ما معنى "التنوير"؟ سؤال التنوير وحيثياته وأجوبته في الفكر الغربي

محمد الشيخ

تحدث عن فعل "التنوير" -الذي شهدت عليه أوروبا إبان القرن الثامن عشر- على الأقل ثلاثُ لغات أوروبية: فهو بحسب التقليد الفرنسي Les Lumières، وهو بحسب التقليد الألمانيDie Aufklärung؛ حيث تطغى على اللفظ الألماني الصيغة الفعلية (فعل "نَوَّرَ" أو "أوضح") على الصيغة الاسمية الجامدة، وهو بحسب التقليد الإنجليزي The Enlightenment. وهكذا حين كتب الفرنسيون عن الأنوار "الأوروبية" - شأن بول هازار وكتابه الشهير عن فكر القرن الثامن عشر(1) - ركزوا بالخصوص على تقليدهم، فكنت تجدهم كثيرا ما يشيرون إلى أسماء فرنسية مثل مونتسكيو وروسو وفولتير وديدرو ودالمبير وغيرهم. وحين أنشأ الألمان المجامع التأليفية في فكر الأنوار وجدتهم -وإن هم أقروا بالأثر الفرنسي والإنجليزي- أكثروا من ذكر مفكري الأنوار الألمان من أمثال ليسنج وهيردر ومندلسون وكانط وفيلاند... وعندما كتب مفكر إنجليزي - وليكن أشعيا برلين مثلا(2) - عن فلاسفة التنوير ركز على الإنجلوسكسونيين منهم بالخصوص، من أمثال جون لوك ودافيد هيوم وجورج بيركلي وغيرهم. وقد كتب المفكر الألماني موسى مندلسون بتاريخ 20 فبراير من سنة 1758 يقول: ما كان الإنجليز فلاسفة إلا إلى حد معين يقفون عنده فلا يتجاوزونه؛ وذلك لأن العزة تأخذهم إلى الحد الذي تمنعهم فيه من قراءة كتب الألمان، ولأنهم مقبلون على لذاذة العيش إلى الحد الذي يمنعهم من التغلغل إلى أعماق الفكر. أما الفرنسيون، فهم ساطعون طائشون سطحيون، وبالجملة، إن الإنجليز يتفلسفون بأحاسيسهم، والفرنسيون بنكاتهم، أما الألمان فهم وحدهم الذين يتفلسفون بعقولهم. وقد اشتط مندلسون في حكمه وما أنصف!

أما في فكرنا العربي فإن معنى "الأنوار" و"التنوير" لم تتجدد دلالته إلا عند نهاية القرن التاسع عشر، وذلك بعد أن احتكت البعثات العلمية العربية بالفكر الأوربي بعامة والفكر الفرنسي بخاصة؛ فقد دلت لفظة "الأنوار" في اللسان العربي على معاني "الضياء" و"السناء" (إجماع المعاجم)، ودلت كلمة "الإنارة" على "التبيين" و"الإيضاح" (تاج العروس)، ودل لفظ "التنوير" على معاني: "الإنارة" و"الإسفار" [الإصباح] و"الإزهار" (الصحاح، تاج العروس، أساس البلاغة)، وعلى معنى "التبيين"، وعلى معنى "الإدراك" [من أدرك الزرع بمعنى نَوَّرَ)؛ بل أرشد هو إلى عكس معناه الأوربي حين أفاد معاني "السحر" و"الخداع" و"الشعوذة" (نَوَّرَ عليه الأمر بمعنى سحره وخدعه)، ودلت لفظة "التَّنَوُّر" على معنى أن يُطلى المرء بمادة النورة، وأن ينظر المرء إلى المرء من وراء النار بحيث يَرى ولا يُرى، وأفادت لفظة "الاستنارة" معنى "اقتباس النور" أو "أخذه" (تاج العروس)...بما نبه إلى أن العرب القدامى ما عرفوا للتنوير ولا للأنوار من المعنى الأوربي الحديث شيئا. أكثر من هذا، كم من الكتب العربية القديمة تَسَمَّت باسم "الأنوار" - شأن "كتاب الأنوار"، و"مطالع الأنوار"، و"الأنوار السنية"، و"رسالة الأنوار"... - أو وسمت بوسم "التنوير" - مثال "رسالة التنوير"، و"التنوير في إسقاط التدبير" - وما نشدت هي "الأنوار" بمعناها الحديث؛ وإنما الأنوار الدينية واللدنية هي رامت. وذلك حتى أن الرحالة والعلامة العربي فارس الشدياق -من أعلام القرن التاسع عشر- ظل يتحدث عن "الأنوار" بمعناها القديم؛ فقد أورد في كتابه الشهير الحوار التالي: «ثم قالت: أخبرني عن الأسواق، فقلت: طويلة عريضة واسعة كثيرة الأنوار بحيث لا يمكن للرجل أن ينفرد بامرأة أصلا». والبادي أن أحد أقدم استعمال للفظ "الأنوار" بالمعنى الأوربي الحديث أجري على قلم العلامة العربي رفاعة الطهطاوي، وهو يدون رحلته التعليمية الشهيرة إلى أوروبا؛ حيث كتب يقول عن وضع رجال الدين بفرنسا:"(...) ولا تعظم القسس في هذه البلاد إلا في الكنائس عند من يذهب إليهم، ولا يُسأل عنهم أبدا، فكأنهم ليسوا إلا أعداء للأنوار والمعارف». كما أن أول احتكاك عربي بكتابات فلاسفة التنوير ما تعلمه الطهطاوي سنوات التعلم بباريس، والذي قال عنه:"(...) وقرأت أيضا مع مسيو شواليه جزأين من كتاب يسمى روح الشرائع مؤلفه شهير بين الفرنساوية يقال له منتسكيو، وهو أشبه بميزان بين المذاهب الشرعية والسياسية، ومبني على التحسين والتقبيح العقليين، ويلقب عندهم بابن خلدون الإفرنجي، كما أن ابن خلدون يقال له عندهم أيضا منتسكيو الشرق؛ أي منتسكيو الإسلام. وقرأت أيضا في هذا المعنى كتابا يسمى عقد التأنس والاجتماع الإنساني مؤلفه يقال له روسو، وهو عظيم في معناه. (...) وقرأت عدة محال نفيسة في معجم الفلسفة للخواجة فولتير وعدة محال في كتب فلسفة قندلياق»(3).

لكن، عد بنا من جديد إلى فكر الأنوار نستطلع طلعه: الحق أن لحركة التنوير أصولها المخصوصة، وجذورها المميزة، وتطورها الخاص، وانشقاقاتها الداخلية، ولحظات أزمتها وإحيائها وتفسخها؛ فهي نتاج مجهودات أناس كانوا يعون بأمرها تمام الوعي، ويبحثون عن أشكال متجددة لرص صفوفها وللحراك والعراك الفكري والاجتماعي، ويُقَوِّمون أثرهم على المجتمع الذي يحيط بهم، وقد أخذوا في الوعي بالمنزلة التي يحتلونها داخل المجتمع وفي خضم التاريخ. وقد حدد أحد مؤرخي الفكر المعاصرين ما وحد فكر الأنوار بقوله: «من لوك إلى فريدريك الثاني، ومن نيوتن إلى جوزيف الثاني، ومن دالمبير وفولتير إلى كرستيان فولف وجوزتوس موزير، كان لا بد للفكر أن يختار منحى يوشك ألا يتناهى؛ لكي يجمع بين أفراد متباينين إلى هذا الحد. ومع ذلك ينبغي أن نعتبر مجموعة هذه الطائفة على أنها ممثلة لاتجاه واحد؛ لأنهم جميعا -مع شيء من التفاوت- أعداء للقديم، أعداء للعصر السابق، وهم جميعا يحترمون العقل بدرجات متفاوتة أيضا، وهم جميعا يبحثون في أمر الشرائط التي تجعل الحياة البشرية حياة سعيدة وميسورة...»، وأضاف بول هازار: «وصحيح أن هؤلاء الأفراد يؤلفون طائفة؛ بل لربما حتى جاز القول: جماعة أخوية؛ لأنهم كانوا يلتقون في إرادة مشتركة، ويعتقدون أنهم يسيرون بخطى متحدة نحو غاية بعينها، وكان هدفهم "الأرض الموعودة"، بل كانوا يلمسونها»(4). وقد حدد إرنست كاسيرر في كتابه "فلسفة الأنوار" سمات ذاك العصر بقوله: «عصر الأنوار هو عصر "المستبدين المتنورين"، وعصر إشعاع "الحقيقة"، وعصر "انتشار العلم" وصراع "العقل" ضد "الظلمات" وإعادة التفكير في العالم على ضوء العقل بوصفه "نورا طبيعيا"»(5). فقد تحصل أن اسم "فكر الأنوار" أو "فلسفة الأنوار" - أو ببساطة: "التنوير" - إنما يطلق على تلك الحركة الفكرية التي نشأت في القرن الثامن عشر، والتي كان من سماتها أن دعت إلى التمرد على قوالب التفكير اللاهوتية القديمة، ونادت بإعادة الاعتبار للإنسان وللطبيعة، وطالبت بتحقيق الحرية والعدالة والمساواة، ورامت الإيمان بالتقدم والتطور، ونشدت العمل على إسعاد البشرية.

هذا ولئن كان الفضل يعود إلى الفرنسيين في إشاعة فكر الأنوار؛ فإن هؤلاء مارسوه وزاولوه بالفعل، وما هم نظروا في أمر "الأنوار" النظر الأمثل. وتلك كانت مهمة مفكري الأنوار من الألمان عند نهاية القرن الثامن عشر (1783-1787)؛ فهم أول من بادر إلى طرح السؤال: ما هذا الذي يعنيه "التنوير"؟ وأجابوا عنه إجابات شتى، كلٌّ بحسب جهده وموقعه ضمن هذه الحركة. خذ بنا بدءا نستقرئ أمر هذه الإجابات: 

ما هذا الذي يعنيه فعل "التنوير"؟

حكاية سؤال:

لسؤال التنوير حكاية، وبدايتها مقالة، وهي مقالة جدية كل الجدية كتبها أحد أبرز المثقفين التنويريين الألمان يوهان إريش بييستر (1749-1816)Johann Erich Biester - مدير "مجلة برلين الشهرية" التي أسهمت أيما إسهام في حركة التنوير الألمانية - في سبتمبر من عام 1783 تحت عنوان: "مقترح بعدم إزعاج رجال الدين عند إجراء مراسم الزواج"، وقد ورد فيها -على وجه الخصوص- ما يلي: إنه لما كان الزواج من سنن الطبيعة، وكان عقده -شأن بقية العقود- مدني الطبيعة، ولا فضل، فإن من المستغرب حقا أن يحظى دون غيره بتبريك رجال الدين. ويمضي بييستر متسائلا متشككا مستشكِلا: أَوَ ليس يعود هذا الأمر -في جزء منه- إلى رغبة هؤلاء في التسلط؟ أَوَ لهذا أعلن البابا أن ما من زيجة لا يشهد عليها قس إلا وتعد باطلة؟ أَوَ ليس في هذا الأمر ضرب من "توسيل الدين"؛ أي اتخاذه وسيلة بغاية كسب النفوذ واكتساب السلطة؟ الحق أن ما يقول به الحس السليم هو أن على مراسيم الزواج أن تتم بوفق الطبيعة والعقل وأحوال الناس، لا بوفق ما يترسمه رجال الدين؛ إذ في اعتبار الناس "المتنورين" ما كان الزواج بحاجة إلى مثل ذاك الترسيم والتبريك والتيمين، أما أولئك "غير المتنورين" فإنهم يرون أن لا أحفظ للزواج من الدين، ومن ثمة كان هو بحاجة إلى ترغيب رجال الدين فيه وترهيبهم من هجرانه. 

بيد أن هذا المقال أثار حفيظة قس بروتستانتي يدعى يوهان فريدريش تسولنر (1753-1804) Johann Friedrich Zollner، فكتب في ديسمبر من سنة 1783، وبالمجلة المذكورة آنفا، مقالا تحت عنوان: "أمن الأليق ألا يتكفل الدين بترسيم الزواج وتبريكه؟" ومجمل جوابه أنه لما تعلقت أمور الزواج بمسائل "الضمير" وما يترتب عليها - من النية، والإخلاص، والقسم، السعادة الزوجية، ونقائضها: الإكراه، والكذب، ونقض العهد، والحنث، والشقاء - ومتت هذه الأمور إلى الضمير الديني بوشائج، فإنه من الطبعي أن يتكفل الدين ورجاله بأمر الزواج التكفل الشرعي. وفيما يخص تمييز بييستر بين المواطنين المتنورين وغير المتنورين، فإن تسولنر ما فتئ أن استنكر عمل «أولئك الذين يصرفون كل عنايتهم إلى هدم أسس الأخلاق، وإنكار قيمة الدين، والتلاعب بعقول الناس وقلوبهم، وذلك بِتَعِلَّةِ تنويرهم»، متوقفا ههنا ملية ومبديا على هامش مقاله الملاحظة التالية: «ما هو التنوير؟ تكاد أهمية هذا السؤال أن تكون بمثابة أهمية سؤال آخر هو: ما هي الحقيقة؟ إنه لمن المفروض أن يُجاب عن هذا السؤال قبل أن يُشرع في فعل "التنوير"! لكن، إلى حد الآن ما عثرت لهذا السؤال من جواب في أي مكان فتشت عنه، وما قصرت في تفتيشي قط». 

هذا هو السؤل، وهذه حكايته. أما الجواب عنه فقد استدعى تدخل نخبة من مفكري التنوير الألمان أهمهم ثلاثة: موسى مندلسون (1729-1786)، وإمانويل كانط (1724-1804)، وكارل فريدريش باهردت (1741-1792).

ـ أ ـ

«حول السؤال: ما هو التنوير؟»

موسى مندلسون: سبتمبر 1784م

استوقفت الفيلسوف التنويري والمفكر الديني الألماني موسى مندلسون أمور ثلاثة تهم مسألة التعريف بالتنوير: معناه وأبعاده ومخاطره؛ ففيما يخص معنى "التنوير"، انتهى به المطاف إلى تقرير الحقائق التالية: 

1- ماهية "التنوير": اعلم -إعلام تنبيه لا إعلام تعليم- أن حقيقة "التنوير" أنه معرفة عقلية، وأن وظيفة "التنوير" إنما هي إكساب الإنسان المقدرة على إعمال تفكيره في شؤون الحياة الإنسانية، وأن غاية "التنوير" لا تخرج عن تحقيق غايات الإنسان الأسمى الأربع، وهي: استكشاف الحقيقة، والتعلق بالجمال، والتوق إلى الخير، وفعل الأعمال الصالحات. ذاك هو تحديد مندلسون للتنوير طبيعة ووظيفة وغاية، وذلك على وجه الإجمال لا على وجه التفصيل. 

2- أما فيما تعلق بأبعاد "التنوير" فقد أمكن إجمالها عنده فيما يلي: ثمة مسيس حاجة للإنسان إلى التنوير، وهي حاجة ما كان من شأنها أن تنكر؛ إذ التنوير مطلب إنسي، وهو مطلب جوهري للإنسان بغاية تحقيق إنسيته؛ لكن ههنا حاجة الإنسان -من حيث هو إنسان- إلى التنوير، وحاجة المواطن -من حيث ما هو عضو في المجتمع- إلى الفعل ذاته. وإن تنوير الإنسان لَيتعلق بكنه الإنسان من حيث هو إنسان، أما تنوير المواطن فيتصل بمطالب "الوظيفة" التي يؤديها، و"الوضع الاجتماعي" الذي يشغله. والحال أن هذين الجانبين المتكاملين من التنوير يمكن -في بعض الظروف التاريخية والاجتماعية- أن يبلغا حد الصراع والتناقض، وتلك هي القضية.

3- تلك هي المخاطر التي قد تترتب على "التنوير"؛ إذ يمكن أن يحدث الصراع بين تنوير الإنسان من حيث هو إنسان، وتنويره من حيث هو مواطن: فبعض المعارف الصالحة للإنسان من حيث صفته الأولى [معارف نقدية] قد تكون ضارة به من حيث صفته الثانية [مطلب طاعة قوانين الجماعة]. قال مندلسون: «شقية هي الدولة التي تحتم عليها الظروف أن تعترف بأن حقيقة الإنسان ومصيره فيها باعتباره إنسانا لا ينسجم مع حقيقته ومصيره بحسبانه مواطنا». وإنها لدولة يجد أفرادها أنفسهم بين قرني إحراج: للإنسان غاياتٌ أساسية وثانوية، وهو في حاجة إلى تنوير دائم، فإذا أجبرته الظروف على التخلي عن الأوائل ما عاد إنسانا؛ وإنما تقهقر به الحال إلى دركة الحيوان، هذا وجه للمعضلة، ووجه آخر يتمثل في أنه إذا ما هو أجبرته الظروف على التخلي عن الثواني ما بقي هو بحسب الغاية التي ينشدها؛ أعني ما بقي مخلوقا طيبا ورائعا. وبالتلقاء، بلا غايات الإنسان - بوصفه هذه المرة مواطنا - يختفي دستور الدولة، وبالمثل، بلا غاياته الثانوية لا يبقى الدستور هو هو في بعض الظروف الاستثنائية. 

هذا وقد ختم مندلسون جوابه عن سؤال: "ما معنى التنوير؟" بالتعبير عن مخاوفه من أن يقود تطرف التنوير - بحسب ما سيشهد على ذلك الحال بالفعل بفرنسا أيام الثورة - إلى انهيار الدولة وإلى أفول المجتمع؛ إذ بقدر ما يكون المرقى عظيما يكون المهوى عميقا. 

وبعد، فقد أنشأ الرجل يقول: «كلما ازداد الشيء نبلا وكمالا، زادت بشاعة فساده وتحلله. فالخشب الذي يفسد ليس في بشاعة الوردة التي تفسد، وهذه لا تثير الاشمئزاز بقدر ما تثيره جثة حيوان متعفن، كما أن هذه بدورها ليست بأبشع من جثة إنسان تعرضت للفساد. والأمر كذلك مع الحضارة [الثقافة] والتنوير. فكلما ازدادا نبلا في حالة ازدهارهما، زادت بشاعة تحللهما وفسادهما. إن إساءة استخدام التنوير يضعف الشعور الأخلاقي، ويؤدي إلى التصلب والأنانية والكفر والفوضى. وإساءة استخدام الحضارة [الثقافة] يفضي إلى الترف والنفاق والخرافة والعبودية. وكلما تقدم التنوير جنبا إلى جنب مع التحضير [أو التثقيف]، كانا أفضل وسيلة لوقف الفساد، والثقافة التي تسود في أمة من الأمم نتيجة امتزاج التنوير بالحضارة تجعل هذه الأمة أقل عرضة للفساد». وتلك كلمة مندلسون الختمية في أمر معنى التنوير.

ـ ب ـ

«الإجابة على سؤال: ما هو التنوير؟»

إمانويل كانط: ديسمبر 1784

حقيقة "التنوير" أنه خروج الإنسان من حال وانتقاله إلى حال: أما الحال الأول فهو حال الوصاية أو الحجر، وأما الحال الثاني فهو حال الاستقلال الفكري أو التحرر. فمن شأن التنوير أنه ما به يخرج الإنسان - أو بالأحرى يُخرج نفسه - من وضع التابع لغيره الإِمَّعَة الإِمَّرَة إلى وضع الكائن المستقل المتحرر؛ أي إلى وضع المفكر بتفكير حر لا وصاية عليه ولا حَجْر؛ ذلك أن الأصل في الإنسان أن يكون "مفكر نفسه"، وألاّ يكون الغير مفكرا له بالنيابة. أكثر من هذا، يرى كانط أن من واجب الفرد أن يفكر بنفسه، بل إن هذا الأمر لمن أوجب الواجبات وأوكدها؛ إذ من شأن فعل "التفكير" ألا يقبل التصريف إلا بضمير المتكلم: "أنا أفكر"، وليس يوجد تفكير بالنيابة أو بالوكالة أو بالبدل والعوض: "الغير يفكر لي"، أو "السوى يفكر بدلا مني أو عني". 

وبالجملة، إن شعار التنوير الذي يلخص حقيقته هو: «فلتكن لديك الشجاعة لاستخدام عقلك»، أو قل: «تجرأ على أن تفكر [بنفسك] Sapere Aude». والحال أن هذا الشعار - الذي وجد في رسائل الشاعر اللاتيني هوراسيوس - كان رائجا على عهد كانط كل الرواج، وذلك حتى أنه صار مسكوكا على بعض العملات والميداليات والمنقوشات والمنحوتات، واتخذ ترويسة للعديد من المطبوعات، بل وجعل شعارا لإحدى أهم الجمعيات التنويرية الألمانية (جمعية محبي الحقيقة Aléthophiles المتأثرة بفلسفة وولف أستاذ كانط). وقد ترجم هذا الشعار بمعان ذوات فروق دقيقة شأن: «فلتكن لديك الشجاعة على أن تكون [عالما] فاضلا»(ترجمة فقيه اللغة والمترجم الفرنسي أندريه داسييهـ)، أو «اجرؤ على أن تعرف»(ترجمة العلامة الإيطالي دافليني)، أو «ثق بعقلك أكثر مِمَّا تثق بالكتب»(ترجمة المفكر الإنجليزي ريتشارد بنتلي)...وكلها ترجمات تمت في القرن الثامن عشر، فأخذ كانط روحها وأعملها في توليد معنى جديد اتخذه هو شعارا لعصر التنوير في مجمله: "لتكن لديك الشجاعة على إعمال عقلك". 

لكن، دعنا نتساءل بداية: ما الذي يدفع المرء إلى تقديم استقالته من مجال الفكر والقبول بأن يفكر الغير -كائنا من كان- بالبدل عنه والعوض؟ أَلسبب داخلي يكون هذا الأمر يا ترى أم لقهر خارجي؟ يستبعد كانط السبب القهري الخارجي، وحتى إن هو حدث له أن استحضره فإنه لا يفعل ذلك إلا بوصف هذا العامل عاملا مساعدا ومشجعا لا أكثر ولا أقل. أما الثقل كله والمسؤولية أكثرها فيتحملها الفرد نفسه؛ إذ المسؤول عن غياب الشجاعة على إعمال الفكر هو المعني بالأمر نفسه؛ فأمر القصور إذن أنه قصور ذاتي. والسبب في هذا القصور الذاتي عاملان ذاتيان جوانيان صرفان: هما الكسل والجبن؛ فمن عوائد المرء أن يكسل عن النظر، وأن يجبن عن إعمال الفكر. والحال أنه إذا ما نحن أمعنا النظر في هذين العاملين وجدناهما يلعبان دورا مثنويا: فهما -من جهة أولى- يمنعان الفرد المعني بالأمر من أن ينظر في أمره ويتدبر في شأنه، كما يشجعان الآخرين -من جهة أخرى- على الحجر عليه بالتفكير بالبدل منه والعوض. وإن من شأن لسان حال الفرد الموصى عليه أن يقول: «إن الوصاية عَليَّ لمريحة! وما دمت أجد الكتاب الذي يفكر لي، والراعي الروحي الذي يغني ضميره عن ضميري، والطبيب الذي يقرر لي نوع الطعام الصحي الذي أتناوله، فما حاجتي لأن أجهد نفسي؟ ليست هناك ضرورة تدعوني للتفكير، ما دمت أقدر على دفع الثمن، وسوف يتكفل غيري بتحمل مشقة هذه المهمة الثقيلة». ذاك هو حال أغلب الناس وأكثريتهم. والحال أنه لا موصى عليه من غير وصي، وإنما أمر هذا الوصي أن يحيا بتنمية الخوف من إعمال العقل لدى الموصى عليه، وكأن لسان حاله يقول إذ يخاطب المذعور من التفكير: "ما أهول التفرد بالفكر، وما أخطر إعمال النظر بالمفرد! يكفيك أن تلتزم بالتعليمات التزاما، وأن تعمل بالقواعد بالتزام". ثم ما يفتأ يزايد فيخاطب جمهور المحجر عليهم - وما أكثره - «لا تفكروا! فالضابط يقول: لا تفكروا، بل تدربوا! والخازن يقول: لا تفكروا، بل ادفعوا! ورجل الدين يقول: لا تفكروا، بل آمنوا». وليس يقف الأمر بالموصى عليهم عند حد العجز عن التفكير؛ بل يتعداه إلى التملي بهذا العجز والاستنامة إليه واستحلائه الاستحلاء كله، بله التطبع به والتعشق له. فهو عجز إرادي، وتوقف عن التفكير مشيئي. وما تفتأ العادة بعدم إعمال الفكر تصير عادة منشئية، ومن شأن العادة المنشئية أن تصير طبيعة ثانية. 

هو أصل الداء عند كانط، أما الدواء عنده فهو أن يقوم الجمهور - الرأي العام - بتنوير نفسه، والمدخل إلى هذا الفعل أمر واحد ووحيد: بث حرية إعمال الفكر في نفوس الناس. الحرية إذن وقبل كل شيء! ذاك هو المطلب؛ إنما أمر الحرية أنها هي ما به يقوم التنوير ويتمكن من الأنفس، والمقصود بهذه الحرية -عند كانط- حرية الكلام وحق إبداء الرأي الحر قولا وكتابة. تلك هي الحرية التي يسميها فيلسوف كونجسبرج "حرية الاستخدام العلني للعقل"؛ بما يعنيه من حرية ممارسة الفكر ممارسة صريحة في كل ما من شأنه أن يمس الصالح العام، وبما يفيده من معنى الحرية الأكاديمية أو حرية العلماء في استعمال عقولهم وعرض آرائهم على قرائهم: «أقصد باستعمال الإنسان لعقله الخاص ذلك النوع الذي يمارسه العالم قِبَلَ جمهور قرائه»، وهي أخف الحريات ضررا. ويقترن مفهوم "الاستخدام العلني للعقل" بمفهوم آخر استحدثه كانط استحداثا؛ وهو مفهوم "الاستخدام الخاص للعقل"، ذاك الاستخدام الذي يقتصر فيه العقل على مجال الوظيفة أو المهنة: «وأما الاستعمال الخاص للعقل فأعني به حق هذا العالِم في استعماله [أي استعمال العقل] في منصب يشغله أو وظيفة عهد إليه القيام بها في المجتمع المدني»؛ إذ يجد الضابط ودافع الضرائب56ف ورجل الدين -مثلا- أنفسهم في وضع إشكالي: أيسمح لهم -بصفتهم العلمية -أن يوجهوا النقد كما شاءوا إلى المؤسسات التي يشتغلون في إطارها؟ أم يفرض عليهم طاعة الأوامر حتى لا يضطرب نظام الدولة وأمنها واستقرارها؟ والذي عند كانط أن «الاستخدام العلني العام للعقل ينبغي أن يبقى حرا في كل الأوقات، وهو وحده القادر على نشر التنوير بين الناس، أما استعمال العقل استعمالا خاصا فيجوز في أحيان كثيرة أن يقيد تقييدا شديدا، دون أن يؤدي هذا بالضرورة إلى إعاقة تقدم التنوير بصورة خطيرة». فإذن، وجب التمييز في إعمال الفرد عقله بحسب ما ينتسب إليه: إِنْ بوصفه موظفا، فلا يجوز له الانتقاد العلني وشق عصا الطاعة، وإِنْ بوصفه عالما، فإنه يجوز له النظر في مثل هذه الأمور التي يجد فيها شططا. 

وأخيرا كتب كانط منبها ومتنبئا: «لو سأل سائل: هل نحيا اليوم في عصر متنور؟ لكان الجواب: لا، بل في عصر التنوير. ولو قسنا الأمور بالأوضاع الراهنة في مجموعها لقلنا: إن الناس ما يزالون بعيدين عن استخدام عقولهم المستقلة في أمور الدين استخداما صالحا واثقا دون توجيه من غيرهم، وإنهم ليسوا على استعداد لذلك ولا هُيئوا للقيام بهذه المهمة. ومع ذلك يمكن القول بأن هنالك من الدلائل ما يشير إلى أن المجال قد فتح أمامهم للسعي نحو تحقيق هذا الهدف بحريتهم، وأن العقبات التي تقف في وجه التنوير العام أو في وجه الخروج من حالة القصور التي اقترفوها في حق أنفسهم قد بدأت تقل بالتدريج»، وتلك كلمة كانط الأخيرة. 

ـ ج ـ

«ما الذي يعنيه التنوير؟»

كارل فريدريش باهردت: 1787

أكَّد المفكر والمربي الألماني كارل فريدريش باهردت على أن أغلى قيمة يمتلكها الإنسان إنما هي قيمة "الحرية"، وأن أغلى أنواع الحرية - إذا ما تم بين أضرب الحرية التفاضل - إنما هي "حرية الفكر". والحال أن حرية التفكير وإبداء الحكم هي المصدر الحقيقي الوحيد لكل الأنوار الإنسانية، وأن هذه الأنوار هي أصل كل سعادة بشرية؛ إذ لا سعادة من غير أنوار، وكلما ازداد تنور الإنسان ازدادت فرص أن يصير إنسانا سعيدا. 

وتساءل باهردت تساؤلات ثلاثة: ترى ما الذي يعنيه "التنوير"؟ وما الذي يفيده "الإنسان المتنور"؟ وما الذي يقصد بدلالة "الأزمنة المتنورة"؟ ويجيب بوفق ما يلي: 

أولا؛ على وجه السلب، لا يعني "التنوير" حجم المعارف التي تختزنها ذاكرة الفرد؛ إذ كم من العقول حشيت بالمعارف العديدة، وما أفادها هذا في أن تحترس من التطرف والجنون والتعصب، ومن ثمة ما كان "الإنسان المتنور" هو من امتلأ عقله بحفظ المذاهب والأفكار، ثم هو مع ذلك ما اهتدى إلى فكره بإعمال عقله بل بالاتكال على عقل سواه. 

ويتحدد "التنوير" -هذه المرة على وجه الإيجاب- بما يلي: أن يتعلم الإنسان أن يفكر بنفسه، وأن يجتهد في أن يُكوّن آراءه عن الأشياء بناء على تجربته هو لا على تجارب الغير والسوى، وأن ينظر إلى الأمور بنفسه ويحكم عليها بوفق قناعته العقلية، لا أن يكتفي بترديد أحكام الآخرين. كل هذا بلا مواربة للغير أو مجاملة أو مداهنة أو مصانعة، وبلا رضوخ لأية سلطة أو تقليد غير سلطة العقل السليم، وبلا احتكام إلى التحكم والميل والهوى والتعصب والنزوع. 

وقد ميز باهردت بين ما تتوقف عليه سعادة الفرد من المعارف والآراء وما لا تتوقف عليه، فلئن رضي المرء بأمر لا تتوقف عليه سعادته -مثل فكرة علمية تبين فيما بعد أنها خاطئة- فإنه ليس الأمر ذاته لو أنه اعتنق فكرة تدعوه إلى أمور يتأباها عقله ويمجها ضميره، آنها ليس له إلا أن يصغي إلى نداء العقل في دواخله وثناياه وبواطنه. 

فقد تحصل بهذا أن حد "التنوير" إنما هو اقتدار المرء على أن يفكر من تلقاء ذاته. 

ثانيا؛ بالتبع تحدد مفهوم "الإنسان المتنور" على أنه ذاك الإنسان الذي اهتدى إلى أفكاره بمحض إعماله عقله إعمالا شخصيا حرا، ولا عبرة في هذا الباب بحجم المعارف وكثرتها، وذلك حتى لئن كانت معارف هذا الشخص بصورة واضحة كلها مختصرة مقتضبة؛ إذ سبق لمونتيني أن قال: أحسن العقول عقل انبنى بإتقان، لا عقل حشي بالمعارف حشوا.

ثالثا؛ وبالمثل، فإن "الأزمنة المتنورة" هي تلك الأزمنة التي يصير فيها الفرد يفكر بلا إكراه أو اعتماد على تقليد أو محاباة تتغيا الحفاظ على مكانة أو وظيفة اجتماعية، أو لجوء إلى سلطة يستظل بظلها ويستفاء بفيئها كائنة ما كانت، وما من الزمان انمحت فيه هذه المعايير وانطمست إلا وعُدّ زمن ظلمات وهمجية. 

مياسم فكر الأنوار الجوهرية:

الحال أنه ما كان مفكرو الأنوار وعلماؤه كلهم شيعة واحدة، بل كانوا متباينين: منهم من اعتدل، ومنهم من اشتط. وهكذا، فلئن اتفقت كلمتهم على تقويض دعائم المجتمع الأرستقراطي المنحل وتحطيم الروحانيات الزائفة والخرافات الجاهلة التي كان يباركها رجال الكهنوت، فإنهم تفرقوا فريقين: فريق اعتدل في نقده، وفريق تطرف في وضع أسس الفلسفة المادية؛ من أمثال لامتري وهلفتيوس ودولباخ. هذا وقد اتسم فكر الأنوار بمياسم عدة تكاد تستعصي على الحصر؛ بيد أن أبينها ثلاثة: 

أولا؛ قدم فكر التنوير نفسه -سلبا- بوصفه محاربة الخرافة، مطلق الخرافة، أنى كان مصدر هذه الخرافة: القدماء، الأديان، السلطة، التقاليد...والحال أن الأنوار ما حاربت الإيمان بقدر ما حاربت الإيمان الأعمى، ولا هي واجهت الاعتقاد بقدر ما واجهت ما أسمته "الشعوذة"، وقد اعتبرت أن الخطر على الدين ما تمثل في الإلحاد وإنما في الشعوذة بوصفها الجهل إذ يتصور نفسه علما وحقيقة راسخة، أو قل: "الجهل المتعالم". 

وبالضد، قدم عصر الأنوار نفسه -هذه المرة تقديما إيجابا- وذلك بوسمه عصر الدعوة إلى إعمال الفكر والعقل. وإذ صارعت فلسفة الأنوار ضد أعدائها الثلاثة: الخرافة والتقليد والسلطة، فإنها ما اعتقدت أنها لم تكن لتسهم في تاريخ البشرية إلا بعمل السلب والهدم، وإنما رامت - وقد أعملت الهدم والسلب - أن تنشئ أسسا جديدة؛ إذ ما تصور في ذهن فلسفة الأنوار أن فعلها ما كان إلا فعل السلب ليس إلا؛ وإنما هي عدت نفسها فعل إعادة بناء ما تهدم(6): العقل وُجد على الدوام إنما تمت التعمية عليه، والطبيعة الإنسانية قامت دوما إلا أنه تم إفسادها، والإنسانية تبدت دائما؛ بيد أنه تم التشويش عليها، فلنعمل على إعادة بناء ما دمر. ذاك هو منطق المتنورين.

ثانيا؛ يرى فكر الأنوار أن لا مخرج من الجهالة سوى بنشر المعرفة، وهذا هو معنى "التنوير" الحرفي؛ إذ آمن هؤلاء الأنواريون بفكرة إشاعة المعرفة؛ أي اعتقدوا في الوظيفة الاجتماعية للمعرفة، وذلك حتى يتحقق الانتصار التدريجي للعقل على الهوى والتقليد، والمعرفة على الجهالة، عاقدين بذلك الأمل على انتشار المعرفة في خلق رأي عام يُرغم الحكومات على تغيير روح قوانينها ونظام إدارتها، ويُلجئ رجال الدين إلى رفع أيديهم عن التحكم في مصائر الناس بإشاعة الخرافة. وقد عمل أهل الأنوار لذلك على إنشاء الصالونات الأدبية والمنتديات والجمعيات التي شأنها أن تتكفل بإشاعة روح العلم بين الناس. 

ثالثا؛ اتسم فكر الأنوار -أثناء نظره في أمر "الوجود الاجتماعي"- بضرب من الراديكالية؛ إذ طرح مسألة "الوجود الاجتماعي" طرحا: ما الغاية من وجود المجتمع؟ وإذ اتفق كل فلاسفة الأنوار على ضرورة المجتمع، استؤنف آنها السؤال: وهل نحافظ على المجتمع بما هو وكما هو؟ وكان الجواب بالسلب؛ إذ سعى فلاسفة الأنوار إلى تغيير المجتمع القائم إما بالثورة أو بالإصلاح. ثم إنهم تنبهوا إلى ضرورة عدم الفصل بين المسألة الاجتماعية والمسألة السياسية، فطرحوا سؤال السياسة بامتياز: بأي حق يحكمنا الحاكم؟ وكان أن اهتدوا بذلك إلى طرح مسألة المسائل في السياسة؛ نعني مسألة "المشروعية"، وكان أن أعادوا بناء المجتمع والسياسة البشريين على ضوء من فكرة "التعاقد الاجتماعي". 

تلك هي معارف فكر الأنوار ومعالمه التي يمكن أن يستعرف بها وأن يستعلم منها. هذا ولقد تناول فكر الأنوار العديد من الموضوعات التي ينبو هذا الحيز عن استعراضها، ولهذا سوف نختم هذه المقالة بالحديث عن أهمها مرجئين القول في أخرى إلى موعد آخر. 

موضوعات فكر الأنوار

ـ 1 ـ

موضوعة "الإنسان"

لئن كان الفكر الديني المتقدم على فكر الأنوار مأخوذا بموضوع "الله" أيما أخذ حد أن صار هو "لاهوتا"؛ فإن فكر الأنوار -وعلى الضد منه- أخذ بكل الجد بموضوع "الإنسان، حتى صار هو "ناسوتا"؛ أي ضربا من الأنتربولوجيا. هذا وقد كتب الفيلسوف الفرنسي دنيس ديدرو يقول: «إذا ما أقصي الإنسان أو الكائن المفكر المتأمل من على ظهر البسيطة، فإن منظر الطبيعة المؤثر السامي لن يصير إلا محزنا وأبكم. فيصمت آنها الكون ويستولي عليه السكوت والضجر، وما من شيء إلا ويستحيل إلى عزلة شاملة، فتصير إثرها الظواهر هملى نسية منسية؛ ذلك أن وجود الإنسان هو الذي يجعل هذه الكائنات ذات أهمية، فلماذا لا نجعله المركز الذي تتركز عليه شتى النواحي...إن الإنسان هو الكلمة الوحيدة التي علينا أن نبدأ منها»(7)، ولقد عرّف ديدرو الإنسان تعريف إيجابيا في "دائرة المعارف"، فكتب يقول: «الإنسان اسم مذكر، وهو كائن حساس متأمل مفكر، يمشي بحرية على سطح الأرض، ويبدو أنه على رأس جميع الكائنات الحية الأخر التي يسود عليها، وهو الذي شأنه أن يحيا في جماعة، والذي اخترع العلوم والفنون، والذي لديه مفهوم عن الخير والشر خاص به، والذي اتخذ لذاته السيادة، واصطنع لنفسه قوانين، وهلم جرا...». 

والعجب كل العجب أن هذا التركيز على الإنسان أتى في حقبة من الزمن شهدت على زوال نظام بطليموس الفلكي الذي كان يجعل من الإنسان من يسكن مركز الكون وذلك ما دام هو يسكن في الأرض! وإذ اكتشف الإنسان أنه ما عاد يسكن في مركز الكون؛ وإنما في كوكب ضئيل إذا ما هو قورن بغيره، صار من المتعذر آنها تبرير أهميته في الكون، وانحلت مكانته التي غدت مساوية لحشرة على كوم من وحل، كما تصوره فولتير في كتابه "ميكروميجاس"! غير أن إنسان الأنوار، وقد علم هذا الأمر، لم يأبه له. أَلاَ ما أوسع حيلته! قاتله الله ما أشده مَخِيلة! فبعد أن هو أُخرج من بيته -أي من مركز الكون- اكتشف طريقة جديدة لاستعادة أهمية ذاته، فكان أن فسر هو مكانته الجديدة المتواضعة على أنها تحرر من عبء كوني. ولما اكتشف نفسه يحيا في جزيرة تافهة تطفو على سطح الفضاء الهائل، انتهى إلى الاعتقاد بأنه سيد مصيره، فبوسعه الآن الخلاص من المكونات العتيقة لعقله شأن التعلل بالغائية وبالخطيئة الأزلية وغيرها، وذلك بعد أن غدا قادرا على شق طريقه بنفسه ولوحده(8). 

ذاك هو الإنسان الذي احتفت به فلسفة الأنوار، وهو الذي كتب عنه ليسنج سنة 1753 في معرض تعليقه على كتاب فولتير "المقال في العوائد" يقول: «إن أسمى ما يهتم به الإنسان هو الإنسان نفسه». كما ذكره هردر فقال: الإنسان هو ما ليس كل حيوان بإمكانه أن يكون؛ أعني أنه "ابن الأسياد" و"ملك الأرض". وإن من منائحه الكبرى التي بفضلها بَزَّ الحيوانَ وفاقه منيحتين جليلتين لا ثمن لهما: "العقل" و"الحرية"؛ فما الحيوان إلا "عبد منحني"، أما الإنسان فإنه "الأول من الخليقة من تحرر". 

ومن هو إنسان الأنوار؟ هو ذاك الإنسان الذي تخلى -بلا تحفظ يذكر- عن كل مدد من الغيب، وهو الذي شق طريقه بنفسه وبقدراته الذاتية نحو اكتشاف الحقيقة، وهو الذي آمن في قرارة نفسه أنه ما كان شأن الحقيقة أن توهب إليه وهْبًا، وإنما الشأن فيها أن تنتزع الانتزاع، وذلك بالتعويل على قوى الإنسان وقواه وحدها(9). 

ـ 2 ـ

موضوعة "العقل"

يتحدد الإنسان في الأنوار -أول ما يتحدد- بالعقل، ولعل عصر الأنوار هو العصر الذي فاخر بكونه "عصر العقل"، والذي دعا فلاسفته الدعاوى المتكررة إلى "العودة إلى العقل"، و"الائتمار بالعقل"، و"إعمال العقل"، و"الاحتكام إلى العقل"... وذلك بحيث ناضلت فلسفة الأنوار في كل المجالات ضد سلط العادة والتقليد والسلطة. فعصر الأنوار هو العصر الذي تم فيه اكتشاف استقلال العقل وفرضه في كافة مناحي الحياة، وذلك بعد أن ظل لعهود طوال يُنظر إليه بوصفه "خادم الوحي" و"عبد اللاهوت"، بل -وكما قال مارتن لوثر- "بغي الشيطان". وما زال عصر الأنوار يُعنى بأمر العقل ويمدحه حتى تسمى هو باسمه، فقيل له: "عصر العقل". لقد شكل العقل لمختلف اهتمامات مفكري ذاك العصر "الملتقى" و"المجمع" و"الناظم" لشتيت أفكارهم المتنوعة؛ بل إنه «عبر بقوة عن كل رغبات العصر، وأفصح عن مجهوداته كلها، وأبان عما رامه وما حققه»(10). وقد مثل فولتير الإنسان إذ لا يُعمل عقله بالأعمى؛ إذ يراد به أن يحكم على الألوان، وأضاف قائلا: إنه لمن حسن عناية الطبيعة بنا أنها زودتنا بالعقل (بوصفه المقدرة على التحليل)، الذي هو بمثابة العُكَّازة للضرير، يساعده على فهم العالم المحيط به(11). وعقب على هذا في مكان آخر: صرنا نحيا في عصر صار العقل فيه يقتحم كل مجالات الحياة ويتقدمها: في قصور الكبار وفي متاجر البورجوازيين وصغار التجار. ولا مجال لإيقاف هذا التقدم؛ إذ من شأن ثمار العقل أن تنضج وتُؤتي أكلها؛ ذلك أنه من نواميس عالم الفكر أن من شأن العقل ألا يوجد وألا يُحفظ إلا إذا هو تَخَلَّق كل يوم وتَوَلَّدَ. 

هذا وقد قامت حركة الأنوار على أساس من فكرة تصحيح شوائبه واستبدالها بحقائق. رمز إلى العمل الأول كتاب بايل "القاموس التاريخي والنقدي"، ورمز إلى الثاني كتاب "دائرة المعارف". ولقد أعمل مفكرو الأنوار النظر في "العقل" وأعادوا وراجعوا، فاستقرت بهم أنظارهم -في الأغلب- على أن للعقل البشري سمات: 

ومن سمات العقل الأولى أنه "كوني"؛ أي أنه واحد ومتماثل لدى جميع بني البشر، لدى كل إنسان مفكر، ولدى كل أمة أنى كانت، وفي كل حقبة زمنية أين تجلت، وفي كل ثقافة مهما كانت أصولها وفصولها، بلا مدافعة ولا استثناء. فكنه العقل يكمن في كونه ثابتا واحدا راسخا خالدا متعاليا عن الزمان والمكان والأحوال. أما الاختلاف المستفاد من مشاهدة أحوال الأمم فعائد إلى تفاوت استخدام هذه المادة الخام، كل بحسب ظروفه. 

ومن سمات العقل الثانية أنه "كاف" بذاته لا يحتاج إلى تكملة أو هداية من غيره؛ إذ من شأن العقل أن يكتفي بنفسه، ومن شأن من يملكه ويُعمله بلا تسرع ألا ينخدع البتة. وما كان هو بحاجة إلى سلطة فوقه؛ بل إن السلطة ربة الخطأ والشبهة، وكذا التقاليد والقدماء...وما من خطأ إلا وهو إرث من التصديق في عمى، وعدم إعمال التجريب...

ثالثا؛ أن سمتي "الكونية" و"الكفاية" لا تفيدان أن العقل هبة نهائية للإنسان ولدت كاملة مكتملة؛ إنما هو "كسب" أكثر منه وهب، فهو مكسوب لا موهوب. ولئن كان فلاسفة القرن السابع عشر (نخص بالذكر ههنا ديكارت واسبينوزا ومالبرنش ولايبنتز) قد اعتبروا العقل "خزان الأفكار الفطرية" التي يلهمها الله الإنسان؛ فإن فلاسفة القرن الذي يليه أدركوا العقل بمعنى أشد تباينا وأكثر تواضعا؛ إذ ما عاد العقل جماع أفكار فطرية متقدمة عن كل تجربة، شأنه أن يعبر عن كنه الأشياء المطلق، وإنما صار العقل يعرف بوصفه استكسابا أكثر مِمَّا هو استوهاب. ما عاد -بحسب استعارة كاسيرر- الخزينة العامة حيث كنزت الحقيقة كنزا تنتظر المنقب عنها، وإنما صار قوة أصيلة وأولية، لا تقدم لنا الحقائق جاهزة؛ وإنما تستحثنا على استكشافها والاستئمان عليها, وما عاد العقل "مضمونا" أو "محتوى" من المعارف والمبادئ والحقائق؛ وإنما غدا "طاقة" لقوة لا يمكن أن تدرك إلا في أفعالها وآثارها. 

رابعا؛ صارت وظيفة العقل تتمثل في جهدين أساسيين: "الحل" و"العقد"؛ فهو "يحل" - أو قل: "يحلّل" - الوقائع والمعطيات والأفكار والتقاليد - سواء أكانت علمية أم دينية - من "تراكيب" إلى "بسائط"، لا يعرف السكينة ولا الطمأنينة ولا الراحة، ولا يهدأ له بال إلا بتفكيك "الحقائق الجاهزة"، فإذا به إذ "حلّ" "يعقد"؛ أي يعيد بناء ما حله نشأة جديدة صارمة دقيقة منطقية. هذا هو ما كان يميز العقل الأنواري: كلا، ما كان العقل "كائنا"؛ وإنما هو "فاعل"؛ إنما العقل "الفعل" لا "الكينونة"، فهو نشاط لا كيان. 

خامسا؛ ما عادت مهمة العقل مقصورة على المهام التي تولاها في العصور المتقدمة؛ أي إعمال الفكر في مجال المعرفة - "الحقيقة الطبيعية" (الفيزيائية) و"الحقيقة النفسية" (السيكولوجية) - وإنما - وهذا جديد العقل الأنواري الذي لا يكاد يسبقه إليه أحد - صار إلى إعمال النظر في مجال "الحقيقة الاجتماعية"؛ أي التفكر في شأن "الدولة" و"المجتمع"، وذلك بالسعي إلى "تفكيك" كيانهما - نظريا - وإعادة بنائه البناء المستأنف الجديد؛ إذ هدفت هذه الفلسفة إلى تحويل دولة القسر إلى دولة العقل، وتحويل المجتمع الذي كان نتيجة للضرورة العمياء إلى المجتمع الذي هو نتاج الحرية؛ أي بالجملة الواحدة، تأسيس عالم الإرادة [العاقلة]، ودولة الإرادة [العامة]، ومجتمع الإرادة [الحرة]. فمن شأن الإنسان أنه لا يولد في "فراغ"؛ وإنما يولد في "مجتمع" و"دولة"، وهذا واقع ما كان هو مسؤولا عنه، فما شيده ولا أقامه ولا نظمه ولا نضده؛ وإنما وجده هكذا متقدما على وجوده، فاصطدم به بأسوأ اصطدام يكون؛ وذلك لأنه صار كل ما هو مطلوب من الإنسان أن يمتثل لهذه المنظومة امتثالا. بيد أن للاستكانة للأمور حدودا تقف عندها؛ فالواجب أن يعمل العاقل عقله في فهم هذا الأخطبوط الذي يحكمه. ها هو ذا يُخضع المجتمع إلى محكمة العقل، يسائله حول مشروعيته وحقيقته وصلاحيته. ها هو ذا منهج الحل يبدأ في العمل: ما الدولة - بوصفها إرادة عامة - إلا اجماع إرادات فردية: إرادتي وإرادتك. وما كانت الدولة ولا المجتمع "معطيين"؛ وإنما لزم البحث عن أصولهما المنشئية؛ إنما هما جسم تسري عليه جميع أدوات تحليل الجسم الطبيعي، ومن ثمة لزم أن يخضع لمبضع العقل وأن يأتمر بإمرته. ههنا فرصة أيضا لإعمال منهجية "الحل والعقد" من جديد، وهكذا يفكك كوندياك ومونتسكيو وروسو المجتمع والدولة ويعيدان بناءهما من جديد: بحسب كوندياك، شأن المجتمع أنه "جسم صناعي" مؤلف من "أجزاء" متآثرة، بحيث يؤثر البعض في البعض، قائم على التوازن. وفي اعتبار مونتسكيو إنما المجتمع "جملة قوى" ولا وازن بينها إلا بالتَّحَاد: كل قوة تَحُدُّ الأخرى (القوة القضائية تحد القوة التنفيذية مثلا). وفي نظر روسو "تنحل" الدولة -بوصفها إرادة عامة- إلى إرادات فردية، وكأنها جماع عملية حسابية بسيطة.

ولهذا العقل الأنواري مضادات، وأهم مضاداته ما اعتاد هو على توسيمه بوسم "الجهالة"، وقد عبر عن هذه الفكرة بييترو فيري Pietro Veri خير تعبير في مقال له بإحدى المجلات الإيطالية سنة 1764 سماه "معبد الجهالة"، وجاء فيه على وجه التخصيص: تقطن الجهالة قصرا متهدما هندسته قوطية، وعلى بابه الأكبر نُحِت فم ضخم يتثاءب، وقد ملأ ذلك المبنى الواسع جمهور من المترددين والثرثارين والأغبياء ليس لهم علم بما تعنيه الجهالة ولا هم يعرفون أين يقيمون، وكانت الحوائط مغطاة برسوم مفزعة ترمز إلى نتاج عصور من سيادة الجهالة الجهلاء كالغرائق والحروب المدنية والموت والإقحال، وفوق منصة عالية وقفت امرأة عجوز عجفاء، وطفقت تردد في كل لحظة، وبلهجة متعاظمة قولها: «أيها الشباب، أيها الشباب، استمعوا إلي، لا تَكِلوا أموركم إلى أنفسكم؛ لأن ما تشعرون به ليس سوى أوهام، ولتكن عندكم ثقة في القدماء، وآمنوا بأن كل ما فعلوه كان أمرا حسنا». وفي الوقت ذاته يهجم شيخ هرم ويصرخ قائلا: «أيها الشباب، أيها الشباب، إن العقل خرافة، وإذا كنتم تريدون أن تستبينوا الحق من الباطل فاتبعوا آراء الجموع، أيها الشباب، إن العقل خرافة». ذاك هو ما تمردت الأنوار ضده. وللخريف دوما نفس الربيع ليهزمه. 

ـ3 ـ

موضوعة "الحرية"

يتحدد الإنسان في فكر الأنوار -ثاني ما يتحدد- بوصفه "حرية". مفتونة هي فلسفة الأنوار بفكرة "الحرية" حد الانتشاء، وذلك حتى أن ديدرو أنشأ في رسالة إلى الأميرة داشوف (3 أبريل 1771) يقول: «إن لكل عصر روحه التي تميزه، والبادي أن روح عصرنا هي روح الحرية». والظاهر أنه ما وجد عصر كثر فيه القول بالحرية والتغني بها، وملاحظة غيابها بالفعل وتمني حضورها كل التمني، قَدْرَ عصر الأنوار. بل إن يوطوبيا الحرية صارت هي القاسم المشترك بين فلاسفة ذلك العصر، هذا ولقد وضع هؤلاء الفلاسفة مرقاة للحرية: أعظم الحريات منزلة حرية الفكر أو الضمير أو الاعتقاد؛ ومبناها على أن يكون المرء حرا في أن يفكر تبعا لعقله، وأن يعبر عن فكره بالكلام والكتابة، وحرا في أن يختار ديانته تبعا لضميره، سواء أكانت الكاثوليكية أم البروتستانتية أم البوذية أم الإسلام إذا أراد ذلك. تليها تراتبية حرية المرء في أن يكون مستقلا في حركاته، فيمكث في بلده أو يجتاز حدودها دونما عائق أو مانع. ثم أن تكون ثمة حرية الملاحة والتجارة والصناعة. والحال أن هذه الضروب من الحرية المرجوة تأسست وانتظمت في صورة واحدة، هي صورة "الدولة الحرة". على أن مفكري الأنوار أقروا بأن واقع بلدانهم، حيث يسود "الاستبداد المستنير" - "المستبد المتنور" - أفضل من واقع بلدان الشرق حيث أفاضوا الحديث عما أسموه "الاستبداد الشرقي"، والذي يتحول فيه الرعايا إلى عبيد للمستبد الشرقي بأسوأ عبودية تكون. ولقد كان مفكرو الأنوار يستطيعون أن يقولوا كل السوء عن الاستبداد الآسيوي دون أن يعرضوا أنفسهم لأي خطر - رقابة، منع، سجن، نفي - فلم يكونوا يرون في هذا الاستبداد المنبوذ شرفا ولا عظمة ولا مجدا، ولم يكونوا يجدون لتفسيره من سبب، اللهم إلا الخوف الذي رسخ في أذهان الرعايا، فاستكانوا إليه واستناموا. ولعل صورة "الاستبداد الشرقي" هذه إحدى تركات فلسفة الأنوار التي ورثها الفكر السياسي اللاحق. 

وما فتئ مفكرو الأنوار يسوقون الحجج تعقب الحجج على "حرية الإنسان"، حتى أنشؤوا هم ما يمكن تسميته "لاهوت الحرية"، قالوا: إننا أحرار؛ لأن الإله قد ترك لنا الاختيار بين الطريقين الذين ينتهي أحدهما إلى النجاة والآخر إلى الهلكة، وإننا أحرار لأن الموجود الأسمى لا يمكن أن يكون قد صنع منا دمى يجتذب خيوطها، وإننا أحرار إذ أننا لو لم نكن كذلك لما كانت هناك أية حكومة ممكنة، ولصارت الآراء والتعليمات والأوامر والعقوبات والمثوبات غير مفيدة، بل لكانت موازية لوعظ رمانة لإقناعها أن تستحيل برتقالة، ولا يمكن ولن يمكن. وما دامت التجربة تثبت لنا أنه من الممكن إصلاح الناس، فلنستنتج أننا لسنا آلات إنما نحن أحرار. حقا إن أفكارنا محدودة بأحاسيسنا، ولكن أفعالنا ليست محدودة. وإذن "الحرية" تُعرَّف بأنها المقدرة على الفعل أو على عدم الفعل تبعا للتوجيهات التي تشير بها علينا أفكارنا. وإننا أحرار، ولو لم نكن كذلك لمر كل شيء كما لو كنا أحرارا. فلنعتقد إذن أننا أحرار. 

والحال أن العديد من مفكري الأنوار وجدوا أن الإنسان حر بالطبيعة. قال ديدرو: «إن ابن الطبيعة [=الإنسان] يمقت العبودية، ولما هو كان عدوا لدودا لكل سلطة، كان من شأنه أن يسخط على النير. وإن الإجبار ليهينه، وإن الحرية لهي أمنيته، وإن صيحته لهي الحرية. وفي إغضائه عن روابط المجتمع يطالب سرا بإقطاعيته القديمة [=حريته]». وأضاف هردر: إن الإنسان خلق من أجل أن يكون حرا، فهو المخلوق الحر بامتياز. ودليل حريته أنه مالك ميزان التمييز بين الخير والشر والحق والباطل، وأن من أوجب واجباته أن يختار بينهما، ومن شأن الخيرة أن تكون حجة على الحرية. ولئن حق أن هذه الهبة التي وُهبها الإنسان من بين المخلوقات دون سواه - أعني هبة "الحرية" - قد يكون فيها بعض الخطر. إذ يمكن للإنسان شيئا فشيئا ومع مرور الأيام أن يتعلم أن يحب القيود - ومن ثمة قد ينحط إلى درك أسفل من درك الحيوان - فإنه يحق القول -مع ذلك-: إن الإنسان أوتي المقدرة على أن يختار، وذلك حتى لئن اختار الأمر الأسوأ. بيد أن وجود صفوة من الناس اختارت الأمر الأَخْيَر والأفضل والأهدى لينهض دليلا - وأيما دليل، ونعم الدليل هو - على حرية الإنسان؛ بل على أنه مخلوق من أجل الحرية ومسخر لها(12). 

على أن بعض فلاسفة الأنوار تجنبوا النقاشات النظرية حول مسألة "الحرية"، بما كان يجعل منها مفهوما مجردا، فمالوا إلى الاعتبار العملي، لا سيما منه الحرية السياسية. هذا فولتير -مثلا- رأى أن ليس المقصود بناء مفهوم مجرد عن "الحرية"؛ وإنما بيان فائدتها العملية في حياة المجتمع، وذلك باعتبار أن أمر الحرية أمر عملي، بل إنه للأمر العملي بامتياز. ومن هنا اقترنت مسألة "الحرية" في عصر الأنوار بمسألة "حقوق الإنسان". إذ ما الذي يعنيه -في آخر المطاف- أن يكون المرء حرا ما لم يفد أن يعلم ما هي حقوق الإنسان وأن ينعم بها؟ ذلك أن المعرفة بهذه الحقوق، تعني -أولا وقبل كل شيء- الدفاع عنها(13)، وهذا ما نذر فولتير حياته له. 

ـ 4 ـ

موضوعة "التسامح"

يترتب عن القول بمبدأ "الحرية" القول بمبدأ "التسامح"؛ ذلك أن من أهم أشكال الحرية الإنسانية حرية الاعتقاد، والحال أن مفكري الأنوار وجدوا أمامهم تراثا من التعصب كبيرًا. يكفي أن نشير ههنا إلى بعض وجوهه: هذا القديس أوغسطين ما أغنى عنه فكره ولا حكمته من التعصب ضد سائر الأديان غير المسيحية، مبررا ذلك بأن إلزام الأغيار على الدخول إلى المسيحية من شأنه أن يفيد -على الأقل- في تعليمهم! (أو كما برر كالفن إحراق سرفت في جنيف في 28 أكتوبر سنة 1553، الذي اتُهم بإنكار التثليث، على أن المبتغى منه إنما هو إرادة إنقاذ روحه المعذبة!) مستندا في تبرير دعواه هذه إلى العبارة الواردة في إنجيل لوقا (إصحاح 14، عبارة 23): «أرغموهم على الدخول Compelle entrare». وقد تبعه في ذلك القديس توما الأكويني الذي ميز بين الكفر والهرطقة والردة، فأما الكفار فلا ينبغي أن يُكرهوا على الإيمان؛ لأن الإيمان شأن إرادي، وأما المرتدون فيجب قتلهم؛ لأنهم ينشرون داء يهلك الروح! إلا أنه لربما خفف من هذه الغلواء موقف لوثر الذي قال: «ينبغي هزم الملحدين بالقلم لا بالنار». وفي تعليق مفكر التسامح الفرنسي بيير بايل على قول الإنجيل: "أكرهوهم على الدخول"؛ أكد على أنه لا أمر أفظع من إرغام الناس بالقوة على تغيير دينهم، مشددا على أن عبارة المسيح هذه لا ينبغي أن تحمل على معناها الحرفي، وإلا خالفت مقتضى العقل؛ إذ من غير المعقول أن يُفرض الإيمان بالإكراه، وهو الذي من شأنه أن يتأتى بالإقناع. وفضلا عن هذا، فإن الإنجيل نفسه ما يفتأ يحث على إعمال اللين لا الشدة. فليترك إذن كل إنسان لضميره، حتى لئن أخطأ أو ضل سواء السبيل أو شذ عن المحجة. والحال أنه عندما يتعارض العمل الإيماني والواجب الأخلاقي، ويعارض الشاهد الديني الضمير الخلقي، فإنه من ألزم الحلول إعطاء الأولوية المطلقة للضمير الخلقي. أكثر من هذا، إن من شأن الضمير الخلقي أن يكون شاهدا على الدين، وذلك حتى حينما تتعارض في الدين نفسه الحقيقة والفرية، والاجتهاد والابتداع. والمترتب عن هذا ضرورة التخلي عن المعنى الحرفي لآيات التوراة والإنجيل كلما وجدنا فيها ما يدل -ظاهريا- على ما يعارض مبادئ الأخلاق الأساسية. ففي هذه المبادئ الخلقية إذن -وليس في النقل الحرفي للنص- تكمن قواعد التأويل التي لا تموت ولا تبيد، والتي لا يمكن أبدا استبعادها لصالح معنى حرفي يتم ادعاء أنه مضمون مؤكد وثابت راسخ. قال بايل: «من الأفضل للمرء أن يتخلى عن شاهد النقد والنحو على أن يتخلى عن شاهد العقل»، وإن الخيط الناظم الذي يقود أي تأويل للتوراة ليلزم أن يكون هو ذا: «ما من معنى حرفي يتضمن ضرورة اقتراف جرائم إلا وهو معنى زائف». وفي مكان آخر أكد بايل أنه: «لا شيء أدعى إلى جعل العالم مسرحا داميا للاضطراب والمذابح من تقرير هذا المبدأ القائل بأن كل المعتقدين بحقيقة دينهم يحق لهم أن يبيدوا سائر الأديان. إن هذا يؤدي إلى إرجاع الجنس البشري إلى الحال نفسها التي يتحدث عنها رجال السياسة، والتي كان فيها كل فرد سيدا وله الحق في كل شيء، وذلك ما دامت لديه القوة للاستيلاء عليه. إن من الواضح أن الدين الحق -أيا ما كان- لا يحق له أن يدعي أي امتياز يخول له استعمال العنف مع الديانات الأخرى، ولا يحق له أن يدعي أن الأفعال التي يرتكبها هو بريئة؛ لكنها تكون جرائم إذا ارتكبها الآخرون»، وختم داعية التسامح بقوله: «عدوان هو أكيد على حقوق الرب أن يريد الإنسان حمل ضمير الغير على التصديق إكراها». ذاك هو الأصل الذي تأصل عليه النظر الديني الأنواري ولا سيما منه مبدأ "التسامح". 

وفي السياق نفسه كتب جون لوك في مذكراته: «ليس لأي إنسان السلطة في أن يفرض على إنسان آخر ما يجب عليه أن يؤمن به أو أن يفعله لأجل نجاة روحه هو؛ وذلك لأن هذه المسألة شأن خاص ولا يعني أي إنسان آخر. إن الله لم يمنح مثل هذه السلطة لأي إنسان، ولا لأي جماعة، ولا يمكن لأي إنسان أن يعطيها إنسانا آخر فوقه إطلاقا»(14). وقد عمق لوك هذه الفكرة في رسالته عن التسامح حيث أكد على الأفكار الأساسية التالية: إن رعاية نجاة روح أي إنسان أمر موكول إليه وحده دون سواه، ولا يجوز أن يعهد بها إلى أي سلطة أيا كانت وأنى؛ إنما لكل إنسان -كائنا من كان- السلطة العليا المطلقة في الحكم لنفسه والخيرة في أمور دينه، وإن حرية الضمير والاعتقاد لَحقٌّ طبعي لكل إنسان بلا مدافعة، وما من رغبة في تدخل رجال الدين في أمور كهذه إلا وتنم عن رغبة في السلطة الدنيوية، ومؤازرة للطغيان، وتوسيل للدين بما يخالف غاياته النبيلة، على أنه لا تسامح مع الآراء التي تتنافى مع المجتمع الإنساني والأخلاق الضرورية للمحافظة على المجتمع، كما لا تسامح مع الآراء الموالية للأجنبي المتآمرة ضد بلدها. 

وبعد ذلك قام فولتير ينتقد التعصب الديني وينادي بفكرة التسامح، والذي عنده أن التسامح هو أقصى ما يبلغه العقل، وأن المتعصبين ليصورون التسامح وكأنه خطأ قاتل ومطلب خطير. وما التسامح بالمطلب الخاص الذي تنادي به الفلسفة؛ إنما الفلسفة نفسها تجد كنهها وتبريرها في هذا المبدأ؛ لقد سعت الفلسفة دوما إلى أن تمضي عهود الحروب الدينية بلا رجعة، وأن يحيا اليهودي والكاثوليكي واللوثري والكالفيني وغيرهم حياة أخوة ووئام، ويسهموا أجمعين في الصالح العام. ولئن هو صح أن المتعصبين لا زالوا يحيون بيننا، فإنه يصح -من هذه الجهة ذاتها- أنه بترك العقل يعمل عمله؛ فإنه لا محالة دافعٌ للشر، ببطء أكيد لكن بكفاية أيضا. لقد ألح فولتير -وقد خبر قضية كالاس- على أن تصبح العقيدة قضية شخصية يتحمل فيها كل شخص مسؤوليته أمام خالقه، فلا ينبغي أن يفكر أي منا في أن يفرض على الغير تصوره الخاص للعقيدة أو ما ينبغي أن تكون عليه. وقد شبه فولتير التزمت الديني وما يصاحبه من رقابة على الأفكار والأفعال بذلك القصب الذي أماله الريح في الوحل، فما كان منه إلا أن أمر قصبا آخر لواه الريح في وجهة معاكسة بقوله: مل يا هذا البئيس إلى حيثما ملت، وإلا التمست من ذوي الشأن والبأس أن ينزعوك وأن يحرقوك(15).

ــــــــــــــــــــــــــــــ

1) انظر كتاب بول هازار الشهير: الفكر الأوربي في القرن الثامن عشر: من منتسكيو إلى ليسنج، في جزأين، ترجمة: محمد غلاب، دار الحداثة، الطبعة الثانية، 1985. 

2) انظر كتاب إيسايا برلين: عصر التنوير، ترجمة فؤاد شعبان، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق 1980. 

3) رفاعة الطهطاوي، تخليص الإبريز إلى تلخيص باريز، دار ابن زيدون/مكتبة الكليات الأزهرية، بيروت، القاهرة، الطبعة الأولى، دون سنة إصدار، ص185و233. 

4) بول هازار: الفكر الأوربي في القرن الثامن عشر، الجزء الثاني، ص6. 

5) Ernst Cassirer, La philosophie des lumières, traduit par Pierre Quillet, Paris: Fayard. 1983, p23. 

6) Ernst Cassirer, op cit., p239. 

7) ذكره بيوري في كتابه: فكرة التقدم، ترجمة أحمد حمدي محمود، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 1982، ص143. 

8) بيوري: فكرة التقدم، ص144. 

9) Ernst Cassirer, op cit., p154. 

10) Ernst Cassirer, op cit., p41. 

11) Voltaire, Traité de la métaphysique, p172-174. 

12) Johann Gottfried Herder: L'homme est organisé pour la liberté, cité in: Jean Monnot, Qu'est ce que les lumières? Publications de l’université de Saint-Etienne, Presses universitaires de Bordeaux, 1991, p87-89. 

13) Voir par ex, Voltaire: Lettres philosophiques (Lettre IX). 

14) ذكره عبد الرحمن بدوي في ترجمته لرسالة جون لوك في التسامح. دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى 1988، ص47. 

15) Voir: Voltaire, L'affaire Callas et le traité sur la tolérance, Paris: Gallimard, 1975.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/7/141

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك