معادلة البقاء عن التَّصور الواحدانيِّ للزَّمن

بقلم: كمال الدين غازي

 

ناضل ميرتشا إلياده طيلة حياته من أجل إدراج المقدَّس ضمن البناء التَّطوريِّ للإنسان، أثناء تحوّلنا إلى بشر[1].”



تتقاطع الأديان، بحسب المناطق الجغرافيَّة، لدى الجوهر. يسود منطقة الشَّرق الأوسط اعتقاد بإطلاقه في واحدانيَّة الله. تعود جذور هذا الاعتقاد إلى زمن إبراهيم في الشَّرق الأدنى القديم، عندما كان يؤسِّس للإيمان كخبرة دينيَّة جديدة للعالم السَّامي.حلت اليهوديَّة من الأغوار، وأحلت بانتشارها معرفة جديدة أبقت ذلك التراث صامدا في وجه عشرات القرون. ما ورد في سفر التَّكوين بخصوص مسألة الخلق، ابتدأ السيرورة الكونيَّة الَّتي مهَّدت للوجود الإنساني. بالتَّالي شغل الأمر الإلهي بالكون معيار الوجود في تركيب العقيدة الواحدانيَّة.



في بادئ الأمر لم يكن هناك معيار لأمر الفناء الكونيِّ، رغم أنَّ الموت كان معيار الفناء الإنسانيِّ فرديًّا وجماعيًّا. بمرور الوقت تمركزت الميثولوجيا المسيحيَّة وسط عوام المنحوسين، واستطاعت على مر العصور إقناع المظلومين بجزاء مكافئ بعد أن يقضي البشر جمعاء. وإذ استحال الشَّقاء فوق الأرض إلى طاعون يلتقط الأرواح، بات جزاء الآخرة ضرورة يدرك الإنسان من أجلها معادلة للبقاء.عند هذا الحدِّ أُجبر التراث اليهوديُّ على الإقرار بالحياة الأخرى، وتلقف يوم القيامة المعيار الكونيَّ للفناء. من ذلك الحين فصاعدا ما فتئت تلك الأركان الثَّلاثة للاعتقاد الواحدانيِّ تبذر جذور نظرة كونيَّة متكاملة، وهكذا أخذ البناء العقائديُّ في مغنطة الماهية من كلِّ حدب، قافزا إلى حيز جديد ضمن غمرة العمليَّة التكامليَّة.



من استدلال منطقيٍّ بعدم قابلية الأمر للانشقاق عن صاحبه، يُخضع معيارا الوجود والفناء إلى الله. ويرتبطان شرطيًّا بقبلية وتبعيَّة تتناسبان طرديَّا مع بعضهما البعض، ما يصب في صالح البناء العقائديِّ من أكثر من جهة. على الرَّغم من افتقار مرحلة ما قبل الخلق اللاَّزمنيَّة إلى أيَّة قاعدة عمليَّة في معادلة البقاء، تقوم بدور الدَّعامة لمشروعيَّة الوجود الإنسانيِّ ككلّ. من المرجح أنَّ جلنا قد اكتسب منذ حداثة سنه القول بأنَّ الله – بطريقة مَّا – حشرنا قبل الخلق كبشر، وخيّرنا بين الوجود والعدم. وبغض النَّظر عن الاضطراب المنطقيِّ الَّذي يشوب افتراض مثل هذا، أعلنها القرآن صريحة[2]. وعلاوة على إيراثنا آثام البقاء، تُصار أنتولوجيّة الحياة الآخرة أكثر قابليَّة للاعتناق، لأنَّها تغدو منطقيَّة ومرضية إلى حدٍّ كبير.



تتلاقى كلّ من تبعيَّة أمر الخلق وقبليّة أمر الفناء في السيرورة الحياتيَّة على المستويين الإنسانيِّ والكونيِّ، على ذلك تعتبر أيَّام الخلق السِّتة نقطة الانطلاق بالنسبة إلى الزَّمن، الَّذي يقطع ما بين الأمرين. يتبنى الفكر الواحدانيُّ للزَّمن تصوّرَ سهم مستقيم موجّه المسار، سرعان ما يرتبط بمنظور شموليٍّ للكون بفضل ما تتيحه الأسطورة من معرفة كافية عن ماضي العالم ومستقبله. يؤمن الواحدانيُّ بأنَّ الزَّمن مستغرقٌ إلى نقطة النِّهاية، بصرف النَّظر عن أنَّه لا يعرف متى تحين.





عند هذا الحدِّ يكتمل المنظور العقائديُّ للكون، ورغم أنَّه لا يقدم أيَّ تفسير موضوعيٍّ في أيِّ وقت يتعلَّق الأمر بالزَّمن، ينضح بميكانيكيّة تتَّبع مبدأ التَّكيّف الطبيعيِّ لنظرية تشارلس داروين في التَّطور، كما عرضها في كتابه “عن أصل الأنواع” المنشور عام 1859. تعمل هذه الميكانيكيَّة دون انتباه مُشترط من الإنسان على تطوير آلياته الذَّاتيَّة بغرض مواكبة التَّطورات الموضوعيَّة للنِّظام المهيمن على الأرض، كما تحرص بصورة مستمرة على إبقائه حيَّا كيفما أمكن ذلك، وفوق ذلك ما تنفك تطرق أبواب التَّناسل.



من المفيد اختزال ذلك الكلِّ في معادلة قياسيَّة أرسطيَّة ذات مقدِّمتين:



أولا، الأمر الإلهيُّ بالكون مقرونا بصاحبه – الله – ثانيا، الكون مقرونا بزمن الكون. يُحصّل من ثمَّ الناتج منطقيًّا، بناء على امتزاج الأمر الإلهيِّ بالكون ضمن إطار زمنيٍّ محدَّد. على هذا الأساس، تتَّخذ المعادلة الواحدانيَّة هذه الصفة: الأمر/الله + الحياة/العمر = الحياة الآخرة، نعيمها أم جحيمها.



كما يمكن من خلال المنظور العقائديِّ الواحدانيِّ استدلال شرطين لا مندوحة عنهما من أجل تحقق المعادلة في مثل هذه الصورة، عن طريق القياس. تُشترط أولا ملكيَّة الله للخلق والسيرورة الحياتيَّة – كونيَّة وإنسانيَّة على حدِّ سواء – حال إصداره أمر الكون، فضلا عن إقامته شريعة كلّ منهما. يمتدُّ الأمر الإلهيُّ بالضرورة إلى الحياة الأخرى، ومن هنا يتأتى الوفاء بالشَّرط الثَّاني: اقتسام النتيجة بين الله والإنسان، لكلٌّ منهما دور جوهر يفي صيرورة الحياة الآخرة إلى نعيم أم جحيم؛ يمنح الله الإنسان بعد الموت حياة سرمديَّة، كما منحه من قبل الحياة على الأرض.



من الملائم في هذه الحال أن نبلغ القياس عبر طريق رياضيّة بعض الشيء. لندع المقدمة الكبرى (س) تعاد لأمر الخلق بالكون مقرونا بصاحبه، والمقدمة الصغرى (ص) الحياة الأرضيَّة الَّتي تتحقَّق بالعمل، مقرونة بالإطار الزَّمني لعمر الإنسان الواحد على المستوى الفردي، أو عمر البشر كلُّهم منذ بداية الخلق إلى نهايته على المستوى الجماعي. تقترن حياة الكون، الَّتي تتحقَّق بالوجود، بالإطار الزَّمني الأقصى الَّذي يقطع ما بين أيَّام الخلق السِّتة ويوم القيامة. وبما أنَّ النتيجة تظلُّ دائمًا مجهولة، سأرمز لها بالرمز (ع).



لا توجد ثمئذ استحالة منطقيَّة في تطبيق المعادلة عن طريق القياس، لا سيَّما بتوافر شرطيّ الملكية وشراكة صاحب الأمر في تحقيق النتيجة، جنبا إلى جنب مع محدديّ (س) و(ص). وفقا لذلك تتَّخذ المعادلة الواحدانيَّة مجردةً هذه الصفة: (س + ص = ع).



ينفرد الفصيل الإنسانيُّ بطمأنينة ملحوظة عند تعلُّق الأمر بقبيل من مشكلات الحماية إزاء الضواري، التَّضور جوعا، أو الكوارث الطبيعيَّة. بعد اجتياز بعض العقبات، سنحت فرصة الإنسان في الحصول على أيِّ شيء تقريبا، شريطة عدم الحياد عن نطاق نظام يقوم – بجميع مشتقاته – على التَّبادل النَّقديِّ. لسوء الحظِّ أو لحسنه، تقدر الأموال على تأمين أهم مستلزمات البقاء، كالغذاء والمأوى. ولأنَّ العالم الَّذي نعيش فيه عالم رأسمالي بامتياز، تتربَّع الملكيَّة الخاصَّة على عرشه صائنة لاستمرارية التَّداول النَّقديِّ، ومن ثمَّ بقاء النِّظام. هناك عمل وحيد لدوام التَّداول النَّقديِّ والحصول على المال: الشُّغل (الَّذي يخضع عادة إلى مفاهيم الملكيَّة المتنافرة بحسب القوانين والأخلاق).



يقع العمل من دون شكٍّ تحت وطأة صاحب العمل، مصدر أمر الشُّغل. تتحقَّق المقدمة الكبرى (س) بالنسبة للمعادلة في أمر الشُّغل المقرون بصاحب العمل. كما يُوفّى الشَّرط الأوَّل للقياس، ملكيَّة صاحب العمل، عبر احتكاره الرأسمال وهيمنته على شروط العمل الَّتي تُقاس بالشُّغل خلال الإطار الزَّمني المحدَّد. تتأتى من ثمَّ المعادلة الصغرى (ص) بصورة تلقائيَّة، من الشُّغل، على سبيل المثال، 40 ساعة مدَّة خمسة أيَّام في الأسبوع الواحد. لو أضفنا (س) و(ص) إلى بعضهما البعض، سنحصل على نتيجة متسقة وإيَّاهما، منطقيّة، ومرضيّة إلى حدٍّ كبير: النقود (الأجر).



ما يثير دهشتي انطباق تلك المعادلة على فترة ما قبل العمل، فترة التنشئة الذَّاتيَّة والموضوعيَّة لإجهاض التَّشرد والموت جوعا من رحم النِّظام. لنأخذ،على سبيل التَّمثيل، المدرسة : افرض أنَّ المقدمة الكبرى (س) تتحقَّق في المدرس صاحب الأمر، غير أنَّ طبيعة الأمر تختلف ولو ظاهريًّا عن أمر صاحب العمل، مع ذلك تتلاقى كلتاهما عند الشَّرطين الَّذين تتحقَّق بهما المعادلة بصورة صحيحة:الشَّرط الأوَّل، إقرار ماذا يجب على الطلاَّب أن يفعلوا في الحالة الأولى، والعمَّال أو الموظفين في الحالة الثانية.



تكمن ملكيَّة المدرس في ذلك الإقرار، إلى جانب المشاركة في وضع الامتحانات النِّهائيَّة، ومنح الدَّرجات أيضا. تعمل هذه الشَّراكة على استيفاء الشَّرط الثَّاني الَّذي يضمن صلاحيَّة القياس. عندئذ تقتصر المقدمة الصغرى (ص) على خضوع الطلاَّب لسلطة المدرس على المدى الزَّمني للفصل أو للعام الدراسيِّ. ورغم أنَّنا بغير حاجة إلى المعادلة، ونعرف النتيجة عن طريق استقراء تجريبيٍّ سابق، قد لا يلاحَظ تطابق النتيجة الحاليَّة ونتيجة المعادلة الأصليَّة الواحدانيَّة مع بعضهما البعض في ازدواجيَّة ما بعد النِّهاية: لكلّ من الامتحان والحياة الآخرة احتمالان؛ النَّجاح أم الرسوب،الفردوس أم جهنم.



لهذا التَّطابق مدلول لا ينبغي الاستهانة به إذا ما وضعنا في الحسبان أنَّنا نعانق عقائدنا في سنٍّ صغيرة جدًّا تحيط بها أسوار التَّعليم الإلزاميِّ. وبالطبع لا تتطابق نتيجة المعادلة الواحدانيَّة ونتيجة العمل من حيث الجزاء المتناقض، بسبب استحالة عمل الإنسان بلا مقابل من المال، إذا ما استثنينا الأعمال الَّتي لا تفسح مجالا للتملّص كالسِّجن أو الاسترقاق، وحريّ اعتبار النِّساء اللاَّئي يعملنَّ في المنزل لفترات تبلغ الثلاثين ساعة أسبوعيًّا دون حصولهنَّ على أجر مقابل.



يجعلني ذلك القياس أعجب عن جدوى الجوهر العقائديِّ من ناحيته الدينيَّة، مقارنة بعمليّته في التَّكيّف من ناحية بيولوجيَّة صرفة. الملفت للنَّظر أنَّ نمط التَّكيّف لا يمت بصلة لأيَّة تفاعلات بيولوجيَّة جسديَّة أو جينيَّة، بل يظهر بتجلّ في الذَّكاء الإنسانيِّ ذي الأصول البيولوجيَّة[3]. أستطيع أن أقر بأنَّ الذَّكاء الإنسانيَّ قد نجح على مدار آلاف السنوات في أن يحلَّ محلَّ القوَّة العضلية بجميع أشكالها، من الناحيتين الأخلاقيَّة والجماليَّة. ولعلَّ ذريعة مثل هذه عززت من مناهضي الحرب إبَّان عقد الستينيات الَّذي شهد سخطا واسعا واحتجاجات كبيرة تناوئ السياسات العسكريَّة وتشجبها. ما يومض بأنَّ الوجود الذَّاتيَّ الَّذي يعوز إطارا موضوعيًّا في العالم الخارجيِّ، عنصر من عناصر عملية التَّطور، تصارع من خلاله لغاية الارتقاء.



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]الأصل بالفرنسيّة Homologie
[2]الأحزاب: 72
[3] راجع الثَّقافة الموروثة في البيولوجيا التَّطوريَّة، والميمات في الأنثروبولوجيا

المصدر: http://www.alawan.org/article14471.html

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك