الأوقاف ومرفق المياه في العمران الإسلامي

د.إبراهيم البيومي غانم

 

الوقف في أصله الشرعي سنة حث القرآن الكريم على العمل بها في بعض آياته، مثل قوله تعالى: (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ) (آل عمران: 92)، كما حث عليها الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض أحاديثه، ومنها قوله: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له). وكان صلى الله عليه وسلم أول من أنشأ وقفاً، وكان وقفه عبارة عن سبعة بساتين أوصى بها للفقراء والمساكين وذوي الحاجة، واقتدى به كل قادر من أصحابه الكرام، حتى قال الخصاف إنه لم يعرف أحد منهم له مال إلا ووقف وقفاً لينفق من ريعه في وجه أو أكثر من وجوه البر والمنافع العامة أو الخاصة. 

وتعتبر مياه الشرب من أهم مرافق العمران البشري عامة، وهكذا كانت ولا تزال في العمران الإسلامي. ويكشف تاريخ الوقف عن أن المياه كانت من أهم الخدمات التي أسهم نظام الوقف في توفيرها لتلبية حاجات عامة الناس وخاصتهم ليستعملوها في شربهم ونظافتهم وتجميل بيئتهم، وفي سقي مزارعهم ودوابهم في الوقت نفسه. 
وثمة علاقة تكاد تكون عضوية بين الوقف والمياه، حيث تمدنا سجلات الأوقاف في مختلف البلدان العربية والإسلامية بمعلومات موثقة عن تغلغل الماء في جوانب نظام الوقف جميعها منذ نشأته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم. وليس من قبيل المصادفة أن يكون وقف بئر رومة في المدينة المنورة من أوائل الأوقاف التي ظهرت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة، وكانت لرجل من بني غفارة، وكان يبيع منها القربة بمد، فقال تبيعنيها بعين في الجنة؟ فقال يا رسول الله ليس لي ولا لعيالي غيرها، فبلغ ذلك عثمان فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتجعل لي ما جعلت له؟ فقال نعم، وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم: من يشتري بئر رومة فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة؟ فاشتريتها أي عثمان من صلب مالي. 
وتؤكد الأحكام الفقهية الخاصة بالوقف على أن الوقف لا يصح إلا في مال مملوك: إما ملكية رقبة، أو ملكية منفعة في بعض الحالات أو هما معاً. وللماء من حيث إمكانية تملكه حالتان هما: إما أن يكون مملوكاً ملكية عامة، وبخاصة في جميع مصادره السطحية (الأنهار والبحار والبحيرات وفروعها)، وهو الأصل، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الناس شركاء في ثلاثة: الماء، والكلأ، والنار)، والشركة العامة تقتضي الإباحة. وإما أن يكون ملكية خاصة، وذلك بحيازته. ويكون مصدر الحق في ملكيته في هذه الحالة هو ما بذل فيه من عمل وجهد حتى يحوزه صاحبه، وما يقتضيه ذلك من نفقات لجلبه أو استخراجه، أو تخزينه، أو تنقيته، ونقله، وتوزيعه، وصيانة مستلزماته وأدواته. وأكثر مصادر المياه قابلية للتملك ملكية خاصة بهذا المعنى هي المصادر الجوفية. 
لقد توالت أوقاف المياه منذ بداية نشأة نظام الوقف على عهد النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، وتأسى الواقفون برسول الله في حثه على الوقف بصفة عامة، وبوقف بئر رومة بصفة خاصة نظراً لما للمياه من أهمية عظمى في حياة البشر. ومن ثم شملت أوقاف المياه التي بادر بها المتصدقون على مر التاريخ أنواعاً متعددة منها الآتي:
وقف مصدر من مصادر المياه
تكشف الخبرة العربية الإسلامية في مجال الوقف عن أن أغلب وقفيات المياه قد انصبت على المصادر الجوفية (العيون، والآبار)، إلى جانب بعض المصادر السطحية مثل (الجداول، والنهيرات، والبحيرات الصغيرة)، ولم يقتصر الأمر على مجرد وقف مصدر من تلك المصادر الموجودة فعلاً، وإنما أسهمت الأوقاف أيضاً في استحداث المزيد منها وذلك بحفر آبار جديدة، أو شق قنوات وجداول مائية لتيسير الحصول عليها، وكان الهدف الغالب هو توفير المياه للاستخدام الآدمي والحيواني، وهو ما نجده بكثرة في شروط وقفيات مصادر المياه المشار إليها، حيث حرص الواقفون على تخصيص استعمال الماء الموقوف لأغراض محددة لا يجوز الخروج عليها احتراماً لشرط الواقف، وضماناً لاستمرار تحقيق المنفعة من المياه. والأمثلة على هذا النمط من أوقاف المياه كثيرة، ومنها الآتي:
وقف العيون 
ومن أشهر نماذجها في التاريخ العربي الإسلامي (وقف عين زبيدة) زوجة هارون الرشيد، وقد وقفتها للإسهام في إمداد مكة بالمياه العذبة. ويذكر اليعقوبي في تاريخه أن السيدة زبيدة أمرت خازن أموالها بعمل ما يلزم كي تصبح العين صالحة لإنتاج المياه وانتفاع أهل مكة بها، ونقل عنها أنها قالت للخازن (اعمل ولو كلفك ضربة الفأس ديناراً). ويذكر المسعودي أن جملة ما صرف من أجل تجهيز عين زبيدة وتشغيلها (ألف ألف وسبع مئة ألف دينار ذهباً). وحسب رواية الأزرقي عن أخبار مكة فإن السيدة زبيدة بعد انتهاء العمل وتمام المشروع قامت برمي المستندات في نهر دجلة، وقالت (تركنا الحساب ليوم الحساب، ومن بقي عنده شيء من المال فهو له، ومن بقي له شيء عندنا أعطيناه). 
وأوقاف العيون كثيرة ومعروفة في تاريخ الوقف في بلدان عديدة مثل المغرب، والجزائر، ولكن أغلبها ما عاد له وجود أو أثر بعد أن عدت عليه عوادي الزمن، وتغيرت نظم توفير المياه، وامتدت شبكاتها الحديثة إلى معظم الأحياء السكنية في المدن والقرى. 
وقف الآبار
والآبار قابلة بطبيعتها للتملك الخاص، ومن ثم للوقف، ولكي تعتبر تابعة للأملاك العامة، أو محملة بحق ارتفاق مقرر للمنفعة العامة يجب أن تكون قد أعدت بالفعل أو قانوناً لاستعمال عام، أو لمنفعة عامة. ومن أكثر الآبار شهرة في تاريخ الوقف بئر رومة الذي سبقت الإشارة إليه. وقد عرف تاريخ الوقف كثيراً من الآبار الموقوفة داخل المدن، وفي القرى والأرياف، وعلى طرق السفر، وبخاصة طرق الحج القديمة، ومنها طريق الحج اليماني، وطريق الحج المصري، وطريق الحج العراقي. 
وقف الأفلاج والغيول
أما الأفلاج فهي معروفة في سلطنة عمان وبعض الإمارات العربية في منطقة الخليج، والفلج عبارة عن نظام لتوفير المياه لمجموعة من المزارعين لري الأرض، وتوجد ثلاثة أنواع منها هي: أفلاج غيلية، وأفلاج عينية، وأفلاج داؤودية، وجميعها يستمد مياهه من المياه السطحية المتحدرة من أعالي الأودية. وقد طور العمانيون نظاماً لإدارة الأفلاج، بما في ذلك تعيين موظفين، وترتيب أولويات استخدام المياه: للشرب أولاً، ثم لسقي الأرض الزراعية، ثم لبعض الأغراض المدنية والصناعية في حالة توافر فائض من المياه، مع الاهتمام بجدولة نوبات الري نهاراً وليلاً، ومراعاة العدالة في توزيع المياه، وفي تحديد سعر لها. وأما الغيول فهي معروفة في اليمن وهي قريبة من نظام الأفلاج. وقد دأب أهل اليمن وأهل عمان على وقف ما يملكون من غيول أو أفلاج، أو حصص منها للمصلحة العامة، ولا تزال آثار وقفياتهم ماثلة حتى اليوم، وتظهر في ميزانية وزارة الأوقاف اليمنية أرقام تشير إلى إيرادات بيع مياه الأوقاف.
وجود حق ارتفاق للماء على الوقف
قد يكون للماء غير الموقوف حق من حقوق الارتفاق أو أكثر من حق على عين من الأعيان الموقوفة، ومن ذلك مثلاً: حق مرور مجرى المياه من أراضي الوقف، أو حق مرور إمدادات المياه من مباني الوقف، أو حق مسيل (صرف) عبر أراضي أو مباني الوقف. وفي جميع هذه الحالات، وما شابهها، فإن تنظيم حقوق ارتفاق المياه على أعيان الوقف يتم تنظيمها مع مراعاة مصلحة الوقف من جهة، وضمان حقوق الارتفاق للغير من جهة أخرى. وبالرغم من أن حالات وجود حقوق ارتفاق للماء غير الموقوف على أعيان الوقف ليست كثيرة، إلا إنها ذات أهمية خاصة لكونها تعتبر من حقوق الارتفاق الإدارية، وهي تختلف عن حقوق الارتفاق المدنية التي عادة ما تكون حقوقاً سلبية لا تقتضي عمل شيء من الجهة الواقع عليها الحق كتحمل حق المرور، أو المطل، أما حقوق الارتفاق الإدارية، فقد تفرض التزاماً إيجابياً لمصلحة الجهة صاحبة الحق مثل وجوب القيام ببعض الأعمال الواقية من الفيضان لمنع طغيان المياه على الأراضي، وفي مثل هذه الحالة فإن جهة الوقف تسهم في عمل من أعمال صيانة مجاري المياه، وتتحمل نفقات هذه الصيانة أداءً لحق من حقوق الارتفاق الواجبة على الوقف.
وجود حق ارتفاق للوقف على المياه
قد يكون لوقف حق من حقوق الارتفاق أو أكثر من حق على مصدر من مصادر المياه (السطحية أو الجوفية) أو مياه الأمطار في بعض الحالات. ومن ذلك مثلاً: حق الشفة وحق الشرب. ويقصد بحق الشفة (حق شرب الماء.. والمراد بها شرب بني آدم لدفع العطش، أو للطبخ، أو الوضوء، أو الغسل، أو غسل الثياب ونحوها، والمراد بها في حق البهائم الاستعمال لدفع العطش ونحوه مما يناسبها). ويثبت حق الشفة بهذا المعنى لمستخدمي أرض الوقف، والدواب التي تعمل فيها.
أما حق الشرب فيقصد به (النوبة من الماء لسقي الأرض والزرع). ويثبت حق الشرب لأراضي الوقف ومزارعه من القنوات أو الترع أو الجداول أو البحيرات العذبة التي تقع بمحاذاة أراضي الوقف، أو عقاراته المبنية، أو تمر من خلالها، على أن تتحمل جهة الوقف أية مصروفات أو رسوم أو ما شابه ذلك لضمان وصول المياه إليها أسوة بغيرها من الجهات أو الأراضي غير الموقوفة سواءً بسواء.
أن يكون الماء عنصراً أساسياً في ذات أعيان الوقف
هذه الصورة هي الغالبة في علاقة الوقف بالمياه ومصادرها وأنماط إدارتها على وجه العموم. وتتجلى هذه الصورة بوضوح إذا نظرنا إلى التكوين المادي لنظام الوقف، إذ نجده يتكون من ثلاثة أقسام رئيسة يدخل الماء في كل قسم منها من باب أنه ضرورة لا تتم منفعة الوقف بدونها، وهذه الأقسام هي:
أ - الأراضي الزراعية: 
شكلت الأراضي الزراعية العمود الفقري في ممتلكات الأوقاف، وبخاصة في البلدان التي تمثل فيها الزراعة قطاعاً رئيساً من قطاعات الاقتصاد الوطني، ومعروف أن مياه الري هي روح الزراعة، ولا يمكن فصل وقف الأراضي الزراعية عن المياه ومجاريها ومصادرها وطرق صيانتها وإدارتها. وقد بلغت مساحات الأراضي الزراعية الموقوفة نسبة يعتد بها في بعض البلدان مثل مصر، والعراق، وسوريا، والسودان، واليمن، والجزائر، والمغرب. ومما يؤسف له أنه لا توجد بيانات إحصائية دقيقة ومتاحة عن مساحات الأراضي الزراعية الموقوفة في البلدان العربية بشكل عام، أو في بعضها على الأقل بشكل خاص، وغالباً ما يواجه الباحث في هذا الموضوع بعبارات إنشائية مطاطة تشير إلى (اتساع) رقعة الأراضي الزراعية الموقوفة، أو القول بأنها (شاسعة)، أو (هائلة)، دون تحديد مدى الاتساع أو الشساعة أو الهول الذي يشار إليه، وما ذلك إلا تعبير عن واحدة من المشكلات (المعلوماتية) التي يعاني منها قطاع الأوقاف في البلدان العربية جميعها وإن بدرجات متفاوتة السوء من بلد إلى آخر. 
ب - المباني السكنية والمنشآت الحرفية والصناعية الموقوفة: 
شكلت المباني السكنية والمنشآت الحرفية والصناعية القسم الثاني من ممتلكات الأوقاف، وبخاصة في المدن الكبرى، والمراكز الحضرية، إلى جانب بعض المساكن والمنشآت الخاصة في القرى والبوادي. وقد احتاجت تلك المباني والمنشآت باستمرار للمياه للاستعمال الآدمي، أو لشرب الحيوان، أو لأغراض صناعية وحرفية مختلفة. ولا تتوافر لدينا أية بيانات تتعلق بمياه المباني والمنشآت السكنية والحرفية والصناعية، ولا تظهر المصادر الرسمية المتاحة أية معلومات عن هذا الجانب في مختلف البلدان العربية.
ج - المؤسسات الوقفية:
ارتبطت بالوقف مجموعة كبيرة ومتنوعة من المؤسسات التي أنشئت بأموال الأوقاف، أو خصصت لها عوائد الأوقاف للإنفاق عليها وتسييرها حتى تقدم الخدمات والمنافع التي أنشئت من أجلها. ويمكن تصنيف تلك المؤسسات في أربع مجموعات رئيسة هي:
(1) منشآت للعبادة. وأهمها: المساجد، والجوامع، والزوايا. 
(2) مؤسسات تعليمية. وأهمها: المدارس، والكتاتيب، والمعاهد، والجامعات. 
(3) مؤسسات صحية. وأهمها: المستشفيات، والعيادات، والصيدليات. 
(4) مؤسسات اجتماعية. وأهمها: دور أيتام، والملاجئ، والتكايا، والأربطة، ...إلخ.
وقد احتاجت تلك المؤسسات والمنشآت جميعها للمياه (للشرب للطهارة للنظافة للطعام...)، ولم يكن من سبيل للحصول عليها إلا بأن تتكفل جهة الوقف بتوفيرها والإنفاق من ريع الوقف من أجل ضمان وصولها للمؤسسة الوقفية، مع ترتيب استعمال حقوق الارتفاق للوقف من موارد المياه القريبة منه في مثل تلك الحالات. وشأنها شأن المباني والمنشآت الموقوفة، لا تتوافر عن المؤسسات الوقفية أية معلومات عن الجانب الخاص باستهلاكها المياه من المصادر المختلفة، سواء أكانت مصادر خاصة بالأوقاف، أم مصادر عامة أو خاصة لجهات أخرى. 
والحاصل أن ثمة حضوراً كثيفاً للمياه في نظام الوقف، وأن هذا الحضور قد نشأت عنه مجموعة من المؤسسات المائية التي ارتبطت أساساً بنظام الوقف وقامت من أجل الإسهام بشكل مباشر في إدارة مياه الأوقاف ومؤسساتها ومصالحها المختلفة، ولخدمة أغراضها المتنوعة سواء أكانت للاستعمال الآدمي أم الحيواني، أو لأغراض الزراعة، أو الصناعة. 
ومن أهم مؤسسات الأوقاف التي نشأت للإسهام في إدارة المياه (جلباً، وتخزيناً، وتنقية، وتوزيعاً، واستعمالاً لأغراض آدمية أو حيوانية): الأسبلة، والحمامات، والصهاريج، والأحواض، والخزانات. 
وختاماً أقول: إن مثل هذه المؤسسات تحتاج إلى دراسات خاصة تحلل كلاً منها تحليلاً متعمقاً من واقع الخبرات التي تراكمت حولها في الأزمنة الماضية، وذلك بهدف استخلاص المبادئ والقيم التي تكفلت بنجاحها في أداء مهماتها، والنظر في إمكانية الإفادة منها في مواجهة مشكلات الواقع الراهن، والتخطيط للتعامل مع المشكلات التي قد يحملها المستقبل في هذا المجال الحيوي.

 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك