الأساليب الشعرية العربية وتحولات العالم المعاصر

د.الحسن الغشتول

 

تفرض الحياة المعاصرة على الناس في كل بلد أنماطاً من السلوك لا تمس الشكل وحده، بل تتعداه إلى الجوهر. وبمقدار مناعة شعب وأصالته، تكون ميزته بالقياس إلى شعب آخر يستجيب الاستجابة السلبية لكل دعوة فكرية وجمالية يتلقفها أفراده غير ناظرين في أبعادها ويبذلون قصارى جهدهم في اقتفاء أثرها حتى وإن وضح لهم أنها منافية ومجافية لمطالبهم الانفعالية والوجودية، فما يكون من شأن تداول هذه الأنماط إلا أن يغرق سوق الفكر والثقافة في متاهات التقليد الذي يبطئ من الحركة، أو بالأحرى يمنع القدرة على مواصلة طريق الاستنارة، والتفكير الحر، والإبداع الحقيقي المشروط بقدرة المبدع على استبطان روح مجتمعه.
لأجل هذا نرى أن الأشكال الأدبية التجريبية التي استطاعت أن تحفظ لنفسها ميسم الأدبية هي التي ولدت في رحم بيئتها وانبثقت من صميم محيطها. إنها تتوغل في الماضي وتنفتح على الحاضر انفتاحاً فنياً لا يشعر القارئ بأن هم صاحبها بات محصوراً في استعارة الصور والرموز والأساطير الغريبة وفرضها على القارئ. والحق أن الشعر شأنه شأن القصة وباقي أشكال الكتابة النثرية، لم يسلم من هذه الآفة، حيث توهم الكثيرون أن مجرد التمرد على نمطية القافية والعروض بوسعه أن ينشئ قصيدة، علماً بأن للتأثر بآداب الشعوب الأجنبية - حسب رأينا - مزايا لا ينكرها عاقل. لكن عندما يخرج التناص عن وظيفته وتفقد الصورة حسها الاستباقي وبعدها الاستشرافي الطبيعي، وتغدو مجرد عرض لصور لا يضمها سر ناظم؛ يحدث انحسار للشعر، فتصير القصيدة حينئذ وحدات صِواتية وجملاً متناثرة تقلد قصائد أخرى نشأت في جغرافيات مباينة، وتحكمت في بناها الاستعارية ومدلولاتها القيمية ثقافات مختلفة. فهذا النوع من الهجنة أو شبه القطيعة نفّر القارئ من التفاعل مع ما ينتجه الكثير من الشعراء. ويفيدنا في هذا المقام ما ذكره ابن خلدون عندما أجمل تعريف الشعر من خلال ربطه بأساليب العرب حيث سعى إلى إعطاء حد أو رسم للشعر، وقاده سعيه هذا، إلى الاختلاف مع العروضيين، الذين يقولون في حده: إنه الكلام الموزون المقفى. ومن ثم، يحكم ببطلان هذا القول، ويقول بأنه (ليس بحد لهذا الشعر الذي نحن بصدده، ولا رسم له... فلا جرم أن حدهم ذلك لا يصلح له عندنا... الشعر هو الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجاري على أساليب العرب المخصوصة به). 
 بدهي أن الوعي بتاريخ أشكال القول الشعري أو ما نسميه بالسيرورة الأسلوبية والتأليفية في الشعر العربي، لن يصد الناظر عما في الإبداعات الشعرية العالمية من أفانين ونزعات تصويرية جميلة. بل إن الاقتباس من الشعر الأجنبي وكذا ترجمته، ممّا تحث عليهما طبيعة التجدد والحياة. غير أننا نبقى في هذا المسعى أميل إلى رأي محمد الأسعد، فمقام كثير من شعرنا الحاضر يوجد في (ضمير) الغرب الاستعماري. فخليق بالمترجم أن يسعى إلى استيفاء شرط التأثير بالنص الجديد. وحسْبُ الترجمة بهذا أن تكون مَوْجةً لا تتناهى عند ضفاف النص الأصلي. حسبها أن تكون شعراً جديداً ينصهر انصهاراً جمالياً أصيلاً، أي كلاماً وفياً لسحر ماضيه. 
وجوه للعلاقة بين الشعر وقارئيه
لا نريد أن نتسرع في الحكم ونزعم بأن ذائقة الناس قد تغيرت، فانصرفوا إلى السرد بدلاً من الشعر، بل نرى أنه من الأفضل أن نواكب نماء الذوق من خلال وساطات متاحة وأخرى ممكنة. فالجمهور يمكن مخاطبته ومحاورته، وإقناعه والتأثير في ميوله وتطلعاته. ويكفينا أن نتساءل اليوم عن حال الشعر، فنحِنّ إلى ما كانت تستأثر به القصيدة من سلطة رمزية في المجتمعات العربية الزاهية، غير أننا نسقط في الوهم والمبالغة لما نعتقد أن فن الشعر ينبعث فجأة ومن غير أن ينير له الدرب نقد مستبصر، عارف بجدلية التلقي الشعري في بيئة تؤذن ببروز طبقات متميزة من القراء الذين لا تقف وظيفتهم عند حدود التلقي السطحي والمباشر. بل إن من القراء فريقاً يفرض على الشعراء ألقاباً تدل على أن الجمهور أضحى مشاركاً فاعلاً، بدلاً من أن يكون متقبلاً سلبياً. وغير خاف أن ظاهرة الألقاب في تاريخ الأدب عند العرب، جسدت مواقف الجمهور المتلقي وما يحمله من ذكاء وجداني وغنى معرفي. ويكفي أن أسوق هنا أنموذجاً للناقد د.عبد الله بن أحمد الفيفي الذي تنبه في مختلف أبواب مؤلفه إلى عملية التوازن بين لحظة انبثاق الأثر الشعري، واللحظة النقدية عند الشاعر، ونظر إلى هذه العملية كما رصدها القارئ العربي ووصفها باختزالية رمزية من خلال استعمال صيغة اللقب الدال على روح نقدية مشاركة في بناء المعنى. فلقب ذود القوافي الذي أعطي لامرئ القيس (ليبرز الكيفية الخاصة لإنتاج النص الشعري، بين مكوني الطبع والصنعة لدى الشاعر، بين اللحظة التجريبية الأولى التي تتنزل على الشاعر فيها اللغة الشعرية، واللحظات اللاحقة، التي يضطر فيها إلى أن يعمل ملكته التحريرية النقدية، ليذود عنه تلك الغزارة من غث القوافي وسمينها، كي يعزل مرجانها عن درِّها، ومن ثم يصطفي من كثرتها بضع قواف جياد). يتجاوز الكلام الشعري هنا لحظته الآنية، فتتحقق الكتابة من حيث هي تشارك وتحاور أو تعاقد ضمني. غير أن هذه الكتابة لا تبلغ مراقيها الجليلة إلا عندما تقطع أشواطاً بعيدة في ترويض اللغة. فمثل هذه المسالك في النظر تعضدها سلطة ذوقية للمجتمع القادر على احتضان الرسالة الجمالية وتأمين رحلة العبور الدلالي للمعنى في موكب استعاري يصدر من ينبوع الخيال الحر والنقي. والجميل أن الشاعر العربي الحديث أيضاً يدرك أن لكلماته صدى، ومهما ولهت نفسه بعوالم غير ملموسة وحلقت خيالاته في آفاق مجهولة بقي أحوج إلى من يهاتفه ويناجيه. يقول الخمار الكنوني: 
يسقط الورق اليابس... أله وهو تحت الغصون لسان؟
فإن لم يكن.. فمن المتكلم
بل لمن الكلمات؟ 
فإن المدى ورق سكنته الرياح
وخشخشة العنفوان.. 
 لطبيعة الخريف شأن عند هذا الشاعر، ما دام الورق في ارتحال أبدي يسبح في ملكوت الله منطلقاً ممجداً، فالجوهر خالد، والأعراض قابلة للفناء والمغايرة. إنها رحلة شعرية جُعلت هامش دخان ليس إلا.. رحلة تتأتى بعد طور التجلد الذي ما نال من الورق شيئاً. بل إن خاتمة هذا الورق تدهش الزمان؛ تتلون، وتبحث عن لغة جديدة تتفتح بها في دورة الذبول.
تحديات الكتابة الشعرية في زمن الثورة المعلوماتية
بسط الإعلام سلطانه على مختلف الاتجاهات والاختيارات المتعلقة بنظام التربية والحياة بمختلف مناحيها، ووضع خططاً محكمة لترشيد العطاءات المتعلقة بالصناعات الإبداعية بكل أنواعها. لم يعد المنتوج الاقتصادي لبلد من البلدان عملاً منتهياً، وإنما تعيد المجتمعات تشكيله.. تلاحقه بغائيات جديدة وتقديرات علمية واقتصادية موزونة تمدها طاقة الفنانين بما أوتوا من حس وقدرة على الابتكار.. تصنع له هندسة جمالية مرهونة بتقنيات الصورة وتوهيماتها، وباللقطة وانعطافاتها المتنوعة. صارت المجتمعات تبحث عن حظوظ لجاذبية أكثر. وشيء للشعر في هذا المساق أن يدخل في معترك حاد.. وقد أتاحت هذه المشاركة الأدبية، أو هذه الكيفية في المجابهة ظهور أنساق وأنماط وتسميات تراوحت بين القوة والتذبذب، والجدة والابتذال، والعمق والشكلانية، ثم حملت من خلال حركية الصراع والتدافع وعياً بضرورة استثمار علوم العصر وعاداته في الأدب الجديد. وتلك ظاهرة لا تدل على أن الأدب صار مهدداً، بل تنم عن حيويته وامتداده. غير أن التنادي بنهاية زمن نوع أدبي، والتسليم بسطوة نوع آخر، لا يفيد الأدب في شيء. 
إذن، فالشعر هو الشعر، بنبضه وجذوته.. هو الوميض المفضي إلى أعماق النفس. هو الولع بالأشياء الجميلة التي ترمز إلى الخير والسكينة. أما ما يلتف حول المراس الشعري من عتبات تفسيرية وتصنيفات نوعية يقترحها الشعراء لنفسهم، أو يبتغيها فريق من القراء والنقاد، فهو وإن كان ذا أهمية، لا يحجب عنا حقيقة الشعر من حيث هو أثر فني لا يُفحص إلا بالنظر إلى بنيته الداخلية وعلله الباطنة.. للنص الشعري لمعه وضياؤه. إنه نشاط تخييلي بالأساس يملك جوهراً إيقاعياً. وهذا ما نبه إليه حازم القرطاجني أثناء حديثه عن التخييل وقسمَيْه، وهما (تخيل المقول فيه بالقول، وتخيل أشياء في المقول فيه، وفي القول من جهة ألفاظه ومعانيه ونظمه وأسلوبه. فالتخييل الأول يجري مجرى تخطيط الصور وتشكيلها. والتخييلات الثواني تجري مجرى النقوش والتفصيل في فرائد العقود وأحجارها). 
نخلص إلى أن القصيدة الشعرية تستطيع أن تصمد في الأزمنة الجديدة. فنظراً لالتصاقها بالجوهر الإنساني الخالد؛ تظل مطلباً سامياً في الوجود، ما دامت تهيئ للمرء فرصة امتطاء الحرف والغوص في أسراره الجميلة وأبعاده الخفية. وبالنسبة للعرب لا نرى اليوم في استبعاد النفس الشعري عن القصة ومختلف الصناعات النثرية غير تبخيس للذوق وعدول عن الجمال. لكن مع حدوث هذا التشبع التراثي المشفوع برؤى حداثية قويمة، يكون للومض الشعري مقام في وجدان الأجيال الجديدة التي تجد في الشعر ما يلبي ولعها بالمثارات الحسية التي تجري مجرى النقوش والتفصيل كما ذكرنا مع حازم، وبعد ذلك تستلطف هذه الأجيال لذة الوقع الناجمة عن عمق التخييل. ولا يعزب عن بالنا أن للقصائد المطولة قيمتها، وللقراءة المتفاعلة معها أوفاقها، ولممارسة النقد البناء لها شروط علمية وأكاديمية لا بد أن ترعى من أجلها.. لكن الحاجة الماسة إلى وصل السابق باللاحق هي التي تقضي بأن نعد أذواقاً تتصالح مع ذاكرة الشعر والشعراء، فليكن الومض واللمع الخفي المخترق لحجب العصرنة، بداية فعلية لتتويج الشعر العربي في عالم ينتظر الدقة، والاختصار، وينشد المنفعة الجلية. وهكذا تبدو الحاجة قوية في الزمن الرقمي، أمام تشابك القيم، وتنوع الخطابات وتباين المقاصد، لإنقاذ النزوع الشعري الذي ملأ النفوس في الماضي بسر من أسرار الوجود، لما كانت الفضيلة والحكمة متوهجتين بين ستائر الفن والجمال.. إن الناقد والشاعر بهذا المعنى التوليفي بين الأرض والسماء، تجمعهما طريق واحدة، طريق العودة إلى معين الشعر العربي الخالد.

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك