أرض مغلقة أمام المستشرقين
صقر الصنيدي
منعت الظروف الطبيعية والسياسية العديد من المستشرقين الألمان من الوصول إلى العربية السعيدة (اليمن) وفشلت معظم محاولاتهم في دخول هذه الأرض الممنوعة والتي يحتاج السير على ترابها إذناً شخصياً من حاكم البلاد وإمامها.
وكان المستشرقون الألمان يقفون على قائمة الانتظار الطويلة التي لا تنتهي ما يجعلهم يسترقون النظر من خلال شخصيات أخرى سياسية أو اقتصادية تتمكن من زيارة البلاد لأغراض ليست علمية. وتقريباً أغلقت اليمن إبان حكم الأئمة الذي أعقب رحيل الأتراك 1911 بناء على اتفاق دعان، وتركوا وراءهم حذراً وريبة يبديها اليمني تجاه كل ما هو أجنبي وعلى رأس ذلك كل من قدم لأجل البحث والتدقيق في ظروف حياتهم وتاريخهم ومعالمهم.
وكان المستشرقون القادمون من ألمانيا يتوقفون عند أبواب البلاد غير المرئية ويدعون مهمة جمع المعلومات وتدوينها لأناس لا علاقة لهم بالاستشراق أو الدراسة، ففي العام 1928 كان المستشرقون يشاهدون تفاصيل اليمن من خلال ما نقلته لهم زوجة الدكتور فايس سفير ألمانيا لدى إثيوبيا الذي تحرك مع زوجته من أديس بابا نحو صنعاء ليضع حداً لخيالاته تجاه الأرض المجهولة ويحاول فتح نافذة لبلاده مع هذا البلد المعزول عن العالم.
وقد دوَّنت زوجة السفير الألماني تفاصيل عن رحلتها، بينها اللقاء مع رجل اسمه محمد راغب تفاجأت بوجوده في عاصمة اليمن على رأس أعلى منصب في حكومة الإمام يحيى وهو وزير للخارجية مع أن جنسيته تركية، وكان موظفاً مع سلطات بلاده أثناء تواجدها في اليمن، وفضّل البقاء واختاره الإمام ليشغل منصب وزير الخارجية، وقيّد حركته تماماً ولم يكن يسمح له بالذهاب إلى عدن للعلاج، فقد كان الإمام يخشى عدم عودته وهروبه إلى موطنه الأصلي تركيا ويصبح من الصعب العثور على شخص يمكن الاعتماد عليه في إدارة العلاقات مع الدول خصوصاً وأن راغب كان يجيد التحدث بالفرنسية.وتصف زوجة السفير لقاءها مع أسرة محمد راغب المقيم في أحد قصور الإمام: (عاش هذا التركي عالي الثقافة كما لو كان عربياً يرتدي ملابسهم ويحاول جاهداً أن يتكيف مع محيطه، ولم يسمح لأسرته التركية أن تعيش بطريقتها القديمة فإذا ما تجرأ مرة وسمح لبناته بالعزف على العود وتأدية أغنية تركية سارع إلى إغلاق النوافذ بإحكام وإذا حدث وارتدى ملابس أوروبية فإنه يحرص على عدم الذهاب إلى مدخل البيت حتى لا يراه أحد المارة.. إنه لا يثق حتى بمن يعملون في خدمته ولا يستطيع أن يظهر أمامهم بهذه الملابس).
كل ما كتبته المرأة الألمانية أثار المزيد من اهتمامات الباحثين المستشرقين للمغامرة بالسفر إلى اليمن وتكرار تجارب قديمة لم يكتب لها النجاح، ووصل الدكتور كارل راثينس إليها عام 1928 وهي زيارة كررها خمس مرات خلال أربعة وعشرين عاماً، وثّق فيها كثيراً من تفاصيل أهل اليمن وطريقة حياتهم، ولقد كان محظوظاً فى أولى زياراته حيث تعرف على حاكم البلاد خلال طلب البقاء في صنعاء من الإمام يحيى المعجب بشخصية الألماني، وحاول الاستفادة من زياراته المتكررة وطلب الإمام من كارل راثينس أن يتواصل مع اتحاد البريد العالمي من أجل انضمام اليمن إليه، كما طلب منه طباعة كمية من طوابع بريدية تخص اليمن، ثم بعدها إحضار مستشار للبريد يساعد في إنشاء الخدمات البريدية في المناطق المختلفة.
وفي الزيارة الرابعة للباحث الألماني طلب منه جلب ألف علم يمني وفي آخر زياراته طلب منه إحضار طوابع بريدية جديدة.
يظهر هذا الأمر ندرة وجود الأجانب في البلاد ومحدودية فهم واستيعاب مهمة المستشرقين والباحثين وتحويلهم إلى أدوات نقل للطلبات، كما حدث مع الدكتور كارل الذي تمكن من إنجاز أعمال بحثية كثيرة والتقاط آلاف الصور والتنقيب عن القطع الأثرية والتراثية والأحجار والنقوش والملابس والحلي وجميعها محفوظة في متحف الشعوب في هامبورج، هذه الأبحاث والمقتنيات ساعدته وغيره من المستشرقين الذين لم يتمكنوا من دخول البلاد في فهم الكثير عن الأرض المحاطة بالحذر لعقود ماضية.
وخففت المؤلفات التي أنجزها كارل من العزلة المفروضة على اليمن التي شهدت موت كثير من المستشرقين الأوائل من جنسيات مختلفة بفعل الأمراض والمجاعات والأوبئة ولعل أهمها البعثة المرافقة للمستشرق الدنماركي الشهير نيبور الذي ودَّع طاقم بعثته واحداً واحداً وهم يتقدمون في هذه الأرض وأخذهم وباء الطاعون ولم ينجُ منهم سوى نيبور الذي ظل يروي المشاهد التي صادفها حتى لحق أصدقاءه السبعة تاركاً لتلامذته أمنياته في العودة إلى استكشاف أرض يصعب عبورها وفهم تفاصيل الحياة فيها..
لقد كانت اليمن أكثر البلدان تعقيداً وصعوبة في اقتحامها من قبل المستشرقين، ليس شكاً في المهام التي يقومون بها وليس خوفاً من اتباعهم أسلوب الإنكار في النقاشات والبحث والتدقيق ما يهز ثقة وإيمان الرعية، ولكن مخاوف الحكام كان مصدرها أن لا يرى المواطن ما يدور حوله في العالم عبر المستشرقين الذين يمكنهم لعب دور وسيلة اتصال بين الداخل والخارج، وحتى تبقى اليمن في عزلة تامة وبعيدة عن حركة الحضارة وازدهارها.
المصدر: http://www.arabicmagazine.com/Arabic/ArticleDetails.aspx?Id=4157