الاستبداد وكيفيّة معالجته عند مونتسكيو في كتابه (روح القوانين)

ريناس بنافي
 
الإنسان بطبيعته يسعى للسلطة، وهي من ستقوده لاحقاً للإساءة في استخدامها عاجلاً أم آجلاً، ولهذا فإن نشوء مبدأ الفصل بين السلطات لم يأتِ عبثاً، بل جاء نتيجة، وضرورة مُلحّة لإيقاف إساءة استخدام السلطة من قبل الحُكّام. وهو يعتبر بمثابة وضع حدود للسلطة، مهما كانت، كي تقوم تلك الحدود بحماية الحاكم، أولاً: من الانزلاق في الاستبداد، والتحكّم الانفرادي، وإيقاع الظلم بين الناس، وثانياً: أنها تحمي المحكومين الناس من ظلم الحاكم واستبداده، وبهذا سيكون نظام الحكم متجهاً نحو العدالة الاجتماعية وليس العكس. ومع تدهور الحكم المطلق وضعفه خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي، برزت العديد من النظريات السياسية والاجتماعية، والأفكار الدينية، الآخذة في مناقشة مختلف القضايا بشيء من الحرية،

والجرأة، فبرزت أفكار مونتسكيو، وروايات فولتير اللاذعة، ونظريات روسو الداعية إلى تطبيق المنهج الديمقراطي في الحكم القاضي بحكم الشعب بالشعب، وغيرها. وإن أهم ما ميّز مرحلة القرن السادس عشر هو الحروب الدينية، التي رسمت خطوطها العريضة. فقد نشأ في فرنسا واسكتلندا نضالٌ طائفي هدّد استقرار الشعبين، وبهذا نشب في فرنسا في ما بين عامين 1562-1598 ما لا يقل عن ثماني حروب أهلية، تميّزت بفظائع مثل: سانت بارتي لوميو، وغيرها من الحروب الأهلية الأخرى. وجرّاء ذلك لم يتوقف الحكم المنظّم فقط، بل وتعرّضت الحضارة نفسها في أوروبا إلى الخطر. انتقل مركز ثقل الفكر السياسي في عصر التنوير لصالح فرنسا، بواسطة كوكبة من المفكرين السياسيين، الذين تفاعلوا من جرّاء تلك الأحداث، واستطاعوا بآرائهم وتفكيرهم من بعث الوضع السياسي خاصّة، والحضاري عامّة، إلى مسار غير الذي كان عليه من قبل. ومن هؤلاء المفكرين نجد (مونتسكيو)، المشهور بنظريته في الحريّة، والفصل بين السلطات. كلّ هذا وذاك يدفعنا إلى طرح الإشكال الآتي: إلى أي مدى أسهمَ فكر مونتسكيو في إضفاء الديمقراطية السياسية ومشروعية نظام الحكم؟! وإلامَ كان يهدف من نظرية الحرية والفصل بين السلطات؟! وما هو الجديد الذي أضافه عليها؟! وعليه نفرض أن حالة فرنسا السياسية،  أي وضعها المتميّز بالفساد السياسي، في تحوّل النظام الملكي إلى نظام استبدادي مطلق (مرض النظام)، أو ربما للحد من السلطة السلطة التي كانت تمارس الحكم، ومحاولة تشتيت الدولة الاستبدادية، وإضعاف قواها، من خلال تقسيم سلطتها. إن الواقع الذي كانت عليه فرنسا، في عصر التنوير، والبيئة، هي التي دفعت بمونتسكيو إلى كتابة أفكاره. فكان لاتجاهات التفكير السياسي الفرنسي، في عصر لويس الرابع عشر، أسباب سياسية، تكاد تدور كلها حول تصرفات هذا الملك، التي أدّت إلى تطور الحالة السياسية في فرنسا، تطوراً ترك أثراً كبيراً في التفكير السياسي. فقد حكم حكماً يقومُ على الملكية المطلقة المستبدة، وكان طموحه يرمي إلى توسيع ملكه، ويعمل على تكوين إمبراطورية كبيرة، وفي سبيل ذلك قام بمغامراتٍ وحروب انتصر فيها، في بادئ الأمر، وكان لهذا الانتصار أثران مهمّان، أولهما: أنه صار محبوباً لدى الشعب، مسموع الكلمة في أمته. وثانيهما: أن ملوك أوروبا وحكامها تكتّلوا ضدّهُ، ليقفوا في وجه مطامعه. وترتّب على هذا التكتّل أن توالت هزائمه، وأخذ الشعب يتذمّر، وكان في مقدمة هذا التذمّر انتقاد الملكية المطلقة. إذ بدأ الشعب يضيق ذرعاً بتصرّف الملك، وأخذ الكتّاب السياسيون يهتمّون بإعادة النظام السياسي القديم، وطالبوا بإعادة تكوين البرلمان الفرنسي(1).

