكل الصورة تمثيلاً للواقع من زاوية نظر معينة، تتحكم فيها معايير تقنية عديدة مثل الإطار وزاوية التقاط الصورة والإضاءة ومواكبة الصوت حينما يتعلق الأمر بشريط مصور. فالصورة هي عبارة عن رسالة، تتطلب مرسلاً (وهو منتجها) ومتلقيًا (وهو الجمهور المعني بها). وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه العلاقة لا تتسم دائمًا بالشفافية. فالرسائل المبثوثة نادرًا ما تكون أحادية المعنى، بل إنّها تتضمن على العكس من ذلك معاني متعددة. فضلاً عن أنّ المتلقي لا يكون مجرد مسجل سلبي للمعطيات المرسلة، بل يعمل على انتقاء هذه المعطيات وغربلتها وتحويلها. وقد أثبتت الدراسات في علوم الإعلام بأنّ التواصل لا يتضمن فقط فعل الإخبار، بل يسعى إلى التأثير في الآخر وإيهامه وإغرائه وإخضاعه لرأي أو لحكم أو لموقف إلخ.. لذلك، يمكن أن ينساق فعل الإخبار (مثلا في المجال الصحفي وفي مواقع التواصل الاجتماعي: فيسبوك، تويتر..) وراء التلاعب بأفكار المتلقي وإغرائه (مثلما نرى حاليًّا في ممارسات داعش على مستوى التكنولوجيا الرقمية).
ولأنّ الأمر يهم العلاقة بين الذوات، فإنّ إدراك الواقع وفهمه سيتخذان صيغًا مختلفة ومتنوعة، تتحكم فيها المعايير المعتمدة من طرف كل ذات في عملية الفهم والاستيعاب لأنّه ليس هناك فهم واحد ووحيد للواقع. بهذا المقتضى، ينبغي تفادي وهمين معرفيين وهما:
- اعتبار الصورة نسخة أمينة للواقع (لنستحضر الآن ما يعرف بالفوتوشوب).
- الاعتقاد بسهولة فهم المعلومة المتضمنة في الصورة / الرسالة. ذلك أنّ كل معلومة تتوفر على مضمون ظاهر وآخر خفي (وهو ما أكدته الأبحاث السيميائية المعاصرة مع بورس وبارث وأمبرطو إيكو، وهذا على سبيل المثال لا الحصر). وقد بينت عمليات تحليل الحوارات في مجال الإثنو لسانيات، أنّ تبادل العلامات والرموز، يؤدي إلى أشكال عديدة من سوء التفاهم وإلى تحويل المعنى المقصود من أحد المتخاطبين. والأمر المفارق، هو أنّ قابلية سوء الفهم وعدم التفاهم، ازدادت بتطور وسائل التواصل السمعية البصرية التي لا يجهل أحد تأثيرها في مضمون الرسائل.
وفي هذا الإطار، يمكن للصورة، من حيث هي وثيقة، أن تخضع لقراءات متعددة، نظرًا لتعدد معانيها وقابليتها للتأويل. لنأخذ مثالاً من الصور المعروضة في الأفلام الوثائقية المتعلقة بالتاريخ الحديث للمغرب (الاحتلال الاستعماري للمدن المغربية، حركات المقاومة المسلحة بالريف وبالأطلس وبشرق المغرب وجنوبه إلخ..). فالملاحظ أنّ قراءة الصور التي أنجزتها كاميرات الأجنبي في الغالب، ستختلف باختلاف المواقف والمواقع التي يحتلها كل من منجز الصورة ومركبها والمعلق عليها ومتلقيها والفاعل ضمنها، بل يمكن أن تتغير قراءة الشخص نفسه لمضامينها مع مرور الزمن وتبدل السياقات التاريخية والسياسية.
وعلى المستوى البيداغوجي، يمكن أن يؤدي ذلك بمتلقي هذه الصور في مادة التاريخ مثلاً، إلى إعادة النظر في مجموعة من الحقائق التاريخية وإلى اتخاذ موقف نقدي من بعض الأحكام والتصورات المتعلقة بأحداث تاريخية معينة (حركة المقاومة المسلحة بالنسبة إلى مثالنا). ومعنى ذلك، أنّ الأهداف المتوخاة من الصورة بوصفها وثيقة تربوية تتمثل في تحفيز المتعلم على تبني مواقف جديدة من الحقائق والمعارف القائمة وبناء تصورات نقدية حول العالم المحيط به وحول ثقافته ومعارفه، وبالتالي في خلق وضعيات تواصلية تكون فيها الفعالية مشتركة بين المعلم (المكون) والمتعلم. فكيف تتجلى هذه الفعالية؟
2) الصورة وثيقةً تربويةً وعلاقتها بالطرق النشيطة في التعليم
لا تقتصر فعالية الصورة على إيصال المعلومة أو إكساب المعارف والكفايات، بل تبرز أهميتها أكثر في تفعيلها لآليات الاشتغال الذهني. فهناك إمكانيات عديدة أمام الصورة لتسهيل التعلم في إطار البيداغوجيا النشيطة، وتحديدًا بيداغوجيا حل المشكلات. وهنا تبرز أهمية الفيلم التربوي الوثائقي، بوصفه حاملاً لمشروع أو لقصد ديداكتيكي. ومعلوم أنّ الفيلم التربوي يشكل إلى جانب الأفلام الوثائقية الأخرى، العلمية والإشهارية والتاريخية إلخ.. مجال "الهامش" الذي يوجد في الطرف المقابل للفيلم الروائي (الخيالي)[2]. لذلك، فإنّ منتوجه يكون تعليميًّا (ديداكتيكيًّا) في المقام الأول، كما أنّ وظيفة الصورة في إطاره، تتمثل في الإعلام والتعليم informer et instruire. فكيف يبرز هذا القصد الديداكتيكي عبر لغة الصورة؟
إنّ ما يعرض في الفيلم التربوي باعتباره وثيقة أو حدثًا، هو عبارة عن رؤية للعالم. ويتحدد هذا العرض من خلال ثلاثة مستويات وهي:
- المستوى الإيقوني، المتمثل في زاوية التصوير وحركة الكاميرا وسلم اللقطات إلخ..
- المستوى التركيبي، المتمثل في توليف مختلف اللقطات والمشاهد، في عملية المونتاج.
- وأخيرًا المستوى البلاغي الذي تتمفصل فيه مختلف مقاطع الشريط، بحيث تقدم للمشاهد رؤية المصور (أو المخرج) للوقائع، وتدعوه إلى قراءة هذه الرؤية وتأويلها[3].
سيتجلى القصد الديداكتيكي في الحوار الذي سيثيره الشريط بين مبدعه ومتلقيه، مع العلم بأنّ المؤسسة التربوية (وبالتالي كل الفاعلين في إطارها) هي المعنية بهذا الحوار. ولا بأس من الإشارة بهذا الصدد، إلى أنّ كتابة الفيلم التربوي ليست نمطية، بل تعرف درجات متفاوتة من حيث الإنجاز، تمتد من الدرجة صفر التي تستعمل فيها الصورة (السينمائية أو التلفزية) كتقنية للتسجيل (تسجيل درس مثلاً أو نشاط التلاميذ داخل قسم أو ورشة)؛ والدرجة المتوسطة التي تتم فيها الإحالة على معرفة معينة (أو مجال تخصصي معين، تاريخ، علوم الأحياء، لغات إلخ..) موجهة إلى متلق راغب في استكمال معرفته. وأخيرًا الدرجة المكتملة التي يسمح فيها للمشاهد وهو المتعلم هنا، بإنجاز معرفة انطلاقًا مما قدمه الشريط وتبادل ما أنجزه مع أقرانه.[4]
وهنا يتم الارتقاء إلى مستوى آخر، وهو ربط علاقات تبادلية بين المتعلمين في إطار شبكات للتبادل (الإنترنيت مثلاً)، مما يمنح لاكتساب المعارف والكفايات مدلولاً جديدًا ويقدم صورة جديدة عن المتعلم والمدرس. وتلعب الصورة الرقمية في هذا الإطار دورًا بارزًا، حيث تساهم في تطوير الفعل التربوي وفي ابتكار وضعيات تعلمية تسمح بتقاسم المعارف والخبرات، ضمن ما يعرف بالبيداغوجيا النشيطة. وهذه هي النقطة الثالثة في عرضنا.
3) الصورة الرقمية ومدرسة الغد
اعتبرت الباحثة الفرنسية بياتريس بوانساك Béatrice H. Poinssac في مؤلفها الموسوم بـ"الصورة المربية"[5]، التطورات الحاصلة في تكنولوجيا الاتصال، تقدم فكرة دالة عن مستقبل الصورة التربوية. فالخزانات السينمائية التي ظلت إلى عهد قريب في غير متناول البيداغوجيين، ستصبح رهن إشارتهم وستسمح في هذه الألفية الثالثة بتوسيع مجال الصورة التربوية المذكورة. وهو ما تعززه حاليًّا، حضارة الإنترنيت والشبكات العنكبوتية التي ستوسع من أفق انتشارها.
وبالفعل، فقد سمح تطور استعمال الصورة ببروز مصادر جديدة للمعلومة، تمثلت في خلق صور "افتراضية" (عبر الاصطناع والتركيب والنمذجة)، ستساهم في إغناء وسائل تخزين المعلومات ومعالجتها عبر الوسائط الرقمية (الإنترنيت..). وهو ما فتح آفاقًا جديدةً أمام العمل التربوي الذي أصبح لا غنى له عن هذه التكنولوجيا. فلا أحد يجادل اليوم في قيمة الثورة الوسائطية الرقمية التي يعرفها عصرنا؛ ويتعين القيام بدراسات سوسيولوجية وسيكولوجية، فضلاً عن الأبحاث الاقتصادية والإعلامية، لإبراز تأثير هذه الثورة في الذهنيات وفي المواقف والسلوك.
وبالنسبة إلى المؤسسة المدرسية، فإنّ ذلك سيكون له تأثير كبير في اشتغال المدرسين والمتعلمين، بحيث ستزداد فعاليتهم في إطار البيداغوجيا النشيطة وبيداغوجيا المشروع، حيث سيعاد النظر في العلاقة التقليدية بين المدرس والمتعلم. فمن الضروري إذن، العمل على تطوير الوسائل المتعددة بالمدرسة من أجل تحقيق مردودية أفضل (بيداغوجيًّا ومعرفيًّا). وهناك ثلاثة سبل مقترحة لتوسيع أفق استعمال هذه الوسائط وهي:
- أولاً، ترسيخ حقل البحث في الصورة وفي أدوارها التربوية.
- ثانيًا، إبراز أهمية الصورة الافتراضية داخل الممارسة البيداغوجية.
- ثالثًا، التأكيد على أهمية شبكات التواصل (بين الأفراد والمؤسسات) في تطوير معالجة المعلومة وفي التعرف على معطيات جديدة وتبادل المعارف والمكتسبات والتجارب، في إطار ما يعرف بالطرق السيارة للتواصل autoroutes de la communication.
في الأخير، أريد أن أختتم عرضي بإشارة هامة وردت في التقرير التحليلي الأخير حول تطبيق الميثاق الوطني للتربية والتكوين ما بين سنتي 2000 و2013، وهو التقرير الذي أنجزته الهيئة الوطنية للتقييم بالمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي. فقد تم التأكيد على أنّ إعداد الأجيال لاكتساب الثقافة الرقمية والتمكن منها، لا ينبغي أن ينحصر فقط في ولوج التكنولوجيا، بل يجب أن يمتد أيضًا إلى إعداد النشء وتربيته للانخراط في الثورة المعلوماتية الجديدة والمرور من المضامين التي تولدها وسائل الإعلام، إلى المضامين التي يخلقها الفرد، أي إلى إنترنيت جماعي يتشكل أساسًا من الشبكات الاجتماعية.
في هذا السياق، ينبغي تربية حس اليقظة لدى المتعلمين (ات) وتنمية قدراتهم على التمييز الإيجابي والاختيار بين العروض التي توفرها الشبكة الإلكترونية؛ وذلك لأجل تفادي السلوكيات اللامدنية التي يتضمنها العالم الافتراضي والتحول إلى مواطني الشبكة الإلكترونية. وهذا يستدعي العمل في اتجاه تغيير النموذج المرجعي التربوي على مستوى طرق التعليم[6].
وأضع سطرا تحت هذه العبارة الأخيرة، لأنّ الأمر يتعلق أساسًا بتغيير مرجعياتنا التربوية على مستوى طرق التعليم إذا ما أردنا أن يكون المتعلم مبتكرًا ومتميزًا باستقلاليته وأن يكون نظامنا التربوي منفتحًا على كل ما هو جديد ومفيد في زمن سيادة الصورة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، الندوة الدولية حول تربية العموم على الوسائط الجماهيرية، غرونفال، 18 – 22 يناير 1982
[2] Geneviève Jarquinot, Image et pédagogie, Paris, PUF, 1977, p. 32
[3] Ibidem, p. 118
[4] Ibid., p. 131 / 132
[5] Béatrice Hébuterne – Poinssac, L’image éducatrice, Paris, PUF, p. 75 et suiv.
[6] المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، الهيئة الوطنية لتقييم منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، ملخص التقرير التحليلي لتطبيق الميثاق الوطني للتربية والتكوين 2000- 2013، المكتسبات، المعيقات، التحديات، الرباط، يوليوز 2014، ص 29 و30
المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D...