الاسلام ويوم التسامح العالمي
الاسلام ويوم التسامح العالمي
يحتفل العالم في ١٦ /١١ من كل عام بيوم التسامح العالمي، وكأن هيئة الامم تفخر وتتباهى بمثل هذه المناسبات الحضارية والانسانية، ولكن اين التطبيق العملي لهذه المناسبات على ارض الواقع؟! ان العالم الثالث، والذي يعرف بالعالم النامي، مسحوق ومغلوب على أمره ومحكوم بالحديد والنار، فهو محروم من الحرية والعدالة والكرامة والمسامحة وغيرها من القيم الاجتماعية والحضارية والانسانية ويحسن في هذه المناسبة وفي هذه السياق ان نلقي الضوء، ولو بإيجاز، على موقف الاسلام من موضوع التسامح لان الاسلام دين شامل لجميع مناحي الحياة وصالح لكل زمان ومكان. العفو عند المقدرة يتوهم البعض بأن التسامح يأتي عن ضعف واستكانة واستسلام!! وهذا توهم خاطىء غير واقعي ومغاير للحقيقة، فالتسامح ينطلق من القوة والمقدرة وليس من الضعف، وكما هو معلوم ومعروف ان العفو يكون عند المقدرة، والله سبحانه وتعالى يقول «فاصفح الصفح الجميل. ويقول تعالى (وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا واصلح فأجره على الله، انه لا يحب الظالمين. سورة الشورى - الاية ٤٠ ، ويقول عزوجل في السورة نفسها (ولمن صبر وغفر ان ذلك لمن عزم الامور) الاية ٤٣ ، ويقول رب العالمين في سورة التغابن : (وان تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم ) الاية ١٤ . وعليه فإن الذي يعفو ويصفح يكون قوي العزيمة ضابط الاعصاب كاتم الغيظ فيقول سبحانه وتعالى في صفات المتقين : (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين). سورة آل عمران- الاية ٣٤ ، فالقرآن الكريم يشجع على العفو والصفح والمسامحة فيما بين الناس في عشرات الايات الكريمة، ولا تخلو اية تنص على عقوبة من العقوبات الا وفيها حث على العفو والصفح والمسامحة. مواقف وأقوال حضارية هناك عشرات المواقف الحضارية والتي تدل على التسامح في الاسلام، وذلك من خلال الايات الكريمة والاحاديث النبوية الشريفة والاقوال المأثورة والتي تحث على العفو والصفح والرفق واللين والمسامحة، وتنفر من الغلظة والعنف، اشير الى عدد منها على سبيل المثال لا الحصر: ١-قال سبحانه وتعالى : (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر) سورة آل عمران --الاية ١٥٩ . وهذه الاية الكريمة توضح الاسلوب القويم للدعوة الى الله وان الخطاب في هذه الاية الكريمة موجه للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ويشمل جميع اتباعه. ٢-قال عز وجل موجهاً خطابه لموسى وهارون عليهما السلام : (اذهبا الى فرعون انه طغى، فقولاله قولاً ليناً لعله يتذكر او يخشى). سورة طه- الايتان ٤٣ و ٤٤ ، وقد قال احد الصالحين تعقيباً على هاتين الايتين: يا رب، ان كان هذا قولك لفرعون الذي طغى وبغى وجمع فأوعى وقال: انا ربكم الاعلى!! فماذا نقول: لمن يسبحونك بالغداة والآصال؟ ٣-العفو العام الذي اصدره رسولنا الاكرم محمد -صلى الله عليه وسلم -يوم الفتح الاعظم (فتح مكة) ٨ هـ/ ٦٢ ٨ م بحق اهل مكة وسامحهم رغم انهم تآمروا عليه وآذوه مدة واحد وعشرين عاماً، قائلاً لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء. ٤-قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -:"من يحرم الرفق يحرم الخير كله" . رواه مسلم عن الصحابي الجليل جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-. ٥-قال عليه الصلاة والسلام : "ان الرفق لا يكون في شيء الا زانه. ولا ينزع من شيء الا شانه" رواه مسلم عن ام المؤمنين عائشة- رضي الله عنها-. ٦-قال -صلى الله عليه وسلم -: "ان هذا الدين يسر، ولن يشاء الدين احد الا غلبه، فسددوا وقاربوا وبشروا " . رواه البخاري والنسائي عن الصحابي الجليل ابي هريرة -رضي الله عنه-. ٧-ثبت ان احد المواطنين كان يفد الى امير المؤمنين عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-، وبعد مدة افتقده عمر فسأل عنه فقالوا له: يا أمير المؤمنين انه يتابع شرب الخمر. فكتب له رسالة قال فيها: سلام عليك، فإني احمد إليك الله الذي لا اله الا هو ،غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا اله الا هو، اليه المصير. ثم قال عمر لاصحابه: ادعوا الله لاخيكم انُ يقبل قلبه ويتوب الله عليه. فلما استلم الرجل الرسالة اخذ يقرؤها ويردد عباراتها ويقول: قد حذرني الله عقوبته ووعدني ان يغفر لي فلم يزل يرددها على نفسه ثم بكى ثم نزع فأحسن النزع-اي تاب فأحسن التوبة-فلما علم عمر بتوبة الرجل قال : هكذا فاصنعوا، اذا رأيتم اخاً لكم زلّ زلة فسددوه ووثقوه وادعوا الله له ان يتوب عليه ولا تكونوا اعواناً للشيطان عليه . وهذا اسلوب من أساليب الهداية والمسامحة فلم يحاسبه على فعلته بل أعطاه فرصة للتراجعوالتوبة وفتح صفحة جديدة. ٨-ورد عن الشريف الرضي ان غلامه قد سكب عليه الماء من قبيل الخطأ فظهر على الشريف الرضي آثار الغضب وعدم الرضا فاستدل الغلام بالآية الكريمة : (والكاظمين الغيظ) . سورة آل عمران -الاية ١٣٤ . فقال الشريف الرضي: كظمت غيظي، فقال الغلام: ...والعافين عن الناس... فقال: عفوت عنك، ثم قال الغلام...والله يحب المحسنين فقال: اذهب فأنت حر( اي انه حرره من العبودية) . المبدأ العام للتعامل مع غير المسلمين لقد وضع القرآن الكريم المبدأ العام للتعامل مع غير المسلمين، وذلك من خلال قوله عز وجل : (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم وتقسطوا اليهم، ان الله يحب المقسطين. انما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين واخرجوكم من دياركم وظاهروا على اخراجكم ان تولوهم ومن يتولهم فاولئك هم الظالمون) سورة الممتحنة- الآيتان ٨ و ٩ ويفهم من هاتين الآيتين الكريمتن ان غير المسلمين بشكل عام يقسمون الى قسمين: ١- قسم مسالم وهم المواطنون من غير المسلمين، او المعاهدون. ٢- قسم معاد وهم يعرفون بالمحاربين. والذين يعنينا هنا هو القسم الاول حيث انفرد ديننا الاسلامي العظيم عن سائر الاديان والانظمة والقوانين الوضعية بقدرته على ترسيخ مبدأ التعددية في المجتمع الاسلامي والاعتراف بحقوقهم سلفا، هذا وقد توالت وصايا رسولنا الاكرم محمد صلى الله عليه وسلم بحق المواطنين غير المسلمين وانهم في ذمة المسلمين لا يجوز الاعتداء على ارواحهم واعراضهم وممتلكاتهم واموالهم، ولهم حرية العبادة: كل حسب معتقده. وتكررت اوامر الرسول صلى الله عليه وسلم بالاحسان اليهم وحفظ حقوقهم والبر بهم كما تكررت نواهيه عن ايذائهم وظلمهم والاعتداء على حرياتهم الدينية فيقول- صلى الله عليه وسلم- "الا من آذى معاهدا او انتقصه او كلفه فوق طاقته او اخذ منه شيئا بغير طيب نفس. فأنا حجيجه يوم القيامة". رواه ابو داود والبيهقي. عن صفوان بن سليم عن عدد من ابناء الصحابة عن آبائهم -رضي الله عنهم -واسناده جيد. ويقول عليه الصلاة والسلام :"الا من قتل نفسا معاهدة له ذمة الله وذمة رسوله فقد اخفر بذمة الله، فلا يرح رائحته الجنة وان ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا " . رواه ابن ماجة والترمذي واللفظ له وقال : حديثه حسن صحيح، عن الصحابي الجليل ابي هريرة -رضي الله عنه-. ومعنى (اخفر) نقض العهد، )يُرح( فعل مضارع مبني للمجهول والمعنى: ان الذي ينقض العهد لا يشم رائحة الجنة. وفي حديث نبوي شريف ثالث : "من اذى ذميا فانا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة"..اخرجه الخطيب البغدادي والسيوطي عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- بسند حسن. واوصى رسولنا الاكرم محمد -صلى الله عليه وسلم - بأقباط مصر خيرا بقوله : "اذا فتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيرا فان لهم ذمة ورحما". اخرجه احمد عن الصحابي الجليل ابي ذر الغفاري -رضي الله عنه-. موقف الخلفاء والولاة من غير المسلمين لقد التزم الخلفاء الراشدون وولاة الامر والقادة الاسلاميون بالهدي النبوي حيث عاملوا المواطنين من غير المسلمين معاملة حسنة واحاطوهم بالرعاية والعناية، كما تكفلت الدولة الاسلامية الانفاق عليهم وتأمينهم حين العجز والفقر والعوز. ويظهر ذلك واضحا جليا بما كتبه القائد والصحابي الجليل خالد بن الوليد -رضي الله عنه- في صلح الحيرة. حيث جاء في نص الصلح: " وجعلت لهم ايما شيخ ضعيف عن العمل او اصابته آفة من الآفات او كان غنيا فافتقر وصار اهل دينه يتصدقون عليه طرحت جزيته وعيل من بيت مال المسلمين وعياله ما اقام بدار الهجرة ودار الاسلام ". من كتاب الخراج لابي يوسف ص: ١٥٥ وص: ١٥٦ . والمعلوم ان الجزية التي تؤخذ من المواطن غير المسلم تقابل الزكاة التي يدفعها المواطن المسلم. وكان ذلك في عهد الخليفة ابي بكر الصديق- رضي الله عنه. -وقال امير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا. "وفي رواية (بم استعبدتم) .. من كتاب سيرة عمر لابي الفرج بن الجوزي ص ٧٠ - ٧١ . قال ذلك حين اعتدى ابن والي مصر عمرو بن العاص على الفتى القبطي، ثم قام امير المؤمنين بمعاقبة المعتدي. فالحرية لكل انسان في معتقده وفي حياته لا اكراه ولا اجبار. وبلغ عمر بن الخطاب قمة السماحة والرأفة مع غير المسلمين حيث انفق عليهم من بيت المال واوصى بهم خيرا وهو على فراش الموت بقوله : "اوصي الخليفة من بعدي بذمة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ان يوفي لهم بعهدهم وان يقاتل من ورائهم، ولا يكلفوا فوق طاقتهم ( من كتاب ) ارشاد الساري لشرح صحيح البخاري للقسطلاني ج: ٥ ص: ١٦٢. كما سار على هذا النهج الخلفاء الامويون والعباسيون فقد تولى المواطنون من غير المسلمين عددا من المناصب الادارية والمالية بالاضافة الى حضور مجالس الثقافة والادب والشعر التي كان الخلفاء يعقدونها للعلماء والادباء والشعراء بما فيهم من المسيحيين واليهود بمختلف التخصصات، فعلى سبيل المثال لا الحصر: لقد اسندت الادارة المالية الى اسرة مسيحية في عهد الخليفة الاموي معاوية بن ابي سفيان. وظلت هذه الاسرة تتوارث فيما بينها تلك الادارة وهي اسرة سرجون بن منصور الرومي، كما برز الشاعر الاخطل في العصر الاموي. من كتاب تاريخ خليفة بن خياط ج:١ ص: ٢٧٦ . وان كتب الحضارة الاسلامية حافلة بمثل هذه النماذج. الخاتمة لقد حاولت ان القي الضوء وبايجاز بشأن موقف الاسلام من (التسامح) مع المسلمين ومع غير المسلمين على حد سواء، وذلك لنؤكد بأن ديننا الاسلامي العظيم هو دين حضاري شمولي انساني عالمي وهو دين الرأفة والرحمة والتسامح فلم يدخل الناس في دين الله افواجا الا بالتطبيق العملي لهذه القيم، وعلى العلماء العاملين والدعاة المخلصين ان يبذلوا الجهد في سبيل ابراز هذه القيم الى العالم اجمع. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين.
المصدر: http://ekrimasabri.net/index.php?option=com_content&task=view&id=455&Ite...