الرؤية القرآنية لمجتمع الخير العام
إبراهيم البيومي غانم
إذا كان "تحقيق المصلحة" هو مدار نظريَّة المقاصد العامة للشريعة الغراء كما يذهب أغلب علماء المقاصد؛ فإن "الخير" وفق مفهومه القرآني هو وسيلة من وسائل المقاصد لإدراك تلك المصلحة, ولا يبلغ تحقيق المصلحة أعلى مراحله الإنسانية إلا في "مجتمع الخير العام", وليس سوى السلام العام قرينة على بلوغ مجتمع الخير العام حسب فهمنا لمفهومه القرآني. و"الخير العام" بهذا المعنى يقع في صميم الرسالة التي تحملها الأمة الإسلامية للعالم؛ فباعتبارها "خير أمة" يجب عليها أن تفعل الخير وتدعو إليه؛ حتَّى تستريح البشرية كلها في ظلال "الخير" بمعاييره القرآنية، لا بمعاييره الوضعية البشرية.
معايير الخير في القرآن الكريم واضحة لا لبس فيها, وهي تتمثل في صفتين مركزيتين هما: الشمول، والأفضلية؛ فالخير الذي ورد لفظه مائة وثماني وثمانين مرة في آيات الذكر الحكيم (منها ثمان مرات في صيغة أخيار وخيرات وخيرة) جاء في سياقات متنوعة بقدر تنوع سياقات الحياة المدنية الدنيوية، والدينية الأخروية. وباستقراء تلك سياقات عرفنا أن معنى "الخير" في القرآن له صفة الشمول.
وكما لاحظ الشاهد بوشيخي؛ فإن القرآن الكريم قد استوعب معاني "الخير" بدلالاته اللغوية والاجتماعية التي عرفها لسان العرب في الجاهلية وقبل نزول الوحي، ثم انتقل بها إلى معان جديدة، وتدرج بها إلى أن استقرت في معنى "الأفضل" بمقاييس القرآن ذاته. وبتحليل دلالات "الخير" ومقاصده القرآنية العليا عرفنا أنه "الأفضل قولاً وعملاً، الذي يُحمد صاحبه شرعاً".
قصدنا هنا أن نبين معالم "مجتمع الخير العام" بحسب ما نفهم أنه التصور القرآني "للخير", ولا نقصد تقديم دراسة مصطلحية/لغوية، وإن كنا سنعرض لمعنى الخير في لغة العرب بما يساعدنا على استجلاء تلك المعالم التي تضمنتها آيات الذكر الحكيم، وسعى في بيانها مفسرون وفقهاء ومتكلمون ومتصوفة وفلاسفة ومصلحون على مر التاريخ. ولا زلنا بأشد الحاجة إلى استنباط نظريَّة أصيلة في "الخير القرآني"، ومجتمع "الخير العام" وفق مقاصد القرآن من الخير, وحسبنا أن نجتهد، ويقيننا أن قولنا صواب يحتمل الخطأ.
1- الخير في اللغة:
تشير كلمة "الخير" في اللغة العربية إلى كل ما فيه نفع وصلاح، كما تشير أيضاً إلى كل ما كان أداة لتحقيق منفعة أو جلب مصلحة(1)؛ كالمال، والمال الوفير يقال له: خير. ومن هنا قالوا: إن الخير بمعنى "المال" هو ما انعطفت عليه النفوس، ومالت إليه, ووقع اختيارها عليه. وربما كان هذا المعنى هو ما دفع المقري التلمساني صاحب نفح الطيب إلى القول بأن المال فيه "قوة سماوية تصرف الناس لصاحبه"(2). والخير بمعنى المال هو الذي شاع استعماله والعمل به في الجاهلية وقبل نزول القرآن الكريم.
وينظر الأصفهاني إلى الخير نظرة فلسفية؛ ففي " المفردات في غريب القرآن" يقول: إن "الخير ما يرغب فيه كل البشر؛ كالعقل، والعدل، والنفع، والفضل. وضده الشر"(3))، وقال آخرون: إن الخير هو "العمل الذي يعم نفعه". وكثيرون من فلاسفة الإسلام وحكمائه أقاموا ضرباً من التوحيد بين "الخيرية" والإبداع؛ فكلماً كان الإنسان خيراً، ومحباً للخير، كان أقدر على الإبداع والابتكار والتجديد وإفادة البشرية وإعمار الأرض. يقول ابن سينا: إن الخير هو "ما يتشوقه كل شيء, ويتم به وجوده"(4)).
وللشاهد بوشيخي اجتهاد معتبر في النظر إلى ألفاظ القرآن ومفاهيمه بصفة عامة, وله نظرات عميقة وجديدة في محاولة فهم الخير وفق معايير الذكر الحكيم(5)؛ فهو يرى أن القرآن الكريم الذي نزل بلسان عربي مبين لم ترد فيه الألفاظ العربية فقط بمعناها اللغوي الذي كان مستعملاً في الجاهلية، وإنما نقلها القرآن الكريم إلى آفاق جديدة ودلالات لم تكن معروفة قبل نزوله، أو كانت معروفة ولكن على سبيل الاستثناء وعلى نطاق ضيق في الاستعمال. ومن ذلك لفظ "الخير"؛ الذي ورد في القرآن اسماً ووصفاً وفعلاً بما يدل على المال، من ذلك مثلاً قوله تعالى: ﴿فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير﴾ (الأحزاب: 19). وهذا هو المعنى الذي ساد وشاع في الجاهلية قبل الإسلام؛ ولهذا ورد استعماله في القرآن في الآية المذكورة وفي بعض آيات أخريات بمعنى نفسه. وباستقصاء مختلف السياقات التي ورد فيها وجدناه قرين الأثرة، والشح, والأنانية, ومؤشراً على التنازع, والاستحواذ, والصراع. وهي المعاني نفسها التي تحف بالمال في فلسفة الحضارة المادية المعاصرة.
نعود مرة أخرى إلى الشاهد بوشيخي الذي يرى أن القرآن استوعب المعنى الذي كان متداولا للخير قبل نزول آياته الكريمة، وانطلق ونقلها إلى معان جديدة تنسجم مع مقاصد القرآن من الخير، ووصل إلى أعلى وأسمى هذه المقاصد عندما نقل الخير من الحيز المادي إلى الحيز الروحي في مثل قوله تعالى: ﴿ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير﴾، فالخير هنا هو الطاعة، أو الإيمان، أو الإسلام بحسب تأويلات المفسرين، وهو في جميع التأويلات يعني "الأفضل" في ميزان الله عز وجل، وبمقاييس القرآن الكريم.
يتتبع الشاهد بوشيخي تطور دلالة "الخير" من معناه العربي الذي كان متداولا في اللسان العربي قبل نزول القرآن، إلى التنبيه لأبعاد جديدة لهذا اللفظ، ثم يصل إلى أن ذروة المقصد القرآني من الخير هو " الأفضل في كل شيء قولاً وعملاً ودعوة إليه". ولدى الشاهد أطروحة أخرى تشد الانتباه في مسألة "الخير"؛ إذ يذهب إلى أن القرآن الكريم يخبرنا عن مرحلة جديدة قادمة سيكون فيها الخير أكبر وأشمل مما مضى، باستثناء المرحلة النبوية(6). وهي أطروحة تحتاج إلى كثير من التأمل، ولكن المجال هنا لا يتسع لذلك.
علماء اللغة العرب بحثوا في الفرق بين الخير والنفع لاقتراب اللفظين وتشابه حقولهما الدلالية؛ فالخير إلى جانب دلالته على المال، نجده يرتبط أيضاً في لغة العرب بحسن الاختيار، وتعدد البدائل التي يمكن الاختيار من بينها؛ فأبو هلال العسكري مثلا يشير إلى الفرق بين الخير والمنفعة فيقول: إن "كل خير نافع، ولكن ليس كل نفع خيراً"، واستشهد بقوله تعالى عن الخمر والميسر: ﴿قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما﴾ (البقرة:219)؛ فلا تكون المعصية خيراً وإن جلبت نفعاً، ويقول أبو هلال أيضاً: "إن الإنسان يجوز أن يفعل بنفسه الخير، كما يجوز أن ينفع نفسه بالخير، ولا يجوز أن ينعم عليها؛ فالخير والنفع من هذا الوجه متساويان، والنفع هو إيجاب اللذة بفعلها، أو السبب إليها، ونقيضه الضر، وهو إيجاب الألم بفعله أو التسبب فيه"(7)).
كتَّابُ الحكمةِ السياسية -وليس اللغويون فقط- انتبهوا أيضاً إلى الصلة الوثيقة التي تربط بين "الخير" ومكارم الأخلاق، والعدل، وعمارة البلدان؛ أي بناء مجتمع الخير العام؛ فابن هذيل مثلاً يقول: إن كل خصلة من خصال الخير، وخلة من خلال البر، وشيمة تُعزى إلى مكارم الأخلاق، وسجية تضاف إلى محاسن الطبائع والأعراق؛ فهي واقعة على اسم الكرم"(8). أما سبط ابن الجوزي فيربط الخير بعمارة البلدان، يقول: "إذا اتسع الرزق كثرت الخيرات، وإذا كثرت الخيرات عمرت البلدان"(9).
وفي إطار المقارنة نجد أن ثمة قاسماً مشتركاً للخير بين البشر أياً كانت حضاراتهم وفلسفاتهم في الحياة. ومن ذلك مثلاً كلمة "العمل الخيري" Philanthropia في اللغات الأوربية، نجدها مشتقة من مصدرين في اللاتينية: الأول هو كلمة Philein وتعني "حب"، والثاني هو كلمة Anthropon وتعني الإنسان، ومعنى الكلمتين معاً هو "حب الإنسان". وتكون كلمة خير بمعنى "الطيبة" Kindness؛ أي إن الخيرية هي صفة لمن يشعر بآلام الآخرين، ويرغب في تحقيق سعادتهم، أو في دفع الأذى عنهم"(10). ويختلف فهم العمل الخيري في تجارب المجتمعات الغربية بتباين الخلفيات التاريخية والأعراف الخاصة بكل دولة، أو بكل مجموعة من الدول.
2- مقاصد القرآن في مجتمع الخير العام:
إذا سلكنا مسالك استنباط المقاصد العامة للشريعة التي قررها المقاصديون بحثاً عن موقع "الخير" ومفهومه القرآني الذي سبق أن أوضحنا ملامحه العامة، سنجد أن "العمل الخيري" مقصد عام وثابت من مقاصد الشريعة، وأن له في ذاته مقاصد أخرى كلها تصب باتجاه بناء مجتمع الخير العام الذي تهنأ فيه الإنسانية بالسعادة في الدارين.
فالخير وعمله مقصد عام من مقاصد الشريعة(11)؛ وذلك بدلالة كثرة الأمر به والحض عليه ومدح فاعليه، والتحذير من مناوئيه في كثير من آيات الكتاب العزيز، وأحاديث النبي الكريم -صلَّى الله عليه وسلم-. وقد ورد لفظ الخير 180 مرة في القرآن الكريم. وورد لفظ "أخيار"، و"خيرات"، و"خيرة" 8 مرات في سياقات متنوعة تربط "الخير" بجوانب أساسية من الحياة المدنية التي يعيشها الناس، كما ورد في بعض الحالات ضمن سياقات (أقل عدداً) تربطه بالحياة الآخرة.
ـ من الآيات القرآنية التي تحض على فعل الخير: قوله تعالى: ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الحج: 77]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) [آل عمران: 115].
ـ ومن الآيات التي تأمر بالدعوة للخير قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾ [آل عمران: 104]، وقال الرسول -صلَّى الله عليه وسلم-: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله».
ـ ومن الآيات التي تحث على المسارعة في عمل الخير قوله تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 48].
ـ ومن الآيات التي تثني على الذين يسارعون بعمل الخيرات قوله تعالى في وصف بعض مؤمني أهل الكتاب: ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ [آل عمران: 114]، وفي وصف أهل الخشية من ربهم: ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [المؤمنون: 61].
أما عن السياقات التي ورد فيها ذكر الخير، فمنها ما ورد في القرآن عند الحديث عن العلم، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون﴾ (الصف:11). ومنها ما ورد عند الحديث عن العمل، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره﴾ (الزلزلة:7). وورد في سياق الحديث عن الكفاءة والمقدرة، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إن خير من استأجرت القوي الأمين﴾ (القصص:26). وفي سياق الحديث عن العدالة جاء قوله تعالى: ﴿وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلكم خير وأحسن تأويلاً﴾ (الإسراء:35). وللحض على المنافسة والسبق في الأعمال المفيدة قال تعالى: ﴿فاستبقوا الخيرات﴾ (البقرة:148)، وقوله: ﴿ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله﴾ (فاطر:6). وفي سياق الحديث عن الإنفاق قال تعالى: ﴿وما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين﴾ (البقرة:21). وثمة مواضع أخرى كثيرة، علمنا من اطراد ورود الأمر بعمل الخير فيها، والحض عليه، والثناء على من يقومون به؛ أن "العمل الخيري" مقصدٌ عامٌ ـ وثابتٌ ـ من مقاصد الشريعة الغراء.
وقد أدرك فلاسفة الإسلام وحكماؤه هذا المعنى الواسع لمفهوم الخير, ومن ذلك قول ابن سينا: إن "الخير هو ما يتشوقه كل شيء ويتم به وجوده". وتنظر الفلسفة الإسلامية إلى العمل الخيري نظرة عميقة؛ إذ تربطه بمفهوم الحرية؛ فالعمل الخيري عندما يكون عطاءً بلا مقابل مادي هو تحرير للنفس إما من قيد الأثرة وحب التملك، أو من قيود الآثام واجتراح الخطايا، أو من قيد الكبر واستعلاء النفس على الآخرين ممن يشاركونها الانتماء إلى أصل واحد "كلكم لآدم وآدم من تراب".
ونحن نلاحظ أن عمل الخير يطرح في النفس الارتياح والطمأنينة، ويطرح في المجتمع الاستقرار والسكينة، ويجعله مهيأ لعيشة هنيئة، ولحياة أفضل، ويجعله مكاناً يسمح للناس بالإبداع والابتكار، والقيام بالمبادرات التي تستهدف تحسين نوعية الحياة والتغلب على مشكلاتها، والإسهام في سعادة أهلها، وهذا هو جوهر مفهوم "مجتمع الخير العام" الذي تسعى البشرية للوصل إليه.
في مقابل الفلسفة الإسلامية، نجد أن فلاسفة الأنوار في عصر النهضة -من أمثال: توماس هوبز، وجون لوك، وبنثام، وغيرهم- لا يتحدثون عن مفهوم "الخير"، ولا عن مفهوم "الخير العام"؛ لأن جل اهتمامهم كان منصباً على "اللذة"، و"المنفعة" الفردية، وكل شيء يجب أن يقاس بحاجة الفرد أوَّلاً وقبل كل شيء؛ يقول موريس كرانستون: "ليس لفكرة الخير العام أي مكان عند المفكرين السياسيين من أصحاب النزعة الفردية كهوبز ولوك وبنثام؛ لأن كل قضية يجب أن تقاس بحاجة الفرد"(12), ومرجعية قياس الخير والشر هو ذات الإنسان, وتقديره للمنفعة التي تعود عليه في إطار عام من تبادل المنافع والمصالح الفردية(13).
ويتعارض منطق العطاء بلا مقابل مع منطق السوق والكفاءة الاقتصادية في الرؤية الرأسمالية الحديثة عموماً. ولكن التجربة الإسلامية تؤكد أن المنفعة ليست فقط حصيلة مبادلات مادية بين الأفراد والجماعات؛ وإنما يمكن أن تكون هذه المنفعة حصيلة فعل خيري دون مقابل مادي, وهذه الممارسة تتطلب بطبيعة الحال الإيمان العميق بعمل الخير، كما تتطلب إدراك المضمون الواسع لمفهوم العمل الخيري الإسلامي؛ الذي يبدأ بالأشياء المادية وبأقلها قيمة, ولو كانت "شق تمرة"؛ كما في حديث للرسول -صلَّى الله عليه وسلم-، ويستوعب كل ما يملكه الفرد من أموال، ويصل إلى ذروة الخير بمعناه الروحي والإيماني الذي يتركز في عمل "الأفضل", وقول "الأفضل"، والدعوة إلى "الأفضل" وفق معايير القرآن الكريم. 3- تشريع الخير وبناء مجتمع الخير العام:
قلنا: إن العمل الخيري مقصد عام وثابت من مقاصد الشريعة, ونضيف اجتهاداً ونقول: إن الخير العام -حسب مقاصد القرآن- له في ذاته خمسة مقاصد كبرى هي: الحرية، والتمدين، والسِّلم الأهلي، ومحاربة الفقر، والإسهام في بناء المجال العام(14).
إن "مقاصد العمل الخيري" التي نتحدث عنها هنا هي التي تنقل "العمل الخيري" من حيز التشريع ـ باعتباره مقصداً عاما وثابتاً من مقاصد الشريعة ـ إلى حيز المشروعات. أو هي التي تنقل مقصد العمل الخيري من حيز الأفكار إلى حيز المؤسّسات والممارسات, أومن حيز النظريَّة إلى حيز الفعل والتطبيق. ويجب أن نكف عن تكرار المقاصد, ومنها مقصد العمل الخيري فقط من منطلق الحيز الأول، ونغض الطرف عن الحيز الثاني؛ فمن دون الحيز الثاني ومتابعة انتقال المقصد إلى التطبيق لا قيمة له, وسيكون قطعة محفوظات لا تغني ولا تسمن من جوع.
علينا أن نجتهد في معرفة ما الذي يحدث حين ينتقل المقصد المشروع إلى تشريع في القانون, أو في الأعراف والقيم, وفي السلوكيات، وفي المؤسّسات، وفي جهات المحاسبة والرقابة والتدقيق, كيف ينتقل؟ وما هي الآليات التي تضمن انتقاله من حيز التجريد، إلى حيز الحياة حيث تنداح الأعمال وتتداخل المصالح، وحيث تمتلئ بالمشكلات والتحديات التي يجب أن ينخرط فيها المتخصصون في كل نوع من العلم، وفي كل مجال من مجالات المعرفة، للبحث عن بدائل لحلها والتغلب عليها.
ذلك هو التحدي الرئيس, ولا أزعم أنني أقدّم فيه شيئا كبيراً ـ الآن ـ ولكن أدرك تمام الإدراك أن هذه المسألة مهمة، ويجب أن نجتهد في البحث والتفكير في كيف ننقل المقاصد من حيز النظريَّة إلى الحيز التطبيق. ولا يُفهم من كلامي هذا أبدا أنني أقول: إن الذين سيدرسون ذلك سيكونون مشاركين في صنع واتخاذ القرارات، أو في تحمل المسئولية والسلطة؛ فالمطلوب من جماعة العلوم الاجتماعية والشرعية أن يكونوا على مستوى إنتاج المعرفة المفيدة, وهذه المعرفة يجب أن تنتشر في المجتمع بأدوات نشر العلم والمعرفة المطبقة في كل المجتمعات المعاصرة؛ بما في ذلك أدوات نشرها ونقلها لصناع القرار.
وإليك فيما يلي بعض التفصيل لكل لبنة من اللبنات الخمس التي تسهم في بناء "مجتمع الخير العام", بحسب رؤية اجتهدنا في استنباطها من ظلال المعاني القرآنية للخير.
أـ الحرية:
الحرية هي أول لبنة في بناء مجتمع الخير العام الذي يقصده القرآن الكريم, وهي أكثر اللبنات قوة وأعلاها منزلة؛ ففي مقدمة الأهداف التي يتوجه إليها عمل الخير بدلالاته القرآنية أن يسهم في "تحرير" النفس الإنسانية من الأغلال التي قد تكبلها لسبب أو لآخر، وتعوق حركتها، وتهدر طاقاتها. بعض هذه القيود معنوي ينتج عن ارتكاب الذنوب والآثام، وبعضها مادي ينتج عن حب المال وتمكن شهوة التملك من الإنسان، وبعضها سياسي ينتج عن الحروب وصراعات القوة. ونتيجة لتلك الأسباب فإن بعض بني آدم تقضي عليهم الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يعيشونها أن تكون حريتهم مقيدة معنوياً ومنهم العصاة والمذنبون، أو مقيدة مادياً، ومن هؤلاء: الرقيق، والفقراء، واليتامى، والمساكين، والأسرى، والجهلة، والمرضى، والمدينون؛ وفي جميع هذه الحالات يجب شرعاً المساعدة في تحريرهم، ورفع الإصر عنهم، وتحطيم الأغلال التي وضعت عليهم؛ كي يكونوا محلاً صحيحاً للإيمان، وكي يكونوا قادرين على استقبال التكاليف الشرعية, وأدائها كما يريد الله سبحانه وتعالي؛ لأن غير الحر لا يكون قادرًا قدرة الحر على إقامة التكاليف الشرعية ـ أو هو ليس مثله علي الأقل ـ ولهذا يريد الإسلام أن يكون الإنسان حراً أوَّلاً، ثم يخاطبه بالأحكام الشرعية ويكلفه بها.
ولسائل أن يسأل: كيف يكون مقصد الحرية من مقاصد العمل الخيري؟ وكيف يسهم العمل الخيري في تحقيق هذا المقصد؟ ونجيب فنقول: دلت آيات القرآن الكريم على أن مِنْ أعظم القربات تحرير الأرقاء، ومن ذلك ما جاء النص عليه في سورة البلد وعبرت عنه بـ"فك الرقبة", ولسنا مع قصر معنى فك الرقبة على " تحرير الرقيق", أو "عتق العبيد والإماء", كما ذهب أغلب المفسرين. فسورة البلد مكية، ومن الأهداف العامة للسور المكية أنها تمهد لاستقبال العقيدة الجديدة، وتهيء النفوس كي تثبت فيها هذه العقيدة على صفحة نقية, وضمن هذه الغاية نعتْ آيات السورة على بعض كفار مكة الذين أنفقوا أموالهم الكثيرة للمباهاة والمفاخرة ﴿يقول أنفقت مالاً لبداً﴾، ظنا منهم أن مجرد إنفاق المال الوفير يضمن لهم الفوز والنجاة. ولكن لما لم يكن هذا الإنفاق متضمنا ﴿فك الرقاب﴾ خاب سعيهم, وعبر القرآن عن هذا الإنفاق بـ"الإهلاك" إظهاراً لعدم الاكتراث. والنتيجة هي أن من أنفق ماله دون أن يخصص جزءاً منه للمشاركة في فك الرقاب -أي تحريرها- فلن يكون من الناجين. يقول الإمام محمَّد عبده في تفسيره: "ورد في فضل العتق ما بلغ معناه حد التواتر، فضلا عما ورد في الكتاب، وهو يرشد إلى ميل الإسلام إلى الحرية، وجفوته للأسر والعبودية"(15). وهذا ما أكدته آيات سورة البلد قال تعالى: ﴿فلا اقتحم العقبة. وما أدراك ما العقبة. فك رقبة. أو إطعام في يوم ذي مسغبة. يتيماً ذا مقربة. أو مسكيناً ذا متربة. ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة. أولئك أصحاب الميمنة﴾ (البلد: 11-18). وقد ذهب أغلب المفسرين إلى أن المقصود بفك الرقبة "العتق"، وإطلاق مَنْ يقع في أسر الرق والعبودية. والعتق عمل من الأعمال العظيمة التي لها عند الله رفعة ومنزلة؛ فمن أعتق رقبة كانت له فداءً من النار، ومثله الذي يطعم في يوم عصيب ذي مجاعة يتيماً ذا قرابة، أو مسكيناً ذا متربة؛ أي فقيرًا بائساً قد لصق بالتراب من فقره وضره، وهو كناية عن شدة الفقر والبؤس قال ابن عباس: هو المطروح على ظهر الطريق لا يقيه من التراب شيء. ومثل هذا الأعمال العظيمة مطلوبة على سبيل السرعة وبلا رويّة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿فلا اقتحم العقبة﴾؛ والاقتحام في الأصل: الدخول في الشيء بسرعة وشدة من غير روية(16).
ونضيف إلى ما سبق أن عموم دلالة "فك الرقبة" لا يقتصر على تحريرها من أسر العبودية والرق بالمعنى الاصطلاحي الذي قصده أغلب المفسرين والفقهاء ـ وكان أكثر الرق قديماً بسبب الحروب ـ وإنما يشمل أيضاً فك الرقبة من كل ما يقيدها؛ فكّها من قيد الجهل؛ فالجهل يقيد حرية الإنسان، كما يقيد الرق حريته. وفك الرقبة يكون أيضاً من قيد المرض؛ فالمرض قيد على حرية الإنسان وحركته، وقد يقعده، أو يمنعه من الاستمتاع بكثير من الحريات التي لا تكتمل إنسانية الإنسان إلا بها. ويكون فك الرقبة من قيد الديون؛ فالديون تقيد الحرية أيضاً وتستذل المدين. وأخيراً وليس آخراً: يكون فك الرقبة من قيود الاستبداد التي تمارسها السلطات الطاغية؛ سواء أكانت سلطة التقاليد والآباء الأولين، أم سلطة الحكام المتجبرين، أم سلطة الخرافات والأوهام والأساطير؛ التي تستذل الكبير وتسترذل الصغير. وتلك هي أهم الحالات الاجتماعية التي يكون بعض بني الإنسان عرضة لها في كل زمان ومكان. وقد صنفت آيات سورة البلد الأعمال التي تستهدف فك الرقاب ضمن "أعمال الخير" الطوعية التي يقوم بها الإنسان باختياره وفطرته، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿وهديناه النجدين﴾؛ أي طريق الخير الذي يشمل مثل الأعمال المذكورة، وطريق الشر المقابل لذلك. ولما كان الإسلام متشوفاً إلى الحرية؛ فقد جعل المسارعة في "فك الرقبة" -بالمعنى الواسع الذي ذكرناه- من أفضل الأعمال الخيرية الطوعية؛ ولهذا أكثرَ المسلمون على مر التاريخ من بذل الصدقات، وتخصيص قسم معتبر من ريوع الأوقاف للإنفاق على التعليم، والعلاج، وعتق الرقيق، وافتداء الأسرى من يد الأعداء؛ حتَّى لا يصيروا رقيقاً، ومساعدة أصحاب المغارم والديون(17). وتحولت هذه الأعمال الخيرية إلى مؤسّسات ذات أنظمة ووظائف، ولها أهداف وغايات تصب كلها في اتجاه دعم أسباب الحرية، وبخاصة للفئات التي أشرنا إليها.
لا يقبل الإسلام أي مساس بـ"الحرية"؛ لأن أي مساس بها يزلزل إنسانية الإنسان، والإسلام يريد للإنسان أن يكون حراً كامل الحرية, وتؤكد مبادئ الإسلام وتعاليمه على أن أي إضرار بالحرية يفسد تعبير الإنسان عن ذاته، وأن الإنسان لا يكتمل إلا بالتعبير عن فكره، والتطور الروحي غير ممكن دون اتصال حر بالآخرين، وتبادل الفكر، فلا يجوز تقييد الحرية، ناهيك عن إلغائها بحجة تصحيحها, وهذا هو الجوهر الأصيل الذي جاءت به رسالة الإسلام؛ إنه بكلمة واحدة: الحرية(18).
ونجد في آراء واجتهادات علماء السلف الكبار من أمثال الإمام أبي حنيفة ما يدل على إدراكهم العميق للحرية باعتبارها جوهر الرسالة الإسلامية إلى الإنسانية كلها؛ فمن غير الجائز عند أبي حنيفة ـ مثلاً ـ الحجر على السفيه، والحجر نوع من أنواع تقييد حرية الإنسان في التصرف, ويعلل أبو حنيفة ذلك بأن الحجر إهدار لآدمية هذا السفيه! ويقول: إن الحجْر عليه "إلحاق له بالبهائم"، والضرر الإنساني الذي يترتب نتيجة الحجر عليه أكبر بكثير من الضرر الذي يترتب على سوء تصرفه في أمواله، ولا يجوز دفع الضرر الأقل بضرر أكبر منه.
ومن المستغرب استمرار تغاضي الفقهاء ـ أو سكوتهم، أو غفلتهم ـ لأزمنة طويلة عن الحديث في مقصد "الحرية" كأحد المقاصد العامة للشريعة، إلى أن فطن إليه العلامة الشيخ محمَّد الطاهر بن عاشور، وحاول تأصيل "الحرية" مقصداً عاماً من مقاصدها(19). يقول الشيخ -بعد أن استوفي حديثه عن مقصد المساواة-: "لما تحقق فيما مضى أن المساواة من مقاصد الشريعة الإسلامية؛ لزم أن يتفرع عن ذلك أن استواء أفراد الأمة في تصرفهم في أنفسهم مقصد أصلي من مقاصد الشريعة؛ وذلك هو المراد بالحرية"(20). واستطرد الشيخ في بيان مضمون "الحرية" التي يقصدها الشارع ويتشوف إليها(21). وقد أعدتُ قراءة ما كتبه الشيخ ابن عاشور عدة مرات، وخَلَصْت إلى أنه وإن سبق إلى إدراك مقصد الحرية؛ فإنه قدمه بمضمون ضيق في كتابه "مقاصد الشريعة"، وحصره في جانبين فقط؛ أحدهما: التحرر من العبودية، والثاني: تمكين الشخص من حرية التصرف في نفسه وشؤونه. وأسهب في الحديث عن تكثير أسباب تقليل الرق، وتخفيف آثاره، ثم تحدث عن حرية الاعتقادات وحرية الأقوال وحرية الأعمال؛ كل ذلك من منظور ضيق جداً، وفردي أساساً. ولكنه في كتابه "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام" نبه إلى المفهوم الواسع للحرية، وتحدث عن أنواعها الأربعة: حرية الاعتقاد، وحرية التفكير، وحرية القول، وحرية الفعل(22)، وألمح إلى أثر الحرية في المشاركة في المجال العام، وفي تقييد سلطة الحكام، وإفساح المجال أمام المبادرات الخلاّقة، والإبداع والابتكار والتجديد؛ بما يسهم في ترقية حياة الإنسان، واحترام إنسانيته. وعلينا أن نتابع البحث والتأصيل في نظريَّة الحرية كمقصد عام وثابت من مقاصد الشريعة؛ لأن المسلمين تأخروا كثيراً في البحث في هذا الباب، وتأخروا أكثر بسبب غياب الحريات عن حياتهم في أغلب الأحيان.
ب ـ التمدين والتعمير:
يسهم "عمل الخير" بمعناه القرآني العام في تحقيق درجة أرقى من التمدن الإنساني ورفع كفاءة المجتمعات في إعمار الأرض, ويأخذ إسهام العمل الخيري في تمدين المجتمعات صوراً متعددة: منها ما هو مادي في شكل تبرعات ومساعدات تعين غير القادرين على تحسين مستوى معيشتهم، ولا تتركهم نهباً للمرض أو للجهل أو للفاقة والعجز، ومنها ما هو غير مادي في شكل إسهامات معرفية وعلمية, تهدف إلى تنوير المجتمع, ورفع قدرات أبنائه بصفة عامة، وغالباً ما كان تمويل إنتاج العلم والمعرفة على حساب العمل الخيري, وتحديداً في الاجتماع السياسي الإسلامي إلى ما قبل نشوء الدولة الوطنية الحديثة.
ويمكننا القول باطمئنان: إن أغلبية صور الأعمال الخيرية التي أسهمت في "تمدين" المجتمعات الإسلامية، وفي بناء حضارتها الشامخة؛ قد تجلت في "نظام الوقف" في معظم مراحل تاريخ هذه المجتمعات. فمن خلال الأوقاف وبتمويلٍ منها نشأت أغلبية مؤسّسات العلم والثقافة داخل المساجد وخارجها في صورة مدارس ومعاهد، وكليات جامعية للمتخصصين، ودروس ومكتبات عامة. ومن بين أولئك الذين تلقوا تعليمهم في تلك المؤسّسات الخيرية تخرج رواد كثيرون في مجالات علمية وتطبيقية متنوعة، شملت الطب، والهندسة، والكيمياء، والزراعة، والصناعة، والفلك، والصيدلة، إلى جانب مختلف الفنون والآداب والمعارف النظريَّة الأخرى(23).
ويهمنا هنا أن نفند الرأي الذي يؤكد أنصاره على أن العمل الخيري الإسلامي هو عمل ديني بالمعنى الضيق الذي يقصره على مجموعة من الأنشطة الإغاثية، وتقديم مساعدات عينية لذوي الخصاصة وقت الحاجة(غذاء ـ كساء ـ مأوى...إلخ). ويؤكدون أيضاً أن العمل الخيري هو مرحلة أولية تتسم بالبدائية على سلم مراحل العمل الاجتماعي التطوعي المعني بالشأن العام، ولهذا السلم درجات أكثر رقياً من مرحلة العمل الخيري تتمثل في: العمل من أجل التنمية، والعمل من أجل التمكين والتأهيل، والعمل من أجل الدفاع عن الحقوق والحريات العامة والمطالبة بها.
ونحن نرى أن العمل الخيري الإسلامي ليس "مرحلة أولية" من مراحل تطور العمل الاجتماعي الطوعي المعني بالشأن العام، وإنما هو ركن أصيل في بناء المجتمع, وفي تمدينه, وبناء تقدمه العلمي والمعرفي، كما أنه يتسع معناه لمختلف المراحل التي يشيرون إليها. وقد أثبتت التجربة التاريخية أن تطبيقاته تشمل مختلف مجالات الحياة، بما في ذلك الأعمال الإغاثية ـ ولها أهميتها التي لا يجادل فيها أحد ـ والأعمال التنموية، وأنشطة التأهيل والتمكين، والدفاع عن الحقوق، وتحصيل الحقوق الأساسية، والدفاع عنها. وثمة العديد من الأدلة والبراهين التي تثبت صحة ما نذهب إليه. فالمدارس والمستشفيات والمشاغل ومراكز التدريب المهني، ودور الإيواء، وكثير من الأشغال العامة (الطرق، والقناطر، وقنوات المياه، والإضاءة...إلخ) كل ذلك أسهمت الأعمال الخيرية الإسلامية في تشييده، وتحول العمل الخيري في هذه المجالات وفي غيرها إلى نظام مؤسّسي متكامل الأركان إدارياً، واقتصادياً، وقانونياً، وتجسد في "نظام الوقف"(24). وقد انتشر هذا النظام ـ غير الحكومي ـ على امتداد العالم الإسلامي، وأسهمت مؤسّساته المختلفة في بناء صرح الحضارة الإسلامية، وتمدين مجتمعاتها لقرون طويلة، ولم يتحول إلى "نظام حكومي" أو نظام تسيطر عليه الحكومات إلا في العصر الحديث مع ظهور "الدولة الوطنية" الحديثة في بلدان العالم الإسلامية(25)).
والحاصل أن الأوقاف وسائر عقود التبرعات الخيرية تندرج ضمن وسائل المصالح (المقاصد)، الضروري منه والحاجي والتحسيني، وهذا وجه آخر من وجوه تعلق العمل الخيري الإسلامي بنظريَّة المقاصد العامة للشريع. ومن هنا ـ في رأينا ـ تلقت الأمة نظام الوقف بالذات بالقبول، وانتشر العمل به في مختلف الأقطار والأمصار بالرغم من أن التوجيه الشرعي الخاص به قد جاء على سبيل الندب، وليس على سبيل الوجوب أو الفرض. وما كان هذا القبول وذلك الانتشار إلا أثراً من آثار تعلقه بمقاصد الشريعة السمحة. ولعلنا نزيد فنقول: إن قوة الوقف وفاعليته ارتبطت بنضج الوعي الاجتماعي بالمقاصد التمدينية للشريعة، فكان ازدهاره مؤشراً على مراعاة تلك المقاصد وما تتضمنه من مصالح، والعكس كان بالعكس.
ج ـ إرساء السلم الأهلي:
في مجتمع الخير العام الذي ينشده القرآن؛ يعزز عمل الخير حالة السلم الأهلي بين الفئات الاجتماعية المختلفة بطرق متعددة, لعل من أهمها أن حصيلة المبادرات الخيرية تشكل شبكة من العلاقات التعاونية، وتدعم روح الأخوة والتراحم والتعاطف في الاجتماع السياسي الإسلامي بصفة عامة. وإلى ذلك أشار العلامة ابن عاشور؛ حيث يقول: "عقود التبرعات قائمة على أساس المواساة بين أفراد الأمة، الخادمة لمعنى الأخوة؛ فهي مصلحة حاجية وتحسينية جليلة، وأثر خلق إسلامي جميل؛ فبها حصلت مساعفة المعوزين، وإغناء المُقْترين، وإقامة الجم من مصالح المسلمين"(26).
وإذا كان الإنسان "ذئباً" لأخيه -كما يرى بعض فلاسفة النهضة الأوربية الحديثة مثل توماس هوبز مثلاً- فهو أخ للإنسان في الرؤية الإسلامية, يسعى لإسعاده, ويتعاون معه على عمل الخير، ومحرم عليه أن يتعاون معه على الشر أو الإضرار بالغير؛ قال تعالى: ﴿وتعاونوا على البروالتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان﴾, وفي سورة الزلزلة يقول تعالى: ﴿فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره﴾ (الزلزلة:7-8).
وقد تكررت وصايا الرسول -صلَّى الله عليه وسلم- التي تحض على فعل الخير لنفع الناس، مطلق الناس، قال -صلَّى الله عليه وسلم-: «خير الناس أنفعهم للناس», وفي البخاري عنه -صلَّى الله عليه وسلم- أنه قال: «كل معروف صدقة». كما حض النبي على المبادرة بفعل الخير ولو كان شيئاً هيّنا جداً، ومن ذلك قوله -صلَّى الله عليه وسلم-: «لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» (أو: بوجه طليق)، وقوله: «اتق النار ولو بشِقّ تمرة»، واعتبر الرسول -صلَّى الله عليه وسلم- أن من الصدقات التبسم في وجه الآخر، فقال: «تبسمك في وجه أخيك صدقة»، وغير ذلك كثير من الأحاديث الشريفة التي تركز على المبادرة بعمل الخير بشكل عام، وتنبه إلى ضرورة أن ينتشر على أوسع رقعة ممكنة من النسيج الاجتماعي عبر المبادرات التي يستطيع أن يقوم بها كل إنسان مهما بلغ ضيق ذات يده؛ إذ أرشد -صلَّى الله عليه وسلم- إلى كثير من المبادرات الخيرية قليلة التكلفة (شق تمرة)، أو التي لا تكلف شيئاً مادياً يذكر (وجه طلق) أو(البسمة الصدقة)؛ وذلك لما لهذه المبادرات الخيرية المتنوعة -في قيمها المعنوية والمادية- من تأثير كبير في إشاعة جو من الطمأنينة والسلام والأمن بين أعضاء المجتمع مهما اختلفت مواقعهم الوظيفية، ومهما تباينت مراتبهم الاجتماعية. ومن ذلك ومن مثله عرفنا أن من مقاصد العمل الخيري الإسهام في تعزيز السلم الأهلي، وتقوية شبكة العلاقات التعاونية بين أبناء المجتمع.
ويسهم العمل الخيري في تحقيق مقصد "السلم الأهلي" بصور أخرى متعددة, منها: المسارعة إلى إزالة نقاط التوتر من المجتمع، ودفع الحراك الاجتماعي.
بالنسبة للمسارعة إلى إزالة نقاط التوتر من المجتمع؛ نجد أن العمل الخيري يسهم فيها بشكل مباشر؛ وذلك في أوقات الأزمات التي قد يتعرض لها المجتمع، أو عند وقوع الكوارث والأوبئة التي قد تصيب فئة أو أكثر من فئات المجتمع. وهنا تظهر أهمية الأعمال الخيرية الإغاثية التي تقدم المساعدات العاجلة من كساء وغذاء ومأوى وإسعافات أولية وما شابه ذلك.
ويُحدث العمل الخيري أثره الإيجابي ليس فقط في الوسط الاجتماعي الذي يقدم له الفرد مبادرته الخيرية، وإنما على معنويات فاعل الخير نفسه؛ إذ يكون عمل الخير سبباً من أسباب سعادته في الحياة، وتزكية نفسه، وانشراح صدره، وتقوية حبه للآخرين، والسعي في جلب النفع لهم، ودفع الأذي عنهم، إلى جانب أن عمل الخير يُشعر فاعله بمكانته ودوره في محيطه الذي يعيش فيه، ويدعم إحساسه بأن لديه مقدرة ـ حتَّى وإن كانت محدودة ـ على مواجهة مشكلات مجتمعه والإسهام في إصلاحه.
وأما عن أثر العمل الخيري في دفع الحراك الاجتماعي؛ فيتجلى بشكل واضح في نظام الوقف قبل أن تسيطر عليه الحكومات المعاصرة في العالم الإسلامي، وقبل أن تنقله من حيزه المجتمعي المدني إلى حيزها الحكومي البيروقراطي؛ فالوقف ـ كما هو معروف ـ كان القاعدة الصلبة التي قامت عليها أكثر المؤسّسات المدنية في تاريخ الحضارة الإسلامية، وفي مقدمتها مؤسّسات التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية. وكانت الأولوية دوماً في الحصول على الخدمات التي تقدمها تلك المؤسّسات للفقراء والمساكين وغير القادرين مادياً.
وكثيراً ما نص مؤسّسو الأوقاف في حُجَج وقفياتهم على وصف الفقر والمسكنة كشرط من شروط إدارة ما أوقفوه، وكشرط أيضاً من شروط الاستحقاق في ريع وقفياتهم(27). وبهذه الطريقة استطاع كثيرون من غير القادرين أن يحسّنوا أوضاعهم الاجتماعية، وأن يرتقوا في سلم التعليم ويصلوا إلى أعلى درجاته، وكذلك في سلم الوظائف والأعمال التي تتطلب مؤهلات خاصة؛ كانت المؤسّسات الوقفية توفرها مجاناً.
وقد أسهم ذلك كله في ضح الحيوية في "الحراك الاجتماعي" إلى أعلى لأبناء الفئات الأفقر أو غير القادرين(28), وأثر هذا الحراك بشكل إيجابي في المحافظة على السلم الأهلي؛ إذ كانت ثمرات العمل الخيري تفتح باب الأمل باستمرار في مستقبل أفضل لمن قعدت بهم إمكاناتهم المادية عن تحصيل العلم والمعرفة، وكانت تتيح الفرص لمن لديه المهارة والكفاءة ليصل إلى أقصى ما يمكن أن تتيحه له مهارته وكفاءته، ومن ثم تضاءلت فرص إقصاء الضعفاء والفقراء، بمن فيهم غير المسلمين من اليهود والنصارى؛ فقد ظل نظام الوقف ـ مثلاً ـ مفتوحاً أمام الجميع دون تمييز(29).
وقد كشفت التجربة الحضارية الإسلامية عن أنه كلما زاد العمل الخيري, وتشعبت موارده, وتعددت مؤسّساته, والخدمات العامة التي توفرها؛ قل نطاق الاستبعاد الاجتماعي لبعض الفئات بسبب الفقر أو العجز، وتراجعت بالتالي فرص القلاقل والنزاعات الأهلية والانقسامات الأهلية، وتعزز الاستقرار، وتهيأت فرص الإبداع والابتكار.
د ـ محاربة الفقر:
لا مكان للفقر المدقع في مجتمع الخير العام، فالخير والفقر ضدان لا يجتمعان, ولهذا كان العمل الخيري -بمختلف صوره التي عرفتها الممارسات التاريخية في المجتمع الإسلامي- هو أحد السياسات الاجتماعية التي تستهدف القضاء على الفقر، وتسعى بشكل دائم ومستمر لتجفيف منابعه، وإخراج من يدخل في دائرته، وإعادة إدماجه في دورة العمل والإنتاج؛ كي يصبح معتمداً على ذاته، مسهماً في بناء مجتمعه وفي مساعدة غيره، خاصة أن علة الفقر تصحبها علل أخرى كثيرة مثل الجهل والمرض والبطالة والجريمة(30). وهي علل ذات آثار سلبية، تدمر قدرات المجتمع، وتعوقه عن التطور والنمو.
ويسعى مجتمع الخير العام الذي ينشده القرآن إلى اجتثاث الفقر بوسائل متعددة، وكلما نبتت بوادر جديدة للفقر ـ وهذا أمر يتكرر ولا يمكن تحاشيه ـ أسرع إلى محاصرته وتجفيف منابعه, والمثل الأعلى للمجتمع الإسلامي من هذه الزاوية هو ألا يكون فيه فقراء(31)).
إن أول مصْرِف للزكاة المفروضة هم "الفقراء والمساكين" بنص قوله تعالى: ﴿إنما الصدقات للفقراء والمساكين﴾ (التوبة:60), ووردت الزكاة في 32 موضعاً في القرآن الكريم، منها 27 موضعاً جاءت مقرونة بالصلاة، ووردت في أكثر من 80 موضعاً إذا أضفنا إلى ذلك المصطلحات الأخرى التي تشترك معها كلياً أو جزئياً في المعنى مثل النفقة والصدقة التي استعملت للحض على معالجة مشكلة الفقر على وجه التحديد.
وليست الزكاة عملاً طوعياً؛ وإنما هي الركن الثالث من أركان الإسلام, ويرتكز نظام الحماية الاجتماعية الذي ينشأ عنها "على الاحترام الكلي لكرامة الإنسان وحريته، ويتعلق الأمر هنا بتنظيم المساعدة للفقراء، والمحتاجين، والمرضى، والمعوقين، والمسنين، والأرامل، واليتامي، إلى جانب الفئات الست الأخرى المذكورة في القرآن، في إطار مؤسّسات تشرف عليها الدولة"(32).
ولكن إلى جانب الزكاة المفروضة حثت شريعة الإسلام على المبادرة بالأعمال الخيرية الطوعية للإسهام في مواجهة مشكلة الفقر، ومن أهم صور هذه الأعمال الخيرية: الصدقة التطوعية، والوقف، والهبة، والانتفاع بفائض رؤوس الأموال والمنح التي تعطى لغير القادرين من دون تحصيل فوائد منهم (القرض الحسن). ومن ذلك كله عرفنا أن محاربة الفقر مقصد أساسي من مقاصد العمل الخيري, وتتجلى في ميدان مكافحة الفقر الجدوى الاجتماعية والاقتصادية للعمل الخيري الذي يثاب فاعله بالأجر الجزيل من رب العالمين.
ويمتلئ تراثنا الفقهي بمطارحات عميقة حول مشكلة الفقر (المسائل والمشاكل التي ترتبط به) بدءاً بتعريف الفقر ما هو؟ مروراً بكيفية قياسه وما أهم مؤشراته، وكيفية مواجهته، وصولاً إلى مناقشات فلسفية عميقة حول المفاضلة بين الغنى والفقر، وأيهما بحاجة إلى الآخر: الغني إلى الفقير، أم الفقير إلى الغني؟ أم أن كلاً منهما بحاجة إلى الآخر؟(33).
ومن الملفت للانتباه أن ما تتناوله البحوث والدراسات الاقتصادية الحديثة تحت عنوان معضلة قياس الفقر، وكيفية تحديد "خط الفقر"، قد تناولها فقهاء الإسلام منذ قرون طويلة خلت؛ فالحسن البصري وأبو عبيدة مثلاً كانا يحددان ما نسميه اليوم "خط الفقر" برصيد نقدي مقداره أربعون درهماً، واستدلا على ذلك بقوله -صلَّى الله عليه وسلم-: «لا يسأل رجل وعنده أوقية، أو عدلها إلا سأل إلحافاً»(34). وذهب الحنفية إلى أن الفقير هو من يملك أقل من نصاب الزكاة؛ ربع أو خمس النصاب كما قال البصري وأبو عبيدة، والمسكين عندهم هو من لا يملك شيئاً. أما الطبري فيرى أن الفقير هو المحتاج المتعفف, وجمهور المالكية والشافعية والحنابلة يقولون: إن معنى الفقر مرتبط بمستوى الكفاية، ومدى تلبية احتياجات الإنسان الأساسية.
وثمة من قدماء العلماء من اهتم بتحليل ظاهرة الفقر تحليلاً اجتماعياً واقتصادياً؛ بل ونجد في كتب التراث بحوثاً شبه ميدانية تتضمن معلومات وآراء تساعد على فهم الأبعاد المختلفة التي تنطوي عليها مشكلة الفقر، وكيف تؤثر على بعض الفئات وخاصة العلماء والمثقفين، وكيف تؤثر أيضاً على مجمل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية(35).
وللفقر صلة وثيقة بالقهر، وليس فقط بالجهل وبالمرض, وقد استغرق الكواكبي في تحليل مخاطر الفقر، وصلته الجدلية بالقهر وبالحرية والاستبداد، وأسهب في بيان سلبيات اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء, وكشف ببراعة دقة الخيوط التي توثق الفقر بالقهر، وتربط الفقراء بأوتاد الاستبداد، وقارن بين أحوال مجتمعات الشرق والغرب في الفقر والغنى، وتباين قدرة كل مجتمع على التخلص من شرور الفقر، ومن أوزار الاستبداد(36).
وعلى أية حال، فقد توصلنا ـ في دراسات سابقة لنا ـ إلى أن "التصدي للفقر" كان في مقدمة أولويات العمل الخيري في الممارسة الاجتماعية في الاجتماع السياسي الإسلامي، وتجلى ذلك بأوضح ما يكون في نظام الوقف الإسلامي عبر أغلب مراحله التاريخية. وبفضل تراكم الخبرات الاجتماعية في ممارسة العمل الخيري تبلورت أربع وسائل لتنظيم إسهام العمل الخيري في محاربة الفقر، واختصت كل وسيلة بشريحة أو أكثر من شرائح الفقراء(37).
الوسيلة الأولى هي: "المساعدات النقدية" التي تقدم للفقراء موسمياً، وخاصة في الأعياد والمناسبات الدينية، أو تقدم لهم في أوقات حاجتهم إليها.
والوسيلة الثانية هي: "المساعدات العينية" التي تشمل: الطعام، والماء، والكساء، وبعض أدوات الإنتاج البسيطة، والدواء، والمأوى أحياناً، وهي تقدَّم للفقراء والمعوزين موسمياً أيضاً أو في أوقات حاجتهم إليها؛ شأن المساعدات النقدية.
أما الوسيلة الثالثة فهي: "المساعدات المؤسّسية"؛ ونقصد بها تلك الإسهامات التي يقوم بها فاعلو الخير من أجل دعم أو تمويل أو إنشاء مؤسّسات تقدم خدمات عامة مثل: المساجد، والمدارس، والمستشفيات ومستوصفات العلاج، ودور الرعاية الاجتماعية التي تقدم خدماتها للأيتام والعجزة والأرامل وذوي الاحتياجات الخاصة.
والوسيلة الرابعة هي: "المساعدات الفنية"، وتشمل ما يتطوع به فاعلو الخير من خبرات واستشارات ومشاركات يقدمونها من دون أجر مادي، ويسهمون بها في تدريب وتأهيل الراغبين في العمل؛ ولكنهم غير قادرين على تحمل نفقات التأهيل المهني اللازم لدخولهم سوق العمل.
وجرى تمويل هذه المنظومة الخيرية عبر طرق متعددة منها: الزكاة، والوقف، والوصاياً، والهبات الخيرية، والنذور، والكفارات، والصدقات التطوعية الأخرى.
هـ ـ الإسهام في بناء المجال العام:
علينا أن نعرِّف "المجال العام" قبل أن نَعْرِفَ كيف أن الإسهام في بنائه هو أحد أهم ملامح "مجتمع الخير العام"؛ "المجال العام" هو الحيز الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي المشترك، وهو المسؤولية المشتركة، والمصلحة المشتركة؛ التي لا يختص بها فرد دون آخر، ولا تحتكرها مجموعة أو فئة دون أخرى. "المجال العام" بهذا المعنى تحكمه منظومة "قيمية" تتقاسمها فئات المجتمع وأفراده، و"منظومة" أخرى من المؤسّسات والمرافق العامة التي يجب أن تتسم بالتطور والكفاءة؛ حتَّى يكون المجال العام متطوراً وفعالاً. للمجال العام إذن بنيتان: الأولى معنوية, تشتمل على مجموعة من القيم. والثانية مادية, تشتمل على مجموعة من المؤسّسات والأطر المكانية التي تكون بمثابة ساحة لممارسة تلك القيم.
ثمة مسلك آخر لتعريف المُسمى الذي نسميه باسم "المجال العام"، وهو التعريف بالضد؛ فنقول: إنه كل ما يخرج عن "المجال الخاص". وتسير تكوينات المجال الخاص في اتجاه معاكس لتكوينات المجال العام؛ إذ تؤكد على ما يقع في الحقول الدلالية لعدد من التركيبات اللفظية التي تشترك دلالاتها -أو بعضها- مع دلالات "المجال الخاص"، وأهمها: الحيز الخاص، والنظام الخاص، والمصلحة الخاصة، والقانون الخاص، والحقوق الخاصة، والرأي الخاص، أو الشخصي. وجميعها تتركز في دائرة الفرد أو دائرة العائلة على أقصى تقدير(38).
وتوضح لنا نشأة المجال العام في الخبرة الحضارية الإسلامية أن "العمل الخيري" كان من كبار مؤسّسي هذا المجال منذ البدايات الأولى لنشأته في مجتمع المدينة على عهد النبي -صلَّى الله عليه وسلم- بعد هجرته إليه من مكة المكرمة. وتنوعت مبادرات العمل الخيري التي أسهمت في تكوين "المجال العام"، وكان من أهمها: المبادرة بوقف مسجد قباء، ومن بعده وقف مسجد الرسول -صلَّى الله عليه وسلم-، ووقف بئر رومة للمنفعة العامة، ومبادرة الأنصار لاقتسام ما يملكون مع إخوانهم المهاجرين استجابة لتوجيهات الرسول -صلَّى الله عليه وسلم-، رغم أن توجيهاته بهذا الخصوص لم تكن على سبيل الإلزام، وإنما كانت على سبيل الندب. وقد أسهمت هذه "المبادرات الخيرية" في إرساء البنية المادية للمجال العام، بعد أن كانت بنيته المعنوية (القيمية) قد ترسخت حول معاني التعاون، والتضامن، والتكافل. وقديماً أطلق علماؤنا على هذه الأعمال التي تستهدف الخير العام مصطلح "حقوق الله"(39). وهذه الحقوق تشمل ـ فيما تشمل ـ كل ما احتاج إليه الناس حاجة عامة؛ مادية أو معنوية، ولا غناء لهم عنها. وصنف بعض العلماء هذه "الحقوق العامة" أيضاً ضمن ما شُرع "تنبيهاً على مكارم الأخلاق"، ومنها الحض على المواساة، وعتق الرقاب، والهبات والأحباس، والصدقات، ونحو ذلك من مكارم الأخلاق"(40).
وتشير الخبرة التاريخية إلى أن الممارسة الاجتماعية لمنظومة "حقوق الله" -ومنها "أعمال التضامن العام"- قد تجلت في مجموعة كبيرة من المبادرات الطوعية التي تستهدف دوماً "الخير العام"، والتي من شأنها أن تسهم في تكوين "مجال مشترك" بين المجتمع والدولة، ولمصلحتهما معاً(41). وأخذت هذه المبادرات أنماطاً متنوعة من البر والمبادرات الخيرية. وتعرض "المجال العام" الذي أسهمت في تكوينه تلك المبادرات الخيرية للازدهار والانحسار في ضوء ما مرت به المجتمعات الإسلامية من تحولات اجتماعية وصراعات سياسية, وبناء على ذلك كان المجال العام يزدهر ويقوى كلما زادت درجة التمدن وقويت روح التضامن الاجتماعي، وكان ينحسر ويضعف كلما تراجع التمدن، وزاد الميل إلى التنازع والانقسام.
وإذا كان العمل الخيري في أغلب التجارب الحضارية هو في جوهره "إلزام ذاتي للنفس لمصلحة الغير دون مقابل مادي" ـ باستثناء الحضارة الغربية الحديثة التي يرتبط فيها العمل الخيري بأهداف مادية مباشرة أو غير مباشرة ـ فإن الخبرة الإسلامية تؤكد بوضوح على أن من أهداف هذا الإلزام تمكين الفرد من المشاركة في بناء "المجال العام". فمن خلال نظام الوقف مثلاً ـ قبل أن تسيطر عليه الحكومات المعاصرة ـ استطاع الفرد أن ينقل إرادته من الحيز الخاص إلى المجال العام، وأن يشارك بقدر أو آخر في بناء هذا المجال على نطاق محلي محدود، أو على نطاق المجتمع كله إذا كان وقفاً كبيراً يقوم بتمويل مؤسّسات متعددة مثل المدارس والمستشفيات وغير ذلك من المرافق العامة. ولهذا اكتسبت "شروط الواقف" أهمية كبيرة، وأضفى عليها الفقهاء صفة الحرمة, وأكسبوها قوة الإلزام بقولهم: "شرط الواقف كنص الشارع في لزومه ووجوب العمل به"(42). ومن نافلة القول أن الشروط المعتبرة شرعاً هي التي تكون منضبطة بالمقاصد العامة للشريعة(43)، وهذا وجه آخر من وجوه ارتباط مجتمع الخير العام بمقاصد الشريعة.
خاتمة:
لسائل أن يسأل: لماذا يكون "مجتمع الخير العام" بالمعنى القرآني قادراً على استيعاب وتحقيق تلك المعالم الخمسة الكبرى التي استنبطناها من مفهوم الخير وفق معاييره القرآنية؟ والجواب يعيدنا مرة أخرى إلى "الحرية" باعتبارها النواة الصلبة للرؤية الإسلامية في الاجتماع والسياسة. إن المجال العام هو ميدان ممارسة "الحرية", والحرية هي من صميم المقاصد العامة للشريعة, ولا يُقبل الفرد على مبادرة طوعية يُلزم بها نفسه لمصلحة الغير وتستهدف النفع العام إلا عندما يبلغ مستوى الولاية على نفسه؛ أي أن يكون حراً مختاراً غير مكره. أما عندما يفقد حريته، أو يشعر أنها مهددة تهديداً لا قِبَل له بدفعه، فإن أول ما يفعله هو أن ينسحب من المجال العام، وينكفئ على ذاته، ولا يبادر بمشاركة عامة، ناهيك عن أن يبادر بمشاركة خيرية ليس لها جزاء مادي. أو قد يلتحق ـ أحياناً ـ بجماعة السلطان، ويصبح أداة من أدواته في ممارسة البطش والتنكيل بالآخرين. وفي الحالين يفقد المجال العام جزءاً من حيزه؛ لأن هذا المجال لا ينشأ ولا يتكون إلا بمجموع ذوات إنسانية حرة، تتشارك هموم الجماعة وتسعى لتحقيق مصالحها، والدفاع عنها عندما تتعرض للتهديد، وفي المقابل تكسب السلطة الطاغية ذلك الجزء المفقود من المجال العام؛ لأنه تنازل عن حريته، ومن تنازل حريته لا "خير" فيه، وفاقد الشيء لا يعطيه.
وإن تعجب فاعجبْ لأغلبية البلدان العربية التي باتت ـ منذ أكثر من نصف قرن ـ تتبنى سياسات تقيد بها حرية العمل الخيري، وتحد بها المبادرات التي يتطلع المحسنون من خلالها إلى المشاركة في الحياة العامة لمجتمعاتهم، ووصل الأمر ببعض الدول ـ مثل تونس ـ إلى تحريم إنشاء الأوقاف العامة والخاصة، الخيرية والأهلية والمشتركة. وقد صدر قانون إلغاء "جمعية الأوقاف" بتاريخ 20شوال1375هـ/ 31مايو 1956، وكانت تلك الجمعية بمثابة ديوان عمومي يرجع تأسيسه إلى خير الدين باشا التونسي في نهايات القرن التاسع عشر, يشرف على الأوقاف، ثم صدر قانون آخر لإلغاء "نظام الأحباس الخاصة والمشتركة" بتاريخ 20 من ذي الحجة1376/ 18 يوليو 1957، ولا يزال سارياً حتَّى اليوم. وليس مصادفة أن تأتي مثل هذه البلدان في مقدمة الدول التي تعاني من نقص الحريات العامة والخاصة. ولنا أن نقول: إن فقد الحرية هو أحد أهم أسباب انحطاط المجتمعات الإسلامية، وعلة أساسية من علل انحسار المجال العام، وضمور المبادرات الخيرية، وتدهور المؤسّسات العريقة في عمل الخير ومنها المؤسّسة الوقفية. وقد عبر الكواكبي عن فداحة الثمن الذي تدفعه مجتمعاتنا نتيجة فقدان الحرية في كتابه "أم القرى" على لسان "المولى الرومي"، يقول: "وعندي أن البلية فَقْدُنا الحرية، وما أدرانا ما الحرية؛ هي ما حُرِمنا معناه حتَّى نسيناه، وحَرُم علينا لفظُهُ حتَّى استوحشناه... ومن فروع الحرية تساوي الحقوق ومحاسبة الحكام باعتبار أنهم وكلاء، وعدم الرهبة في المطالبة وبذل النصيحة... فالحرية هي روح الدين،...وأعز شيء على الإنسان بعد حياته، وإنّ بفقدانها تفقد الآمال، وتبطل الأعمال، وتموت النفوس، وتتعطل الشرائع، وتختل القوانين".
وحَبُّ الحصيد هنا هو أن الأصل القرآني للعمل الخيري ـ بمختلف أنماطه ـ هو الأساس المتين لبناء مجتمع الخير العام الذي يشمل بظلاله كل بني الإنسان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) انظر: محمد عمارة، قاموس المصطلحات الاقتصادية, القاهرة, دار الشروق، د.ت, ص205-206.
2) أحمد بن علي المقري التلمساني، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، بيروت, دار الفكر، 1406-1986, ج9، ص167.
3) انظر: أبو القاسم الحسين بن محمد الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، تحقيق محمد سيد الكيلاني، مادة "خير".
4) انظر: أبو علي بن سينا، كتاب النجاة، ص229.
5) أحاديث مسجلة للشيخ الشاهد بوشيخي في ذي الحجة سنة 1426هـ/ يناير 2006، وقد سمعتها على موقع اليوتيوب WWW.Youtube.fr. Csa200BWI.
6) المصدر السابق نفسه.
7) انظر: أبو هلال العسكري، الفروق اللغوية، ضبطه وحققه: حسام الدين القدسي, بيروت, دار الكتب العلمية،1981، ص161-162.
8) انظر: أبو الحسن علي بن عبد الرحمن بن هذيل، عين الأدب والسياسة وزين الحسب والرياسة, بيروت, دار الكتب العلمية، 1981, ص105.
9) انظر: سبط بن الجوزي، الجليس الصالح، والأنيس الناصح, لندن, دار رياض الريس،1989, ص67.
10) انظر: مراد وهبة، المعجم الفلسفي: معجم المصطلحات الفلسفية, القاهرة, دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع, ص320.
11) تحدث الشيخ محمد الطاهر بن عاشور عن مقاصد التبرعات، وهي تندرج في العمل الخيري بلا شك، ولمزيد من التفاصيل انظر: كتابه: مقاصد الشريعة، مرجع سابق، ص204-210. وتختلف رؤيتنا لمقاصد العمل الخيري بعض الاختلاف مع ما قدمه الشيخ رحمه الله، كما سيأتي.
12) انظر: موريس كرانستون(محرر)، المصطلحات السياسية, بيروت, دار النهار للنشر،1969, ص90.
13) انظر: على فؤاد باشكيل، موقف الدين من العلم، ترجمة أورخان محمد علي, الكويت, دار الوثائق، ب.ت, ص88. حيث ينتقد النظرة النفعية في الفلسفة المادية الوضعية.
14) سنوالي بيان مقصودنا من هذه المقاصد، وقد اخترنا التعبير عن مقاصد العمل الخيري بمصطلحات مستحدثة للتعبير عن المراد بشكل مباشر وقريب من لغة الاجتماع السياسي المعاصر؛ لأننا نؤمن أن نظرية المقاصد ليست مقصودة لذاتها؛ وإنما لما تسهم به في توجيه الواقع والتأثير فيه، وبما تسهم به كذلك في جعلنا أكثر قدرة على فهم هذا الواقع والتعامل معه.
15) الإمام محمد عبده، الأعمال الكاملة، تحقيق وتقديم محمد عمارة, القاهرة, دار الشروق،ط2، 2006, ج5، ص428.
16) ما ذكرناه هو خلاصة مكثفة لأهم ما ورد في كتب التفسير المشتهرة، وقد لخصها الشيخ محمد على الصابوني، صفوة التفاسير، بيروت, دار القرآن الكريم، ط4، 1981, ج3، ص562-563. وانظر أيضاً: الشيخ حسنين مخلوف، القرآن الكريم ومعه صفوة البيان لمعاني القرآن, القاهرة: دار الكتاب العربي بمصر، ط1 1956, ج2، ص542-543.
17) تناولنا إسهام نظام الوقف في مختلف المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في أكثر من عمل سابق لنا، وخصصنا دراسة مستقلة لبحث موقع فكرة الوقف باعتبارها ركنا أساسياً من أركان نظرية العمل الخيري الإسلامي من نظرية المقاصد العامة للشريعة، انظر: "مقاصد الشريعة في مجال الوقف" في: محمد سليم العوا(محرر)، مقاصد الشريعة الإسلامية: دراسات في قضايا المنهج ومجالات التطبيق،. مرجع سابق، 425-483.
18) لمزيد من التفاصيل حول مركزية "الحرية" في الرؤية الإسلامية، انظر: إبراهيم البيومي غانم، أصول المجال العام وتحولاته في الاجتماع السياسي الإسلامي، بحث قدم في: المؤتمر السنوي لمركز البحوث والدراسات السياسية، كلية الاقتصاد/جامعة القاهرة ، 12و13/12/2007، تحولات المجال العام في مصر: سياسات الانتقال من مجتمع جماهيري إلى مجتمع استهلاكي".
19) انظر: الرؤية المتعمقة التي قدمها الشيخ عن "مقصد الحرية" في كتابه: مقاصد الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص139-146.
20) المرجع نفسه، ص139.
21) انظر: ابن عاشور، مرجع سابق، ص193-146..
22) انظر: ابن عاشور، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، تونس, الشركة التونسية للتوزيع،1976, ص170-178.
23) لمزيد من التفاصيل انظر: إبراهيم البيومي غانم، الأوقاف والسياسة في مصر, القاهرة, دار الشروق، 1998، ص196-289. وانظر أيضاً أعمال ندوة" مؤسسة الأوقاف في العالم العربي والإسلامي, بغداد, معهد البحوث والدراسات العربية- المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، 1403 1983.
24) لمزيد من التفاصيل حول دور الوقف مثلاً في تطوير مرفق المياه، وبلورة قواعد قانونية لإدارته انظر: إبراهيم البيومي غانم، إسهام الوقف الإسلامي في الإدارة المتكاملة لمصادر المياه، في: المجلة الاجتماعية القومية, المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية القاهرة، العدد الثاني، المجلد الرابع والأربعون، مايو 2007- ص31 67.
25) لمزيد من التفاصيل حول وقائع الاستيلاء الحكومي على الأوقاف في العالم الإسلامي الحديث انظر: إبراهيم البيومي غانم، سياسات الدولة العربية الحديثة تجاه الأوقاف: نموذج للتحيز ضد الذات في العمل الخيري. بحث قدم في ندوة: حوار الحضارات والمسارات المتنوعة للمعرفة برنامج الدراسات الحضارية وحوار الثقافات كلية الاقتصاد جامعة القاهرة، 10-13/2/2007. ولمعرفة الاتجاهات الرئيسة للسياسات التي طبقتها الدول العربية تجاه الأوقاف خلال النصف الثاني من القرن العشرين انظر: بصفة خاصة: إبراهيم البيومي غانم (محرر)، نظام الوقف والمجتمع المدني في الوطن العربي, بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، والأمانة العامة للأوقاف/الكويت، 2003.
26) انظر: ابن عاشور، مقاصد، مرجع سابق، ص204.
27) انظر: إبراهيم غانم، الأوقاف والسياسة، مرجع سابق، ص307-316.
28) انظر: عبد الحميد براهيمي، العدالة الاجتماعية والتنمية في الاقتصاد الإسلامي, بيروت, مركز دراسات الوحدة العربية، 1997, ص36.
29) انظر: إبراهيم البيومي غانم، التكوين التاريخي لوظيفة الوقف في المجتمع العربي، في: إبراهيم البيومي غانم (محرر) نظام الوقف والمجتمع المدني في الوطن العربي: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، والأمانة العامة للأوقاف بالكويت, بيروت, مركز دراسات الوحدة العربية،2003, ص89.
30) في تحليل علاقة الفقر بالمرض والأمية وضعف قدرات المجتمع انظر: نبيل صبحي الطويل، الحرمان والتخلف في ديار المسلمين، قطر, كتاب الأمة سلسلة فصلية تصدر عن رئاسة المحاكم الشرعية، ط2 ب ت, ص32-75.
31) انظر: محمد قطب، شبهات حول الإسلام, القاهرة, دار الشروق، 1403-1983, ص101-105.
32) انظر: عبد الحميد براهيمي، مرجع سابق، ص34. وانظر بصفة خاصة: عثمان حسين، الزكاة الضمان الاجتماعي الإسلامي, المنصورة, دار الوفاء للطباعة والنشر، 1409 -1989.
33) انظر: في ذلك على سبيل المثال: محمد بن الحسن الشيباني، الاكتساب في الرزق المستطاب، تلخيص محمد بن سماعة، ترجمه وعلق عليه محمود عرنوس(هدية مجلة الأزهر جمادى الأولى 1416 1995) ص44-52.
34) لا نعرف كم تساوي الأربعون درهما بعملات اليوم، ويمكن لأحد الاقتصاديين أن يقوم بتقديرها، وانظر على أية حال: أبو عبيد القاسم بن سلام، الأموال, بيروت، دار الفكر، 1988, ص664، وانظر أيضاً المغني لابن قدامه، ج2، ص277.
35) من أهم كتب التراث في هذا المجال انظر: شهاب الملة والدين أحمد بن علي الدلجي، الفلاكة والمفلوكون، تقديم زينب محمود الخضيري, القاهرة, الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2003.
36) انظر: عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، تقديم أسعد السحمراني, بيروت, دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع، 1404 -1984, ص70-83.
37) لمزيد من التفاصيل والأمثلة التطبيقية على الوسائل الأربع انظر: كتابنا، الأوقاف والسياسة، مرجع سابق، ص170 وما بعدها.
38) انظر: في تعريف "المجال العام" ومنظومة القيم التي يتكون منها: إبراهيم البيومي غانم، أصول المجال العام وتحولاته، مرجع سابق.
39) في تأصيل مفهوم "حقوق الله" انظر: على سبيل المثال، الشاطبي، الموافقات.، مرجع سابق، ج2، ص317-320، وأيضاً ص375-378.
40) انظر: علاء الدين أبو الحسن على بن خليل الطرابلسي الحنفي، معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام, القاهرة, مطبعة مصطفى البابي الحلبي، ط2/ 1393هـ، 1973م, ص169.
41) اكتشفنا مفهوم "المجال المشترك" بين المجتمع والدولة من خلال دراستنا الموسعة في نظام الوقف الإسلامي، ولمزيد من التفاصيل انظر: الأوقاف والسياسة، مرجع سابق، ص68-73. ومواضع أخرى متفرقة من الكتاب نفسه. وأعجب البعض بهذا المفهوم وصار ينسبه لنفسه دون إشارة إلى مصدره!.
42) القاعدة المذكورة منصوص عليها في كثير من كتب الفقه، انظر: مثلاً: أحمد فرج السنهوري، في قانون الوقف, القاهرة, د.ن، 1949, ج1، ص198. وانظر أيضاً الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية, القاهرة, المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، 1984, مج11، فتوى الإمام محمد عبده حول مدى الالتزام بشرط الواقف" ص4061-4069. وفي بيان أثر القاعدة في احترام إرادة الواقف، وتوفير قدر من الفاعلية لنظام الوقف في الممارسة انظر: إبراهيم البيومي غانم، نحو تفعيل دور نظام الوقف في توثيق علاقة المجتمع بالدولة، مجلة المستقبل العربي(بيروت) مركز دراسات الوحدة العربية، العدد266، 4/2001، ص41.
43) انظر: إبراهيم البيومي غانم، مقاصد الشريعة في مجال الوقف، مرجع سابق، ص247-298.