المجتمع الخيري وفعالية منظومة القيم
عبد الرحمن السالمي
ذكر الله سبحانه في آية سورة الشورى أعلاه الركنين اللذيْن تقوم عليهما الحياة الإنسانية الصالحة، عبادة الله عزّ وجل بإقامة فرائضه، والركن الآخر: عمل الخير، وهذان الأمران كفيلان بتحقيق الفلاح؛ أي الرضا والسعادة في الدنيا والآخرة.
وفي موطنٍ آخر في القرآن الكريم قال جلَّ وعلا: ﴿وما خلقت الجنَّ والإنس إلاَّ ليعبدون﴾، وعبادة الله سبحانه هي -بالدرجة الأولى- أداء فرائضه، والانتهاء عمّا نهى عنه؛ لكنها بالمعنى الأوسع تشمل الاستخلاف والتكليف به، وعمارة العالم من أجل العيش فيه وعبادة الله عن طريق ذلك.
إننا نعلم أنه منذ العصر الإسلامي الأوَّل تُطرحُ سؤالاتٌ وسط المستجدات: هل العبادةُ تقتضي بالضرورة القيام بالأعمال الصالحة؟ وإن حصل العكس، ماذا عسى أن يحدث؟ وهذا يعيد النظر في انقسامات الفرق الإسلامية منذ القرن الهجري الأول، وإزهاق الأرواح من جانب هذا الطرف أو ذاك، كل ذلك بسبب اختلاف أفهامهم في الإيمان؟ وأين الذين يرتكبون ذلك من قوله تعالى: ﴿إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر﴾، ولذا كان هناك من العلماء والمدارس الكلامية من رأى أن ارتكاب الكبائر مخلٌّ بالإيمان، فربطوا بين الإيمان والعمل.
بينما يظهر الإشكال في أنّ فعل الخيرِ والعملِ الصالح ليس ناجماً بشكلٍ مباشر عن إقامة العبادات؛ بل إنّ الإيمان بحدَّ ذاته هو الدافع المغير: ﴿إنّ الله لا يغير ما بقومٍ حتَّى يغيروا ما بأنفسهم﴾؛ لأنه يبعث على رؤيةٍ جديدٍ للعالم، وهذه الرؤيةُ الجديدةُ -التي تحدُثُ بالتدريج والتكون المطّرد- هي في الحقيقة ذات شقَّين: الشقّ الفطري، والشقّ القيمي المتحرك الذي أُنزل به القرآن؛ فالمفاهيم الأساسية للخير والشرّ، والحقّ والباطل، والخطأ والصواب، إنما تظهر لدى الإنسان نتيجة الفطرة الخيّرة، والنصّ العائش وسط الجماعة، والبيئة القريبة التي يعيش فيها، وعندما يتبلور هذا المثلث -بالعمل والتجديد والخطأ والتوبة- يصبح حال العبد أدنى إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، ولذا فإنّ قوله تعالى بعد الأمر بالعبادة: ﴿وافعلوا الخير﴾ يعني عدة أمور: الأمر الأول أنّ الخير معروفٌ بالفطرة والتنشئة وفعل الإيمان. والأمر الثاني أنّ الشرع -ومن خلال القيم التي نشرها وينشرها- هو الذي يُعطي الإدراك الفطريَّ للخير معناه القيمي العالي الوتيرة، كما يعطيه الدافع الاحتسابي، والوعد بالأجر في الدنيا والآخرة، وهذا الأمر كما يحدث على المستوى الفردي، يحدث أيضاً على المستوى الجماعي، فيظهر المجتمع الخيري، الذي يتكون من أُناسٍ فضلاء، ويتخذ قواعد، ليس من الضروري أن يتبعها الجميع؛ لكنها تصبح دوافع وأعلاماً لدى السواد الأعظم من الناس.
لقد ذكر الله سبحانه في آية الشورى إذن ركنين للصلاح والاستقامة: عبادة الله، وفعل الخير، والنتيجة هي الفلاحُ، والفلاحُ هو بالنسبة للأفراد النجاح والفوز في الدارين. أما بالنسبة للدين والأمة فهو يعني ظهور مجتمع الخير، ومجتمع الخير -كما سبق القول- تتوافر له ثلاثة أمور: اليقين من مفهوم الخير وعمله، ووجود الدافع القوي والاحتساب عند الله، والتسانُدُ بين الأفراد والفئات للتفكير في الخير والمبادرة إليه، والتنافس الإيجابي فيه وعليه.
وما دام الخير هو "المعروف" والشر هو "المنكر" فإنّ الأمانة لمجتمع الخير ستكون في القيم المؤسّسة, والتي هي بحسب تكرار ورودها ستّ قيمٍ وفضائل: المساواة، والرحمة, والكرامة, والعدل, والتعارُف, والخير العامّ. ومن خصائص هذه الفضائل والقيم أنّ كلاًّ منها تنضوي تحته قيمٌ فرعيةٌ كثيرةٌ وكبيرة، كما أنها تترابط جميعاً بوشائج بالغة الوثوق؛ لانتمائها إلى عالم واحدٍ هو عالمُ الرؤية القرآنية، وما نعنيه بهذا الترابط الوثيق للانتماء إلى عالم القرآن الواحد يبدو في نقاشات المتكلمين في الأزمنة الإسلامية الوسيطة؛ حيث كان بعضهم يقدم قيمة العدل؛ بينما يقدم آخرون قيمة الكرامة، ويقدم فريقٌ ثالثٌ قيمة الرحمة؛ بيد أنّ الفقهاء المسلمين أعادوا ضمَّ هذه القيم في المنظومة القرآنية الأولى، وذلك من خلال مباحث "مقاصد الشريعة" والتي ذكرت ضرورات الإنسان الخمس، التي أنزلت الشرائع لصونها: النفس، والعقل، والدين، والنسْل، والمِلْك، وقد أضاف ابن عاشور قيمةً سادسةً وهي الحرية. ولو نظرنا في القيم القرآنية الستّ لوجدنا مباحث مقاصد الشريعة بمثابة التأويل لها، وهو تأويلٌ قائمٌ على الاستقراء، كما قال الشاطبي.
وهناك حديثٌ طويلٌ في المجتمعات الحديثة عن مجتمعات الخير العام، وهي المجتمعات المدنية المعاصرة التي تقوم على تنمية الموارد البشرية والإنسانية، وصنع المعرفة والتقدم من هذا الطريق. فالتنمية توصل إلى التأهُّل وإلى التوازن والعدالة والرحمة، والمعرفةُ تعني -إلى جانب التأهُّل- الرسالية وأخلاق العمل التي تُتيحُ أحياناً عملاً هادفاً يُشبهُ الاحتساب في المجال الإسلامي، وإذا كان ذلك مُتاحاً في المجال الإسلامي فهو أولى أن يكون في المجال الإسلامي العام.
إنّ المجتمع الخيري الذي يريده الإسلام ويقتضيه، هو المجتمع الذي تسودُهُ القيم القرآنية، ويُقبلُ أفراده على المبادرة إلى فعل الخير انطلاقاً من هذه القيمة أو تلك من قيم أمة المسلمين ومجتمعاتهم.