مجتمع الخير والأمَّة الميمونة عند العامري
منى أحمد أبو زيد
تمهيد:
عاصر العامري فترة عصيبة من تاريخ الأمة الإسلامية؛ حيث بدأت علامات الضعف السياسي في الظهور، ومن أهم مظاهرها تجزؤ الدولة الإسلامية إلى دويلات، وتطاحن هذه الدويلات في حروب، وانتشار الظلم والفساد.
وصارت الحالة التي وصلت إليها الدولة الإسلامية -حينذاك- على نقيض الدولة الإسلامية الأولى، التي وضع دعائمَها الإسلامُ، وسعى فيها إلى بناء دولة قوية فاضلة، تجمع المسلمين في وحدة وتماسك حول الدين.
ونادى العامري بعودة الدولة الإسلامية إلى سابق عهدها، وأن تكون دولة قوية، تجمع بين الدين والسياسة، فلا تقتصر على الجوانب الروحية فقط؛ بل تربط بين الروح والمادة، بين العقل والجسد؛ من أجل تحقيق سعادة الفرد وسعادة المجتمع.
وهذه الدولة المنشودة هي ما سعى العامري إلى رسم ملامحها وأطلق عليها اسم «الأمة الميمونة»(1) التي تقوم على التقدم العلمي، والكمال الأخلاقي، بالإضافة إلى القوة الروحية والقدرة السياسية.
وقد رصد العامري هذه الفكرة من خلال عدة مؤلفات، في مقدمتها كتابا «الإعلام بمناقب الإسلام» و«السعادة والإسعاد».
وتعرض هذه الدراسة ملامح مجتمع الخير الذي بناه العامري على ثلاثة محاور:
المحور الأول: مجتمع المعرفة
أول سمة تميّز مجتمع الخير عند العامري أنه مجتمع يقوم على المعرفة؛ لأن المعرفة مرتبطة بالفضيلة، والجهل مرتبط بالرذيلة، أو كما سبق أن قال سقراط: إن المعرفة فضيلة والجهل رذيلة.
ويؤكد العامري على دعوة الدين لأهمية العلم مؤيدًا ذلك بآيات قرآنية وأحاديث نبوية، فالعلم والمعرفة دعوة نادى بها القرآن كما جاء في قوله تعالى: ﴿فبشر عباد. الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه﴾ [الزمر: ١٧-١8]،وكما جاء في قوله -صلَّى الله عليه وسلم-: «العلم كثير فخذوا من كل شيء أحسنه»، ويُحكى عن الإمام علي- كرم الله وجهه- قوله: «قيمة كل امرئ بما يحسنه، والمرء عدوّ لما جهله»(2).
فالمعرفة دعوة دينية، ومن أعظم عطايا الله تعالى لعباده أن خلقهم محبين للعلم، فالسعي إلى العلم والمعرفة استجابة لدعوة الدين.
ويُعرِّف العامري العلم بأنه «الإحاطة بالشيء على ما هو عليه من غير خطأ ولا زلل»(3)، وهو ينقسم إلى نوعين: علوم عقلية، وعلوم دينية. وتحت كل قسم من هذين القسمين تندرج مجموعة من العلوم؛ يحددها بثلاثة علوم لكل قسم، يضاف إليه علم رابع يُعد مدخلاً أو أداة لهذا العلوم.
فالعلوم الحكمية العقلية تضم: علم الإلهيات، والعلوم الرياضية، والعلوم الطبيعية، ثم علم المنطق آلة هذه العلوم. أما العلوم الدينية، فتضم: علم الكلام وعلم الفقه وعلم الحديث، بالإضافة إلى علم اللغة الذي هو آلة لهذه العلوم.
وهذا التعدد الموجود في العلوم هو من الحكمة الإلهية لتحقيق المصلحة البشرية؛ لأن طبائع البشر مختلفة ومتعددة. ولما كانت طبائع الإنسان لا تقدر على تلبية كل احتياجاته؛ تخصص كل فرد- أو مجموعة- في علم يخدم به غيره، فاختلاف العلوم وتعددها هو استجابة لاختلاف طبائع البشر، واستجابة لميولهم المتعددة.
وكل قسم من أقسام العلوم يحقق خيرًا وسعادة للمجتمع؛ فالعلوم العقلية تحقق ثلاثة أهداف(4):
الأول: استكمال الفضيلة الإنسانية بمعرفة حقائق الوجود والسيطرة عليها.
الثاني: معرفة الحكمة من الخلق، بالتعرف على موجودات العالم، ومعرفة أسبابه والنظام الذي بني عليه.
الثالث: التوصل إلى الإيمان عن طريق العقل وليس عن طريق التقليد، فهي تساعد على الإيمان وتؤكده؛ لأن غاية الفلسفة- كما يرى العامري- معرفة الله عن طريق العقل.
أما العلوم الدينية فيصفها العامري بأنها أشرف العلوم كلها منزلة، وأعلاها مرتبة، وأرفعها درجة؛ حيث تحقق للإنسان فوائد، منها(5):
الفائدة الأولى: أن ثمرة العلوم كلها الوصول إلى الخير، ولا خير للعبد أفضل من التقرب إلى الله والإخلاص له.
الفائدة الثانية: أن العلوم الدينية لا تهدف إلى مصلحة الأفراد فقط؛ بل إلى مصلحة الجماعات، فلم يوضع دين من الأديان للنفع الخاص، بل قصد المصلحة الكلية العامة لكل البشر.
الفائدة الثالثة: أن العلوم غير الدينية إذا كانت تقوم على العقل، فالعلوم الدينية تقوم على أساس أكثر يقينًا، وهو الوحي الذي لا يطرأ الشك عليه.
ولما كانت للعلوم هذه الفائدة- سواء كانت علومًا دينية أو علومًا فلسفية- فإن الجمع بينهما يحقق أكبر فائدة للإنسان. ولذا دعا العامري إلى طلب العلم من أي بقعة في الأرض مرددًا مقولة: «اطلبوا العلم ولو في الصين». وهو بهذا يرد على بعض الفقهاء الذين رفضوا العلوم الفلسفية؛ لأن مصدرها قوم من الوثنيين.
ولما كانت الفلسفة في عصر العامري توازي العلم بمعناه الواسع، كان حرصه على تأكيد أهمية المعرفة والدفاع عنها ضد بعض الاتجاهات غير العقلانية التي زعمت أن العلوم العقلية مضادة للعلوم الدينية، وأن من مال إليها وعني بدراستها خسر الدنيا والآخرة(6).
ويصف العامري العصر الذي عاش فيه بأنه عصر عظم فيه البلوى؛ حيث هاجم بعض علماء الدين العلوم العقلية، حتَّى يتوهم السامع أن الملة الحنيفية ضد العقل، وضد التفكر في ملكوت السماوات والأرض، وضد التدبر والنظر في دلائل الخلق، و«كأن الدين الحقيقي عندهم مقترن بالسفه والغباوة»(7)، وهو رأي خاطئ؛ لأن الفلسفة أم العلوم، بل إن «من استخف بالحكمة- المعرفة- أهلك دينه»(8).
هذه هي قيمة الفلسفة والعلوم العقلية- في نظر العامري- وكل من حاول هدمها فهو يهدم الأساس العلمي والثقافي الذي تقوم عليه أية حضارة تؤدي إلى تقدم المجتمعات.
فإذا كانت هذه قيمة المعرفة في تحقيق خير المجتمع فإن العامري لا يقف عند حدود امتلاك المعرفة فقط؛ بل ينقد كل من يرى أن المعرفة تطلب لذاتها، بغض النظر عن أهدافها العملية في واقع المجتمع، وكان هذا هو اتجاه فلاسفة اليونان، وهو ما يرفضه العامري قائلاً: «إن كل من آثر لنفسه هذه العقيدة فقد ارتكب خطأً فاحشًا، فإن العلم مبدأ للعمل، والعمل تمام العلم، ولا يرغب في العلوم الفاضلة إلا لأجل الأعمال الصالحة»(9).
أما الاكتفاء بأحدهما دون الآخر فيعده العامري مخالفًا لطبيعة الإنسان ومصلحته؛ فالإنسان مزود بقدرتين: قدرة تحصيل العلم، وقدرة تقديم العمل، ولا يمكن الاكتفاء بأحدهم والاستغناء به عن الآخر، والاكتفاء بأحدهما سيؤدي إلى الإخلال بنظام العالم وبخير الإنسان. فالقدرة النظريَّة لا تكفي وحدها لسد حاجات الإنسان، وترك العمل سيخل بعمارة البلاد وسياسة العباد، كما أن ترك العلم والاكتفاء بالعمل سيؤدي إلى تفويض الأعمال إلى الجهلاء.
ومن هنا حرص العامري على التأكيد على العلاقة الوثيقة بين العلم والعمل، أو بين النظريَّة والتطبيق. فالمعرفة الصحيحة هي التي تمكَّن الإنسان من الأعمال الصالحة النافعة.
ويقسم العامري الأعمال النافعة إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أعمال خاصة بالإنسان وحده، ويقصد بها الجانب الأخلاقي، وفي هذا الجانب يعمل الإنسان على سيادة عقله على غرائزه وانفعالاته.
والقسم الثاني: أعمال تفيد الإنسان بكونه عضوًا في مجتمع، وتتعلق هذه الأعمال بتنظيم علاقاته بمجتمعه الصغير؛ أي أسرته.
والقسم الثالث: أعمال تفيد الإنسان باعتباره عضوًا في جماعة، وتتعلق هذه الأعمال بتدبير المدينة؛ أي السياسة ونظام الحكم.
إن المعرفة الصحيحة هي التي تمكَّن الإنسان من القيام بأعمال نافعة: نافعة له كفرد، ونافعة له كعضو في أسرة، ونافعة له كفرد في دولة.
ويقرر العامري أن الإسلام يوجه الإنسان إلى هذه الأعمال النافعة، فيوجهه إلى ما فيه الخير من هذه النواحي الثلاث جميعًا؛ أي في الأخلاق والاجتماع والسياسة.
فالأمة الميمونة أو مجتمع الخير هو المجتمع الذي يتحقق فيه خير الإنسان على المستوى الفردي في مجال الأخلاق، فيكون إنسانًا فاضلاً في نفسه، وصالحًا لأسرته، وقويًا لمدينته؛ لتكون مدينته مدينة فاضلة وسعيدة.
المحور الثاني: مجتمع الفضيلة
بحث العامري الأخلاق من خلال بحثه عن السعادة الأدنى للإنسان، باعتبار أنها الخير المتاح لكافة البشر دون تفاوت، فهي خير إنساني يمكن الوصول إليه عن طريق الفضيلة الخلقية.
والفضيلة هي هيئة أو ملكة تصدر عنها الأفعال، وهي السجايا والشيم الصادرة عن الإنسان باعتباره كائنًا عاقلاً، وليس باعتباره كائنًا حيوانيًا.
فالإنسان الفاضل هو الإنسان الذي تحركه قواه العقلية وليست قواه الشهوانية أو الغضبية، وهذه القوة العقلية هي التي ميّز بها الله الإنسان عن بقية الكائنات.
ويُعرِّف العامري الفضيلة بأنها توسط بين رذيلتين(10) في أي فعل. والرذيلة حال تميل بالفعل نحو أحد الأطراف البعيدة عن الوسط بزيادة أو نقصان، بإفراط أو تفريط، أما الوسط من الأفعال والأحوال فكله محمود.
والتوسط في الأفعال هو ما يحقق الفضيلة، ودليل هذا أن القوة الشهوانية إذا تم فرطت فيها كانت «شرَهًا»، وإذا نقصت كانت «جمودًا»، وإذا توسطت كانت «عفة»، وهي فضيلة.
ويجمع العامري في نظريته الأخلاقية بين البُعد الفلسفي والبُعد الديني، فنظريَّة «الوسط الفاضل» هي نظريَّة فلسفية استفادها العامري- وغيره من فلاسفة الإسلام- من فلسفة أرسطو.
أما البُعد الديني فيرجع إلى الإسلام؛ حيث وصف بأنه دين وسط، وأن أمته هي الأمة الوسط، قال تعالى: ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطا﴾ [البقرة: ١٤3]. كما وصف الإسلام بالاعتدال، يقول العامري: «إن أحق الأديان بطول البقاء ما وجدت أحواله متوسطة بين الشدة واللين؛ ليجد كل من ذوي الطبائع المختلفة ما يصلح به حاله في معاده ومعاشه، ويستجمع له منه خير دنياه وآخرته»(11).
وهذه الفضائل يكتسبها الإنسان عن طريق خطوتين:
الخطوة الأولى: التعلم في البداية؛ حيث إن الأخلاق كلها- فضائل أو رذائل- مكتسبة، فالفضائل ليست فينا بالطبع، بل هي أحوال تطرأ على الإنسان، ولو كانت موجودة فينا بالطبع لكانت موجودة دائمًا، مثل البصر والسمع، وغيرهما من القوى.
الخطوة الثانية: أن يكرر الإنسان هذه الأفعال حتَّى تصير عادة، أو- حسبما يسميها العامري- «ملكة» يفعل بها الإنسان دون تفكير أو روية، وتصبح الفضائل كأنها طبيعة ثانية له.
فالأخلاق عنده تبدأ بالتعلم، ثم بالتكرار تصبح عادة أو ملكة، وهيئة أخلاقية، والإنسان الفاضل هو من اتجه همه إلى «العناية بتطهير نفسه، واستصفاء أخلاقه، واستكمال آدابه»(12)، وبهذا يصير هو الإنسان الكامل.
فالإنسان لكي يكون فاضلاً لابد أن يتعلم الفضائل في الصغر، إلا أنه يحتاج بداية إلى من يلقنه تلك الفضائل، سواء من الأسرة أو من خارجها. لذا نادى العامري بضرورة وجود مرب للصغار؛ فالإنسان يولد على سمة حيادية، ويكتسب أخلاقه من البيئة المحيطة به، وهذه البيئة قد تكون الأسرة، وقد يكون المجتمع، والإنسان في صغره يحتاج إلى من يوجهه نحو السلوك الصالح ويلزمه به، كما يحتاج عند الكبر إلى طاعة الرؤساء والالتزام بالسلوك القويم.
ويبحث العامري هذا الجانب على أكثر من مستوى، فيبحثه في الجانب التربوي داخل الأسرة، وفي الجانب السياسي داخل الدولة؛ ففي الأسرة يبحث العلاقة بين التربية والأخلاق، ويعرض أنواع الآداب والعلوم الواجب تعلمها، وكيفية التعلم، والسن التي يجب التعلم فيها، وما يجب أن يُفرض على الأولاد تجاه الوالدين أو المعلمين من حُسن الطاعة.
وفي المجال الخارج عن الأسرة، يتكلم العامري عن دور المجتمع والدولة في تحقيق الفضيلة لمواطنيها، فيعرض لدور الحاكم- أو ما يسميه العامري «السائس»- في تحقيق الخيرات، وأهمية تحقيق فضيلة العدل عند التعامل مع المواطنين، «فقوام أمر السعادة إنما هو بالمربي والسائس، ثم بحسن طاعة المتأدب والمربي»(13).
وعمل المربي هو التعليم والتأديب، ويفرّق العامري بين التربية والتأديب؛ فالأول: هو أن يحمل الصغار على القول والفعل حتَّى يلتزموا، والثاني: أن يقال الشيء الحسن ليسمعوه أو يفعلوه عن طريق إعطاء القدوة.
فالمعلم قدوة لتلاميذه، وفاقد الشيء لا يعطيه، فيجب أن يكون المعلم حائزًا للفضيلة، وعلى رأسها: القناعة والزهد والتواضع.
ولكل طائفة من طوائف المجتمع مربٍ خاص، هو الذي يسوق الإنسان أو الطائفة إلى كمالها الخاص وخيرها العام، والتأديب ليس وقفًا على سن معينة؛ بل يوجد مربٍ لكل الأعمار، و«الواجب على كل إنسان أن يلتزم بالتعليم لمن هو دونه، والتعلم ممن هو فوقه»(14).
فالتعليم والتربية ليسا وقفًا على الصغار؛ بل هما مطلوبان لكل الأعمار؛ لكن الصغار يكفيهم تعلم الفضائل وتقديم القدوة الحسنة لكي يحاكوها، أما الكبار فيحتاجون إلى معرفة حقيقة الفضيلة لكي يتبعوها، أو كما قال العامري: «إن الأحداث يؤاخذون بطريق التقليد، والشيوخ يطالبون بطريق التحقيق»(15)، وعلى الإنسان أن يصلح من أمر ذاته وأخلاقه حتَّى يصير صالحًا لنفسه، وصالحًا لرئاسة الآخرين، أما من عجز عن إصلاح نفسه كفرد، فهو لا شك عاجز عن إصلاح بيته إذا كان رب أسرة، وعاجز عن تدبير دولته إذا كان رئيسًا.
والفضيلة تحقق فوائد خاصة بالفرد وأخرى خاصة بالمجتمع، فتحقق للفرد كماله الأخلاقي، وتحقق لمجتمعه نوعًا من العلاقات الاجتماعية السليمة التي يحددها العامري بأربع علاقات(16):
أولها: علاقة الرجل مع امرأته، والثانية: علاقة الوالد مع أولاده، والثالثة: علاقة المالك مع أملاكه، والرابعة: علاقة الملك مع رعيته ومواطنيه.
وبإصلاح حال الإنسان كفرد في ذاته، أو إصلاحه كفرد في أسرة، وفي شتى أنواع العلاقات الاجتماعية، تتحقق له سعادته الممكنة، وبذلك يتحقق المجتمع السعيد الصالح الذي يهدف إلى تحقيقه كل فرد، والذي نادى به الدين الإسلامي.
وهذه العلاقات الأربع قد تناولها الإسلام، وحدد مجالاتها، وسنّ لها التشريعات التي تحميها، فإذا التزم بها معتنقوه حققوا المجتمع العادل؛ مجتمع الخير والأمة الميمونة.
المحور الثالث: القوة الروحية والقدرة السياسية(***
لا يقصر العامري مجتمع الخير على المعرفة والفضيلة؛ بل لابد أن تؤيدهما القوة، وتتمثل هذه القوة في جانبين: القوة الروحية والقدرة السياسية.
وقد خصص العامري فصلين من كتابه «الإعلام» لتناول العلاقة بين الدين والدولة، أو بين القوة الروحية والقدرة السياسية، فالإسلام لم يأت بالخير والفضيلة لشعب معين، بل نزل للعالمين، وهدفه إصلاح البشرية وتحقيق مجتمع الفضيلة.
أوَّلاً: القوَّة الروحـية
نادى العامري بأهمية وجود الدين لصلاح المجتمع وخيره، وناقش قومًا أسماهم «المتظرفة» أنكروا الأديان، بحجة أنها لا تقوم على العقل، وأنها «مُثل شرعية، وأوضاع اصطلاحية، تأخذ كل ملة منها حظًا تنتفع به في إقامة معاشها، ودفع أسباب العبث عن أنفسها»(17).
وهذا اتجاه كان معروفًا في زمن العامري؛ حيث انتشرت في القرنين الثالث والرابع الهجريين موجة طاغية من الإلحاد، بلغت ذروتها على يد زعيمين من أكبر زعماء الفكر الإلحادي، هما أبو الحسين بن الراوندي (ت245هـ)، وأبو بكر بن زكريا الرازي (ت311هـ).
يُنسب إلى ابن الراوندي مؤلَّفات نقد فيها النبوة، وقال عنها: إنها نوع من العبث، فذكر في كتابه «الزمرد»(18) رفضه للنبوة والدين اعتمادًا على كفاية العقل في المعرفة، ونسب هذه النظريَّة إلى البراهمة، حيث عرف عنهم- في ذاك العصر- أنهم ينكرون النبوات، معتمدين على كفاية العقل، وهو ما أخذ به-أيضًا- أبو بكر الرازي(19).
ويورد العامري حجج هذا الاتجاه التي منها:
1- أن الأديان ما هي إلا مجموعة من الأوضاع الاجتماعية المصطلح عليها في كل مجتمع، ولا أساس لها من العقل، ولذا تختلف من مجتمع لآخر، ولو كانت الأديان تقوم على العقل ما اختلفت ولا تعددت.
2- يكفي الاعتماد على ما اتفقت عليه هذه الأديان من مبادئ وفضائل: كالعدل، والصدق، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد ونُصرة الضعيف.
ويفند العامري هذا الاتجاه؛ لأنه اتجاه لا يقبله إلا أحد رجلين:
- رجل لم يؤسس اعتقاده على أساس عقلي متين، فهو في حيرة وريبة.
- أو رجل يؤثر اللذات العاجلة في هذه الحياة، ولا يهتم بأمر الآخرة.
وهذان الرجلان مرفوضان من الناس جميعًا؛ لأنهما يذهبان إلى خلاف ما أجمع عليه الناس.
ثم يردّ على زعمهم: «أن الأديان ما هي إلا أوضاع اصطلاحية لا أساس لها من العقل» قائلاً: إن الأركان التي تقوم عليها -الأديان من عقائد وعبادات ومعاملات وحدود- أمور ضرورية لصلاح المجتمع البشري، فلا يمكن أن يوجد مجتمع صالح دون هذه الأركان، أو دون شرائع وقوانين تنظم علاقات الناس بعضهم ببعض.
أما حجَّتهم القائلة: «باتباع ما اتفقت عليه الأديان فقط، وترك ما اختلفت فيه»، فيرد العامري بأن الأديان قد اتفقت على هذه الأركان في أصولها، أما اختلافها في الفروع، فإن العقل لا يوجب «ترك جميع ما اختلف فيه العقلاء، بل يوجب صرف العنان إلى ما هو الأرشد من جملته»(20).
يضيف العامري إلى ما سبق حُجَّة أخيرة، وهي أن العقل عاجز وحده عن إدراك الحقائق كلها، فهو محتاج إلى معونة إلهية، ورسالات سماوية، تعينه على ما استعصى على عقله، وكأن العامري يردد ما قالته المعتزلة من أن النبوات والأديان من أوجه اللطف الإلهي(21).
ويرى العامري أن الله تعالى قد خص الإنسان- دون بقية مخلوقاته- بخير خاص به، هذا الخير متمثل في الشرائع والأديان؛ حيث يعرض للإنسان أصناف من الخير، بعضها مطلق، وبعضها مقيد. فالخير المطلق مثل: الحكمة والصدق والعدالة، فهي قيمة في ذاتها، أما الخير المقيد، فهو مثل: الثروة والرياسة والقوة؛ فقد تكون خيرًا إذا استعملت استعمالاً حميدًا، وقد تكون شرًا إذا استعملت استعمالاً رديئًا.
وقد يقف الإنسان حائرًا أمام هذه الخيرات المقيدة، لا يعرف كيفية الاستفادة منها على نحو يحقق فضيلتها، وهنا يأتي الدين ليحدد له الصور الصالحة؛ لأن «الشرع الإلهي هو الكاسب لهذه المعاني تمام الرتبة ووصف الخير»(22).
ولذا يصف العامري الدين بأنه المنجي للإنسان من الوقوع في الشرور، والموصل إلى تحقيق الخير المطلوب، ويجب على الإنسان الالتزام به. والالتزام بالدين ليس التزامًا بأعمال وعبادات خارجية فقط؛ بل هو اهتمام بالداخل أكثر؛ لقوله -صلَّى الله عليه وسلم-: «إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى»( مروي في الصحاح عن عمر).
فالإيمان -عنده- مبني على الاعتقاد، والعبادات وحدها دون اعتقاد سليم هي رياء لا يُقبل عند الله، ولا عند الناس، ومن هنا اعتبر أن العبادات وحدها لا تكفي لتحقيق خير الإنسان؛ بل يجب إضافة الاعتقاد الصحيح إليها، فإذا كان العلم يسبق العمل، فإن الإيمان-أيضًا- يسبق العبادة.
وهكذا ينهي العامري تصوره للدين الإسلامي على أنه عناية وخير للإنسان، ليس في كونه يرشد الإنسان لخيره الخاص فقط؛ ولكن في كونه خير الأديان التي تراعي حق الإنسان وتحافظ على حياته، وتيسر له العيش، وتمده بالزاد المعنوي والقيم التي تضع إطار التعامل بين الأفراد من جهة، وبين الدولة ومواطنيها من مسلمين وغير مسلمين من جهة أخرى.
ثانيًا: القدرة السياسية
إذا كان علم الأخلاق يُعنى بتدبير النفس-أي سياسة الإنسان لنفسه من أجل أن تكون أفعاله فاضلة- فإن علم الأخلاق، ثم سياسة الإنسان لأسرته مع سياسة المدينة تكوّن موضوعات الحكمة العملية، التي مقصودها تحقيق خير المجتمع وسعادته.
ويتفق العامري مع الكثيرين على أن الاجتماع ظاهرة طبيعية في حياة الناس، وهو وليد شعور الفرد بالحاجة إلى الآخرين، وأن المدينة نشأت عندما شعر الناس بأن الواحد منهم لا يستطيع أن يكفي نفسه في إشباع حاجته، فاجتمع الناس بعضهم مع بعض لتحقيق هذا التكامل.
وقد سبق أفلاطون وأرسطو العامري في هذه الفكرة، كما سبقه من فلاسفة الإسلام الفارابي، وهو ما سيصرح به ابن رشد وابن خلدون فيما بعد.
ويسمِّي العامري هذا الاجتماع بـ«المعاشرة»، ويقول: إنه «لابد من أن يعاشر الإنسان من في منزله، ومن في مدينته معاشرة جميلة»(23)، وهذا يحتاج إلى وضع سياسات تحكم العلاقة بين الأفراد من ناحية، وبينهم وبين الدولة من ناحية أخرى.
ولا يقيم العامري السياسة على الحكمة العقلية فقط؛ بل أيضًا على الحكمة الدينية، ويربط بين الدين والسياسة برباط وثيق في عبارة بليغة قائلاً: «إن محل الدين من الملك محل الأس (الأساس) من البنيان، ومحل الملك من الدين محل المتعهد للأركان»(24)، ثم يأخذ في تحديد أركان هذه الدولة:
أ - الحاكم الفاضل:
وأول ما يعرضه العامري في الملامح السياسية لمجتمع الخير هو حاكم هذا المجتمع؛ حيث هو رأس الدولة، فإذا صلح الرأس صلح البدن كله، فوجب أن يتحلى هذا الحاكم بالفضيلة أوَّلاً؛ فإذا كانت الفضيلة مبنية عنده على الحكمة العقلية والقوة الروحية، فإن السياسة مرتبطة بعلم الأخلاق، فهي تُبنى على الفضيلة، وأول من يجب أن يتحلى بالفضيلة من أهل المدن هم حكامها؛ لأنهم أحوج الناس إلى التحلي بمكارم الأخلاق؛ فهم قدوة لشعوبهم، وأسوة لمن دونهم. وقيمة الحاكم من الناحية الخلقية هي التي تحدد مكانته في قلوب شعبه، وتحدد نمط سياسته، و«ليس أحد أحوج إلى تشريف جوهر مكارم الأخلاق من طبقات الملوك؛ فإنهم على الحقيقة أسوة لمن دونهم، وكالمرآة لغيرهم»(25).
ويطرح العامري مسألة تعدد الرؤساء، وهي مسألة سبق أن أشار إليها الفارابي - كما أشار إليها المتكلمون المسلمون في باب الإمامة- عندما صرح- في حالة عدم وجود الرئيس الفاضل- إلى إمكان الاستعانة بأكثر من رئيس لحكم المدينة(26).
وقد ذكر العامري هذا الرأي ونسبه إلى «بعض الحدث من المتفلسفين»، إلا أنه رفض هذا الاتجاه، فلا يجوز عنده أن يكون الرئيس أكثر من واحد؛ لأن «الرئاسة بالرأي (أي بالحكمة) فمن لا رأي له لا يستحق الرئاسة، وإذا وُجد حكيم لا قوة له كان السبيل فيه أن تعصب له الرئاسة»(27)، أي تجتمع له القوة؛ لكي يتولى مسئولية الدولة.
وهذه القوة حددها العامري في جانبين: المال والرجال؛ أي لكي يتمكن الرئيس الفاضل من حكم المدينة لابد أن تتوفر له القوة الاقتصادية لتلبية حاجات المواطنين، والقوة الحربية للمحافظة على حدود الدولة من هجمات الأعداء.
ب- نظـام الحكم:
القوة السياسية- كأية قوة إنسانية أخرى- ليست خيرًا أو شرًا في حد ذاتها؛ بل تعتمد على طرق استخدامها، ومن ثم فتأثيرها النهائي يتحدد بالهدف الذي تُستخدم له، فإذا استخدمت لإسعاد المواطنين وتقدمهم، كانت سياسة رشيدة، أما إذا استخدمت لاستعباد الناس كانت سياسة غاشمة.
وبناء عليه يقسم العامري السياسة أو نظام الحكم إلى قسمين:
- قسم يهدف إلى تحصيل الفضيلة لنيل السعادة في الدنيا والآخرة.
- وقسم يهدف إلى استعباد المواطنين للشقاء والخدمة ومنفعة الحاكم وحده.
يسمي العامري السياسة الأولى باسم (الإمامة)، وهي قد تحققت في صدر الإسلام عندما حكم الخلفاء المواطنين بالشريعة والقانون، ويسمي السياسة الثانية باسم (سياسة التغلب) التي يهدف الحاكم من ورائها إلى استعباد مواطنيه.
وقد كان محمَّد -صلَّى الله عليه وسلم- مثلاً فذًا للإنسان الذي جمع بين القوة الروحية (النبوة) والقدرة السياسية (المُلك)، «فاجتمع لملوك دعوته محاسن... أحكام الدين الحق، ومحاسن المُثل السلطانية المأخوذة... من ملوك الأرض»(28).
وكل مجتمع التزم بهذين الجانبين- القدرة المادية والقوة الروحية- كان مجتمعًا قويًا مؤمنًا وسعيدًا، وكل حاكم التزم بهذا الإطار الذي حدده الإسلام في سياسته كان حاكمًا فاضلاً، ومدينته مدينة الخير والسعادة.
إلا أن التاريخ الإسلامي يخبرنا أن هذا النموذج الفاضل لم يلتزم به كل حكام الإسلام، ولا يُرجع العامري هذا إلى ضعف بالدين، وإنما إلى عدم التزام هؤلاء الحكام بتلك الشريعة السماوية، والحل عنده هو الالتزام بهذه الشريعة؛ لأن «فضائل الناس لن تتم إلا بامتزاج أحوال الدين والدنيا، واشتباك أسباب الآخرة بالأولى، ودين الإسلام هو المنظم لها كلها والوافي بعامة أبوابها»(29).
ج- رعايا الدولة من المسلمين:
بعد أن ينتهي العامري من الحديث عن ماهية الدولة وأركانها وصفات حاكمها، ينتقل إلى بحث موضوع رعايا الدولة من المسلمين، والتشريعات الواجب اتخاذها في معاملاتهم.
وخصص العامري فصلاً لهذا الموضوع، بعنوان «القول في فضيلة الإسلام بحسب الإضافة إلى الرعايا». وقسم الرعايا من ثلاث زوايا(30):
الزاوية الأولى: زاوية القوة والضعف: يقسم العامري المجتمع إلى أقوياء وضعفاء؛ فالأقوياء هم من تميّزوا بصفات عقلية وخلقية فائقة، وقد أطلق الإسلام لهم استعمال قواهم ومواهبهم دون عائق؛ ليعودوا بالنفع على أنفسهم وعلى مجتمعهم.
أما الضعفاء فهم الذين لَحِقَهُم الضعف من جهة التركيب كالنساء، أو من جهة السَّن كاليتامى، أو من جهة المعاش كالفقراء، أو من جهة الرقبة- الحرية- كالعبيد، أو من جهة الوطن كالغرباء، وموقف الإسلام من هذه الفئات هو:
1- بالنسبة للنساء يرى العامري أنه لا يوجد دين من الأديان كان أكثر من الإسلام حرصًا عليهن، وأزجر من الاعتداء عليهن، وأدعى إلى الرفق بهن، وهذا ما تدل عليه آيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول -صلَّى الله عليه وسلم- وأخباره.
2- أما اليتامى فقد بالغ الإسلام في العناية بهم، ووضع من التشريعات ما يحفظ حقوقهم، ويمنع الاعتداء عليهم.
3- أما الفقراء، فقد أقر الدين الإسلامي بحقهم في أموال الأغنياء، وخصص لهم عبادة من عباداته، وهي الزكاة، فقد جعلها فريضة واجبة، مقرونة بالصلاة المكتوبة؛ بل زاد على الزكاة الدعوة إلى التصدق عليهم بالمال، ورغب فيها قائلاً: ﴿خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم﴾ [التوبة: ١٠3].
4- أما من لَحِقَه ضعفٌ نتيجة الأَسْر والاستعباد؛ فقد حث القرآن على فك رقابهم، وجعل هذا الأمر تكفيرًا عن بعض الذنوب.
5- أما الغرباء وأبناء السبيل فقد وجه القرآن الدعوة للاهتمام بهم؛ بل جعل أحد مصارف الزكاة الثمانية مخصصة لهم. فهذه هي الفوائد المتوفرة على القوي والضعيف.
الزاوية الثانية: الشرف والضعة: ينبه العامري إلى أن الشرف والضعة أمران نسبيان، وأن كل فرد في المجتمع الإسلامي يستحق من الاحترام والطاعة بقدر ما يتحمل من المسؤولية، فالابن يلزمه رعاية حق والده، والوالد يلزمه رعاية حقوق مشايخ قبيلته، وهؤلاء في خدمة أمرائهم، إلى أن ينتهي إلى ملك الملوك؛ فالكل في خدمة من هو متقدم عليه في العقل والخلق والسن والمكانة، ويستشهد العامري بقوله -صلَّى الله عليه وسلم-: «من لم يرحم صغيرنا، ولم يوقر كبيرنا فليس منا»(رواه البخاري وأبو داود).
الزاوية الثالثة: الولاء والعداء: يدعو الإسلام إلى إقامة مجتمع متماسك تسوده المحبة والولاء، وتحرم فيه أسباب القطيعة والعداء. وأسباب الولاء ثلاثة: ولاء النسب، وولاء العقد، وولاء الدين.
أما العداوة فقد منع الإسلام جميع أسبابها، إلا عداوة المعاندين له، وحددهم بثلاث طوائف: هم الملحدون والمشركون والكتابيون.
د - رعايا الدولة من غير المسلمين:
نظم الإسلام علاقة المسلمين بغيرهم، وهم: الملحدون، والمشركون، والكتابيون. والإسلام لا يسمح للملحد والمشرك بالإقامة في دولته إلا بعقد الأمان حماية للعوام من عقائد الزيغ والوثنية. وأما الكتابيون، فالإسلام يعاملهم في دولته كمواطنين، تجب حمايتهم، ويقتصر منهم- قديمًا- على الجزية، التي هي من التنظيمات الإدارية والمالية التي يخضع لها جميع المواطنين(31).
هـ- موقف الإسلام من غير العرب
ضمت دولة الإسلام عبر عصورها المختلفة أجناسًا متعددة، منهم الفُرس الذين أطلق عليهم اسم (العجم)؛ ولم يفرق الإسلام بين المسلمين على أساس (العِرْق)؛ وإنما فرّق بينهم على أساس العمل والتقوى، قال تعالى: ﴿إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾ [الحجرات: ١3]، وقال -صلَّى الله عليه وسلم-: «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى»( صحيح رواه البخاري).
والإسلام لا يحارب القوميات ولا يلغيها، وإنما يعترف بها، ويفسح لها مكانًا في دولته، ويريد لها أن تتعايش وتتعاون، أما ما يرفضه فهو أن يتفاضل المسلمون على أساس الجنس والعِرْق، وليس على أساس العلم والفضيلة والإيمان. فالإسلام لا يريد محو القوميات؛ وإنما يريد محو التعصب القومي.
فقد سعدتْ القوميات غير العربية تحت راية الإسلام، ونال أبناؤها من الخير والأمان والسعادة والترقي ما لم ينالوه في أوطانهم، وبين أبناء قومهم. ويدلل العامري على هذا بأن أبناء الفرس-مع ما كانوا يتمتعون به في أيام ملوكهم من غنى وعلم وآداب-قد ابتلوا بآفتين:
الآفة الأولى: تحريم رجال الدين الزرادشتي على غيرهم تعلم العلوم الإلهية، وقصرها على أنفسهم.
الآفة الثانية: تحريم ملوكهم الترقي بين طبقات المواطنين، وقسموا المجتمع إلى طبقتين: طبقة السادة من الملوك، وطبقة المستعبدين، ومنعوا الاختلاط بينهما، أو انتقال الطبقة الدنيا إلى طبقة أعلى.
وقد حارب الإسلام هاتين الآفتين، وأتاح لكل معتنقيه امتلاك قوة المعرفة والترقي، فنالوا في حظوته ثلاث فوائد:
إحداها: حررهم من العبودية، وأزال الحَجْر عنهم في الترقي.
الثانية: خلصهم من سلطان رجال الدين، وأطلق لعقولهم حرية الفكر.
الثالثة: شاركوا العرب في الفتح الإسلامي، فملكوا المال والعتاد «وفتح الطريق لهم إلى التفيؤ بظل هذه الدولة الميمونة... ليعمروا بلادهم بما يفيدونه من الفيء»(32).
و- الدعوة إلى الإسلام
أما عن كيفية الدعوة إلى الدين ونشره فيحددها العامري في وسيلتين: الدعوة إليه باليد أو باللسان. ويفضل العامري الدعوة للدين باستخدام الحجج العقلية.
ومن هنا يمدح العامري «علم الكلام(صحيح رواه البخاري)»، ويرى أنه من أهم العلوم الدينية وأكثرها فائدة؛ حيث يستخدمه المسلمون في محاورة غير المسلمين، ويدعونهم للإيمان عن طريق إقامة الأدلة العقلية، وهو استجابة لدعوة الدين في قوله تعالى:﴿ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن﴾ [النحل: ١٢5].
إن «علم الكلام» صناعة تستعمل مع الذمي كما تستعمل مع المسلم، وبها يصير الإنسان من أهل العلم والمعرفة الذين يبنون حكمهم في إثبات الشيء ونفيه على البصيرة، ويخرجه من دائرة المقلّدين إلى دائرة العقلاء، وهو إيمان مدحه الله تعالى في قوله: ﴿قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني﴾ [يوسف: ١٠8].
ويرى العامري أنه لا ضرورة إلى استخدام القوة في الدعوة إلى الدين إلا بعد الإبلاغ والإنذار، واليأس من تأثير الهداية والإرشاد، فإذا فشلت كل الوسائل السلمية لجأ في النهاية إلى استخدام قوة السلاح، وهو ما يسمى بالجهاد.
ويصف العامري الجهاد بأنه «العبادة الملكية- وهي الجهاد المشتمل على حراسة الملة- فهو شيء تشترك فيه الأديان»(33)؛ فالجهاد ليس هو الحرب؛ بل هو حرب مقدسة تخالف ما يقوم به البغاة من حروب.
ويفرّق العامري بين الجهاد وغيره من أنواع الحروب التي يقسمها إلى ثلاث: الجهاد، والفتنة، والتصعلك.
أما الجهاد فهو الذي يتولى إعمار البلاد وحماية العباد، ولولا قيام أهل الدين بالمحاماة عن دينهم بالسيف لاجتاحهم أعداؤهم، ولظهر الفساد في البر والبحر.
وأما الفتنة، فهي ما يقع من صراع بين البلاد نتيجة إما تعصب ديني أو تعصب عرقي.
أما التصعلك، فهو ما يُقصد به اغتصاب الأموال والاستيلاء على الأملاك. وهذا النوع من الحروب استخدمه العرب قبل الإسلام، كما أخذت به الشعوب القديمة من يونان ورومان؛ بل أخذ به الغرب في حروبه الصليبية واستعماره الحديث.
والنوع الأول من الحروب-وهو الجهاد- هو ما أخذ به الإسلام، ويعدّ فريضة وعبادة، أما النوعان الآخران فهما مذمومان، والدليل على ذلك أن نبينا محمَّدا -صلَّى الله عليه وسلم- لم يهدف من وراء حروبه الاستيلاء على المغانم، وكان قصارى جهده وغرضه من وراء جهاده هو «الإقرار بوحدانية من له الخلق والأمر، والتصديق بما أرسل إليه من عنده- جل جلاله- حتَّى إذا وجدها غمد عنه سيفه، وأوجب على نفسه حمايته»(34).
ولذا يرد العامري على بعض الشبهات التي أُثيرت حول الإسلام، واتَّهمته بأنَّه انتشر بحد السيف، ويكذب هذا الادعاء متسائلاً: هل ما دفع محمَّدا -صلَّى الله عليه وسلم- إلى استعمال السيف مصلحة عامة أم مفسدة شاملة؟
ويجيب عن هذا التساؤل: أن غرض الرسول الكريم من استخدام السيف هو الدعوة إلى الإسلام عن طريق الجهاد، ولم يكن طمعًا في امتلاك البلاد أو رغبة في استعباد العباد؛ «بل لو قدر على استصلاح عباد الله من غير حاجة إلى سفك دماء بعضهم لكان ذلك هو الآثر (الأفضل) عنده والأحب إليه»(35).
وهكذا يخلص العامري إلى أن القوة الروحية للدين-بما تغرسه في نفوس معتنقيه من فضائل، ومن دعوة إلى المعرفة- بالإضافة إلى المقدرة السياسية للدولة، وقوة حاكمها ومعرفته لأمور السياسة، وشجاعة مواطنيها -عوامل تساعد على تحقيق مجتمع الخير، وقد تحقق هذا للمسلمين عندما التزموا بما دعا إليه الإسلام، وسوف يتحقق لجميع المسلمين عبر الزمان وفي مختلف البقاع، إذا ما التزموا بما شرعه لهم الدين؛ لتكون أمتهم دائمًا هي «الأمة الميمونة».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) العامري: الإعلام بمناقب الإسلام، تحقيق: د. أحمد عبد الحميد غراب، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1370هـ/1967م، ص176.
2) العامري: الأمد على الأبد، تحقيق: أورت ك. روسن، دار الكندي، بيروت، 1979، ص59.
3) العامري: الإعلام، ص84.
4) المصدر السابق، ص87.
5) المصدر السابق، ص105-106.
6) المصدر السابق، ص86-87.
7) العامري: رسالة «القول في الإبصار والمبصر» ضمن «رسائل أبي الحسن العامري وشذراته الفلسفية»، تحقيق: د. سحبان خليفات، عمان- الأردن، 1988م، ص412.
8) العامري: الشذرات، ضمن رسائل أبي الحسن العامري، ص495.
9) العامري: الإعلام، ص78.
10) العامري: السعادة والإسعاد في السيرة الإنسانية، دراسة وتحقيق: د. أحمد عبد الحليم عطية، دار الثقافة للنشر والتوزيع- القاهرة، 1991م، ص159.
11) العامري: الإعلام، ص139.
12) العامري: الأمد على الأبد، ص106.
13) العامري: السعادة والإسعاد، ص121.
14) العامري، الإعلام: ص104.
15) العامري: شذرات، ص508.
16) العامري: الإعلام، ص81.
***) كانت السياسة عند فلاسفة اليونان تعني الإرادة الجماعية وإدارة المدينة وتربية اجتماعية تشمل إعداد مواطن صالح، وتشكيل أنظمة الحكم، وأثر هذه الأنظمة على المحكومين، وعند فلاسفة الإسلام تعني تدبير الأمر وتصريفه بالحكمة والمصلحة، وإصلاح الفاسد والخلل، وهي كذلك في مدلولها اللغوي، تعني حسن تصريف الأمور وتدبير الشؤون. وقد تطور مدلول السياسة في العصر الحديث، فصار يدل على الاشتغال بقضايا البلاد العامة والمسائل الوطنية والشؤون والعلاقات الدولية، وانقسمت إلى سياسة محلية وسياسة خارجية. ومن العجيب أن نلحظ أن هذا المعنى الحديث هو ما طبقه العامري في تصوره للسياسة.
17) المصدر السابق، ص101.
18) بول كراوس: مقالة عن كتاب «الزمرد» لابن الراوندي، مجلة الأديب- بيروت، 1943م، مجلد2، ج2، ص30-31.
19) أبو بكر الرازي: الطب الروحاني، ضمن رسائل الرازي الفلسفية، تحقيق: بول كراوس، مصر 1939. وأيضًا:د. عبد الرحمن بدوي: تاريخ الإلحاد في الإسلام، مكتبة النهضة المصرية- القاهرة، 1945م، ص202.
20) العامري: الإعلام، ص103.
21) القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة، تحقيق: د. عبد الكريم عثمان، القاهرة، 1965م، ص564.
22) العامري: الأمد على الأبد، ص113.
23) العامري: السعادة والإسعاد، ص213.
24) العامري: الإعلام، ص153.
25) المصدر السابق، نفس الصفحة.
26) الفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة، تحقيق: د. البير نصري نادر، المطبعة الكاثوليكية- بيروت، 1959م، ص109.
27) العامري: السعادة والإسعاد، ص242.
28) العامري: الإعلام، ص155.
29) المصدر السابق، ص158، 159.
30) المصدر السابق، ص163 وما بعدها. وأيضًا: د. أحمد عبد الحميد غراب: مقدمة كتاب الإعلام، ص50 وما بعدها.
31) د. أحمد عبد الحميد غراب: مقدمة كتاب الإعلام، ص51.
32) العامري: الإعلام، ص176.
33) المصدر السابق، ص147.
34) المصدر السابق، ص156.
35) المصدر السابق، ص191.