 
ولقد كانت الثورة الإنجليزية 1688، ونشر مؤلفات (جون لوك)، يُشكِّلان خاتمة الفترة التي شهدتها الفلسفة السياسية الخلاقة في إنجلترا، وتبع ذلك فترة من الهدوء والركود، وأصبح الفكر السياسي الإنجليزي ذا طابعٍ محافظ، وراضٍ بشكل عام عن الأوضاع القائمة في البلاد. وبناءً على هذا، فقد انتقل مركز الثقل، في مجال النظرية السياسيّة، إلى فرنسا، منذ أواخر القرن السابع عشر، إلى ما قبيل الثورة الفرنسيّة. وكان هذا نتيجة طبيعيّة جرّاء سياسة (لويس الرابع عشر)، التي أثرت في الإذلال والتدهور الخارجي، حتى شارفت البلاد على الإفلاس. يضاف إلى ذلك طغيان أفكار (لوك)، التي تعد الأساس الذي تبنى عليه حركة التنوير الفرنسيّة، في القرن الثامن عشر. كما يمكن القول عموماً: إن حركة الفكر السياسي الفرنسيّة، شدّدت على فكرة القانون الطبيعي، والحقوق الطبيعيّة، والمصلحة الذاتيّة المستنيرة. وعليه يجوز القول: إن النظريّة السياسيّة، في القرن الثامن عشر، بدأت تأخذ مركزها في فرنسا، والتي بلغت ذروتها نتيجة سياسة لويس الرابع عشر، القائمة على الملكية المطلقة، والحق الإلهيّ(2). ومن أهمّ مظاهر الفساد، الذي عرفه نظام لويس الرابع عشر، هي:
- نظام الامتيازات المجحف، الذي كان الأشراف من خلاله يستأثرون بأرفع مناصب الدولة: المدنية منها، والعسكريّة.       
- الكنيسة، التي كانت لها ثروة طائلة من دخل الأراضي الموقوفة، التي تمثل خمس أراضي فرنسا، والتي كان يصرفها كبار رجال الكنيسة لمصالحهم الخاصة.
- حرمان النبلاء من السلطة السياسية. فبالرغم من كُلِّ الامتيازات التي كانت لهم، إلاّ أن الملوك حاولوا الوقوف دون حصول هذه الطبقة على أيِّ زعامةٍ سياسية.
- تعسّف النظام الزراعي، الذي لم يكن يهيء للمزارعين الفرنسيين تكوين رؤوس أموال تجارية، على عكس الحال في إنجلترا.
- نظام الضرائب المجحف، الذي كان يرهق المواطنين، وتعنّت الجباة في توزيع الضريبة. وكانت الضرائب تزداد تبعاً بتزايد حالة الحكم لها.
- نظرة الاحتقار التي كانت تكنّها الطبقة الوسطى، المنتشرة في المدن الفرنسيّة، إلى النبلاء ورجال الدين.
- ضمن هذه الظروف المتعدّدة، من المظاهر الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، ظهرت في فرنسا طائفة من الكتاب، الذين رأوا ضرورة إزالة الدعائم التي يقوم عليها النظام المبني على الحكم المطلق، واللامساواة الاجتماعية، وعدم التسامح في أمور الدين، والحماية في أمور الاقتصاد. والجدير بالذكر أيضاً، أنه كان لكتابات (جون لوك) أثرٌ كبير في المجتمع الفرنسي، حيث تبنّاها الكُتّاب الفرنسيُّون، ووجدوا فيها الدعم والسند، والأرضية الخصبة، في دعوتهم إلى القضاء على النظام الملكي. ولعلّ من أهمِّ المفكرين الذين تأثروا بهذه الأوضاع: (مونتسيكيو)(3).
قام مونتسكيو بجولة استغرقت ثلاثة أعوام، زار خلالها إيطاليا والنمسا والمجر، وسويسرا، والبلدان الواطئة، وإنجلترا. حاول خلالها دراسة أشكال الحكم المختلفة، وعادات الشعوب وتقاليدها، وتأثير البيئة على عادات السكان وتقاليدهم. وبعد عودته إلى فرنسا بدأ يستخلص العبر من ملاحظاته، التي كوّنها خلال جولته الطويلة. وبالفعل، وفي عام 1734 نشر مؤلفه الثاني: (أسباب عظمة الرومان وسقوطهم)، وفي عام 1748 نشر كتابه المشهور (روح القوانين)، الذي يتضمَّن معظم الخطوط الرئيسة في فلسفته السياسية. وما يظهرُ جليّاً في هذا المؤلف، أن مونتسكيو حاول - نتيجة الجولة الطويلة التي قام بها في دول عديدة- أن يستنتج الخلاصة التالية، وهي: أن المجتمعات لا يمكن أن تتكوّن وتظهر بصورة عفوية أو اعتباطيّة، بل بالعكس، فإن تكونها وظهورها يخضعُ لقوانين ثابتة لا تتغيّر، ذلك أن تاريخ أيّ أمة من الأمم، لا يعكس إلاّ حالةً من حالاتِ تأثير هذه القوانين الثابتة عليها. ومن هنا حاول مونتسكيو أن يشرح ويفسّر طبيعة الأنظمة السياسيّة، ومؤسساتها الاجتماعية، لدى مختلف الأمم، من خلال تأثير القوانين العامّة عليها(4).
يُعَدُّ مونتسكيو واحداً من أكبر دعاة الحريّة والتسامح والاعتدال والحكومة الدستورية في بلده، وكان من أشدِّ أعداء الحكم الاستبدادي، ونادى بفصل السلطات، ورد أصل الدولة والقوانين إلى الطبيعة، وخاصّةً في كتابه (روح القوانين)، أو (الشرائع)، إذ يقول: "إن الطبيعة هي التي تحدّد نوع الدولة، أو نوع العَلاقات بين الأفراد، التي تحدّد بالتالي شكل الدولة". ويقصد بالطبيعة المناخ، ويرى أن نظم الحُكم والقوانين تختلف من مجتمع إلى آخر، باختلاف المناخ، وأن اختلاف المناخ هو الذي يتسبّبُ في اختلاف العاداتِ والتقاليد والنظم الاقتصادية والأديان، بل ومفهوم الحريّة. ويرى كذلك أن سُكّان الجبال والجزر، يحسُّون بحريّاتهم أكثر من سكان السهول والقارات، لسهولة الدفاع عن الأولى. وأن سُكّان الجبال يتّصفُون بالاقتصاد والاستقلاليّة والنشاط، بسبب طبيعة بلادهم. وهذا التفسيرُ الجغرافيُّ جعلَهُ واحِداً من مؤسِّسي نظريّة الحتميّة الجغرافيّة، بعد ابن خلدون.
كان مونتسكيو شاهِداً حيّاً على عصرٍ حافِلٍ بالانقلابات السياسيّة والاجتماعيّة، وقد كانت رغبته في حماية المجالس التمثيليّة، وهيئات النيابة، وامتيازاتها، تقف خلف إسهامه الأصيل في الفكر السياسيّ الحديث. وهو لم يعمد في الواقع إلى إيجاد نظرية حقوقيّة في الفصل بين السلطات، كما يشير (توشار)، بل هدفَ إلى تقديم تصوّر سوسيو-سياسي لتوازن القوى، وهو توازنٌ يرمي إلى تكريس مكانة قوّة بين القوى الأُخرى، ألا وهي قوّة الأرستقراطية. وقد غدا هذا التصوُّر ضَرْباً من العقيدة السياسية على يدِ خلفائه، فيما بعد، وتـمَّ تبنِّيه في (إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي) في سنة (1789م)، وغيره من اللوائح الأساسية، كـالدستور الأمريكي، وهنا تكمُن أهميَّةُ إسهامهِ في النظريّة السياسيّة.
قسّم مونتسكيو أنظمة الحكم إلى جمهوريّة، وملكيّة، واستبداديّة. ورأى أنَّ الحكومةَ الجمهوريّة، هي التي تكون السيادة للشعب، أو لفريق منه. في حين أنّ الملكيّة هي التي يحكمُ فيها فردٌ واحِد، ولكن بقوانين ثابتة. بينما يحكمُ في الاستبداديّة، فردٌ مستبدٌّ، بلا قانون ولا نظام أو مبدأ، يحرِّكُ الجميع وفق إرادته، وأهوائه، ويسيِّرهُم. وبرأيه، إذا كانت السلطة ذات السيادة في قبضةِ الشعب جملة، سُمِّيَ هذا ديموقراطية. وعلى غرار معاصريه صوَّر مونتسكيو الاستبداد في (روح الشرائع) بذعرٍ شديد، ونظرَ إليه على أنه نوعٌ من الأنظمة الاستبدادية، التي نشأت أصلاً بين الشرقيين والمسلمين(5)، وبات يُهدِّد الآن أوروبا من الداخل، ويسحق بلا رحمة، الجماعاتِ والطبقاتِ الوسطى في المجتمع، ويرغم أعضاء الدولة على أن يظلّوا مجزَّأين وجهلة وجبناء روحيَّاً.
إنَّ النظام الاستبداديّ - برأي مونتسكيو- لا يقيمُ حساباً لأيّ فضيلةٍ سياسيّة، إذ ليس لها أيّ دور تقوم به. ويرى أنّ الشرف يغدو خطراً في هذا النظام، الذي يتأسَّسُ أصلاً على الخوف، ويهدفُ إلى الهدوء والسَّكينة. فما كان يدعوهُ (لوك) بسلام المقابر، يعلن مونتسكيو أنّه ليسَ سلاماً، إنّه صمتُ هذه المدن، التي يرابض العدو على أطرافها، بغرضِ احتلالها. لاحظَ مونتسكيو أنّ من يملكُ السلطةَ على هذا النحو، يميلُ دائماً إلى إساءةِ استعمالها، ويستنتجُ أنّ الحلَّ الوحيدَ للحؤُول دون ذلك، هو مواجهة السلطة بوساطة السلطة ذاتها. وبناءً عليه رفضَ تركيز السلطة، وإنما قال بضرورة توزيعها في مراكز مختلفة، بحيث لا تحتكر جهة واحدة السلطة كلها، ووظائفها، وبهذا وحده تكون الحرّية.
يقول مونتسكيو: "يوجدُ في كلِّ دولة ثلاثة أنواع للسلطات، وهي السلطة التشريعيّة، وسلطة تنفيذ الأمور الخاضعة لحقوق الأمم، وسلطة تنفيذ الأمور الخاضعة للحقوق المدنية (القضائيّة). فلا تكون الحرّية مُطلقاً إذا ما اجتمعت السلطة التشريعيّة، والسلطة التنفيذيّة في شخصٍ واحِد، أو في هيئة حاكمة واحدة، وذلك لأنه خشي أن يضع الملك نفسه، أو المشرّعون أنفسهم، قوانين جائرة، لتنفيذها تنفيذاً جائِراً. وكذلك لا تكون الحرّية، إذا لم تفصل سلطة القضاء عن السلطة التشريعيّة، والسلطة التنفيذيّة.. فكلُّ شيء يضيع إذا مارس الرجل نفسه، أو هيئة الأعيان، أو الأشراف، أو الشعب، هذه السلطات الثلاث: سلطة وضع القوانين، وسلطة تنفيذ الأوامر العامّة، وسلطة القضاء في الجرائم، أو في خصومات الأفراد... إن الأمراءَ الذين أرادوا أن يكونوا مستبدّين، بدأوا بتركيز جميعِ هذه السلطاتِ في شخصهم دائماً".
يتيحُ الانفصال بين السلطات، والتوازن فيما بينها، ظهور حكومة معتدلة، ومجتمع مدني مُوازٍ، وبهذا يمكن ضمان الحرّية السياسيّة، التي لا يمكن أن توجد - برأي مونتسكيو- في غير الحكومة المعتدلة. لكن الحرّية لا تكون في الدولة المعتدلة ذاتها بصورة دائمة، إلاّ بشرط عدم إساءة استخدام السلطة، وهذه الأخيرة لا يمكن الحدُّ منها، إلاّ بتقسيم السلطة. وهكذا، فالحرّية السياسيّة هي في المحصّلة ناجمةٌ عن تقسيم السلطة، وبذلك تنشأ السلطاتُ المختلفة داخل الدولة، بشكلٍ تحدُّ الواحدةُ منها الأُخرى، وبحيث لا تستطيعُ أيُّ واحدةٍ منها أن تنفردَ، أو تقومَ بشيءٍ على حِدَة. إن تنوّعَ آلياتِ المنع والإقرار بين مختلف السلطات، هي وسيلة الحرّية السياسيّة، وأداتها الرئيسة لدى مونتسكيو، الذي يسهبُ في وصفِ تنظيم العَلاقة فيما بينها، ليصلَ في النتيجة إلى القول، بأنّ هذه الطريقة في تنظيم الحكم توائم الحكومة المعتدلة، ولا يمكن أن تتحقّق إلاّ من خلالها. ففي هذه الأخيرة يتعذّر إساءة استخدام السلطة، والحرّية السياسيّة يمكنُ ضمانها بهذا الشكل.
نخلص، في ضوء ما سبق، إلى القول إنَّ إسهامَ مونتسكيو الأصيل في النظرية السياسية، يقومُ على تصوُّر مقيَّد للسلطة، وعلى مبدأ تجزئتها، من أجل تحقيق المبدأ الاجتماعيّ العامّ، المتعلّق بحمايةِ حريّة الأفراد السياسيّة، وكفالتها، وذلك بضمان عمل الهيكليّات الاجتماعيّة الوسيطة، والتنظيمات، واستقلالها، بمعزل عن نفوذ السلطة، وميولها للهيمنة، بحيث تلعبُ دوراً فاعِلاً ومُؤثِّراً في عملِ الأولى، وفي ضبطه.
لقد ارتبط مبدأ الفصل بين السلطات باسم الفيلسوف الفرنسي (مونتسيكيو)، الذي شرحه، وأبرز خصائصه، في مؤلفه الشهير (روح القوانين). حيث يعود له الفضل في نقل المبدأ من مجرّد تقسيم وظيفي، إلى فصلٍ بين السلطات، أو الهيئات، التي تتولّى تلك الوظائف. والمبدأُ - حسب هذا الفيلسوف- يعني عدم جمع سلطات الدولة في يدِ فردٍ واحِد، أو هيئةٍ واحِدة. وفي ذلك يقول: إنها تجربةٌ خالدةٌ أن كُلَّ إنسان يتولّى السلطة، ينزع إلى إساءة استعمالها، حتى يجد حدّاً يقفُ عندَهُ. إن الفضيلة ذاتها تحتاج إلى حدود، ولكي لا يُساء استعمال السلطة، يجب أن توقف السلطة سلطة أخرى. ومبدأُ الفصل بين السلطات - حسب مونتسكيو- هو قبل كل شيء تقنية دستوريّة، غايتُها منعُ الاستبداد، وصيانة الحريّة، فإذا جمع شخص واحد، أو هيئة واحدة، السلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة، انعدمتِ الحريّة. وكذلك الشأنُ إذا اجتمعتِ السلطاتُ الثلاث في يدٍ واحِدة، ولو كانت يدُ الشعب ذاته. لذلك يجب أن تتوقّف كل سلطة عند حدّها، بواسطة غيرها، بحيث لا تستطيع أيّ سلطة أن تسيء استعمال سلطتها، أو تستبد بها. فالحريّة إذاً مرتبطةٌ ارتباطاً وثيقاً بتقسيم السلطة، ولا وجود لهذه الحرية عند دمج السلطات لحساب إحداها، أو لحساب شخص أو جماعة. كما أن تنظيمَ هذه السلطات، وتقسيمها، ينبغي أن يكون بطريقة لا تسمح لأي منها أن تتحرّك لوحدها، بمعنى أن ترتبط هذه السلطات ببعضها، وأن يكون بينها قَدْرٌ من التعاون والتأثير المتبادل. لأجل ذلك يرى مونتسكيو ضرورة أن يوجد في كل دولة ثلاث أنواع من السلطات:
- السلطةُ التشريعيّةُ، والتي تتولّى صياغة القوانين لمدّة محدّدة، أو بصفةٍ دائِمة، وتعدّل، وتلغي القوانين النافذة.
- السلطةُ التنفيذيّةُ، التي تقرّ السلام، أو تعلن الحرب، وترسل وتستقبل السفراء، وتوطّد الأمن.
- السلطةُ القضائيّةُ، والتي تعاقب على ارتكاب الجرائم، وتفصل في منازعات الأفراد.
 لم يتوقّف مونتسكيو عند حدِّ الفصل بين السلطات العامّة في الدولة، وإنما استلزم قيامَ كُلّ سلطة بمراقبة كلِّ السلطات الأُخرى، لوقفها عند الحدود المقرّرة لها، إذا اقتضى الأمرُ، حتى لا تتجاوزها إلى الاعتداء على السلطاتِ الأُخرى. كما أنَّ القانون المذكور تبنّى مبدأ الفصل بين السلطات، هذا المبدأ الذي كَثُر فيه الشقاق، واختلفت بل تنافرت فيهِ وجهات النظر، فأوّلُ ما نادى به مونتسكيو أنه اعتبر الاستبداد نتيجةً لتركيز السلطة في يدٍ واحِدة.
يحقِّق مبدأُ الفصل بين السلطات العديد من المزايا، وأهمُّها:
1- حمايةُ الحريّة، ومنع الاستبداد: تلك هي الميزةُ الأُولى والأساسيّة لمبدأ الفصل بين السلطات، والمبرّر الأساس للأخذ بهذا المبدأ. فجمعُ السلطات بيدِ شخصٍ واحِد، يتيحُ الفرصةَ لإساءة استعمالِ السلطة، وانتهاكِ حقُوقِ الأفرادِ، وحريّاتِهم، دون وجود رقيب، ودون إعطاء فرصةٍ للأفراد للدفاع عن حقوقِهم، وحريّاتِهم، أمام جهاتٍ أُخرى. أمّا توزيع السلطات بين عدة هيئات، مع الفصل بينها، فإنه يفسحُ المجالَ لكُلِّ هيئةٍ في مراقبةِ أعمال الهيئتين الأُخريين، بما يُؤدِّي إلى منعهما من التجاوز أو الإساءة وانتهاك حقوقِ الأفراد وحريّاتهم. 
2- إتقان وحسن وظائف الدولة: الميزة الثانية لمبدأ الفصل بين السلطات، هي أنه يحقّق مبدأ تقسيم العمل، والتخصُّص، الذي من شأنه أن يحقِّق إتقان كُلّ هيئة لوظيفتها، وحسن أدائها.
3- ضمان احترام مبدأ سيادة القانون: وأخيراً من المزايا المهمَّة لمبدأ الفصل بين السلطات الثلاث، أنه يُؤدِّي إلى ضمانِ احترام مبدأ سيادة القانون في الدولة، بحيث نضمنُ خضوع السلطات الحاكمة للدستور والقانون، وليس فقط للأفراد. لأنه إذا اجتمعت وتركّزت السلطةُ التشريعيَّةُ، والسلطةُ التنفيذيَّةُ، في هيئةٍ واحِدة، فلا ضمانَ لاحترامِ القانون، لأن هذه الهيئة ستقوم بوضع القوانين وتعديلها، بناءً على الحالاتِ الفرديَّة الطارئة، مِمّا يفقد القانون صفة العدالة، لأنه لم يُصبح قواعِدَ عامَّة مجرّدة. وكذلك لو مارس القضاءُ سلطةَ التشريع أيضاً، فإن ذلك يُؤدِّي إلى عدم عدالة القانون، وعدم عدالة الأحكامِ أيضاً. لذلك فإن الفصل بين السلطات، وما يصاحبهُ من رقابة متبادلة بينها، يُؤدِّي إلى ضمان احترام كُلّ سلطةٍ لحدودها الدستورية، واحترامها لقواعد القانون. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الفصلَ بين السلطات، يجعل السلطة القضائية رقيباً على السلطتين الأُخريين، ويضمنُ - بوجهٍ خاص - خضُوع قرارات السلطة التنفيذيّة لرقابة القضاء، وإلغائها عند مخالفتها للقانون.
كان لأفكار "مونتسكيو" أثرُها الواضِح على رجالِ الثورةِ في فرنسا وأمريكا، فذهبُوا إلى أنَّ فصلَ السلطات هو شرطُ الحكومةِ الدستوريَّة الحرّة، وأعلنت الثورة الفرنسيّة ذلك صراحةً في (إعلانِ حقوق الإنسان والمواطن)، الصادر في 26 أغسطس/ آب عام 1789م، فنصّتِ المادةُ السّادسة عشر منه على أن: "أيَّ مجتمعٍ لا تكون فيه الحقوقُ مكفولةً، أو فصلُ السلطاتِ محدَّداً، هو مجتمعٌ ليسَ له دستورٌ على الإطلاق".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- المدخل في علم السياسة، بطرس بطرس غالي، ومحمود خيري عيسى، ط(7)، مكتبة الأنجلو المصريّة، 1989م، ص100.
2- اتجاهات الفكر السياسي في العصر الحديث، مهدي محفوظ، المؤسسات الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، 1990م، ص101-102.
3- المرجع نفسه، ص102-104.
4- المرجع نفسه، ص107.

5- فيروس مونتيسكيو، مقال بقلم: سربست نبـي، نشر في موقع (الأوان).

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك