أزمة اللاَّجئين بوصفها إشكاليَّة أخلاقيَّة
بقلم: علي سليمان الرواحي
مقدمة :
يُشَّكل التَّدفق الكبير للبشر، وهروبهم من بلدانهم تحت وطأة الكثير من الظروف المختلفة: كالحرب، والاستبداد، والظلم وغيرها، وضعًا مأساويًا بامتياز على الكثير من الأصعدة والمجالات، فهذه الأزمة ليست اقتصاديَّة فقط (انتقال الفقراء للعيش في الدُّول الغنيَّة)، ولا تنحصر أيضا في الجانب السياسيِّ (الاستبداد و الظّلم مقابل الديمقراطيَّة والحريَّة) ، بل هي في العُمق تتخفَّى بوصفها إشكاليَّة فلسفيَّة، وتحديدًا أزمة أخلاقيَّة حادَّة، يمرُّ بها العالم العربيُّ/ الإسلاميُّ منذ زمن طويل بالإضافة لأزماته المتكاثرة الَّتي يبدو أنَّها لن تنتهي قريبًا ، بل في طريقها للتَّفاقم والازدياد.
في هذه الورقة لن نتطرَّق لذلك السُّؤال الأخلاقيِّ والإنسانيِّ المحُرج للغاية والمتداول بكثرة أيضا، وهو: لماذا لم يستقبل الأغنياء العرب والمسلمون هذا التَّدفق البشريَّ الكبير؟ كما لن نتطرق أيضا للجانب الآخر منه، وهو: لماذا لم تذهب هذه الحشود البشريَّة للبلدان العربيَّة والاسلاميَّة الغنيَّة وغيرها؟ ذلك أنَّ هذه الأسئلة تبدو واضحة في الأفق غير أنَّه لا يمكننا طمرها بأي حالٍ من الأحوال. بل سنحاول أن نطرح هنا الأسس غير الاقتصاديَّة و غير السياسيَّة الَّتي جعلت البلدان الأوروبيَّة هي الوجهة شبه الوحيدة لهذا النُّزوح، تلك الأسس والقيم الَّتي لا نراها طافية على السَّطح، بل هي تُشكل منظومة خفيَّة، و دعامة متينة للتَّعدد البشريِّ.
كانط والأخلاقيَّة الألمانيَّة:
مبدئيًّا، سنتساءل هنا كما تساءل يانيس فاروفاكيس وزير الماليَّة اليونانيِّ المستقيل والاقتصادي الماركسيُّ المناضل في جامعة أثينا في مقالة له بتاريخ 16 سبتمبر 2015م والمنشورة في www.socialeurope.eu ، حول الأسباب الَّتي جعلت ألمانيا قِبلة لهذا التَّدفق البشريِّ، وتحديدا حول تلك الأسباب غير الاقتصاديَّة لهذا التَّرحيب الألمانيِّ لهم؟ مُجيبًا بذلك: إنَّنا أمام الهبِة الفلسفيَّة العظيمة للبشريَّة والمتمثلة بالفيلسوف الألمانيِّ: كانط (1724م – 1804م) .ربَّما نستطيع القول أيضًا في البداية بأنَّنا أمام امتداد لذلك الإرث التَّنويريِّ الَّذي يناضل منذ فترة طويلة للتَّمدُّد داخل القيم الأوروبيَّة وخارجها، في ظلِّ وجود منافسين إقتصاديين، عقائديين وعنصريين أشداء يرغبون بتقويض هذه القيم لصالح المردود الماليِّ والاقتصاديِّ، هذا الإرث الَّذي جعل القارَّة الأوروبيَّة منذ فترة طويلة مصدرًا للتَّعدديَّة القيميَّة والأخلاقيَّة والسياسيَّة وغيرها، والَّذي تكّون عبر الجهود الفلسفيَّة الأوربيَّة في العهود السَّابقة.
تنطلق الرؤية الكانطيَّة في هذا السِّياق من أنَّ الإنسان غاية في حدِّ ذاته ولا ينبغي التَّعامل معه حسب النَّتائج الربحيَّة والاقتصاديَّة المتوقعة منه، وهو ما ينطبق قبل ذلك على الجانب الأخلاقيِّ بحيث أنَّ الفعل ينبغي أن يكون بمثابة مسلّمة من الممكن جعلها في نفس الوقت قانونًا عامًّا، بعيدًا عن اعتباره كوسيلة لبلوغ أهداف مختلفة. وهو ما يعني انتفاء الحالة الشَّرطيَّة للفعل ، أي أن يكون مقصده خيّرًا أو غير ذلك، ففي هذه الحالة يخضع الفعل للتَّجربة الَّتي لا يمكن اعتبارها كمرجعيَّة عامَّة، بل ينبغي إخضاع الفعل لما هو مشترك بين الجميع ، أي أن يقوم بالضرورة على العقل الخالص وحده مستقلا ً عن كلِّ تجربة، و هو ما جعله يصل لميتافيزيقا الأخلاق الَّتي تعتبر مستقلة استقلالاً تامًّا عن اللاَّهوت وعلوم الإنسان، فالإنسان في علاقته المستمرة بالتَّجربة يلجأ بشكلٍ طبيعيٍّ للدَّوافع المختلفة الَّتي لا يمكنه من السَّيطرة عليها، بل يجد نفسه منقادًا لها، وخاضعًا لتقلُّباتها المختلفة.
هذه المبادئ الكانطيَّة، لم تكن غائبة عن الأفق الواقعيِّ في التَّعامل مع هذه الأزمة وغيرها ، بل كانت حاضرة وبقوَّة أكثر من أي وقت مضى، فهي تستمدُّ راهنيتها وأهميّتها من هذه الأحداث المتكررة وغيرها، وهو ما نجده في تلك الحقوق المختلفة حسب وجهة النَّظر الكانطيَّة، فهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام، حسب بحوث ودراسات الفيلسوفة الأميركيَّة من أصل تركيٍّ: سيلا بنحبيب، وبشكلٍ خاص في كتابها: حقوق الآخرين: الأجانب، السُّكان، المواطنون، كامبريدج 2004م ، حيث نجد أنَّ هناك ثلاثة حقوق متوافرة في هذا السِّياق، و هي كالتَّالي:
1) الحقوق في الدولة: وهي الحقوق بين المواطنين في الدَّولة الواحدة.
2) الحقوق الأمميَّة: وهي الحقوق بين الدُّول المختلفة.
3) الحقوق الكوسموبوليتيَّة: وهي تلك العلاقات والحقوق بين الأشخاص والدُّول الأخرى.
في هذا الاطار وتحديدًا في الحقوق الكوسموبوليتيَّة نعثر على مفهوم الضيافة، الَّتي لا يمكننا اعتبارها كنوع من الإحسان بل بمثابة حقوق، كما أنَّه لا يمكن تفهمها على أنَّها فضيلة، أو لطف، أو كرم، تجاه الغرباء الَّذين أجبرتهم الظروف التَّاريخيَّة والطبيعيَّة على هذا السُّلوك، بل كحقوق تجاه بقيَّة الجنس البشريِّ، ينبغي الالتزام بها. إن الضيافة تعني هنا: حقوق الغرباء الَّذي لا ينبغي معاملتهم كأعداء وصلوا لأراضي الآخرين. فهي تُشرّع لتلك العلاقات بين الأفراد ضمن الكيانات المدنيَّة المختلفة (أو الدُّول).
و لأجل ان تكون هذه الحقوق مُقننة ، و بعد الكثير من الحروب التي وقعت بين الدول كالحربين العالميتين ، اصبح لزاما ً ان تكون هناك اتفاقيات دولية تمنح اللاجئين حقوقا ً مختلفة ، و في المقابل التزامات متعددة من قبلهم ، و هو ما نجده في اتفاقية 1951م الموقعة في الدنمارك برعاية الامم المتحدة ، فحسب هذه الاتفاقية فإن هناك الكثير من الحقوق التي يحصل عليها اللاجئون منها : العمل ، و السكن ، و التعليم ، و حرية الاعتقاد ، كما ان هذا يعني ايضا ً في المقابل ضرورة الالتزام بالقوانين المعمول بها في كل دولة.
الحقوق والأرضيَّة الفلسفيَّة:
لم يكن لهذه الاتِّفاقيَّة وغيرها، أن تنبثق دون وجود تلك الدّعامات الفلسفيَّة المختلفة، تلك الَّتي لا تظهر على السَّطح، وهو ما ينطبق على هذه الاتِّفاقيَّة وغيرها، فهي متضمنة في إعلان حقوق الإنسان 1948م، الَّتي تضمن حقَّ اللُّجوء السياسي للأشخاص، هروبًا من الحروب والاضطهاد، بسبب اللُّغة والدِّين والعرق والاختيارات الفكريَّة المختلفة. ففي هذا السِّياق ، من الضَّروريّ الحديث عن الأبعاد الفلسفيَّة المشتركة العابرة للحدود والاختلافات العرقيَّة واللُّغويَّة وغيرها، تلك الَّتي لا ترتبط بالأوامر الشَّرطيَّة كما يقول كانط، بل تصبح واجبًا عموميًّا بمثابة قانون عام، ذلك أنَّ الأوامر الشَّرطيَّة هنا، تعني أنَّ هذه الحقوق مرتبطة فقط ببعض الأعراق، والانتماءات الدِّينيَّة واللُّغويَّة المحدّدة، وهو ما يضعها في إطارٍ بشريٍّ ضيِّق، الأمر الَّذي يتنافى مع البُعد الفلسفيِّ الكامن خلف هذه الرؤى الوجوديَّة.
فالحقوق هنا لا تُمنح كما تشاء الأنظمة السياسيَّة أو الدينيَّة أو الاجتماعيَّة وغيرها ، فهي ملُزمة ليس بحسب الاتِّفاقيات الدوليَّة فقط، والَّتي كثيرًا ما يتمُّ انتهاكها للأسف الشَّديد، بل هي في الكثير من الأحيان، علامة من علامات تغليب البُعد البشريِّ المُشترك، تلك الَّتي تقوم على العقل الفلسفيِّ الَّذي يهتمُّ بالكُلي المجرَّد، فالحقوق والكرامة البشريَّة على سبيل المثال “لا تقوم على العواطف والدَّوافع والميول، بل تقوم فحسب على علاقة الكائنات العاقلة بعضها ببعض” كما يقول كانط في “تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق” فالكرامة تعلو على كلِّ ثمن وتبعًا لذلك لا يمكن أن يكافئها شيئًا من هذا القبيل، ففي حالة وجود ثمن للكرامة فإنَّ الذَّات العاقلة لم تعد غاية في ذاتها، بل أصبحت مرتهنة بالنَّتائج المرجوة منها، أي أصبحت وسيلة، وهذا يحرمها من الحريَّة الَّتي هي أساس التَّشريع الكُلي العام، الَّذي يُلزم جميع الذَّوات المشتركة في هذا الفضاء على الالتزام بهذه الواجبات، الأمر الَّذي يُمهِّد لقيام عالم معقول، “بوصفه مملكة للغايات، وذلك عن طريق التَّشريع النَّابع عن جميع الأشخاص بوصفهم أعضاء فيه” (كانط ، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق).
لا يمكننا فصل القضايا الفلسفيَّة عن بعض، فهي مترابطة بشكلٍ وثيق، ففي الوقت الَّذي نتحدَّث فيه عن حقوق اللاَّجئين بشكلٍ عام، فأنَّنا نتحدَّث عن حقوق المواطنين أيضا، وحقوق المقيمين كذلك، فكلّ هذه الحقوق ترتبط ببعضها البعض، أنّها تعود لرؤيتنا الكامنة تجاه الإنسان بشكلٍ عام، وكيفيَّة النَّظر إليه، والتَّعامل معه، بغضِّ النَّظر عن القضايا الشَّرطيَّة المختلفة والدَّوافع والميول.
خاتمة :
تتجاوز الأخلاق تلك العلاقات البطريركيَّة التَّقليديَّة بين البشر الَّتي تساهم في تكوين القطعان والجماعات، أو بحسب نيتشه فإنَّه ينبغي الخروج من قيم النُّبلاء أو قيم العبيد إلى تأويل آخر، إنَّ الأخلاق مرادفة للحريَّة، وليست تلك المرتبطة بالعادات والتَّقاليد المجتمعيَّة والمتوارثة، بهذا المعنى تزداد الحاجة للأخلاق والقيم الحديثة يومًا بعد يوم، وهي لا يمكنها أن تتعزز دونما وجود أرضيَّة فلسفيَّة عمليَّة متجذرة في السُّلوكيات الَّتي تنتمي لهذا العالم الحديث من الناحيتين: القيميَّة والفلسفيَّة، الأمر الَّذي يعني بأنَّنا وخصوصًا في العالم العربيِّ بأنَّ المرحلة الرَّاهنة تفتقر للكثير من الدَّعامات الفلسفيَّة وبالتَّالي الأخلاقيَّة والقيميَّة، الَّتي من الضَّروري أن ترتكز عليها الرؤى المستقبليَّة للحياة، ذلك أنَّها (الحياة) دونما قيم بشريَّة مشتركة ستعود إلى حالة الطبيعة بالمعنى الهوبزي للمفهوم، ممَّا يفقد الإنسان باعتباره غاية بحدِّ ذاته، بل سيتمُّ النَّظر اليه بوصفه مصدرًا للمتعة، والمال، والانتصارات الخشبيَّة المختلفة.
ختامًا، على الإنسان أن يستعيد ذاته من الاستلابات اليوميَّة والتَّاريخية المختلفة، الَّتي ظلَّت لفترة زمنيَّة طويلة تترصَّده في كلِّ زاوية تنويريَّة جذريَّة، وأن يواصل هذا المسار الوعر من المقاومة والتَّنوير، وصولاً إلى مواقع الحريَّة الشَّاغرة، تلك الَّتي تنتظر مشعلاً جديدا كلَّ يوم.