الآخرُ الصَّدَى.. التسامحُ الديني في الإسلام مِن وجهة نظر غربية

أ.م. د. فارس عزيز المدرس

 

دأبَ كثيرٌ مِن المسلمينَ على اتخاذِ تصورٍ سلبيّ ضد موقف الغربيين من الإسلام، وخصوصاً فيما يتعلق بتاريخِه وانتشاره بين شعوب العالم، وهذه النظرةُ أتتْ أولاً بسبب التعميم في إصدارِ الأحكام، وثانياً بسبب الاستفزازِ الذي تركته كتاباتُ أولئك الغربيين، بل وحتى كتابات بعضٍ من نصارى الشرق أو يهوده عن الإسلام، من الذين كانوا ينعمون في ظله بالحرية والتسامح، فتلقف

كتاباتهم قسم من الأوربيين، منذ وقت مبكر، ليؤسسوا عليها مواقفهم وتعصبهم ضد المسلمين. مِن ذلك ما كان يردده المؤرخ (غرونباوم) من مغالطات وافتراءات؛ نقلاً عن يوحنا الدمشقي. فقد كانت (تجاوزات) يوحنا على الإسلام، ومنذ وقت مبكر، رغم قربه من الأمويين، وعمله في إدارة دولتهم، جرأة تدل على تسامح المسلمين، على مستوى الدولةِ والرعية، يومئذ.

ومن ذلك أيضاً تعرَّضُ (يوحنا بن بنكايه) John Ban Penkaye لعقيدة المسلمين، حيث كتب عن التغيرات التي طرأتْ على العالم "بظهور أبناء (هاجر)، واندحار الساسانيين، وزوال ملكهم، بعد إن كانوا شامخي الأنوف غطرسةً وكبرياء، فسلط عليهم قوماً حفاة عراة. وقد نسب (ابن بنكايه) انتصار المسلمين إلى إرادة الله وقضائه وقدره". فأعطى هؤلاء المتعصبون، ولا سيما الدمشقي، معلومات مغلوطة عن الإسلام، إذ زعم بأن الرسول محمد (عليه الصلاة والسلام) ضلَّله المسيحيون الهراطقة، ثم أصبح هو مضللاً للعرب.

وانتقلت هذه الافكار إلى أوربا في العصر الوسيط، الذي اتسم بالتعصب ومجافاة العقل، ثم تداول أفكارَه وتخرصاته لاهوتيون متعصبون، من أمثال (بيد المبجل 373-735م Venerable Bede )، وهو مؤرخ بريطاني معاصر ليوحنا الدمشقي(1).

فهؤلاء (غربيون وشرقيون) أسسوا، ومنذ وقت مبكر، للكراهية والتعصب ضد المسلمين، وكانت كتاباتُهم سبباً في انتشار الكراهية المبكرة للإسلام، وتشويه صورته، مما جعل ردود أفعال المسلمين تجاه ما يكتبون تتسم بالشك والكراهية أيضاً.

لكن في الجانب الآخر، لنا أن نقول إن السلبية التي يحملها قسمٌ من المسلمين عن الغربيين، فيما يتعلق بموقفهم من الإسلام، مبررةٌ؛ ولها جانب مِن الصحة، لكنها لا تمثل الحقيقة كلها، ذلك لأن كثيراً من الكُتاب الذين حاولوا النيل من حقيقة الإسلام، لا كبيرَ دِراية لديهم، وهم ليسوا علماء أصلاً، بل أن قسماً منهم ساسةٌ أو صحفيون أو رجال دين متحاملين سلكوا سبيل الكتابة، وتلقفهم الإعلام وروَّج لهم، فوقع المسلمون في مطب إعطائهم أكبر مِن حجمهِم الذي يستحقون.

ومع أن هناك علماء ساروا في هذا المِضمار أيضاً، إلا أنهم هم أيضاً ليسوا كل الغربيين، وأن منهم مَن ليس له معرفة كافية بالإسلام، أو هو من المتعصبين الذين تَزجُّ بهم مؤسساتٌ سياسية ولاهوتية لأغراض مبيتة، وهؤلاء ينبغي الاحتياط منهم، وتتبع شبهاتهم، والرد عليهم.

لكن يبقى هناك علماء وأكاديميون معتبرون، كتبوا عن الإسلام وتاريخه كتاباتٍ علمية موسعة، ذات إطار ومنهج موضوعي، لكننا غالباً نركز على النموذج السلبي ونعمّمه، وننسى أن هناك منصفون وقفوا مِن تاريخ الإسلام ومعتقداته موقفاً علمياً، لكننا نتجاوزهم، ونزن الجميع بميزانٍ واحد، وهذا خلل منهجي، يستدعي منا التعامل مع ما يُكتب عن الإسلام والمسلمين بإنصاف ورؤية علمية، كي لا يختلط الأمرُ علينا، فنسيء للمنصفين منهم، ونجعلهم في حالة ضعف، قُبالَةَ آخرين لا يتصفون بالحياد ولا بالموضوعية، ولا حتى بالاحترام.

إننا حين نكيل كلَّ الغربيين بمكيال واحدٍ، نكون قد أعنا المسيئين، وخذلنا المنصفينَ، مع أن كثيراً من أولئك المنصفين يلاقون المضايقات والنقد القاسي على مواقفهِم الموضوعية تجاه الإسلام والمسلمين. وهذه – على الحقيقة - ليست دعوة لتقبُّل الطروحاتِ التي يطرحها المنصفون على علاتِها، بل الأمرُ يستوجب وقفةً منصفةً، تأخذ بعين الاعتبار التفريق بين هؤلاء وأولئك.

ومِن الخطأ الظنُ بأن على غير المسلم أن يتنصل عن معتقده وثقافته وتصوراته بالكامل، متجاوزاً بيئته وثقافته التي نشأ فيها، ويقول كل ما يوافق قناعاتنا. لكن حين يكون منصفاً فله قيمته ووزنه العلمي، مقارنة بآخرين كان دأبهم النيل من الإسلام والمسلمين.

ولقد خاض كثيرٌ مِن المستشرقين في مسائلَ وقضايا حساسةٍ تخص تاريخَ الإسلامِ ومعتقدِه، وانصبتْ جهود كثير منهم على القرآن الكريم والسيرة النبوية، ومنهم من عنى بتاريخ الدعوةِ إلى الإسلام، وقيمتها التاريخية والأخلاقية، موضحين قيمة المعتقد الإسلامي، وتوافقه مع نواميس الحياة والمنطق العقلي المجرد، وأن التسامح، وسمو الخلق، والعدل، والشعور العميق بإنسانية الإنسان، هي التي أدت إلى انتشار الإسلام.

فمثلاً، نجد المستشرق البريطاني "مونتكمري وات" ينتقد الإسلام، باعتباره عالِماً مسيحياً عقلانياً، لكنه يحترم آراء المسلمين، دون أن يقبلها جملةً، ويحترمه المسلمون، دون أن يشاركوه جميع آرائه النقدية بالضرورة(3)، فأخطاؤه ليست قصديةَ الإساءة، بينما آراؤه الصحيحة المنصفة تعبر عن أخلاقيته العلمية، واحترامه للقيمة المعرفية، بمعزل عن المؤثرات الخارجية.

ومع الاعتراف بأنَّ مثل هؤلاء المستشرقين، ذوي النزعة المنهجية - شأنهم شأن أي إنسان - ليسوا معصومين من التناقض والانزلاق، فإنهم قد فتحوا آفاقاً فكرية رحبة في بيئتهم ومجتمعهم. ومن هنا تظل جهودهم مذهباً فكرياً محكم البناء، حتى لو أخفقت فيما عدا ذلك، لأنها تعد محاولةً أجرى أصحابها بحثاً في الحقيقة، فهي على هذا الأساس محاولة للنفاذ إلى التجربة البشرية للمسلمين(2)، على الأقل.

وما فعله المستشرق (مونتكمري وات)، وما امتلكه من شجاعة – مع أنه محسوب على التيار اللاهوتي - نجد له مثيلاً في الكتاباتِ التي قام بها السير (هاملتون جب)، في بحوثه المستفيضة عن الإسلام وحضارته، وفي كتاباته الرائعة عن (صلاح الدين الأيوبي).

والمستشرق الورع (آرثر آربري)، لم يكتفِ بقول الحقيقة، بل شنَّ حملاتٍ واسعة ضد المتطرفين من المستشرقين والكتاب الغربيين، الذي حاولوا ظلماً النيل مِن حقيقة الإسلام.

ومثلُه فعل السير (توماس آرنولد)، وخصوصاً في كتابه " الدعوة إلى الإسلام preaching of Islam The "، الذي انصب على إبراز عنصر التسامح لدى المسلمين، وكان السبب وراء انتشار الإسلام وقبوله بين الأمم، مقارنة بتعسف الكنيسة وظلمها وتشددها آنذاك، مما أدى إلى انحسارِها أمام الإسلام.

يقول آرنولد: "ظهرت الفوضى التي ملأت عقول المسيحيين، الذين وقفوا أمام المصائب المتراكمة والآلام المعنوية التي أثارها الصراع العنيف بين هذه العقائد الكنسية المتنافرة، فمالوا إلى النظام العجيب من التنسيق العقلي الذي ينمو فيه الدين الجديد في سهولة ويسر... وهكذا قدر للإسلام أن يبدد بحركة واحدة كل الغيوم، ويفتح أمام الناس سبلاً واضحةً مِن الآمالِ الكبيرة، ويعدهم بتخليصهم من عبوديتهم وحالتهم السيئة"( )، حينها وجدت "الولايات البيزنطية التي استولى عليها المسلمون، حالةً من التسامحِ لم تعرفْها طِوال قرونٍ كثيرة، سُمح للمسيحيين فيها أنْ يؤدوا شعائرَهم، دون أنْ يتعرض لهم أحد، اللهم إلا إذا استثنينا بعض القيود التي فرضت عليهم، منعاً لإثارة أي تعصب ينشأ عن الطقوس الدينية في مظهر المفاخرة، كي لا يؤذي ذلك الشعور الإسلامي. ويمكن الحكم على مدى تسامح المسلمين، من خلال إعطاء العهود لأهالي المدن التي استولوا عليها، وتعهدوا لهم بحماية أرواحهم وممتلكاتهم، وإطلاق الحرية الدينية لهم، في مقابل التسليم ودفع الجزية"(6)، وهي ضريبة خفيفة لم تكن تثقل كاهل المسيحيين كما صورتها قسم من الدراسات الغربية المتحاملة، لكونها – كما يقول آرنولد - فُرضت مقابل إعفاءهم "من الخدمة العسكرية التي كانت مفروضة على إخوانهم من الرعايا المسلمين(4)، الذي يدفعون من الزكاة مبلغاً أكبر مِن الجزية. وقد علق (هنتنجتون) على قضية الاضطهاد، الذي كان يتعرض له الإنسان الغربي آنذاك، مقارنةً بحالة التسامح التي عاشها المسيحيون في الجانب الشرقي، قائلا: "فالصراع الطائفي، والاضطهاد الديني، لا يقاس ولا يكاد يقارن في كثافته مع عمليات الاضطهاد الكبرى التي شهدتها المسيحية"(5).

وفي هذا المجال يذكر الفيلسوف البريطاني (براترند رسل):

"لقد أظهر المسلمون منذ بداية عهدهم تسامحاً في التعامل مع المسيحيين الذين أخضعوهم. ولا ريب في أن الفضلَ في سهولة فتوحاتِهم، واستقرار إمبراطوريتِهم، يعود إلى التسامح الذي يبدو بارزاً، إذا ما قُورن بالحماسة التعسفية والاضطهادية التي عرفتها الكنيسة الكاثوليكية" (6).

وهذا يدحض بشدة ما يُروج له مِن أن انتشار الإسلام كان بالقوةِ، لا بالتسامح ووضوح العقيدة وبساطتها وخلوها من الارتكاسات العقيدية والشعورية.

وفي معرِض حديث (تيري هنتش) عن نشوءِ الحضاراتِ والتكتلات السياسية والجغرافية، يشير إلى أن ولادة الإسلام أحدثت انقلاباً في الجغرافية السياسية والدينية، فأثرت في تغير علاقات القوة بين المجتمعات القائمة على الضفاف الشرقية والجنوبية للبحر المتوسط، ويعترف بأن ما يعرف بالفتح الإسلامي لم يكن كارثةً تاريخية، كما يميل البعض إلى الاعتقاد، فقد استقبلت الشعوبُ المتاخمةُ لشِبه الجزيرة العربية جيوش الخلفاء بالارتياح، وذلك لأن مجيء هذه الجيوش، وضع حداً للمضايقات الإدارية، واللاتسامح الديني، الذي فرضته السلطةُ البيزنطية، قليلة الشعبية. ولم تتأخر أغلبية الشعوب - كما هو الحال فيما بعد مع شعوب فارس وشمال أفريقيا- عن التحول عن دينها طواعيةً، وبقي بموازاة الأغلبية المسلمة، جماعاتٌ مهمة من المسيحيين واليهود، تمتع أفرادها بوضع (المحميين) الخاص(أهل الذمة)"(8).

ويذكر (روبرت بريفولت) Robert Briffault في كتابه (بناء الإنسانية The Making Of Humanity): "إن النور الذي أضاء الحضارة، مرة أخرى، لم تأتِ جذوته من الثقافة اليونانية الرومانية، أو من آثارها في أوربا، بل أتى من المسلمين القادمين من الجنوب(9).

ولا بد في هذا المجال من الإشارة إلى كتاب "قصة الحضارة" لديورانت، الذي خصص جزءاً كاملاً من كتابه للكلام عن الحضارة الإسلامية. يقول ديورانت:

"إن قيام الحضارة الإسلامية، واضمحلالها، لمِن الظواهر الكبرى في التاريخ، فلقد ظل الإسلام خمسة قرون، من 700م إلى 1200م، يتزعم العالم بأسره في القوة، والنظام، وبسطة الملك، وجميل الطباع والأخلاق، وفي ارتفاع مستوى الحياة، وفي التشريع الإنساني الرحيم، والتسامح الديني، وفي الآداب، والبحث العلمي، وفي العلوم، والطب، والفلسفة"(11).

وهذا فيلسوف التاريخ (آرنولد توينبي) ينتقد الآراء، التي بالغت في تقدير استخدام القوة من جانب المسلمين لتـأمين عناصر انتشاره، مشيراً إلى "انه إذا كان اعتناق الإسلام إجبارياً في الجزيرة العربية، فقد كان أكثر تسامحاً في البلدان التي تم فتحها، وأنَّ المبدأ الذي اتُبع في الفتح لم يكن الاختيارُ بين الإسلام أو الموت، بل كان التخيير بين الإسلام والجزية، والإسلام استطاع أن يشق طريقه بين الأعاجم، من رعايا الخلافة الإسلامية، معتمداً على كفاءاته الدينية الخاصة، دون اللجوء إلى السلاح"(8).

ومن الجدير بالذكر، أنَّ الحضارةَ الإسلامية تمتلك، في مضمونها الداخلي، العناصر الحية التي مكنتها من تحقيق أعلى المستويات المؤهلة للحفاظ على برنامجها الحضاري، عبر مسارها التاريخي، قديما وحديثا، وأن هذه المستويات هي التي تبرز عواملَ تفوقها على الحضارة الغربية، خاصة أن الحضارة الأوربية كانت تحمل خليطاً من التناقضات الداخلية بين الفكر والسلوك، وبين أفكار الإنسانية والمساواة والإخاء والحرية، التي ورثتها من الثورة الفرنسية، والتفرقة العنصرية، التي تمارسها الآن بالفعل، والتي تشكل خطراً عليها، بزيادة وعي الشعوب الملونة بذاتها وبالآخر، إضافة إلى طغيان النزعة الآلية، والنزعة الاستهلاكية، والفردية... في حين أن طابع الحضارة الإسلامية كان الاتساق بين الفكر والعمل، فيما يخص الموقف من الإنسان، والمساواة بين جميع الناس، وأن انطفاء جذوةِ النزعات العنصرية بين المسلمين، يُعد ظاهرةً من أعظم المنجزات الأخلاقية في الإسلام، فقد: "شهدت الدولة الإسلامية، في أزهى عصورها، حيث ارتفع إلى مراكز السلطة فيها الرقيق والعبيد، وفي العالم المعاصر تبدو الحاجة ماسة إلى نشر هذه الفضيلة الإسلامية. ومن المعقول أن تكون روح الإسلام هي تلك القوة المدخرة، التي قد تقرر مصير تلك المشكلة لصالح التسامح والسلام"(12).

ومع التغيرات السياسية التي يشهدها العالم، وبسبب الاعتداءات التي انصبت على المسلمين منذ قرون، بدءاً بالحروب الصليبية، وانتهاءاً بمرحلة الاستعمار، شهد المجتمع الإسلامي تغيرات سيكولوجية وفكرية، وأسهم الاضطهاد والتخلف في إحداث نزعات من التشدد تجاه قضايا الإسلام ومناهضيه، وشكلت مصادرة الحريات، والوقوف بوجه الحريات السياسية، ردود أفعال سلبية ضد الآخر، مما أسهم في طمس روح الحوار والتسامح مع المسلمين.

يقول الأبوان (جوزف كوك) j.Cuoq و(لويس غارديه) L.Gardet في الكتاب الذي أصدراه باسم الفاتيكان، عقِب المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965): "يجب علينا، ونحن نخاطب المسلمين، أن نفكر قبل كل شيء في صعوبات وعوائق الحوار(مع المسلمين)، والتي تتعلق بنا إلى حد كبير، وبالظلم والجور الذي صدر عن الغرب، الذي اقترف ذنوباً وآثاماً عديدة بحقهم، مما يثير المرارة العميقة. يجب أن نأخذ في اعتبارنا أن العصورَ الماضية قد تركت في الأذهان والأفكار مرارة عميقة حيال الغرب. فالمسيحيون أوقفوا، بل حطموا، انطلاقهم الحضاري، نتيجةَ الحروب الصليبية، التي أسهمت بوضع حد لأكثر الأوقات ازدهاراً في التاريخ الإسلامي. يضاف إلى هذا الاستعمارُ... الذي حال دون نهضتهم، التي بدأت بشائرها تظهر في القرن التاسع عشر... علينا أن نعترف بكل أمانة بالمظالم التي ارتكبها الغرب، وأن نعطي الدليل بأننا نتخلى عن تضامننا مع التفكير والذهنية اللتين سادتا الماضي، ومع بعض التصرفات في الوقت الحاضر، لنتحرر من أفكارنا المسبقة"(13).

ومن المفارقات أنْ تسمع في الغرب مَن يتباكى على غياب التسامح، ويبرر سلوكه هو بكل الأخلاقيات، ولا يقدم في مضمار التسامح بين الشعوب شيئا يذكر، بل على العكس يكتفي بالإدانه والتحريض والإقلال من شان الآخر وقضاياه المصيرية.

ولا يحتاج الباحثُ كبير جهد ليدركَ، مثلا، العلاقةَ العميقة بين كتاباتِ المستشرق (برنارد لويس) (الأخيرة منها خاصة) وبين الاستراتيجية السياسية والثقافية تجاه الشرق الإسلامي، فـ (لويس) بعد انقلابه من مستشرق أكاديمي إلى مناصر للاستراتيجية السياسية العنصرية، يعوَّق مسارات فهم "الفعل التاريخي"، ثم يقولبه في نسق حتْمي، يستوجب من الغرب موقفاً حاداً مرتاباً، فما ينفك يكرر فكرة، مفادها: أن هناك فئات من المسلمين واقعون تحت وطأة عبء من الكراهية الموجَّهة للغرب، لتحمل رفضاً لمكتسبات الحضارة الغربية برمتها( )، دون أن يسأل (لويس) نفسَه: ما الإجراءات والتوصيات العملية، والعلمية، والأخلاقية، التي يجب عليه هو، بوصفه باحثاً ومتخصصاً، أن يقدمها في سبيل تصحيح المساراتِ، كي تعيش الشعوب في سلام ووئام.

إن ذروة المنهج الإقصائي، وأحادية المعيار، نجدها تتكرر عند (دانیال پایپاس)" حيث يصبح كل تاريخ الإسلام مشكلة ذاتية، لا يمكن حلها مِن الداخل، بل من الخارج، وعلى الغرب أن يقوم بهذا الدور، نيابةً عن المسلمين. ففي كتابه: "في سبيل الله In The Bath of God" يرى من الضروري قراءة تاريخ الإسلام بدقة، للكشف عن أحوال المسلمين، لأن قسماً منهم يعيشون على هاجس الانتقام، لعدة قرون عانوها مِن الازدراء. والمعركة ضدهم تقتضي تطوير نسخة من الإسلام تتوافق مع الحداثة(14)، وهو يعني نمط الخضوع والدوران حول المركز.

لا تبدو طروحات (پایپاس) - رغم هيمنةِ فكرة المخلـِّص بالمعنى اللاهوتي عليها- موجهة لأغراض المعرفة، أو لإيجاد حلول لمشكلات إنسانية عالقة، بل لخدمة مؤسسة سياسية، يحاول الدفاع عن مصالحها، "فالإسلام لديه كيان متقلّب، وحركة تتدخّل في شؤون الغرب! وجوهر كتابِه لا يقتصر على إحساسِه النفعي الشديد، بل يتعدّى إلى أطروحتِه التي مفادها: المسلمون عاجزون عن تمثيل ذاتهم، وهي الأمثولة الأكثر شيوعاً بين المستشرقين الجدد، لذا فلا بدّ من أنّ يمثّلهم آخرون، يعرفون عن الإسلام أكثر مما يعرف المسلمون عن أنفسهم"(15).

ومع كل هذا، فلا شيء يبرر تغييبَ روح التسامح، سواء كان بسبب الفهم الخاطئ للإسلام، أو بسبب ردود الأفعال ضد الاعتداء الذي يوجَّه ضد المسلمين، فهذا مرض - على الحقيقة - يكاد يطغى عمَلياً على العالم بأسره، وهو أمر خطير يستحق طول تأمل وعلاج.

ما قام الإسلام إلا بالتسامح والخلق السامي وقبول الآخر، بوصفه إنساناً، والإنسان بناءُ الله في الأرض. وفرقٌ بين التشدد والغلظة، وبين حق الدفاع عن النفس والمعتقد والوطن. والنفسُ المسلمة - حين تفقد معنى التسامح - يجفُّ أريجُها، وينضب جمالُها وعطاؤها، وتحتاج إلى مراجعة ومحاسبة.

ومن هنا يلزم العلماء والمفكرين والأدباء والإعلاميين تفعيل عنصر التسامح والألفة والسلام في تصورات الناس وسلوكهم، وعلى وفق ضوابط الشرع، واعتبار مصلحة الأمة فوق كل مصلحة وهوى، بعيدا عن أيِّ تصنيف عرقي أو طائفي، لأن التسامح هوَ الأصلُ في الإسلام، وهوَ الجوهر.

وهذا خطابٌ يخصُّ كل من يهمه إشاعة السلام والوئام والخير بين الناسِ .. كلِّ الناس.

المصدر: http://alhiwarmagazine.blogspot.com/2014/06/blog-post_3821.html

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك